بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 10 ديسمبر 2009

البنية الثقافية للعيد


أفق
البنية الثقافية للعيد
آخر تحديث:الاثنين ,30/11/2009
محمد ولد محمد سالم

تقوم ثقافة العيد على بنية احتفالية ذات دلالة أخلاقية هي في الصميم رسالة انسجام نفسي واجتماعي، وتتلخص البنية الاحتفالية للعيد في لبس الجديد، ثم حضور الألعاب والاحتفالات الجماعية التي تقام بهذه المناسبة، من سباقات ومباريات وحفلات غناء وغير ذلك من الأنشطة الجماعية التي لا تخلو من بُعد ثقافي والتي كانت المجتمعات تحرص عليها، حتى إنها جعلت العيد مناسبة لإقامة حفلات الزفاف إمعاناً في إظهار البهجة.
وتدل كل عناصر هذه الاحتفالية على إرادة التواصل وتأكيد روابط الود والمحبة بين الناس عامة، فللّباس الجديد بهجة في النفس، وأما الزيارة فهي عنوان التواصل، إذ تسمح بالمواجهة فيحمل الوجه للوجه ما في القلب من مودة، ويصدق اللسان ذلك الشعور بالتبريكات والتمنيات الجميلة، فتطمئن الأنفس وتتآلف ويصفو ودها ويذهب جفاؤها، وتأتي الهدايا المتبادلة وما يقدمه القادرون للمحتاجين من خيرات العيد لتعزز هذه الرابطة، وتستل سخيمة الحقد والكراهة من الأنفس.
تلك هي الأبعاد العميقة للبنية الثقافية للعيد فهو رسالة مودة وترابط اجتماعية تتجدد من حين إلى حين، لكن هذه البنية بدأت اليوم تتبدل عناصرها وتختزل في إطارات جديدة، وذلك بسبب تعقد الحياة ودخول التكنولوجيا في أخص تفاصيل الحياة الإنسانية، فأصبح التلفون، بل الرسالة النصية أو الإيميل بديلاً عن الزيارة، وفي ذلك ما فيه من تغريب للإنسان وتباعد بين الأشخاص، فما قيمة رسالة تهنئة من أخ إلى أخيه أو من بنت إلى أمها أو عمتها إذا كان متاحاً لها أن تتصل بها في كل لحظة، لن يكون ذلك سوى دلالة على الجفاء والعزوف عن التلاقي، وأصبح السفر للسياحة في أماكن بعيدة وفي مجتمعات قد تكون مختلفة ثقافة وحضارة بديلاً عن المشاركة في الأنشطة الاحتفالية الجماعية في وطن الإنسان وبين أهله، ولم تعد نفقات السفر تترك لصاحبها ما يمكن أن يصل به المحتاجين. ويبدو أن هذا الاتجاه سيجعل العيد شيئاً فشيئاً مناسبة للعزلة والابتعاد عن الآخرين. ويزيد من الهوة بين أفراد المجتمع بدل أن كان موجهاً لتعزيز الترابط.
إن هذا التفكك في بنية تلك الاحتفالية الثقافية المسماة “العيد” ليس سوى مظهر من كثير من الاحتفاليات والبنيات الثقافية الأخرى التي بدأت تتفكك في مجتمعاتنا وتفقد معانيها منهزمة أمام ظواهر أخرى دخيلة لا تزيدنا إلا إيغالاً في الوحدة والتفرد التي كانت سبباً لأمراض نفسية واجتماعية عصفت بكثير من المجتمعات ودمرتها وأحالتها إلى “فردانية” متوحشة، وهو خطر داهم بحاجة إلى مواجهة منهجية قادرة على وضع تصور تربوي يعيد دمج الفرد في وسطه الاجتماعي ويشجعه على المشاركة والإحساس بقيمة الجماعة بوصفها متنفساً وسنداً للفرد.

dah _tah@yahoo.fr
الخليج

الدولة العثمانية والثقافة العربية


الدولة العثمانية والثقافة العربية
آخر تحديث:السبت ,28/11/2009
محمد ولد محمد سالم


1/1

تأسست الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن السابع الهجري أي الثالث عشر الميلادي، على يد عثمان آرطغرل بن سليمان شاه ت 726ه 1325م، وكان أبوه زعيم قبيلة مسلمة من سلالة الإيغوريين الأتراك، وقد استطاع أن يخضع القبائل في آسيا الصغرى “منطقة الأناضول” ووضع أسس دولة منظمة ولها جيش قوي، وبدأ التوسع على حساب الدولة البيزنطية، وعدّ بذلك المؤسس الحقيقي للدولة العثمانية، وقد اتخذ لنفسه لقب السلطان وصكت النقود باسمه، كما نودي باسمه في خطبة الجمعة.
تمت للعثمانيين السيطرة على العراق سنة 1524 بعد سجال طويل مع الدولة الصفوية التي كانت تحتل بغداد ودخل سليمان القانوني بغداد ثم حاصر تبريز عاصمة الصفويين حتى صالحوه، وبذلك أنهى أطماعهم في العراق، وكان العثمانيون قد استولوا على بلاد الشام وفلسطين سنة (922هـ الموافق ل 1516م)، ومصر:سنة (923هـ الموافق ل 1517م)، ثم جزيرة العرب والحجاز، ثم اليمن 1532 وألحقوا بها شمال إفريقيا سنة ،1552 وبذلك تمت لهم السيطرة على كل البلدان العربية تقريباً، بل كل البلدان الإسلامية، وملكوا القسطنطينية عاصمة بيزنطة ليجعلوها عاصمة ملكهم “استانبول”.
كان الوطن العربي قبل سيطرتهم مزقا من الأقاليم والمدن والدويلات المتصارعة وكانت حياة المدن والأقاليم العربية قد تدهورت في شتى نواحيها، وفقدت المدن التي كانت منارات للعلوم والثقافة وهجها، وجف معين العطاء فيها، فبغداد عاصمة الخلافة العباسية وحاضرة الإسلام كان قد احتلها التتار المغول سنة 656هـ 1258م وعاثوا فيها فسادا وأسالوا نهر دجلة حبرا أسود بما أتلفوا فيه من كنوز العلم التي حوتها خزائن هذه المدينة، وتبعتها في ذلك أهم مدن العراق الأخرى كالكوفة والبصرة، وأما الشام فقد ظلت لوقت عرضة لهجمات الصليبيين الذين أنهكوها، واحتلوا القدس قرابة ثمانين عاما، ولم تسلم منهم دمشق ولبنان، وفي مصر لم يكن الحال بأفضل فقد تناهبها قادة المماليك وأثخنتها صراعاتهم شبه اليومية ودسائس بعضهم لبعض، وفي الجزيرة العربية قبائل يغير بعضها على بعض، حتى لم تعد تستقيم بها دول. ونتج عن هذا الوضع أن هزلت الثقافة العربية وتراجع العطاء وذهب ماء الإبداع واستشرى الجهل.
ميراث
حين ورث العثمانيون هذا الواقع كان همهم الأول هو تثبيت أركان ملكهم وتوسلوا لذلك بالقوة وبالوسائل التي تستميل القلوب، فاعتنوا بمكة والبيت الحرام وأغدقوا الأموال على أوقافه وأوقاف المدينة والمسجد النبوي، وعلى القدس فبنى سليمان القانوني(ت1566) سورها الحالي ورمم المسجد الأقصى وقبة الصخرة، فكان أن حافظت هذه الأركان الإسلامية على مكانتها كمقدسات ومحاجّ للمسلمين ومنارات علم يملأ العلماء والطلاب أركانها، وجعلوا للأزهر مشيخة وأقروه مدرسة للمذاهب الفقهية الأربعة على اختلافها المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، فكان أهم مؤسسة تعليمية في مصر والوطن العربي، وقد قاد بعض شيوخه تيارات التجديد في ذلك العصر كما فعل الشيخ أحمد الدمنهوري الذي تولى المشيخة بين 1768م و1776م، فقد ألف في العلوم العقلية والتطبيقية فضلا عن العلوم النقلية التي هي اختصاصه الأول.
أما في الحواضر التركية فقد اهتم السلاطين العثمانيون بتشييد المساجد والمدارس الدينية المرتبطة بها لتعليم الدين واللغة العربية، كما نشطت الزوايا الصوفية في بث العلم بين الناس وانتشرت المكتبات، فنشأت أولى المكتبات مع المدارس الدينية في كل من مدينتي بورصة وبولو. وتعتبر المكتبة التي أنشئت ضمن مدرسة دار الحديث في أدرنة العاصمة القديمة للعثمانيين من أوائل المكتبات في العهد العثماني. وقد أنشأ السلطان محمد الفاتح ت 1481 في القسطنطينية بعدما سيطر عليها مدارس ومكتبات. وكانت أولاها تلك الموجودة في مجمع مسجد الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري، وبعدما شيد المسجد المعروف باسمه “مسجد السلطان محمد الفاتح” سنة 1470م أنشأ حوله ثماني مدارس أمر بأن يدرس فيها العلم وصحاح اللغة العربية، ليرتادها طلاب العلم وزودها بمكتبة مركزية لتسهيل وصول الطلاب إلى الكتب والمصادر في كل وقت.
وتقول المصادر التركية إن عدد الكتب التي أهداها السلطان محمد الفاتح للمكتبة المركزية بلغ ثمانمائة وتسعة وثلاثين كتابا، كما أنشأ مكتبة في قصر طوبقابي ونقل إليها الكتب التي كانت موجودة في أدرنة بعد نقل العاصمة إلى استانبول.
ولم يكن إنشاء المكتبات العلمية في العهد العثماني مقتصراً على السلاطين، بل كانت هناك مكتبات أنشأها بعض الولاة ومشاهير العلماء في استانبول والمدن الأخرى مثل أدرنة وبورصة وأماسيه وقونيه، ومن هؤلاء العلماء والولاة محيي الدين العلائي وعلي باشا العتيق وأحمد جلبي أفضل زاده ومحيي الدين جلبي، وغيرهم. وقد أولاها السلطان أحمد ت 1740 اهتماما كبيرا حيث أنشئت عشرات المدارس، وازدادت بشكل كبير في عهد السلطان محمود الأول.
وتشير الإحصاءات التركية اليوم إلى أن عدد المخطوطات المكتوبة باللغة العربية يزيد على مائة وستين ألف مخطوطة، تتقاسمها أكثر من خمس وثلاثين مكتبة تابعة لوزارة الثقافة التركية. بينما لا يتجاوز عدد المخطوطات المكتوبة باللغة التركية سبعين ألفا. وهو فرق دال على ما كانت تحظى به اللغة العربية كحامل للعلم والثقافة الإسلامية في الدولة العثمانية.
أما الأدب والشعر فقد كانت سوقهما غير نافقة في دولة بني عثمان، ذلك أن الثقافة - كما أسلفنا- في هذه الفترة كانت قد انحطت انحطاطا كبيرا، ونضبت ينابيعها، ولم تزد الفترة العثمانية حال الأدب إلا سوءا لأنهم كانوا أعاجم لا يفهمون الشعر، وقد كان رواج الشعر في العصور السابقة بسبب تشجيع الأمراء له وتقريبهم للشعراء وإجازاتهم لهم، وأما النثر فقد لحقه الضعف بسبب استبدال اللغة التركية باللغة العربية في دواوين الحكم، فلم يعد يحتاج إلى كتبة باللغة العربية. وكان ديوان الإنشاء أهم ما ازدهر به النثر في العصور التي سبقت ذلك، وشاع في هذا العصر التكلف الكثير والتقليد واللغز في الشعر والأحاجي وأكثر الشعراء من التفنن في المحسنات البديعية لا لشيء إلا تقصدا للإغراب وعجزا لتقحمّ مجالات الإبداع، وكثر في النثر الخطأ وشاعت فيه لغة العامة، ومع هذا فقد شهدت جوانب الثقافة الأخرى عطاءات كبيرة، ويكفي أن نذكر أن هذا العصر هو الذي عاش فيه وشاعت كتب التاريخ والموسوعات واللطائف، مثل كتاب “اللطائف النووية في المنح الدمنهورية” للشيخ الدمنهوري الذي ألف في مجال العلوم التطبيقية، ففي الكيمياء ألف “الدرة اليتيمة في الصنعة الكريمة”، وفي الجيولوجيا “رسالة عن الحياة في استنباط المياه” وفي الطب “القول الصريح في علم التشريح” و”إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد” وكتاب “بدائع الزهور في وقائع الدهور” لابن إياس المتوفى 930ه وكتابه في تاريخ مصر، ومنها كتاب “مفتاح السعادة ومصباح السيادة” ل”طاش كبري زاده” المتوفى في سنة 968ه وكتابا “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” و”أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض” لأحمد المقري التلمساني المتوفى سنة 1041ه.
أما التصانيف النحوية والفقهية فقد شهدت تطورا كبيرا تمثل في ظهور الحواشي وتفاسير التفاسير والمختصرات والأنظام مثل أرجوزة لعصام الدين بن عربشاه الإسفراييني المتوفى سنة (951ه) باسم “الألغاز النحوية” ومنظومة “الدرة البهية في نظم الآجرومية” لشرف الدين العمريطي ت 97ه ومنظومة “الفرائد الجميلة” للشريفي ت “1016ه”. و”جوامع الإعراب وهوامع الأدب” لعمر الفارسكوري ت “1018ه”، وقد نظم بها “جمع الجوامع” وشرحه “همع الهوامع” لجلال الدين السيوطي، وألفية علي بن محمد الأجهوري ت سنة (1066ه). وغيرها كثير وأما الفقه وعلومه ففيها من تصانيف وشروح وحواش ما لا يكاد يحصى، وشيوعها وكثرتها في المذاهب كلها تغني عن ذكرها، ويعتبر النظم أسلوبا تربويا يهدف إلى تسهيل الحفظ على طلاب العلم، ولا يخفى ما للشروح من دور في توضيح غوامض النصوص.
يوصف العهد العثماني في الأدبيات التاريخية العربية بأنه عصر انحطاط للثقافة العربية الإسلامية ونكوص لها، ويحمّل الكثير من المؤرخين المسؤولية في ذلك للعثمانيين، ويصمونهم بوصمة العنصرية والتعصب على العرب، والحقيقة أن الواقع لم يكن كذلك فلئن كان السلاطين العثمانيون يؤثرون قوميتهم وينحازون لها ويقدمون لغتهم على غيرها من اللغات، لئن كان ذلك كذلك فإنه لم يؤثر عنهم أنهم حاربوا اللغة العربية ولا الثقافة الإسلامية، ولم يضايقوها في بيئاتها أو ينكروا على أهلها استخدامهم لها، وتشهد وقائع التاريخ كما قدمنا آنفا أن العثمانيين استولوا على بلاد العرب وفي وقت كانت فيه اللغة العربية الفصحى والثقافة تلفظان أنفاسهما الأخيرة، ويحسب لهم أنهم أبقوا على معاقل من معاقلها قائمة، وفتحوا لها المدارس في حدود اهتماماتهم الدينية، ولم يكن منتظرا من العثمانيين أن تزدهر اللغة العربية ولا ثقافتها في عهدهم بحكم أن دولتهم نشأت واستتب أمرها خارج بلاد العرب وخارج لغتهم وثقافتهم.
ولولا آصرة الإسلام التي ربطت الأتراك بالعرب وجعلتهم يحترمون لغتهم وثقافتهم لما كان عليهم بأس لو أنهم حاربوها ومحوها من الأرض، لكنه جلال اللغة المرتبط بجلال الرسالة التي تحمل والتي آمن بها العثمانيون جعلتهم، يعظمونها ويدافعون عنها وعن أرضها، فقد صدوا هجمات البرتغال الصليبيين على ميناء جدة عام “923هـ/ 1517 م” وعلى ميناء السويس عام “926هـ/ 1520م”، وعلى إثر هذه الهجمات أنشأ العثمانيون قاعدة بحرية ظلت تمنع السفن المسيحية من دخول البحر الأحمر، وفي شمال إفريقيا كان السجال بينهم وبين الصليبيين الذين حملت لواءهم المنظمة الصليبية المعروفة باسم “فرسان القديس يوحنا”، والتي اتخذت من جزيرة مالطة مستقراً ودعمتها كل من البرتغال وإسبانيا، وكثفت هجماتها على تونس، ولم يهدأ الصراع حتى هزمهم العثمانيون وشتتوا شمل أساطيلهم ليستتب لهم الأمر عام “982 هـ/ 1574م”.
ويذكر التاريخ العربي الحديث موقف السلطان عبدالحميد من توطين اليهود في فلسطين في وقت ضعفت فيه دولته، ولم تعد له سيطرة على كل أجزائها لكنه رفض بشدة توطينهم فأصدر سنة 1882 فرمانا يمنع عليهم الإقامة فيها، وأتبعه بقرارات أخرى تشدد على ذلك المنع وتتخذ إجراءات صارمة فيه مثل ما جاء في تعميم 1902:
“كنا شددنا على منع دخول “الإسرائيليين” إلى أرض فلسطين، ولكن الموظفين تراخوا في تطبيق الأمر وأساءوا تأويله.
و”الإسرائيليون” يأتون بحجة الزيارة ويتوطنون كما أشعرنا متصرف القدس الشريف. إن مكثهم لا يجوز بأي حال من الأحوال. إن مأموري الدولة مسؤولون بشدة فوق العادة عن تنفيذ هذا الأمر بدقة، وحتى اليهود من أتباع الدولة العلية لا يجوز لهم الإقامة بصفة دائمة.
إن هذه الأوامر لا تمانع في زيارة اليهود للأراضي المقدسة منفردين كانوا أو جماعات، ولكنها لا تسمح بإقامتهم الدائمة ويجب أخذ تعهد من قنصليات الدول التابعين لها”.
إنه لو لم يكن للعثمانيين من حسنة سوى أنهم ضربوا طوقا دفاعيا على بلاد العرب وصدوا عنها هجمات الأمم الأخرى وخاصة الصليبيين الحاقدين وحفظوا لها خصوصيتها وثقافتها في عصور الظلام التي لا مكان فيها إلا للقوى، والعرب يومئذ شذر مذر، لكفاهم، ولاستحقوا عليه الشكر من قبل كافة العرب والمسلمين.
الخليج

الأربعاء، 28 أكتوبر 2009

لمن تقرأ؟


أفق
لمن تقرأ؟
آخر تحديث:الجمعة ,02/10/2009
محمد ولد محمد سالم
في الحوارات التي تجريها وسائل الإعلام مع بعض الأدباء الشباب المبتدئين لفت انتباهي أن الكثير منهم حين يُسأل عن الأدباء الذين تأثر بهم أو قرأ لهم، يرد بأنه لم يتأثر بأي أديب، بل ولم يقرأ لأحد، فمن أين يا ترى تكونت لهذا “الأديب” الدراية والدربة اللازمتان للإبداع، أين هؤلاء الكتّاب من الأديب الكبير عباس محمود العقاد الذي جاء إلى القاهرة قادما من أسوان وهو شاب ريفي لم يأخذ من العلم سوى ما تعلمه في الكتاتيب، وقد عقد العزم على أن يثقف نفسه، فأخذ يقرأ بجهد لا يكل وعلّم نفسه اللغة الإنجليزية حتى أتقنها، وحتى صار من أبرز كتّاب ومفكري العرب في النصف الأول من القرن العشرين، وأين هم من عميد الأدب العربي طه حسين ذلك الضرير حتى كان أول من درّس الأدب والفكر اليوناني وتخصص فيهما في احدى الجامعات المصرية، وهو مجدد النقد العربي الحديث بلا منازع، وأين هم من توفيق الحكيم الذي كان يترك مقعده في كلية القانون وينصرف لمطالعة كتب الأدب، ويغوص في مكتبات باريس ملتهما ما تقع عليه عيناه من كتب لكبار الأدباء وكتاب المسرح، ورجع من ذلك بثقافة عميقة أهلته لأن يكون رائد الأدب المسرحي، والذي كتب مئات المحاولات المسرحية ومزقها قبل أن يخرج للناس أولى تجاربه مكتملة رصينة، وأين هم من نجيب محفوظ الذي كان يتبع نظاما صارما في المطالعة يجعله يقرأ مئات الصفحات يوميا من دون فتور، وحصد ذلك في إبداعا روائيا هو اليوم نبراس لكل كتاب الرواية.
قصص الأدباء مع المطالعة لا تنتهي، وفيها من مظاهر المثابرة والجد ما يستحق أن يوقف عنده، والمطلع على إبداعاتهم وما وصلوا إليه يدرك أنهم لم يصلوا إليه بالنوم والتمني، ولا بمنتديات الدردشة الالكترونية، ولم يصلوا إليه بمجرد أن كبت الواحد منهم ما يظنه شعرا أو رواية ثم طبعها ونشرها. لقد أنفقوا أجمل أيام أعمارهم في ذلك وأعطوا حرفتهم ربما أكثر مما أعطتهم، فاستحقوا بذلك ما وصلوا إليه من تجديد وسمو في تاريخ الأدب.
من سنن الإبداع أنه لا يأتي من فراغ، فتاريخ الإبداع الإنساني هو تاريخ تراكم الخبرات البشرية، يبنى اللاحق منه على السابق، فيضيف إليه أو يتجاوزه، ولذلك يحتاج كل مبتدئ في الأدب إلى أن يستوعب أسرار هذه الصنعة، ويمتلك أدواتها الفنية، ويهضم طرق الكتابة فيها، بالقراءة المستفيضة للأعلام الذين تركوا بصمات متميزة على مر العصور، وذلك قبل أن يباشر الإبداع.
dah_tah@yahoo.fr

القصة القصيرة حجزت مقعدها في الأدب الإماراتي


حجزت مقعدها في الأدب الإماراتي
القصة القصيرة تجاوزت مرحلة التأسيس إلى مرحلة الإبداع
آخر تحديث:السبت ,17/10/2009
محمد ولد محمد سالم


1/1

أصدرت وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع كتابا بعنوان “مبدعون من الإمارات القصة القصيرة” وهو مدونة للقصة القصيرة ضمت 126 نصا لواحد وسبعين قاصا من الإمارات، وتوزعت القصص على حقب زمنية مختلفة فكان منها القديم والحديث وما بينهما، كما تفاوت الكتّاب بين الجيل القديم والمتوسط والجيل الحالي، وتنوعت اتجاهاتهم الفكرية وخياراتهم الفنية، ويسمح كل ذلك بتقديم رؤية تقريبية لواقع واتجاهات القصة القصيرة في الإمارات على مدى يقارب 40 سنة من عمرها حيث بدأت بواكير هذا اللون الأدبي في الظهور منذ عام 1970 وتولى الريادة فيه مجموعة من الكتاب استظلوا بمعطف نيكولاي غوغول وحملوا على أكتافهم مهمة ترسيخ هذا الجنس في نسيج الثقافة الإماراتية بعدما كان محمود تيمور ويحيى حقي ويوسف إدريس قد رسخوه في الثقافة العربية، وجعلوه أسلوبا من أساليب القول الجميل فيها، وسيكون عقد الثمانينات عقد الازدهار الحقيقي لهذا الفن في الإمارات بما توافر فيه من نتاج كبير، وبالاهتمام المتزايد الذي أصبح المتأدبون يولونه له، وهو الاهتمام الذي مازال متواصلا إلى اليوم.
يمكن بنظرة عجلى تصنيف الاتجاهات الفنية في كتاب “مبدعون من الإمارات - القصة القصيرة” إلى أربع اتجاهات:
أولا: الاتجاه الواقعي: هذا الاتجاه يعتمد الوصف والتسلسل الزمني في تقديم الأحداث ويطابق بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي ويمثل لهذا الاتجاه بقصة أسماء الزرعوني “دهشة المطارات” حيث تلتقط الكاتبة حكاية الرجل يهرب بطفليه من بلد أمهما إلى بلده بعد أن فشل زواجهما ولم يأمن بقاءهما بعيدا عنه، وتحكي القاصة وقائع إجراءات سفر الرجل بولديه في المطار بتسلسل واضح، وفي الاتجاه نفسه ترصد أسماء الكتبي في “دود وأمي” قصص الحيوانات وعلاقة المجتمع الشرقي بها، وتلتقط في “سناكر” بتسلسل سردي متدفق يوميات شاب يستخدم جهاز سناكر ليتنصت على أحاديث العاشقين التليفونية، ورغم أنها استخدمت التداعي لجعل ذلك الشاب يلوم نفسه على ما يقوم به ويستغفر منه وليعبر عن رؤيته لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات من نزاهة وعفة، إلا أن ذلك لم يخرج بالكاتبة عن إطار السرد التقليدي التسلسي، بل شكل وظيفة إضاءة الحدث، وعلى غرارها تتناول حسنة الحوسني في قصة “إلى هذه الدرجة من الإعياء” موضوع الحب المراهق وإغواء الفتاة البريئة. وبالسردية نفسها يخرج إبراهيم مبارك في قصته “ضجر طائر الليل” من السياق الاجتماعي إلى قضية وطنية يتخذ فيها من الصقر الهائج المحلق في قاعة الفندق رمزا للوطن الذي حاصرته أطماع كثيرة وأنماط من حياة فاسدة دخيلة، ولا بد أن يأتي اليوم الذي تتلاشى فيه تلك الحياة ليعود الوطن حرا طليقا في فضائه الأصيل الواسع. ويقدم “عصفور الثلج” تداعيات حزينة لشاب مهاجر في أرض الثلج البعيدة. ويبلغ هذا الاتجاه ذروته مع ابتسام المعلا في “قرار” وبتقنية سردية تقليدية عالية مزجت بين التفاصيل الدقيقة والحركات الدالة والحوارات المشحونة مع استخدام التأثير النفسي للزمان والمكان لصياغة نص محكم حول أزمة كيف تسد الطريق في مجتمع شرقي محافظ أمام الشاب العائد من الغرب بزوجته الأوروبية فيضطر تحت ضغط الواقع إلى طلاقها حفاظا على مكانته في المجتمع. وبالتقنية السردية العالية نفسها ترصد الكاتبة أيضا في “فصول العري” شعور الزوجة الشابة المخلصة وهي تحاول أن تقاوم إغراء والدتها لها بترك زوجها الذي أعيق فأصبح مقعدا لا يقدر على شيء. والنماذج في هذا الباب كثيرة، بل يمكن القول باطمئنان إن هذا الاتجاه هو الغالب على الكتاب.
ثانيا: اتجاه التداعي الحر: يكسر هذا الاتجاه منطق الزمن ويترك للوعي الداخلي حريته في التداعي، ونجد ذلك في الحب المراهق البريء في “خمس دقائق” حيث تتداعى الذكريات إلى ذلك الشاب وهو جالس في قهوة ينتظر حبيبته التي لن تأتي، وفي “هياج” تستقصي أمينة بوشهاب بتقنية سردية عالية التداعيات النفسية لزوجة حائرة في غموض زوجها وما يشاع عنه من أن له زوجة ثانية، وعجزها هي عن مواجهته بذلك خشية أن تفقد العز الذي وضعها فيه، بعدما أخذها من حي الصيادين الفقير. وفي “مساء يحلو فيه الموت” تنقل باسمة يونس بتقنية سردية جميلة تتوسل بالحلم والذكرى والغرائبية تداعيات فتاة على وشك وضع جنين حملته من عشيقها، وفي لحظة بوح أليمة أمام قبر أمها القتيلة يعترف لها أبوها بأنها هي نفسها كانت بنت لحظة من تلك اللحظات الرومانسية القاتلة، فتتألم وتتمنى لو أن ذلك الجنين يكون سقطا ويموت في بطنها قبل أن يأتي إلى الدنيا حاملا تعاسته معه، وفي السياق نفسه يقدم خالد الجابري في “ولامست كفي النجوم” تداعيات شخصية الصديق ويعاين مأساة صديقه الذي أحاله حادث سيارة السباق التي كان يركبها إلى فاقد للعقل ورجع مخبولا يلاعب الصبيان في الطرقات. وفي الاتجاه نفسه يسير سلطان الزعابي في “بوق دمر أحلامي” وصالح كرامة في “سهرة مع الأرق”، ولا يمكن في هذا الاتجاه إغفال عمل مريم المري “كلما تسلقت السماء” حيث رسمت بشكل رمزي بعيد عن التقريرية أحلام وهواجس صبي وحيد لأبوين منشغلين عنه، وقد وجد نفسه حبيس جدران البيت الجديد الجميل ذي الأسوار العالية التي تحجب عنه العالم الخارجي فلا يجد أصدقاء يأنس بهم، فيتحول إلى الوهم ليستحضر خيال صبية جميلة يلعب معها في الحديقة في عز الظهيرة. أما فاطمة المزروعي في قصة “فن الاختباء” فقد بلغت قمة الإتقان لصنعة السرد القصصي من خلال المزج بين تداعيات الذكريات وآلام الواقع، المزج بين ذكريات لعبة الاختباء الطفولي البريء وتضييع الولد والبنت بعضهما لبعض وواقع تضييع الحبيب لحبيبته بعدما صار رجلا وآن أن يأخذها إليه، وقد استخدمت الكاتبة كل تقنيات السرد من وصف ومونولوج وحوار وحلم وغير ذلك مع اكتناز وشاعرية في اللغة ووضوح وإحكام في الحبكة.
ثالثا: الاتجاه التجربي: لا تقدم الأحداث من منظور واضح والشخصيات باهتة غير قارة الملامح والمنظور القصصي مفتوح على قراءات متعددة: وأول ما يحضرفي هذا السياق هو قصة المرحوم جمعة الفيروز “مسافة أنت العشق الأولى” التي تصف حالة حب غامرة تنسكب على تاريخ من المعاناة واليأس والخوف فتمحوه لتترك “في الجوف قرين عرس يتأهب .. أعلى وأحلى وأشهى وأجمل”، وكذلك قصته “خطاب” التي ينقل فيها عبر مرايا متعددة حالات موت تحيل العالم إلى صورة واحدة مكررة عنوانها التعاسة والخراب الذي يتربص بكل شيء. وفي الوجهة نفسها لكن بشيء من المزج بالسرد التقليدي يقدم حارب الظاهري قصة “الرجل” الذي يختفي فيتمرد أهله على تراثه، ويلعنونه ثم يظهر فجأة ليلومهم على أنه لم يكن يريد سوى صلاحهم وتهيئتهم لخوض مصاعب الحياة. وعلى هذا المنوال تقدم “أيقونة الحلم” لسارة الجروان بسردية عالية تداعيات حب غامضة وصورة محبوب ضبابي هو الأيقونة التي تحافظ بها مريضة في العناية المركزة على رمق الحياة، وعبر تقنية تجريبية بديعة تدخل عائشة الكعبي في قصة “غرفة القياس” إلى أذهان أنواع النساء المختلفة اللواتي يدخلن إلى تلك الغرفة ليجربن مطابقة الأثواب التي اخترنها لقياسهن، وتسرد في ذلك تداعيات تفكيرهن والتي تتمحور كلها حول الرؤية التي سيراهن بهن الرجال حين يرتدين تلك الأثواب، فكأن الغرفة هي المحفز للقص، أوهي البؤرة المحورية في الحكاية. ويقدم عبد العزيز جاسم في “مدية الضوء المواتي” مرايا متعددة للبوح الذاتي (اختلاج أو سرطنة، اكتناف قاس، سورة البحلقة، عثار أعمى للذبيح، مدخرات اللعنة) حين تغيم الدنيا في وجه الإنسان ولا يبقى له سوى ذاته يغوص فيها يستكنه هواجسها وأحلامها المكبوتة. وفي السياق ذاته التجريبي يتخذ سلطان العميمي في “ركض بعيدا” من قصة الرجل مع ظله الذي ينفصل عنه حين يكون وحده ويعود إليه وهو مع الناس رمزا لحوار الذات حين يتفرد الإنسان بأفكاره وهواجسه المخيفة والغريبة في بعض الأحيان تلك الهواجس والأفكار المحيرة التي لا يستطيع الإنسان التخلص منها إلا بالموت.
رابعا: اتجاه السيرة الذاتية: حيث الشخصية هي محور الأحداث والرابط بينها، ففيما يشبه السيرة الذاتية تتناول ظبية خميس روتين مشوار نهاية دوام امرأة عربية وحيدة في لندن تلتقط في طريق عودتها للبيت مشاهد الطريق ومضايقات الفضوليين، والأحداث الصغيرة في المترو. وفي “أول خطوة في الحلم” نجد أثرا للسيرة الذاتية حيث تقدم نجيبة الرفاعي ثبتا لمتاعب اليوم الأول في مشوار معلمة كانت تظن أنها تحمل رسالة وتريد تحقيقها فيفاجئها واقع اللامبالاة والفساد الأخلاقي في المدرسة التي نقلت إليها.
تلك مجرد نماذج أوردناها لإعطاء صورة أولية عن هذه المدونة القيمة التي تشكل ثبتا ومادة أوليه لقراءات أكثر تأن وتعمق، والثابت في كل هذا هو أن ذلك الكم والتنوع يؤكدان أن القصة القصيرة حجزت مقعدها في المنصة الأمامية من أجناس القول الأدبية في الإمارات، وأنها تجاوزت مرحلة التأسيس إلى مرحلة الإبداع.

نجيب محفوظ لم يقترح أحدا لنوبل


أفق
آخر تحديث:السبت ,10/10/2009
يذكر المترجم البريطاني دنيس جونسون ديفز الذي ترجم أعمال بعض من كبار الكتّاب العرب منهم نجيب محفوظ إلى الإنكليزية أنه في السنة التي اختير فيها نجيب محفوظ لجائزة نوبل للآداب، كانت قد زارت القاهرة زوجة السفير السويدي في تونس في مهمة رسمية من الأكاديمية السويدية لمعرفة المرشح العربي الأفضل لتلك الجائزة، وفي لقاء لها مع دينيس استعرضا لائحة من أربعة أشخاص هم نجيب والطيب صالح ويوسف إدريس وأدونيس، فاستبعدوا الطيب لأن إنتاجه كان قليلاً جداً في تلك الفترة، فلم يكن قد نشر سوى روايته الشهيرة “موسم الهجرة إلى الشمال” وقصته “عرس الزين” وبعض القصص الأخرى القصيرة، ولهذا لم يكن مرشحاً كمياً وإن كانت كتاباته رائعة، أما يوسف إدريس وأدونيس فلم يكن قد ترجم لهما إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية- وهما لغتا الجائزة- ما يمكن أن يدخلا به المنافسة، وبقي نجيب محفوظ الذي كان قد ترجمت له روايات كثيرة إلى لغات كثيرة منها الفرنسية والإنكليزية، وكان دنيس نفسه قد ترجم روايته “أولاد حارتنا”، وهكذا وقع الاختيار على محفوظ ليكون المرشح العربي للجائزة، وليفوز بها في السنة نفسها 1988.
هذا ما دار بين ديفز وبين مندوبة الأكاديمية السويدية، ويعني أنه إذا كان هذان الشخصان الأجنبيان قادرين في تلك الأيام وبسهولة على فرز مرشحين أربعة عرب لنوبل، فإن هناك الكثيرين ممن يصلحون للترشح لكنهم غير معروفين للغرب، والمحير أنه بعد فوز نجيب محفوظ بالجائزة وبعدما أصبح يحق له ترشيح من يراه حقيقياً بهذه الجائزة، ظل محفوظ وعلى مدى سبعة عشر عاماً يرجع أوراق الترشح فارغة من دون أن يضع فيها أي اسم عربي من الأسماء الكثيرة التي تعج بها الساحة الأدبية العربية، وظل يبرر ذلك بكونه لا يريد أن يدخل في حرج الترشيح والاتهام بالميل على أحد دون آخر، وضيّع بذلك فرصة أن تكون جهة اختيار المرشح جهة عربية، ولا يمكن أن يتهم نجيب بأنه أناني أو متكبر بحيث لا يريد لغيره من بني جلدته أن يحظى بما حظي به، فكل تاريخه الشخصي والأدبي ينبئ عن شخص متواضع ودود، حريص على أن يرتفع بالأدب العربي، وأن يسدي النصح للأجيال التي تتلمذت عليه، وتقديرنا أنه كان صادقاً في مبرراته، لكن عزوفه عن ذلك كان أيضاً خطأ كبيراً في حق الأدب العربي.
لقد نظر محفوظ للموضوع من زاوية شخصية ونسي مسؤوليته كرجل تربع من دون منازع على عمادة الرواية العربية في النصف الثاني من القرن الماضي.. تلك المسؤولية التي كانت تملي عليه أن يختار حتى لو كان في الاختيار ما يغضب البعض، لأنه كان سيرضي الكثيرين أيضاً، وسيرضي الأدب العربي الذي ربما بسبب ذلك هجرته الجائزة طويلاً.
وقد أحسن اتحاد الكتّاب المصريين بسعيه منذ رحيل نجيب محفوظ للحصول على أحقية الترشيح، ذلك السعي الذي تكلل بالنجاح أخيراً، إذ وافقت الأكاديمية السويدية على أن يكون اتحاد الكتّاب المصريين جهة ترشيح وذلك اعتباراً من عام ،2010 وهو ما يبشر بأن حبل الوصال بين نوبل وأدبنا العربي قد يمتد قريباً، وذلك ما نأمله.
محمد ولد محمد سالم
dah-tah@yahoo.fr

قصة في مستوى الإبداع


أفق
قصة في مستوى الإبداع
آخر تحديث:الأربعاء ,14/10/2009
محمد ولد محمد سالم
من جميل ما قرأت مؤخراً، وأنا أعد مراجعة لكتاب “مبدعون من الإمارات القصة القصيرة”، نص بعنوان “فن الاختباء” للكاتبة فاطمة المزروعي، وأول ما استوقفني هو بنية السرد فيها، فقد عمدت الكاتبة إلى إقامة تداخل جميل بين مستويات عدة من البناء، فعلى مستوى المتن الحكائي هناك تداخل بين حكاية “لعبة الاختباء” التي كان يلعبها بطل القصة وهو طفل صغير مع صديقته الصبية الجميلة، فكانت تختبئ عنه، فيظل يبحث عنها دون أن يجدها فيناديها: “اخرجي. لقد تعبت من البحث عنك”، وبين اختبائها حين بلغت مبلغ النساء واحتجبت خلف أستار اجتماعية كثيرة، تجعله غير قادر على العثور عليها، وعلى مستوى زمان ومكان الحكاية هناك تداخل بين أحداث الماضي وأماكنه المطاردة والاختفاء وصورة البنت وهي تعدو في الطرقات حافية القدمين، والغرفة القديمة الباردة والكرسي وستارة النافذة حيث كانت تختبئ، وبين الزمان والمكان الحاضرين: صورة الباب الخشبي البعيد الموصد وصالة بيت أهله مفتحة النوافذ تخترقها الحرارة وتعبث الريح بستائرها وأمه الجالسة على الكرسي، وفي مستوى الأسلوب هناك تداخل بين أسلوب السرد الاسترجاعي وبين سرد الحاضر، وكذلك بين حواراتهما قديماً وهما يلعبان وبين حواراته هو حديثاً مع أمه، فهو يتذكر حين قال لها:
أخرجي لقد تعبت من البحث عنك.
في الوقت الذي تقول له أمه:
لا تنفعك، والدها وضيع وأمها تدور في البيوت وسمعتها على كل لسان.
لكنني أريدها.
هذه مظاهر قليلة من مستويات تداخل البناء في قصة “فن الاختباء”، وهي كثيرة إذا تتبعناها بتأن لا يتسع له المقام، والمهم أن هذه الأبنية الظاهرة تسلم إلى بناء عميق هو التقابل بين الماضي المختفي والحاضر الظاهر، لكن الماضي الذي اختفى كان دلالة على الظهور “ضفائرها الطويلة، أصابع قدميها السمراء ثوبها الزاهي وضحكتها الجميلة”، وأما الحاضر الظاهر فهو دلالة على الاحتجاب “الباب الخشبي الضخم يلوح من بعيد، عالمها يبتعد تدريجياً، يتلون جسدها باللون الأسود، ذلك السواد الذي يتلفع بتقاسيمه”.
هنا هذه اللعبة المتقنة تأخذ الكاتبة بتلابيب القارئ ليأتي على النص في تلهف لا ينتهي بانتهاء القصة، وتتركه مبعثر النفس كما الشخصية المحورية في القصة يتساءل عن معنى هذا البناء الذي وجد نفسه متورطاً فيه، عن معنى لحاضره هو ولماضيه، هل الأمس أجمل من اليوم.
عند هذا المستوى من التساؤل الذي يرتقي بدلالة النص من مجرد حكاية “فن الاختفاء” إلى سؤال وجودي عميق يستطيع المرء أن يحكم أن هذا النص القصصي الإماراتي يدل على أن الإبداع ليس جلباً لأدوات أو أشكال حكائية خارجية، وليس ترسماً لخطى آخرين، ولكنه ارتقاء بخصوصيات المبدع وتفاصيل حياته، وأدواته الفنية إلى مستوى من الدلالة الوجودية يشاركه فيها غيره.
dah_tah@yahoo.fr

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

خلل في الذوق


أفق
خلل في الذوق
آخر تحديث:السبت ,24/10/2009
محمد ولد محمد سالم
“أحيانا أرى الكتابة مجرد وهم كبير يعيشه الكاتب كي يقفز فوق الفراغ أو الجنون، فكم هو مخجل ومثير للدوخة العدد الذي يباع من نسخ إصدار إبداعي في بلد الثلاثين مليوناً، إننا نمارس حرفة لا حاجة للمجتمع بها” “الهاوية هي ما نحياه: مجتمع في آخر سلم الحضارة، غير منتج إلا للصخب، ومستهلك لكل شيء إلا الكتاب، منذور للتآكل والموت. الهاوية ليست السقطة الأخيرة، بل هي الطريق الممتدة باتجاه السقوط”.
هذه الآراء وردت مؤخرا في حديث للكاتب المغربي حسن البقالي مع إحدى الصحف العربية الدولية، والبقالي واحد من أعمدة الكتابة القصصية في المغرب، فقد أصدر مجموعات قصصية عدة منها “أجراس لزمن البرتقال” و”المقامر” و”الإقامة في العلبة”، ونال جوائز أدبية عدة، وإذا كان كاتب ناجح وذو مسيرة طويلة مع الكتابة يشكو من معاناته هو وأمثاله في مجتمع مثل المغرب يمكن وصفه بأنه من أكثر المجتمعات العربية وعياً وانفتاحاً على الثقافات المعاصرة، إذا كان هذا هو حال البقالي وزملائه في الحرفة فكيف هو حال إخوانهم في بلدان عربية أقل وعياً وثقافة؟.. لا شك أن المعاناة هناك أكبر والسقوط أسرع، فالكتاب الأدبي هو آخر ما تفكر فيه المجتمعات العربية إن فكرت في شيء.
كثيرا ما كان الكتّاب العرب يشكون من عنت حرفتهم وقلة مردودها، وقد وقر في أذهان الناس ملازمتها للفقر والإقلال، فكان يكنى عن وصف الفقير بالقول:''فلان أدركته حرفة الأدب”، لكن شأن القدماء مع الأدباء أخف من شأن المعاصرين، فلإن لم يكن الأديب ينتظر مردود نشر كتبه، فإنه كان ينتظر أعطيات معاشات الأمراء والسلاطين وإجازاتهم، وتلك كانت كثيرة وسخية يُغدَق بها على الشعراء والأدباء لتكفيهم عن احتراف المهن الأخرى فينصرفون لشحذ أخيلتهم وتصيد معانيهم وتمحيص أشعارهم، ولهذا كان لديهم الوقت الكافي للإبداع وقد أجادوا، ويذكر جرجي زيدان في كتابه ''تاريخ آداب اللغة العربية أن بني أمية جعلوا للشعراء رواتب معلومة تجرى عليهم من بيت المال، وقصص إجازات الملوك للشعراء وخلع الحلل عليهم كثيرة ويكفي أن نتصفح سيرة أحد الأدباء القدماء فنجد أنها مملوءة بتلك القصص من لدن النابغة إلى جرير وأبي تمام وأبي الطيب والجاحظ وسهل بن هارون، وهلم جرا، فكان لهم في ذلك غنى.
لكن الوضع تغير مع أحفادهم في العصر الحديث الذي لم يعد مقبولا فيه أن يكتب الأدب للتكسب وصار ذلك معرة، واستقل الأدب لبث الوعي والجمال والمتعة في أرواح المتلقين، وتسلم دوره المتقدم في ريادة النهضة، وأصبح مردود مبيعات الكتب يكفي صاحبه الوقوف على باب الملوك وذوي السلطان والجاه، لكن النكسات المتتالية التي مني بها المجتمع وانكفاء وتيرة التقدم واستشراء الجهل والفساد تراجع بالأدب إلى الدائرة الخلفية وألقى بمبدعيه بعيداً في مجاهل النسيان والإهمال. وزاد الأمر سوءا سيادة ثقافة الصورة بما تقدمه من جاهز لا يحتاج إلى عناء القراءة على عكس الأدب الذي يحتاج لذلك، فأصبحت إدارة زر التلفزيون أو تصفح مجلات أو تدوير الفيديو أو الانترنت أيسر بكثير من قراءة كتاب في الأدب.
تلك أزمة حقيقية تضع الأديب أمام خيار أن يمتهن الجزارة كما فعل سلفه “أبوالحسن الجزار” أو أن يقف من جديد على باب ذوي الجاه إن كانوا سيعطونه وهما أمران أحلاهما مر، وهي على كل حال تدل على وجود خلل عميق في أذواق المتلقين العرب وهو ما لا يبشر بخير.
الخليج- ثقافة

الأحد، 11 أكتوبر 2009

الحارة بوصفها بنية روائية


الذكرى الثالثة لرحيل نجيب محفوظ
"الحارة" بوصفها بنية روائية
آخر تحديث:السبت ,03/10/2009
محمد ولد محمد سالم


1/1

صادف يوم الأربعاء 30 سبتمبر الذكرى الثالثة لوفاة الروائي المصري نجيب محفوظ صاحب جائزة نوبل للآداب والأب الملهم لكثير من الروائيين العرب، ويتحدث جمال الغيطاني عن ذلك قائلاً: كان قريباً من جيلي والأجيال الأخرى، لم يتعال على أحد ولم يصرح بأن هذا الجيل أو ذلك لا يساوي شيئاً، ولم يقع في ما وقع فيه آخرون ما زلنا نكن لهم بعض الاحترام على الرغم من “هيافتهم” في آخر العمر ورعونتهم وتفسيري لذلك بسيط أن نجيب محفوظ مازال قادراً على العطاء، وانه قبل ذلك كله فنان كبير والأديب العظيم الموهبة الخصب المعطاء لا يشعر بالغيرة ولا تراوده الصغائر.
هذا هو نجيب محفوظ كما رآه كل من عرفه وصحبه أو جالسه في مقهى الفيشاوي أو كازينو الأوبرا أو قهوة سيفنكس أو مقهى ريش أو مقهى عرابي.. تلك المقاهي التي شهدت جلساته إلى أصدقائه ومحبيه من ابناء الأجيال الأدبية التي جاءت بعده، وكان يطبعها هو بطبعه الميال للدعابة الذكي المنفتح المصغي للآخرين، الحريص على ألا يجرح شعور أحد، الدقيق في ملاحظته حين يتعلق الأمر بتوجيه الكتاب الشباب، شخصية نادرة تسرب شيء من ملامحها إلى شخصيات مريديه من الروائيين الذين جاءوا بعده، كما تسرب شيء من أسلوبه الروائي إلى أساليبهم، فكان مدرسة قائمة بذاتها، وكذلك يكون الكبار دائماً.
من قسم الفلسفة في الجامعة إلى الوظيفة والأدب بعدما حسم الصراع بين دراسة الفلسفة وإبداع الأدب، ليبدأ مرحلة من الاجتهاد جعلت أباه يشفق عليه وهو يراه يسهر الليالي يقرأ بنهم لا يشبع صاحبه، فكان يسأله هل تنوي أن تتقدم للماجستير فيجيب الشاب المنهمك، لا، لقد كان يسابق الزمن ليعمق معرفته بالأدب الذي استحكم حبه في نفسه، وفاته أن يتخصص فيه في الجامعة، وقد ألزم نفسه بنظام يومي صارم للقراءة والكتابة والخروج جعل فيه لكل شيء وقتاً محدداً دقيقاً.
ابتداء من سنة 1934 بدأ بنشر قصصه القصيرة في مجلة “الرسالة” وفي 1939 نشر روايته الأولى “عبث الأقدار” ثم أتبعها ب”كفاح طيبة” و”رادوبيس” وهي الروايات التي استلهم فيها التاريخ الفرعوني، وكانت رواية القاهرة الجديدة 1945 بداية الاتجاه الواقعي الذي كتب فيه نجيب أجمل رواياته واتبعها ب”خان الخليلي” و”زقاق المدق” وبلغ ذروة الإبداع في هذه المرحلة في ثلاثيته الشهيرة “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية” سنة 1956. ثم انتقل بعد هذه الفترة إلى مرحلة رمزية كتب فيها “أولاد حارتنا” “اللص والكلاب” “السمان والخريف” و”الشحاذ” و”ثرثرة فوق النيل” و”ملحمة الحرافيش”.
نقل نجيب محفوظ في أعماله حياة الحارة المصرية بما فيها من بساطة وعمق وانسجام وتناقض وظاهر وخفي وجميل وقبيح فكانت رواياته بذلك سجلاً تاريخياً لحياة مصر القاهرة في القرن العشرين.. يقول محفوظ متحدثاً عن ذلك “لقد انعكست هذه المنطقة في أعمالي حتى عندما انتقلت بعد ذلك إلى معالجة موضوعات ذات طبيعة فكرية أو رمزية عدت أيضاً إلى عالم الحارة، إن ما يحركني حقيقة هو عالم الحارة، البعض يقع اختيارهم على مكان واقعي أو خيالي أو فترة من التاريخ، لكن عالمي الأثير هو عالم الحارة، أصبحت الحارة خلفية لمعظم أعمالي، حتى أعيش في المنطقة التي أحبها، لماذا تدور الحرافيش في الحارة؟ كان من الممكن أن تجري الأحداث في منطقة أخرى، في مكان آخر له طبيعة مغايرة إنما اختيار الحارة هنا لأنه عندما تكتب عملاً روائياً طويلاً، فإنك تحرص على اختيار البيئة التي تحبها وترتاح إليها حتى تصبح “القعدة حلوة”.
وعبر هذا الحفر الدؤوب في تلك الدروب الضيقة في الأزقة الملتوية في أحياء القاهرة، والوصف المتفنن لناسها وأحداثها استطاع أن يعمق فهمنا للإنسان وإحساسنا بندوب الزمن عليه، ووعينا بصيرورة التاريخ، ويثري التجربة الإنسانية بإضافات قيمة، وقد عمل دائماً على الموازاة بين التقنية التي يكتب بها رواياته والانشغالات المجتمعية والفلسفية.
يقول في هذا الصدد “حين كنت مشغولاً بالحياة ودلالتها كان أنسب اسلوب لي هو الأسلوب الواقعي الذي قدمت به أعمالي لسنوات طويلة، كانت التفاصيل سواء في البيئة أم الاشخاص أم الأحداث على قدر كبير من الأهمية، أما حين بدأت الافكار والإحساس بها يشغلني لم تعد البيئة هنا، ولا الأشخاص ولا الأحداث مطلوبة لذاتها، الشخصية صارت أقرب إلى النموذج أو الرمز، والبيئة لم تعد تعرض بتفاصيلها، بل صارت أشبه بالديكور الحديث، والأحداث يعتمد في اختيارها على بلورة الأفكار الرئيسية”.
تعود موهبة نجيب محفوظ في الكتابة إلى المرحلة الابتدائية حيث كان معلموه يشيدون بها ويشجعونه عليها، ولكنه حين بدأ نشر قصصه القصيرة في الصحف المصرية لم ينتبه له أحد إلا بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات، ومن يومها لم تجف الأقلام من دراسة أدبه، فلقي من الاهتمام والدراسة ما لم يلقه غيره من أدباء العربية لا قديماً ولا حديثاً، وكان حصوله على جائزة نوبل سنة 1988 تتويجاً منطقياً لمسيرة نيفت يومها على خمسين سنة من العطاء المتواصل والإبداع المتجدد، والاجتهاد الذي لا يكل، مسيرة أسست للرواية العربية حيث لم يكن لها قبله وجود يذكر، اللهم إلا إذا استثنينا أعمالاً قليلة متناثرة كتبها أصحابها على هامش اهتماماتهم كما فعل توفيق الحكيم والعقاد ومحمد حسين هيكل وغيرهم، ولم يكن ذلك من باب الاحتراف، ولم يكن للأدب القصصي يومها ذلك الاهتمام الذي كان للشعر والفكر، ولم يقف عند هذه المرحلة فقط، بل تعداها إلى تعبيد الطريق وشق مسالك الرواية العربية بإنتاجه الغزير الذي شمل كل أنواع الرواية بدءاً بالتاريخية ثم الواقعية ثم النفسية والرمزية والرواية الجديدة، وتجاوز ذلك إلى حد الاتقان والإبداع، فكأنه كان مؤسسة الرواية العربية التي حفرت لها موقعاً متقدماً بين أجناس الأدب العربي وأعطتها هذه الصدارة التي ينعم بها أجيال من الروائيين العرب.

الأربعاء، 30 سبتمبر 2009

مدارات رواية الصحراء


تمزج الواقع بالخرافة
مدارات لرواية الصحراء
آخر تحديث:السبت ,18/07/2009
محمد ولد محمد سالم


1/1


“رواية الصحراء” مصطلح نقدي برز في أواخر القرن الماضي وفرض نفسه على المشتغلين بالدراسات الأدبية من خلال رصد لروايات أدبية احتفلت بالصحراء وجسدت عوالمها، في اتجاه مغاير لما درجت عليه الرواية العربية منذ تأسيسها على يد الرواد الذين أصّلوا هذا الفن في الأدب العربي، فقد ارتبطت الرواية العربية بالمدينة وعكست أجواءها وحاراتها وشوارعها ومصانعها واكتظاظها وناسها وعلاقاتها المعقدة وبامتدادها الريفي، لكن ظهور بعض الروايات التي اتخذت من فضاء الصحراء الواسع المفتوح مسرحا لأحداثها، أضاف إلى تقنيات الكتابة الروائية ملامح جديدة، أثارت انتباه الدارسين فأخذوا يتتبعون تلك الروايات وكتابها وينقبون عن ملامح هذا الجديد. ومن أهم الروايات التي عكست تلك الملامح، عبد الرحمن منيف في روايته “مدن الملح” وزيد مطيع دماج في رواية “الرهينة” وأحمد إبراهيم الفقيه في رواية “فئران بلا جحور” وإبراهيم الكوني في رواياته الكثيرة وأهمها رواية “التبر” والذي يعتبر أهم مؤسسي هذا الاتجاه، أي “رواية الصحراء”.
تتميز رواية الصحراء بميزات أهمها فضاء مكاني مفتوح والمكان الصحراوي: هي فضاء الحكاية حيث تدور الأحداث في بحور من الرمال القاحلة الممتدة بلا نهاية في كل اتجاه وتحت سماء واسعة وشمس حارقة، عالم لا نهائي يتسع فاغرا فمه كأنه يريد أن يبتلع كل شيء، وتبدو الأشياء والناس في هذا العالم ضئيلة ضعيفة تصارع لتبقى، وربما تعكس رواية “رجال تحت الشمس” لغسان كنفاني حيث يموت الرجال في تلك الصحراء الواسعة بين الكويت والعراق طرفا من هذا الفضاء، ويقول محمد عيد العريمي في روايته بين الصحراء والماء: “لا أعرف بالضبط متى ولدت فعلى تخوم صحراء لا تسكنها إلا الريح والخواء في الأرض والسماء، وفي صباح يوم صيفي فتحت عيني على غمامة حزن أطبقت على الناس والمكان وبين أصوات النحيب والعويل حزناً على وفاة أخ لم يكمل عامه الخامس ضاعت صرختي الأولى”، ليس هناك ما يذكّرك بالمدينة في هذا الجو حتى الأشياء التي يستخدمها الصحراوي ووسائل الحياة هي من طبيعة صحراوية بدوية كما في هذا المقطع من رواية الخباء للكاتبة ميرال الطحاوي: يمد مسلم دلوه فأتشعلق بحكايا سردوب، يسكب دلوه أمام مشرب “مهرية” ويمرون عليه فيخفيها كما يخفي الفراعين كنوزهم في كهوف الجبال وينحتون حولها أوثان السحرة، يمرون عليه فتصهل خيولهم مهتاجة من ثقل الأسلاب، يستظلون بنخلاته ويعبق الجو برائحة الشواء واللبن المخضخض والقهوة، ويملأون جرابهم من البئر، يخلعون ألثمتهم ويقهقهون بالحكايات”.
المجتمع العرقي: مجتمع رواية الصحراء يقوم على العلاقة العرقية وليس على العلاقة الطبقية أو الإنتاجية التي يقوم عليها مجتمع المدينة، وعلاقاته بسيطة والتراتبية الاجتماعية أبوية، مجتمع مؤسس من أعراق وبطون ومرويات أسطورية وحركة اقتصادية لا تمت بصلة إلى حركة رأس المال، والصراع وجودي مع قوى الطبيعة المجهولة والمخيفة ومن أجل كسب الرزق الشحيح، ومع القيم والأعراف التي تكبل الفرد بخرافات أسطورية لا يجد منها فكاكا، وترسم له قدره ودوره قبل أن يولد.
يقول عبد الرحمن منيف: “كان يفسر الأمر في البداية بأنه الولد البكر، وفي وقت لاحق بدا أقرب إلى رأي أخته خيرية التي كانت تؤكد أن “غزوان مثل أبيه بكل شيء فولة ومقسومة، بس واحد كبير وواحد صغير” أما خلال زيارة الحكيم الأخيرة فقد بدا غزوان رجلا قبل الأوان وكان يحب جلسات الكبار وأحاديثهم، يوجه إلى إخوته الأوامر.. حتى الجوار كما قيل للدكتور ينظرون إليه مثل رجل صغير وكان لا يتردد أن يفعل كما يفعل الكبار”، ومن أثر الفضاء الصحراوي على البنية الاجتماعية وضوح العلاقات بين الناس ومشاعية الأخبار، فلا شيء يخفى هنا، كل شيء صريح كالصحراء المكشوفة ورغم ذلك فهي علاقات صلبة يصعب اختراقها.
يقول منيف في موضع آخر: “ولأن موران في ذلك الموقع النائي المعزول، فلا أحد يصلها إلا إذا كان يقصدها، ولذلك ألف الناس بعضهم بعضا، وعرفوا القرابات والعلاقات وصارت جزءا من حياتهم، فإذا جاءهم الغريب لا يمكنه أن يخترق تلك القشرة الصلبة”، وفي بعض الأحيان يكون هذا الصراع مع المدينة التي أخذت تزحف على الصحراء، كما رصدت ذلك أيضا رواية “مدن الملح”، التي أرخت للمجتمع الصحراوي البدوي وبداية ظهور الحداثة فيه: “ولأن سكان موران من البدو حتى الذين استقروا وتحضروا فإنهم لم يتخلوا عن بداوتهم: كانت الإبل في ساحات الدور أو عند أبوابها، وكانت الخيام إلى جانب الغرف الطينية، والحطب يتجمع في جانب من الساحات الكبيرة.. إنها العاصمة ولا بد أن تتغير بسرعة وتتفوق على المدن الأخرى.. وماعدا حي السفان الذي كان في أقصى غرب المدينة وكانت بيوته تختلف عن الأحياء الأخرى إذ كانت بيوته جديدة وأكثر نظافة وعناية، فإن موران.. لم تبلغ بعد المدينة وإن تجاوزت القرية”.
فراغ
الصحراء فضاء واسع رهيب يشعر الإنسان في مواجهته بالخوف من هذا الاتساع الذي لا نهاية له، الفراغ يحاصره من كل مكان ويبعث في نفسه الإحساس بالمجهول الذي قد يباغته بمفاجأة مميتة في كل مرة، هو معزول وحيد لا يجد أنيسا لذلك يحس أن كل ما في هذا الفضاء عدو، الموت كامن في كل الأشياء.. في الريح والرعد والبرق والسحاب والحشرات والأفاعي حتى الحيوانات التي دجنها فلا يأمن فرسه أو جمله، وقد حاول إنسان الصحراء التغلب على هذا الرعب الدائم باختراع أساطير وخرافات يحمي بها نفسه من غيلة هذه الأرض اليباب، وخلع على الأشياء والحيوانات والناس قوة روحية، فشكلت هذه الأساطير جزءا كبيرا من وعيه وحدد الأطر المعرفية التي يتحرك فيها، وحين دخلت الرواية عالم الصحراء كان لزاما على الخطاب السردي أن يتمثل تلك الأساطير ويعبر من خلالها عن واقع الحياة، فهي تصوغ النسيج المعرفي، والوعاء الرمزي لحياة أبناء الصحراء وهذه الضرورة وسمت الرواية بسمات الغرائبية الحكائية، وتداخل الواقعي والأسطوري، وقد تفطنت الروائية المصرية ميرال الطحاوي إلى هذه الحقيقة في أطروحتها التي بعنوان: “جماليات التشكيل في رواية الصحراء.. المقدس وأشكاله في المخيلة الرعوية”، فاستعانت في دراستها تلك بعلم الإناسة “الانتربولوجيا” منطلقة من البحث الذي أنجزه عالم الاجتماع الفرنسي “كلود لفي شتراوس”، في هذا المجال والمتعلق بصيغ الحكاية لدى المجتمعات البدائية، والذي درس أشكال التعبير الحكائية وبنيات الفلكلور الشعبي باعتبارها دلالات لبنية اجتماعية وثقافية معينة، ولاحظت الباحثة أن كثيرا من الروائيين العرب كانوا يعودون إلى المرويات الشفهية والفلكلور الشعبي للصحراء وحتى إلى كتب الرحلات والتاريخ المتعلق بالصحراء للإحاطة بأشكال التعبير في المنطقة التي سيكتبون عنها، وقد درست في هذا الصدد ما قامت به الروائية رجاء غانم لتبين أنها عادت إلى الذاكرة الشفهية والنصوص التاريخية حتى تستطيع رسم صورة مكة القديمة بعلاقاتها الاجتماعية السائدة وأبنيتها وأنماط عيشها، وتتبعت التوجه نفسه عند إبراهيم الكوني في رصده لأساطير طوارق الصحراء وأشكال الخرافات عندهم، لتستنتج أنه اتكأ على مرويات شفهية ومصادر مكتوبة للرحالة والمؤرخين الذين عرفوا المنطقة في مختلف العصور ما جاء في كتب مثل “المسالك والممالك” و”تاريخ هيرودوت” وما جاء عن ابن خلدون وغير هؤلاء.
لغة شعرية
لغة مكثفة مشبعة بالرمز: هذه البنية الخطابية المشبعة بالأسطوري والخرافي نتج عنها اتخاذ الكائنات أبعادا روحية أو سحرية أو خرافية، ما يحفز تناسل الحكايات حول تلك الكائنات، فتعكس مزيجا من الرغبة في امتلاك المجهول أوصده والرهبة من الهجوم المباغت الذي قد يهجم به ذلك المجهول فيردي هذا الإنسان الوحيد الضعيف قتيلا، كما قتل العراف في رواية “التبر” لإبراهيم الكوني لأنه تجرأ على فك شفرة الكتابة المنقوشة على قدمي الرمز الروحاني، ومما اكتسب أبعادا روحية أيضا ذلك القبر المجهول وسط الصحراء الذي صدق الناس خرافة أنه لولي صالح فصاروا يزورونه طلبا للبركة والحماية، كما جاء في رواية أحمد ولد عبد القادر التي تحمل العنوان نفسه “القبر المجهول”، أما الكائنات السحرية، فنصادفها كثيرا في عالم الرواية عند إبراهيم الكوني.
يقول الناقد حسن المودن: (في رواية التبر نجد هذا المفعول السحري للكتابة، فلما كان التدريب على الرقص في حضرة الحسان مهمة الفرسان في الصحراء، أراد البطل أوخيّد أن يدخل بمهريّه “جمله” حلبة الرقص، فاختار له أنفس وأجمل وأندر تزيين، لكن الحسّاد من أقرانه دسّوا له سوطا نقشت عليه تمائم السحرة، فلعب ذلك دوره في التخريب وترتيب الفضيحة: “امتدت يده إلى السوط السحري كي يحث الجمل على الانطلاق، وما أن أحسّ الأبلق بوقع السوط على جسده حتى ركبه الجنون، رفس حلقة الصبية وفقد وقاره تماما. عاد يمسّد فخده بالسوط فاشتدّ جنون الحيوان. اخترق حلقة النساء، فتفرقت النسوة، وتوقّف الغناء. تعالى الهرج، استمرّ يرفس بخفيه كل شيء في طريقه ويرغي ويلوك الزمام بوحشية”).
وأما اتخاذ الكائنات أبعادا خرافية فنجده في الطريقة التي صورت بها رجاء غانم الشمس في رواية “حبي” حين أرادت أن تلهي الفتاة الصغيرة ريثما تنتهي من تصفيف شعرها: “كانت تمسد خصلات شعري وتحكي: الشمس تدور في السماء وتدور، الشمس بنت مثل كل البنات لها سبعة وجوه ثم ليل طويل تدفن فيه وجهها الأخير العجوز، تهرب وتختفي وراء جبال الغياهب، جبال الحديد والنار، بيننا وبينهم سدان وبئر من الحديد المصهور تسقط فيه الشموس”. لقد جعلت هذه الجوانب الغرائبية للكائنات البطولة الروائية تتجاوز الشخصية الإنسانية إلى الحيوان والكائنات الأخرى، فالفئران في رواية الفئران الثلاثة لأحمد إبراهيم الفقيه وجمل أوخيد في رواية الكوني والخيول في “مدن الملح” لها أدوار تفوق أدوار البشر في بعض الأحيان.
لقد كان من نتائج هذا “الخطاب المزيج” أن صارت لغة الرواية شاعرية ساحرة هي الأخرى ومكثفة بما تحمله من رموز وصور كأنها لغة الكهنة أو الكتب الروحية. يقول سعيد الغانمي في كتابه (ملحمة الحدود القصوى، المخيال الصحراوي في أدب إبراهيم الكوني): “في البداية كانت لغة الآباء والأجداد مكتوبة بلغة سماوية سرية، ذلك أنها رموز مستعارة من لغة الآلهة.. ومن هنا فقد احتكرها الثالوث المقدس: الكهنة والسحرة والعرافون”.
طرح مغاير
رواية الصحراء طرح مغاير للنظرية المدينية في الرواية الغربية وإمكانية لخلق فضاء روائي عربي خاص بعيد عن مركزية الغرب وهيمنة نموذجه، وارتياد لأرض بكر، تعيد الإنسان إلى الجذور وتجد لديه رغبة المغامرة، الرغبة في الحياة، وكما يقول حسن المودن: “رواية المدينة تمنح هذا الإحساس بحتمية الحياة داخل سجن اسمه الواقع، والكتابة عندما تتكلم لغة الأسطورة تكون لها قابلية توليد الصور الكونية البدائية التي تقول الرغبة في الحياة، كأنها لغة الفردوس المفقود...وهي صور تمنح الإحساس بإمكانية الحياة، بإمكانية استعادة الحياة الأولى”.
الخليج - الملحق الثقافي

المعايير النقدية في مسابقة أمير الشعراء


من الصرامة إلى الفحولة إلى الإنشاد
المعايير النقدية في مسابقة "أمير الشعراء"
آخر تحديث:السبت ,15/08/2009
محمد ولد محمد سالم


1/1


بدأت هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث منذ سنة 2007 تنفيذ مسابقة في الشعر العربي الفصيح تحت عنوان “مسابقة أمير الشعراء” وقد وجدت هذه المسابقة صدى واسعا في الوطن العربي وإقبالا كبيرا من لدن الشعراء العرب، كما أنها أعادت للشعر العربي شيئا من الجماهيرية، والجذوة وحرارة التلقي ونشوة الانفعال به، التي كان قد فقدها منذ وقت ليس بالقصير، بقي فيه حبيس مجالس المتأدبين وفصول الدراسة الأكاديمية، وانقطعت الصلة بينه وبين الجماهير التي لم تعد تفهمه ولم يعد هو يتوجه إليها، فقد أصبح كتابة وفضاء ورقيا وتشكيلا بصريا ومعنى معلقا وتجريبا متواصلا وغير ذلك من اتجاهات الحداثة، التي نكبت عن الجماهيرية واعتبرتها مرادفا للتقريرية والخطابة والانفعال الرومانسي الساذج، وبدلا من ذلك فضلت الحداثة الانزواء في ركن قصي تصوغ فيه أشكالها وتتأمل ذاتها والكون من حولها. وليس موضوعنا هنا مناقشة هذين الاتجاهين اللذين ما زال عجاجهما يسد الأفق في الساحة العربية، ولكن نشير إلى تلك القضية لبيان القيمة التي مثلتها مسابقة أمير الشعراء والموقع الذي اتخذته، فهي حسب ما أراد منظموها جاءت لتمد خيطا انقطع بين الشعر وجماهيره، وتضع الشعراء في مواجهة الحكم المباشر من النقاد والجمهور على السواء. وقد كان لها تأثير على ثلاثة مستويات: أولها أنها وفرت منبرا للشعراء للوصول إلى المواطن العربي حيثما كان، وثانيها أنها حققت نوعا من التواصل كان مفقودا بين الشعراء أنفسهم، يتبادلون فيه المعارف والخبرات، وثالثها أنها أقحمت المواطن العادي في لعبة التلقي والحكم النقدي على الشعر، وقد جاء في التقديم التعريفي الصادر عن الهيئة أن: “إطلاق مشروع شعري جديد خاص بالقصيدة الفصحى العمودية والتفعيلة “الشعر الحر” تحديداً تحت مسمى “أمير الشعراء” يعتبر أمراً ضروريا ومهما حتى تستطيع الثقافة التحليق في الآفاق الرحبة للإبداع خصوصاً بالنظر إلى أنه سيكون أول مشروع إبداعي عربي يعيد للشعر مكانته التاريخية والحضارية ويربطه بنبض المجتمع”.
واليوم وقد اكتملت حلقات الدورة الثالثة من هذا البرنامج ارتأينا أن نتوجه إلى لجنة التحكيم لإنارة الرأي العام حول المعايير النقدية التي تتبعها في إصدار الحكم بصفة جماعية، والملامح النقدية الفردية لكل واحد من أفرادها. واستثنينا من هذه الأسئلة د.علي بن تميم لأنه سيكون لنا معه لقاء موسع.
سألنا د. صلاح فضل: هل هناك معايير نقدية مشتركة تتبعها لجنة التحكيم في تقييم النصوص الشعرية، وما هي؟ فأجاب: “تنطلق لجنة التحكيم من ثلاثة معايير مشتركة وهي:
أولا: صحة اللغة العربية وسلامة الأبنية الموسيقية والتعبيرية، ثانيا: جمال التصوير وقوة التخيل وطرافته ورهافته، ثالثا: الالتزام بمنظومة القيم العربية والإنسانية الرفيعة، وهناك دوماً رؤية شاملة ناظمة للنص.
ولكي يبلغ الشعر تلك الرؤية الشاملة ينبغي أن يعكس:
* تماسك النص وتنامي دلالاته من اتساق منطقي وشعري، وسعة المنظور وصفاء تمثيله لقيم الحرية والتقدم الحضاري، والانسجام بين الوعي الفردي للشاعر والطموح الجماعي للأمة
وحول استخدام اللجنة مصطلحات من مثل “العرامة الشعرية” و”الفحولة الشعرية” قال د. صلاح فضل: “العرامة هي قوة الأصالة وعنفوان الحكمة وشدة التعبير الشعري، والفحولة هي تحديث اللغة واكتشاف قوتها المتجددة مع وثاقة العلاقة بالتراث”.
أبعاد ثقافية
وسألنا الدكتور عبد الملك مرتاض: تحرصون على سلامة لغة الشاعر، فهل تلعب سلامة المفردة دوراً في إبداعيّة النص؟ أم أن لذلك بعداً ثقافيّاً باعتبار الشاعر قدوة للمتكلمين؟ فقال د. مرتاض: “قد يكون هذان الأمرانِ وارديْن معاً. إنّ اللغة المعجميّة في النقد الغربي، في الحقيقة، لا يكاد المعلّق يتعرض لها، ولا يحفِل بها، لأنّ عامة المستعمِلين، ومن باب أولى الشعراء والكتّاب، يُتقنون لغتهم المعجميّة إتقاناً يجعلهم يكتبون بها من دون ارتكاب خطأ نحويّ أو لغويّ إلاّ نادراً جدّاً، وذلك لرُقِيّ التعليم في مؤسساتهم التعليميّة من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة. أما عندنا نحن، في الوطن العربيّ، فإنّ عامّة الناس معرضون لارتكاب الخطأ، ومفترَضون بالقصور في معرفة اللغة العربيّة بقواعدها ومعانيها وبلاغتها، من أجل ذلك، ارتأيت أنا شخصيّاً، في معظم كتاباتي النقدية والتحليليّة أن أتوقّف لدى هذا المستوى من النص الأدبيّ، فأهْوِي على ألفاظ النص المطروح للقراءة لأفحَصها: هل هي سليمة معجميّاً، وصحيحة نحويّاً...؟ ولكن من دون أن أتّخذ من ذلك ركناً مركزيّاً في عمليّة القراءة النقديّة التي قد تجعل من النص الشعريّ الواقع في بعض الأخطاء النحوية أو اللغويّة القليلة، على كل حال، أمثلَ من نص شعريّ آخر لا يشتمل على أيّ خطأ أو هَنَة من حيث ذلك، ولكنه يكون أقربَ إلى النظميّة، وأبعد ما يكون عن الشعريّة بعُرْيه من أي تصوير فني أن أو اشتماله على أيّ إدهاش يَلفت قارئه؛ فلا تُجديه، حينئذ، سلامةُ لغته فتيلاً. ومع ذلك، فهذا لا يشفع للشعراء أن يرتكبوه، فمِن الأَولى أن تكون لغة النص الشعريّ سليمةً حتى تكتمل الصورة الفنية المثلى للنص الشعري المطروح للمتلقّين. ولو شبّهنا مفردات اللغة غير السليمة نحويا ومعجميا في نص من النصوص الأدبيّة، بأجزاء محرّك يؤدي وظيفة ميكانيكيّة، وأنّ هذا المحرك يستحيل عليه أداء وظيفته الميسّرةِ له ما لم تسلَم أجزاءُ قِطعه التي يتكامل عملُ بعضِها مع بعضها الآخر: إذن، لرأينا أن النص كذلك لا ينبغي له أن يتكوّن إلاّ من ألفاظ سليمة، ومفردات نقيّة فيجمع الشاعر بين تحقيق الغايتين: إبداعيّة النصّ وجماليّته، وصيرورتِه حجّةً لقارئه أو متلقّيه في الوقت ذاته”.
وأضاف د. مرتاض: “فقد جنَى على عبقريّة العربية أنها لغة في غاية الدّقّة، ولكنّ معظم مستعمليها هم في غاية اللاّمبالاة بتحقيق مفرداتها”.
وحول تركيز لجنة التحكيم على قيمة الإنشاد في الشعر قال د. مرتاض: “لأمر ما اختصّت العرب قراءة الشعر بالإنشاد، لا بغيره من الإطلاقات الأخرى، كالإلقاء مثلاً، ومن ذلك قول حسّان بن ثابت الشهير:
وإن أشعرَ بيتٍ أنت قائلُه
بيتٌ يقال إذا أنشدْتَه صدَقا
فقال: أنشدته، ولم يقل: ألقيته، أو نحو ذلك.
ذلك بأنّ الأصل في الشعر بعامة، والشعر العربي بخاصة، هو إيقاعه المغروز في صوره المنسوجة بلغة منتقاةٍ بعناية فائقة. ولأمر ما تعدّدت إيقاعات الشعر العربيّ فبلغت ستة عشر شكلاً إيقاعياً، أو طابَعاً بالمصطلح الموسيقيّ. ولذلك كثيراً ما نجد الشعراء الذين لا يُحسنون التغنّي بإلقاء قصائدهم، أي الذين لا يجيدون الإنشاد بمعناه الموسيقيّ: نجدهم يَكِلُون ذلك إلى مَن هم أحسنُ منهم إنشاداً، ليتولوْا إنشادَ أشعارهم وهم في المحافل شُهودٌ.
هذا أمر، وأما الأمر الآخر فإن طبيعة القصائد الملقاة في مسرح شاطئ الراحة، هي ذات صبغة مسرحيّة احتفالاتيّة، تُلْقى ولا تُقرَأَ، ما يجعل من شأن التشكيل البصريّ، وفضاء الورق، وهما من التّعِلاّت التي ينادي بها مَن يعجزون عن مَلْءِ قراطيسهم بالشعر، فيملؤونها بالنقط والبياض، طالبين من المتلقّين أن يُكملوا كتابة ما يكتبون لكي يفهموه، فهل كلّ قرّاء الشعر، بناء على هذا التصوّر، يستحيلون إلى شعراءَ فيُلْحَقُوا بهؤلاء الذين يملؤون أسطار قراطيسهم بالنقاط والبياض؟ وهل من واجب القراء أن يكونوا كذلك فتتغيّر الأدوار، وتتبدّل العَلاقات بين الإرسال والاستقبال في الكتابة الشعريّة؟ أم يجب أن تظلّ الأدوار هي هي فلا تلتبس ببعضها، ولا تتداخل في ما بينها؟...
إنّ التشكيل البصري، إذا حقّ له أن يكون في المعمار الهندسيّ للكتابة الأدبيّة، إنما أولى له أن يكون في نص سرديّ مِن أن يكون في نصّ شعري كُتِب، في أصله، ليُمْتِع بموسيقاهُ وإيقاعِه، وإلاّ لكان الشعر استحال إلى فلسفة تُقرَأُ فتُتَأّملُ في أعمق التفكير العقليّ البشريّ، أو إلى ألغاز مُلغزةٍ لا يفكّها شِق وسَطيح، ولعل من أجل ذلك قال الناقد الفرنسي جون كوهين في كتابه “بنية اللغة الشعريّة” ما معناه: ليس الشاعر شاعراً لأنه يفكر، ولكنه شاعر لأنه يقول... وهذا القول -الشعريّ- من الأَولى له أن يكون في منتصف الطريق بين الفهم واللاّفهم: بحيث لا هو مستغلَق، ولا هو عارٍ.
وإذن، فلا نرى مكانةً للتشكيل البصريّ، على فرْض التسليم بقبوله، لِمَا يُنشَد من قصائدَ شعرية، خصوصاً، على جمهور مسرح شاطئ الراحة، وجمهور المشاهدين العريض حيث إنّ التلقّي المشافه المباشر يحول بينهم وبين القدرة على فكّ ألغاز التشكيل البصريّ، ولا العَمْد إلى فعْل فضاء الورق، وبعد، فإن هذا الشكل من الشعر الذي طُرح عنه السؤال قد يكون خالصاً لشعر التفعيلة الجديد، والشعر الأجدّ، وليس للقصيدة العموديّة التي لا تعوّل في بنائها المعماريّ على الفراغات ومَلْءِ الأسطار بالبياض طوراً، والنقاط الملغزة طوراً آخر”.
وقال الناقد نايف الرشدان أحد أعضاء لجنة التحكيم حول بعض الآليات النقدية في المسابقة: “إن الوقت المحدد للجنة في عرض ما لديهم لايتجاوز أربعين ثانية فمن أين لهم بوقت يعقدون فيه الصلح مع جاك دريدا ورفاقه وان يفككوا مثل ما فككوا إلى جانب أن التفكيكية القائمة على أنقاض البنيوية هي في الأصل مذهب فلسفي أكثر منه أدبي.
وبرنامج المسابقة موجه لعدد من شرائح المجتمع ولا يمكن إسقاط مواقف النقاد الثقافية أو الإرث الثقافي المعرفي على نصوص شعرية في عمل مشاع للنخب والسواد والعامة المتذوقين، وعليه فان فعلا نعنى بالجانب الأخلاقي مجاورا ومسايرا للجانب الفني ففي نظري أنهما جناحا أي عمل أدبي ولا يستطيع أي مبدع أن يحلق بغيرهما وان فعل فإنما ذلكم لأمر يسير، ليحط الطائر فجأة على واقع القيم والتحضر أما بالنسبة لممارساتنا النقدية السريعة فهي تقوم على استنهاض المعاني المخبوءة والمتاحة وتقديم رؤية تشع من أتون أفكار النص ومع ثقتنا في أن الشعراء يعون ما يكتبون فإننا نحاول استنطاق أقوال يمكن أن تقال ومعاني يمكن أن تنبثق من وحي الجو الذي يخلقه النص.
وسألنا الرشدان: كثيرا ما تقومون بعمليات إحصائية ترتبون عليها تفسيرات معينة، فهل هو نوع من التأثر ببنيوية كولدمان التكوينية؟ فأجاب: “لوسيان كولدمان يسعى من خلال رؤيته ومن خلال بنيويته التكوينية إلى رصد رؤى العالم في الأعمال الأدبية عبر عمليتي الفهم والتفسير بعد تحديد البنى الدالة في شكل مقولات ذهنية وفلسفية ويعتمد العمل الأدبي وحدة متكاملة ولا يقف عند حدود الشعر، لكن لا نخفي عليك أننا نحاول أن نستفيد من كل طاقاتنا القرائية والتجريبية في الاقتراب من توسيع المهمة الإبداعية إلى حد الشروع في التأويل الباني العامر للّحظة الإبداعية القائم على إعلاء قدر النمذجة والارتقاء بقيمة النص الغائب الذي قد يحضر بشكل نسبي أو كلي أو حتى يقوم بإيقاظ اللحظة المشتركة أو المتشابهة أو المتنافرة التي يعلو فيها صوت المعترض والمخالف، وهذه هي القيمة الحقيقية للغائية النصية والقراءة النقدية سواء العابرة أو المتأنية، لاشك أن الحديث عن النص المفقود والغائب والموحى إليه يرفد الحديث عن نص اللحظة أو النص المخاطب وقد وجدنا في بعض نصوص الشعراء إلماحات خلاقة قد تفر من بين يدي المتلقي وربما فرت كثيرا من أيدينا.
د.أحمد أخريس

- تنأون بنفسكم عن تمثل نظرية بعينها، ولهذا فأنتم تراوحون بين النقد التاريخي بمحمولاته الاجتماعية أو النفسية أو الأخلاقية وبين النقد البنيوي، فهل تأخذون بالرأي القائل بأن لكل نص منهجه المناسب له؟
إن الاستعانة بالمناهج النقدية الحديثة لا يجب أن يطغى على الوظيفتين الأساسين في النقد الأدبي، وأعني بهما التقييم والتحليل. وإذا كان التقييم بمثابة حكم، فإنني أتوخى دوماً أن يكون مصحوباً بالتعليل حتى لا يكون انطباعياً أو تأثرياً. أما التحليل فركيزته الأساس هي البنية الفنية، وتعني، بنوع من التبسيط، كيفية تعامل الشاعر مع موضوعه أسلوبيا وعبر اللغة، ولا أقصد هنا اللغة بالمفهوم الواسع بقدر عنايتي بعلاقة النص الشعري بموروثه النوعي. التعامل إذاً مع المدارس النقدية لا يلغي جوهر النقد الذي ينبغي توافره في البرنامج، لكننا نؤثر ألا نرهق المتفرج والمستمع بما يستهجنانه من مصطلحات أو رؤى نقدية.

- تعتبرون حسن الإنشاد قيمة فنية، فهل حقا له ما تزال له تلك القيمة؟
لا بد للشاعر أن يتوج كتابته للقصيدة بإلقاء جيد يقربها للمتلقي، ولقد أدرك بعض الشعراء حاجتهم لمثل هذه الموهبة فأعرضوا عن إلقاء قصائدهم وأناطوا بهذا الأمر غيرهم ممن يحسنونه، ولعل أقرب مثال هو أمير الشعراء أحمد شوقي. إذا فالإلقاء مسألة مهمة عند التقييم، لأنها تجمل الكلام المكتوب وتعطيه بعداً مسرحياً، وربما أوضح الإلقاء معاني كانت غامضة لو اكتفينا بالقراءة وحدها، لأن الإلقاء نوع من التفسير التعبيري الحسي عبر التنغيم والوقف وغيرهما.
الخليج - المحلق الثقافي

الثقافة العربية في السنغال


من المرابطين إلى ليوبولد سينغور
الثقافة العربية في السنغال
آخر تحديث:السبت ,08/08/2009
محمد ولد محمد سالم


1/1

السنغال دولة تقع في غرب إفريقيا، على شاطئ المحيط الأطلسي، يتكون سكانها من عرقيات زنجية متعددة أهمها (الوولف والبولار والسرير والجولا) ولكل عرق من هذه الأعراق لغته الخاصة به، ويدين معظم السكان بالإسلام حيث تبلغ نسبة المسلمين حوالي 96% ويتوزع الباقون بين المسيحية والديانات الإفريقية التقليدية. عرف السنغال الإسلام والثقافة العربية بتأثير من دول تعاقبت على منطقة غرب إفريقيا خصوصا غانا ومالي والمرابطين تلك التي تأسست في أقاليم مجاورة للسنغال وشمل نفوذها أجزاء منه، وليس هناك تاريخ محدد لانتشار الإسلام في غرب إفريقيا، ويرجع المؤرخون سبب انتشاره إلى نشاط التجار المسلمين الذين كانوا يجوبون تلك البلاد منذ القرون الإسلامية الأولى قادمين من برقة والقيروان وتلمسان والسوس في شمال إفريقيا بحثا عن مناجم الذهب الأسطورية في غانا وحوض نهر النيجر.
تحديد تاريخ موثوق لوصول الإسلام إلى غربي إفريقيا ليس من السهولة بمكان لعلة بسيطة هي أن اعتناق غالبية الشعوب الافريقية للإسلام لم يتم عن طريق حملة عسكرية ليؤرخ بسقوط مملكة ما أو هزيمة جيوش معادية للمسلمين في واقعة ما وقيام نظام الإسلام على أنقاضها، إنما انتشرت الديانة الإسلامية في تلك البلاد بفعل احتكاك التجار المسلمين بسكانها، ويذكر المؤرخون أن مملكة غانا التي كانت ازدهرت في القرن العاشر الميلادي والتي ضمت الأجزاء الشرقية من السنغال الحالي، وكان للتجار المسلمين حظوة عند ملوكها، الأمر الذي خولهم نشر دعوتهم فأسلم على أيديهم كثيرون، وشيئا فشيئا أصبح المسلمون نافذين في البلاط الغاني نظرا لمعرفتهم بالكتابة والقراءة، مما زاد من انتشار الإسلام في المناطق التابعة لإمبراطورية غانا وصحب ذلك انتشار للغة العربية، وحين سقطت غانا على يد المرابطين سنة 1054م أصبح السنغال مفتوحا للدعوة المرابطية، ويزعم بعض الباحثين السنغاليين أن “الرباط” الذي انطلق منه المرابطون كان في جزيرة “غوري” عند مصب نهر السنغال، وقد تعززت مكانة الإسلام واللغة العربية في السنغال بفضل جهود المرابطين الذين نشروا وتذكر طريقة كتاتيب القرآن التي تعرف هناك ب “الدارة”، وتذكر بعض الروايات أن ملك “فوتا” في بلاد السنغال واسمه “وارا انجاي” اسهم في حملات المرابطين بعد أن أسلم وكان له دور بارز في نشر الإسلام هناك. أما مملكة مالي التي ظهرت بعد الانحسار السريع لدولة المرابطين فقد كان ملوكها مسلمين، وفي عهدهم انتشر العلم وأصبح العلماء من الخاصة المقربين، وكانت اللغة العربية وسيلة الكتابة والمراسلات، واشتهرت مدينة تمبكتو كمدينة للعلماء بلغ إشعاعها أواسط إفريقيا، وقد ضموا بدورهم الأجزاء الشرقية من السنغال وتمكن فيها الإسلام في عهدهم.
الطرق الصوفية
لم تنقطع الصلة بين السنغال والعالم الإسلامي خصوصا شمال إفريقيا بفعل نشاط العلماء الدعاة الذين تخرجوا في معاهد فاس والقيروان وتمبكتو وبلاد شنقيط ويذكر الشيخ التيجاني سي نقلا عن رحالة أوروبي زار السنغال في القرن الرابع عشر الميلادي كيف كانت لأولئك العلماء مكانة كبرى ويشير إلى ان: “ملك وأعيان إمارة جولف كانوا مسلمين ولديهم شيوخ بيض من أئمة ودعاة، كانوا يعرفون القراءة والكتابة، ويأتي هؤلاء الشيوخ من بلاد بعيدة ومن مملكة فاس بهدف إدخال السود إلى عقيدتهم” وقد كان لرحلة الحج دور كبير في تعزيز تلك الصلة، حيث لا يزال ذا مكانة كبرى وتأثير قوي في المجتمع السنغالي. وكان من نتيجة هذا التواصل أن انتشرت في السنغال الطرق الصوفية انتشارا واسعا حيث أصبح كل مسلم سنغالي يتبع طريقة صوفية، وقد دخلت إليها عن طريق شيوخ موريتانيين، وكانت أول طريقة ظهرت في السنغال هي القادرية المنسوبة إلى عبد القادر الجيلاني والتي انتشرت في الجزائر ووصلت إلى موريتانيا في القرن الخامس عشر الميلادي عن طريق الشيخ محمد بن عبدالكريم التلمساني الذي نشرها بين شيوخ قبيلة كنته، وفي القرن التاسع عشر عرفت القادرية انتشارا واسعا حين أخذها الشيخ محمد فاضل الموريتاني عن الشيخ سيد المختار الكنتي، فضلا عن الطريقتين التيجانية والمريدية.
هذه الطرق الثلاث هي الأكثر حضورا وقد كان لها أبلغ الأثر في استحكام الثقافة الإسلامية واللغة العربية في السنغال، فقد أسست المدارس والزوايا التربوية التي تعلم القرآن ومبادئ اللغة العربية، واهتم شيوخها كثيرا بالفصاحة وإتقان اللغة العربية ولإبراهيم انياس والشيخ أحمد بمبا أشعار في التصوف تذكر بكبار شعراء المتصوفة، ولايزال خلفاؤهم إلى اليوم يتقنونها، وقد ذكر المؤرخ توماس أرنولد أن اللغة العربية أصبحت لغة التفاهم بين نصف سكان القارة الإفريقية من غربها إلى شرقها، وهي لغة المراسلات والتدوين والتعليم والاتفاقيات والمراسيم. وحروفها هي الحروف المستخدمة لكتابة اللغات السنغالية حتى وقت قريب، يقول إبراهيم محمود جوب متحدثا عن ذلك: “إن العربية أول لغة حية دخلت السنغال وكانت لسان الحوار والتفاهم بين زعمائنا الوطنيين من أمراء وسلاطين، وبين الجنرال الفرنسي “فيدرب” أواخر القرن الثامن عشر من الميلاد، وبواسطة مترجمين جاء بهم الجنرال الفرنسي لضرورة التفاهم. وفي السنغال وثائق تثبت أن العربية ظلت حاضرةً في دواوين الحكام الفرنسيين، يكاتبون بها الأمراء والأعيان، ويستعينون بها لتعميم بعض ما كانوا يريدون إعلام الشعب السنغالي به؛ من قرارات وتوصيات، أو بلاغات عمومية”
الشعر العربي
كان لا بد لانتشار الثقافة العربية في السنغال أن يُنتج شعراً عربياً في تلك الربوع، وهكذا ظهر في السنغال شعراء لهم باع طويلة في الشعر وتجويده وتدل سمات أشعارهم على الصلات الوثيقة بين شعراء السنغال وشعراء شنقيط، فقد اعتمد السنغاليون نفس الأساليب الشعرية القديمة التي اعتمدها الموريتانيون من مدح ووصف وحكمة وغزل ورثاء وإخوانيات، فضلاً عن أشعار التوسل ومدائح الرسول .
وأورد الدكتور عمر صمب في كتابه “حول الأدب العربي السنغالي” جملة من شعراء السنغال منهم ذو النون (ت 1927) الذي سافر ليتلقى تعليمه في موريتانيا، وأتقن علوم العربية وأصبح شاعراً، وكانت له أشعار محكمة الصنعة متعددة الأغراض ومن شعره في الغزل:
الحب ما حال بين النفس والنفس
فألجأ العاشق الهاوي إلى الخرس
ذو النون نون وهذا الشوق كان له
بحرا وليس يعيش النون في اليبس
ومنهم الشاعر حامد آن تلّر الذي كان جزل اللغة قوي السبك ومن شعره في الفخر:
أنا شاعر البيضان والسوّدان
تِرْب القصائد فارس الفرسان
وأنا المجيد سليقة وجبلّة
كاللّيث عند تزاحم الأقران
مواجهة الاستعمار
كان من الطبيعي أن يواجه المستعمر في السنغال بمقاومة شديدة، وقد حمل شيوخ الطرق الصوفية لواء تلك المواجهة، ومن أشهر من واجه المستعمر الإمام الحاج عمر الفوتي شيخ الصوفية في فوتا وقد حمل لواء الجهاد وحارب الفرنسيين في معارك شهيرة، وأقام الشيوخ المدارس العربية وشجعوا مريديهم على الامتناع عن الذهاب لمدارس المستعمر وينقل عبدالقادر سلا مقوله لفيدرب أول حاكم للسنغال، “إن الإسلام لدى السود أمر معرقل أمامنا.. وفي النهاية إن وجد مسجد فلا رجوع لنا بعدئذ” ونتيجة لذلك اتخذ الفرنسيون إجراءات تعسفية ضد مدارس الإسلام واللغة العربية، وروجوا لشائعة تقول إن الإسلام لا يصلح للأفارقة وإن كل مشاكلهم إنما جاءت من اعتناقهم للإسلام يقول بول مارتي: “إن ثوب الإسلام أيا كانت بساطته ولياقته لم يفصل للسود، فهؤلاء يفصلونه من جديد لمقاييسهم ويزينونه حسب ذوقهم” وكان هدف المستعمرين من ذلك أن ينفروا السنغاليين من الإسلام والثقافة العربية ويحدثوا فجوة بينهم وبينه، وقد لخص الأستاذ إسماعيل ديم موقف الاستعمار الفرنسي السلبي تجاه اللغة العربية المتمثل في تهميش الثقافة العربية لإيقاف تأثيرها في المجتمع من خلال اتخاذ قرارات لمنع دراسة اللغة العربية في الأوقات التي تفتح فيها المدارس الحكومية أبوابها، منع صياغة قرارات المحاكم باللغة العربية حتى لا يسهم ذلك في انتشار اللغة العربية ودعم مكانة مثقفيها، ممارسة سياسة استفزاز ضد العلماء والمثقفين، بالنفي تارة والمحاصرة تارة أخرى، إحراق مكتبات زاخرة بكتب عربية ومراجع نفيسة في مختلف الفنون كما فعل الاستعمار الفرنسي في مدينة “بير” وغيرها من القرى والمدن، كما منعوا دخول الكتب والمجلات التي تحمل أخبار العالم الإسلامي.
نتيجة لهذا الاستهداف ضعفت الثقافة العربية، ولم يصل السنغال إلى الاستقلال حتى كانت الفرنسية هي السائدة في دوائر الإدارة وبين الموظفين والساسة الذين تسلموا دفة الحكم، وعلى رأسهم الشاعر الفرانكوفوني ومرشح نوبل لفترة طويلة ليوبولد سينغور أول رئيس للسنغال، والذي تبنى سياسة أن تكون اللغة الفرنسية هي لغة التفاهم بين شعوب إفريقيا الغربية وطبق ذلك في السنغال، فشجع كتابة اللهجات المحلية بأحرف فرنسية بدل الأحرف العربية التي كانت تكتب بها تلك اللهجات، وفي نظام التعليم تقرر أن تكون اللغة العربية في الابتدائية اختيارية وخارج الوقت الرسمي للمدرسة، وفي الثانوية اعتبرت مادة ثانوية. كما يعاني مدرسوها من التهميش وقلة التأطير والتكوين المستمر، كما أن التربية الدينية التي هي عامل مساعد على تعلم اللغة العربية غير مقررة في منهاج التعليم العام في السنغال.
ورغم هذا الوضع المأساوي فقد نشطت المدارس الحرة والمعاهد الخاصة والمدارس التابعة للطرق الصوفية، والهيئات الخيرية في تدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وتأسس في السنغال حديثاً نادٍ للأدب العربي، ويوجد في كل من جامعتي داكار وسنلوي قسم للدراسات الإسلامية والعربية. ولا يزال الأساس القاعدي الذي يرفد اللغة العربية في السنغال موجودا وهو كما يقول إبراهيم محمود جوب: “في السنغال ألوف من الكتاتيب التي تعمل باستمرار، ومن دون عطل إطلاقاً لتحفيظ القرآن للمستعدين من البنين والبنات، وسوف نرى أن رعاية التعليم العربي، ووضع خطط ناجحة لتطويره، سوف ينشئ من هذه الكتاتيب جيشاً جراراً قادراً على استيعاب دروس الضاد، وتعميم المعارف بواسطتها في كل مكان”. لكن هذه الخطط والرعاية معلقة على العرب قبل أي أحد آخر والذين صرخ فيهم من قبل الدكتور بابكر موسى محمد بقوله: “أدركوا الإسلام واللغة العربية في السنغال قبل أن يضيعا مثلما ضاعا من قبل في الأندلس”، فحري بهم أن يستدركوا ما تبقى من تلك المنابع ويرفدوه حتى يصير نهرا هادرا يتدفق ليحمل معه هذه اللغة وثقافتها إلى أقوام وأمم أحبتها وحملت رايتها ودافعت عنها في أحلك الظروف.
صلات مستمرة
لم تنقطع الصلة بين السنغال والعالم الإسلامي خصوصا شمال إفريقيا بفعل نشاط العلماء الدعاة الذين تخرجوا في معاهد فاس والقيروان وتمبكتو وبلاد شنقيط ويذكر الشيخ التيجاني سي نقلا عن رحالة أوروبي زار السنغال في القرن الرابع عشر الميلادي كيف كانت لأولئك العلماء مكانة كبرى ويشير إلى ان: “ملك وأعيان إمارة جولف كانوا مسلمين ولديهم شيوخ بيض من أئمة ودعاة، كانوا يعرفون القراءة والكتابة، ويأتي هؤلاء الشيوخ من بلاد بعيدة ومن مملكة فاس بهدف إدخال السود إلى عقيدتهم”
تواصل الفرنسة
لم يصل السنغال إلى الاستقلال حتى كانت الفرنسية هي السائدة في دوائر الإدارة وبين الموظفين والساسة الذين تسلموا دفة الحكم، وعلى رأسهم الشاعر الفرانكوفوني ومرشح نوبل لفترة طويلة ليوبولد سينغور أول رئيس للسنغال، والذي تبنى سياسة أن تكون اللغة الفرنسية هي لغة التفاهم بين شعوب إفريقيا الغربية وطبق ذلك في السنغال، فشجع كتابة اللهجات المحلية بأحرف فرنسية بدل الأحرف العربية التي كانت تكتب بها تلك اللهجات، وفي نظام التعليم تقرر أن تكون اللغة العربية في الابتدائية اختيارية وخارج الوقت الرسمي للمدرسة.
الخليج - الملحق الثقافي

الوجه القبيح للاستعمار في المغرب العربي


عمل على الفرنسة ومارس الإبادة الفعلية
الوجه القبيح للاستعمار في المغرب العربي
آخر تحديث:السبت ,01/08/2009
محمد ولد محمد سالم


1/1


بدأت الإمبريالية الأوروبية حركتها الاستعمارية مدفوعة بضرورات صناعاتها الناشئة التي تحتاج إلى مواد أولية لإقامة هذه الصناعة وأسواق جديدة لبيع منتجاتها، وقد احتاجت لتبرير حركتها تلك إلى زعم أنها تحمل معها التنوير وحضارة العلم والحرية والمساواة للشعوب، ولكن سياسات الإبادة واستنزاف الخيرات وطمس الحضارات ونظرة التعالي والاستهزاء بالمستعمرين واستعبادهم التي اتبعتها الدول الاستعمارية أظهرت الاستعمار على حقيقته البشعة ووحشيته، ويعد الاستعمار الفرنسي أسوأ أنواع الاستعمار لما انتهجه من قتل وتنكيل بسكان البلدان التي اجتاحها، وما سعى إليه من تغيير ثقافات مستعمراته وفرض الثقافة الفرنسية بالقوة، وتعتبر سياسته في منطقة المغرب العربي أكبر دليل على الوجه القبيح لذلك الاستعمار الذي أتم بسط سيطرته على كل بلاد المغرب العربي في سنة 1912 بفرض الحماية على المغرب بعد احتلال الجزائر سنة 1830 وتونس سنة 1881 وموريتانيا 1902.
تظهر أدبيات هذه الحقبة، كيف كان المستعمرون ينظرون بازدراء لشعوب المنطقة ويعتبرونهم حفنة من المشردين القذرين الذين هم خارج الحضارة ولا يستحقون سوى القمع والإذلال وسلب خيرات بلادهم، وسوف نتعرض لتجليات هذه النظرة انطلاقا من بعض الكتابات التي تناولت ظاهرة الاستعمار، وذلك في اتجاهين صورة الشعوب المغاربية كما رآها رجال الإدارة الاستعمارية وصورة المستعمر بعيون بعض المثقفين الفرنسيين المتنورين.
تعبر المذكرات والرسائل الإدارية والكتب الكثيرة التي أبدعها رجال الإدارة الاستعمارية الفرنسية عن الحقد الدفين الذي يكنونه للعرب وثقافتهم ودينهم، وكيف أنهم يتقززون منهم وينعتونهم بأوصاف الطمع والتحايل والهمجية البربرية هي سمات الإنسان المغربي البدوي البعيد عن الحضارة المتوحش، الذي يبحث دائما عن نهب أو نصب يوقع فيه غيره، فالشر طبع جبل عليه لا يفارقه، هذه الصفات تتجلى في الصورة التي قدمها الرائد جيلييه في كتابه: “التوغل في موريتانيا” للبيضان، واصفاً إياهم بأوصاف مشينة، وذلك في معرض حديثه عن المساومة بينهم وبين التجار الفرنسيين الذين يسعون للحصول على كميات من “الصمغ العربي”: “ليس هناك حيلة من الحيل إلا ويعرف البيضان كيف يستخدمونها، ولا نوع من أنواع الكذب والخداع إلا ويحسنون اختلاقه من أجل الحصول على ثمن أغلى من ثمن البيع في السنة السابقة، فالملوك والشيوخ يعرفون مائة نوع من أنواع الحيل والخداع ومائة ألف نوع من أجل انتزاع رسوم وهدايا أهم بالنصب والاحتيال، ويستخدمون اللطافة أحيانا والتهديد أحيانا أخرى، ودعاويهم المثيرة للسخرية تتجدد كل سنة بحذاقة وتحايل همجي. من أجل وضع العراقيل والمشاكل خلال هذه المفاوضات، فالعمال والوكلاء المكلفون بتجارة الصمغ والتجار الذين يذهبون إلى محطة (بودور) من أجل الشراء هم وحدهم الذين يعلمون ما في هذه المعارض البربرية من مشقة وهم كدر يجب تجرعه بضجر”.
ونفس النبرة الاستعلائية المتحاملة لا ترى في الآخر إلا الكذب واللؤم والقذارة ونكران الجميل، وترخص لنفسها استخدام كل وسائل العنف للقضاء عليه وعلى نمط تفكيره البدائي، نجدها في استشهاد من كلام أحد الفرنسيين أورده عبد الجليل حليم في بحثه بعنوان “الفلاحون المغاربة في الإثنولوجيا الكولونيالية: بين الجمود وقابلية التحسن” يقول هذا الفرنسي واصفاً الفلاحين المغاربة: “إنهم متعنتون تعنت العميان في التشبث بطرق تفكيرهم وأفعالهم وعيشهم، فكل أفكارنا وكل أعمالنا تبدو لهم مقيتة، والحال أن ديانتهم هي التي تغرس فيهم هذه الآراء. من أجل تغيير طريقة عيشهم لا بد من القوة، فما أن نكف عن استعمالها يتهافتون مجدداً في تقاليدهم المزمنة ليقبعوا داخلها ويزدرونا. إنهم قذرون وكذابون ولؤماء، وهم متشبثون بالمكوث على هذه الحال. أما الابتسامات التي يجودون بها علينا والآداب الحسنة التي يعاملوننا بها فليست إلا مسخرة وبهتانا. وبدل أن يعترفوا لفرنسا بفضلها عليهم لا يكفون عن الرد في كل مناسبة بتظاهرات ينغرس فيها الحقد، علاوة على أن المتظاهرين هم أولئك الأكثر تعلماً وتديناً من بينهم”.
أبطال تافهون
حتى الأمراء والسادة الذين يقودون عادة تجمعات كبيرة ويتبعهم آلاف البشر، ولهم هيبة وأبهة حيثما حلوا، والذين يكونون عادة على درجة من الحكمة والتعقل ويعرفون كيف يتصرفون في مختلف المناسبات، لم تشفع لهم معاهدات الصلح التي وقعوها مع هؤلاء المستعمرين الفرنسيين، فهم أجلاف متخلفون متسولون بطبعهم. يقول جيلييه وهو يصف ضيافة الفرنسيين للأمراء الموريتانيين حين يزورون الحاكم الفرنسي في “سان لوي”: “كانوا يُمْنحون علاوة على ذلك لضيافتهم اليومية ذبائح من البقر والقمح والسكر والخبز لكن بما أنهم متسولون بالطبيعة فلم يكن يسمح لهم بالمكوث أكثر من الوقت اللازم حتى ولو رغبوا في الإقامة أكثر في سان لويس”.
عمل الفرنسيون على مسخ ثقافة المجتمعات المغاربية ومحو اللغة العربية وإحلال القضاء الفرنسي مكان القضاء الإسلامي وتنصيب جواسيسهم كممثلين لثقافة المجتمع. ففي مذكرة لموظف في الإدارة الاستعمارية اسمه “بيرك”، كان مسؤولاً عن تسيير مديرية الشؤون الأهلية في الجزائر، يقول: “لقد وصل بنا امتهان واحتقار الدين الإسلامي درجة أننا أصبحنا لا نسمح بتسمية المفتي أو الإمام إلا من بين الذين اجتازوا سائر درجات التجسس، ولا يمكن لموظف ديني أن ينال أي ترقية إلا إذا أظهر للإدارة الفرنسية إخلاصاً منقطع النظير”، وفي رسالة د. فيتال من قسنطينة إلى أحد أصدقائه سنة 1864 يذكر بقلق ما يعانونه من عراقيل في هذا البلد بسبب أنه: “لا تزال هناك كلمات تهز هذا البلد هزا كلما ورد ذكرها، هي كلمات القومية والإسلام و الأرض المقدسة التي يجب تطهيرها من الكفر.. هذه الكلمات عندما تتردد تجعل الشعب مستعداً للثورة”، ومن أوضح صور استهداف الإسلام واللغة العربية، بل استهداف وحدة الشعب ما فعلته فرنسا في المغرب سنة 1930 حين أصدرت القانون المسمى ب”الظهير البربري” الذي قضى بإلغاء سلطة سلطان المغرب على المناطق البربرية المغربية وإخضاعها لإدارة فرنسية وإحلال القانون الفرنسي محل الشريعة الإسلامية، وإطلاق يد التبشير المسيحي فيها. وكانت قد صدرت دعوات فرنسية كثيرة للقيام بهذه السياسة. فالمستشرق الفرنسي “دي مومبين” في كتابه “المهمة الفرنسية فيما يخص التعليم في المغرب” الصادر عام (1928م) يقول: “إن الفرنسية، وليست البربرية، هي التي يجب أن تحل مكان العربية كلغة مشتركة وكلغة حضارة”، ويصرح الجنرال “بريمون” في كتابه “الإسلام والمسائل الإسلامية من وجهة النظر الفرنسية” الصادر سنة 1932 بهذه السياسة وبكل وقاحة قائلا: “يجب محو إسلام البربر وفَرْنَستهم”. ولم تكن هذه السياسة الفرنسية في الفصل العنصري بين المجموعات العرقية والعمل على مسخ دينها وكسب ولائها لفرنسا قاصرة على المغرب بل اتبعوها في الجزائر وموريتانيا أيضاً.
الجانب المقابل
هذه الصورة التي تحمل كل ألوان الكراهة وتعتبر سكان المغرب العربي مجرد كائنات بشرية تافهة لا تستحق الاحترام ولا حتى أبسط الحقوق هي التي بررت العنف ضد سكان هذه المنطقة، واسترخصت دماءهم وأعراضهم ولغتهم ونهب خيراتهم، وقد لاحظ الكثير من المثقفين الفرنسيين المتنورين هذه الكراهية الاستعمارية ونددوا بها، فالكاتب الفرنسي أناتول فرانس (1844 1924) هاجم المشروع الاستعماري ونقض مزاعمه القائلة إنه يهدف إلى إدخال الشعوب البربرية المتوحشة في الحضارة. وفي خطابه عام 1906 “ضد البربرية الاستعمارية” يقول: “لم يعرف العرب والسود وسواهم من حضارتنا حتى الآن إلا المجازر والاستغلال والقهر والاستيطان. فأين هي الحضارة إذن؟ إن الاستعمار أيها السادة هو أحقر أنواع البربرية. هل تعلمون بأن هذا الاستعمار الوحشي واللا إنساني سوف يجعل ملايين البشر في إفريقيا والهند الصينية والعالم العربي يحقدون علينا؟ ألا تباً للاستعمار والمستعمرين”، ويعبر الكاتب أندريه جيد (1869 -1951) عن نفس الفكرة، ويهاجم الشركات الاستعمارية التي فتحت مكاتب في إفريقيا من أجل التغلغل فيها واستعمارها واستغلال ثرواتها. ويصور في رواياته جشع المستوطنين، ويعلن صراحة أن ما يحدث في تلك المستعمرات يجلب العار للحضارة الأوروبية ويسقطها من أعين الآخرين يقول: “عندما سافرت إلى البلدان الإفريقية المستعمرة لأول مرة لم أكن ضد الاستعمار. ولكن عندما رأيت كيف يعاملون السكان الأصليين بكل عنصرية واحتقار أصبحت من ألدّ أعداء الاستعمار. حقاً إن الاستعمار نظام حقير ودنيء وظالم من أساسه إنه عار علينا نحن الشعوب المتحضرة أو التي تدعي الحضارة”.
ومن صور الغطرسة والاحتقار التي خلدها الكتاب الفرنسيون الحادثة التي وقعت للمؤرخ شارل روبير أجيرون الذي عايش مجازر مايو 1945 في الجزائر وتعرض للحادثة التي كشفت له عن عنصرية المستوطنين، فقد أهانه عناصر من منظمة “الأقدام السوداء” العنصرية الاستيطانية عندما تنازل لامرأة جزائرية عن مقعده في حافلة كان يركبها وهو في زيّه العسكري، دفعته تلك الأحداث التي عاينها إلى أن يتجه للتأريخ لواقع الاستعمار في الجزائر واتسمت كتاباته بالموضوعية ومعاداة الاستعمار، وقد ألف كتاب (الجزائريون المسلمون وفرنسا 1871 1919) الذي اعتبر عملا مرجعيا لسياسة الجمهورية الثالثة، التي كرست نزعة الإبادة الاستعمارية التي أرادت تقويض أركان وتنظيمات المجتمع الجزائري المسلم، من خلال السياسة الجائرة، التي مست مجالات العقار، والضرائب، واستغلال الغابات، وقانون الأهالي، فأقصت الجزائريين من المواطنة الفرنسية، وأنزلتهم إلى درجة العبيد.
الخليج - الملحق الثقافي

العلاقات الثقافية بين موريتانيا والخليج


الرحلة إلى أقاصي المغرب العربي
العلاقات الثقافية بين موريتانيا والخليج
آخر تحديث:السبت ,25/07/2009
محمد ولد محمد سالم


1/1


كلمة “موريتانيا” هي النسبة من “مور” وهي لفظة رومانية كانت تطلق على سكان منطقة الصحراء الممتدة من شواطئ المحيط الأطلسي غربا إلى تنبكتو شرقا ومن بلاد السوس في المغرب إلى نهر السنغال جنوبا، ولم تكن هذه التسمية معروفة قبل مجيء الاستعمار الفرنسي للبلاد، وكان اسمها بلاد شنقيط وأرض البيضان. والبيضان هم مجموعة عربية تكونت في القرون اللاحقة للإسلام من امتزاج بين البربر وهم السكان الأصليون والعرب الذين وصلوا إلى المنطقة في هجرات بشرية واسعة، وتغلبوا عليها وكونوا الإمارات الحسانية المعروفة. وموريتانيا اليوم أصغر مساحة من الأرض التاريخية للبيضان، كما أنها ضمت غداة الاستقلال أقلية زنجية كانت تعيش تحت سلطة الإمارات البيضانية قبل الاستعمار، ومنذ وصل الإسلام المغرب عرفت موريتانيا تبادلاً ثقافياً مطرداً مع الخليج العربي.
كان أول دخول الإسلام إلى موريتانيا في عهد عبد الله بن الحجاب(ت 122) والي المغرب من قبل بني أمية الذي أرسل حملة بقيادة حبيب بن أبي عبيدة وصلت إلى مدينة (أوداغست) في وسط البلاد، ومهد ولاة المغرب الطريق إلى المنطقة بحفر الآبار فأصبحت قوافل التجار العرب المسلمين تترى عليها، وقد نشروا تعاليم الإسلام في تلك الربوع ووصل تأثيرهم إلى المناطق الإفريقية المجاورة، وكان لظهور دولة المرابطين(453 ه) التي انطلقت من موريتانيا ووحدت المغرب وبلاد الأندلس وتوغلت جنوبا في إفريقيا أعظم الأثر في تعميق الدين الإسلامي ونشر المدارس التي تحفظ القرآن وتعلم اللغة العربية والفقه، وجلب الفقهاء العرب لتدريس العلم، وقد اعترف المرابطون بالخلافة العباسية وأعلنوا الولاء لها. ومن الطريف أن الفرنسيين تنبهوا مبكراً إلى التأثير الروحي والسياسي لأهل الجزيرة العربية على الموريتانيين، فحين أرادت فرنسا أن تربط بين مستعمراتها في السنغال والجزائر بسكة حديد في منتصف القرن التاسع عشر وقبل احتلال موريتانيا سعت إلى الحصول من الشريف حسين شريف مكة على توصية إلى الشيخ سعدبوه شيخ الطريقة القادرية في موريتانيا لمساعدة المبعوث الفرنسي (بول صولي)، وكانت تلك التوصية كافية ليلقى ذلك المبعوث كل صنوف الترحيب والإكرام.
مدينة شنقيط
من الأمور الحاسمة في تأثير الخليج العربي في موريتانيا تأسيس مدينة شنقيط (660 ه) التي ستصبح علماً على تلك البلاد نظرا للنهضة العلمية والثقافية التي شهدتها وكثرة من استقر فيها من العلماء، ولكونها نقطة انطلاق القوافل في رحلة الحج إلى المشرق، تلك التي استهوت عموم الشناقطة فطفقوا يتسابقون إلى الجزيرة العربية بحثاً عن الإجازات في العلوم، وعن أمهات الكتب في شتى علوم العصر، وأثمرت هذه الرحلات طبقة من العلماء تتمتع بإجازات في مرويات ومسموعات علماء الحجاز. فالطالب المختار ولد بلعمش العلوي (ت سنة 1107) زار المدينة المنورة ولقي علماءها وحاورهم وسمع من عالمها أبي إسحاق إبراهيم بن الحسن الشبهاني الذي أجازه في رواية الموطأ والصحيحين، وقد عني الشناقطة بجلب الكتب العلمية التي كان لها دور في تأسيس الثقافة العلمية الشنقيطية، ثقافة المحضرة الشنقيطية.
يقول الباحث سيد أحمد ولد أحمد سالم “لا شك أن رحلات الحج التي كانت تنطلق من شنقيط نحو الحجاز.. كانت إطاراً لاستيراد المخطوطات المشرقية إلى موريتانيا، وإن مطالعة بعض النصوص الحجية توضح بصورة جلية قيمة الكتب عند الشناقطة والسعي إلى اقتنائها”. ويذكر الباحث الدكتور محمد المختار بن السعد في معرض حديثه عن عبد الله ولد بو المختار أنه: حج البيت الحرام عام 1077ه وأخذ عن أبي مهدي عيسى الثعالبي وغيره من علماء الحجاز، وأحضر معه كتبا من بينها أول نسخة جاءت إلى البلاد “من إضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة” للمقري.
تكتمل حلقة التأثير القادم من الجزيرة العربية بهجرة أفواج من بني حسان وهم من القبائل الهلالية العربية من اليمن مع بدايات الفتوح الإسلامية وجابت شمال إفريقيا حتى استقرت طلائعها في موريتانيا في حدود القرن الخامس عشر الهجري، وتغلب بنو حسان على قبائل صنهاجة البربرية، وكونوا الإمارات العربية الحسانية التي ظلت تحكم البلاد إلى أن دخلها الاستعمار. وتعربت القبائل الصنهاجية من تلقاء أنفسها وبتأثير من سيادة اللهجة الحسانية العربية، وانتشار الإسلام ونشاط المدارس العلمية (المحاضر)، وانتهى الأمر إلى ضمور اللهجة البربرية شيئاً فشيئاً حتى اضمحلت واختلطت القبائل الصنهاجية بالقبائل العربية.
ومن مظاهر تأثير بني حسان أيضا سيادة الثقافة الشعبية العربية من قصص وعادات وتقاليد حملها بنو حسان معهم في رحلتهم الطويلة من الجزيرة العربية. يقول محمد ولد أحظانا متحدثاً عن هذا التأثير العربي: “مع كل تمدد كانت تحدث انزياحات لما يسمى الثقافة الشعبية المصاحبة للأقوام لأنهم يحملونها معهم قبل زادهم وأمتعتهم فحملوا معهم سيرة الزير سالم أبي ليلى المهلهل وسيف بن ذي يزن وعنترة بن شداد وإساف ونائلة، ونبوءات الكهان وأيام العرب قبل الإسلام وقصص الصعاليك مثل عروة بن الورد مع الأسود وتأبط شراً الفهمي مع السعالي وغير ذلك كثير، وهي منمنمات شكلت زادا ثقافياً سائغاً لهذه الحركة البشرية وحديثاً للسمار تحت ضوء القمر، وهدهدة الأمهات لأبنائهن قبيل النوم.
المحاضر العلمية
كان من نتائج هذا التحول الحضاري أن انتشر العلم في ربوع موريتانيا وتخصصت فيه قبائل بعينها، وابتدع الموريتانيون طريقة (المحاضر) العلمية وهي مدارس يدخلها التلميذ بعد أن يستقيم لسانه ويحصل أجزاءً من القرآن في بيت أهله، ويقوم نظام التعليم فيها على الحفظ التام للمتون، فيلزم التلميذ منذ البداية باتباع نظام تربوي صارم يقوم على الجلوس لساعات طويلة أمام لوح يكرر ما هو مكتوب فيه “ألفا ومائة مرة” حتى يحفظه من دون تلكؤ ولا تعثر ويخضع في أثناء ذلك لاختبارات دقيقة من شيخه. ويتسم المنهج المحضري بالموسوعية والتشعب بين القرآن وعلومه والحديث والفقه وعلم الكلام وعلوم اللغة والمنطق والتصوف والشعر وأيام العرب وأنسابهم، وقد يجلس الطالب أربعين سنة عند شيخه حتى يكتب له الإجازة في مروياته ومسموعاته. وقد أنتجت هذه الطريقة حفاظاً لا يبارون في علوم عصرهم، وكان لبعض هؤلاء صيت واسع وأثروا في كل البلاد التي حلوا بها وعادة ما تبدأ رحلاتهم بالحج ويجلسون للتدريس في تلك الربوع ما أقاموا فيها، ومن أقدمهم صالح الفلاني الشنقيطي (ت 1221) الذي جلس للتدريس في المسجد النبوي يعلم الناس ويجيزهم في الحديث مقدما إليهم الأسانيد العالية وقد أجاز كمال الدين المجيدري الشنقيطي (ت1204) ونوه بمعارفه وحافظته مؤكدا أنه أكبر حافظين اثنين وردا إلى الحجاز في تلك الفترة، ومنهم الشاعر محمدّ ولد محمدي العلوي الشنقيطي (ت1272) الذي حج وتوفي بأرض الحجاز وكان على صلة بإبراهيم أمير ينبع وقد خاطبه ببيتين:
يا قاصدا بطحاء مكة يرتجي
نيل الطواف ببيتها المرفوع
لا تخش من ينبوع حاجك غورة
ما دام إبراهيم في الينبوع
وتحمل لنا كتب التاريخ الكثير من العلماء الموريتانيين الذين أثروا في الثقافة الشرقية منهم المصطفى الطالب أحمد بن أطوير الجنة الواداني (1145 1265 ه) الذي أثنى كثيرا على أهل الحجاز ووصف أخلاقهم العالية وكرمهم وتوثقت صلته بعلماء المدينة المنورة وسكانها، ومحمد يحيى الولاتي الشنقيطي (ت 1330 ه) الذي درس في المدينة سنوات طويلة تحدث عنها وعن علاقته بها في كتابه عن رحلته تلك الذي يقول فيه: “وممن لقينا من الأفاضل بالمدينة المنورة السيد الأرضي علوي والشيخ الكريم سعد المخرج حسن، ودرسنا مدة إقامتنا بالحرم الشريف (موطأ) مالك رضي الله عنه و(عقود الجمان) للسيوطي و(ورقات) إمام الحرمين” وقد كان لمحمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي دور بارز في المحفل العلمي السعودي والإسلامي عامة لعقود طويلة وذلك نظراً لعلمه الغزير ولعلاقاته المتميزة بالملك عبد العزيز آل سعود وهو صاحب الكتاب الشهير(أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن).
وحين أسس المغفور له الشيخ زايد الأول أول مدرسة حديثة في الإمارات سنة 1903 كان عمر السالك الشنقيطي المعلم الثاني فيها بعد الشيخ عبد اللطيف مبارك وكانت المدرسة تتألف من أربعة فصول لقي هذا العالم التقدير من الشيوخ وأهل العلم في أبوظبي، وكان قبل ذلك قد درس في المسجد النبوي. ونذكر هنا جهود محمد الأمين بن فأل الخير (ت1351) الذي درس في المدينة والبحرين و الأحساء ثم في الكويت واستقر به الحال في الزبير في البصرة.
حاول الاستعمار الفرنسي جاهداً أن يقطع موريتانيا عن سياقها التاريخي ومحيطها الحضاري حين جعل مركز إدارتها من مدينة (سنلوي) السنغالية، وأنشأ المدارس الفرنسية لتعليم الأطفال لغته، لكنه جوبه بمقاطعة شديدة اضطرته إلى أن يأخذ الأطفال عنوة إلى المدارس، فكانت الأسرة تنكر أن لها أبناء وتخبئهم عن عيون المستعمرين. وتعتبر التسمية بموريتانيا مظهرا من مظاهر ذلك النهج الاستعماري، وقد نجحت إلى حد ما في طمس معالم التسمية التاريخية والمعلم الثقافي(بلاد شنقيط).
في اعقاب الاستقلال (1960) لقيت الحركة الثقافية في موريتانيا دعماً كبيرا من دول خليجية كثيرة. واستقبلت مدارس هذه الدول أعداداً من الطلاب الموريتانيين، وتأسس المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية بدعم المملكة العربية السعودية، التي افتتحت أيضاً في نواكشوط فرعاً من “معهد الإمام محمد بن سعود”.
وسيبقى العمل الكبير الذي قام به المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله باستقدامه لأعداد كبيرة من القضاة والأئمة والمدرسين الموريتانيين إلى جانب آلاف من رجال الشرطة عملاً رائداً في مجال التبادل الثقافي وعلامة كبيرة على الدعم السخي الذي لا تزال موريتانيا تلقاه من أشقائها في الخليج وفي كافة الوطن العربي.
نهج استعماري
حاول الاستعمار الفرنسي جاهداً أن يقطع موريتانيا عن سياقها التاريخي ومحيطها الحضاري حين جعل مركز إدارتها من مدينة (سنلوي) السنغالية، وأنشأ المدارس الفرنسية لتعليم الأطفال لغته، لكنه جوبه بمقاطعة شديدة اضطرته إلى أن يأخذ الأطفال عنوة إلى المدارس، فكانت الأسرة تنكر أن لها أبناء وتخبئهم عن عيون المستعمرين. وتعتبر التسمية بموريتانيا مظهرا من مظاهر ذلك النهج الاستعماري، وقد نجحت إلى حد ما في طمس معالم التسمية التاريخية والمعلم الثقافي(بلاد شنقيط).
جريدة الخليج - الملحق الثقافي

السبت، 12 سبتمبر 2009

ديوان الليل (الفصل الأول من رواية ذاكرة الرمل)

محمد ولد محمد سالم

... سبحان الله ولاحول ولا قوة إلا بالله...لعل صلاة الصبح قد قضيت ولم أنتبه للأذان.
- هه... هه... ها.ها.
... حسبي الله ونعم الوكيل هذا صوت امرأة لا محالة.
- هه...ها ها ها.
- يا سبحان الله, إنه يأتي من جهة الحمام أو لعله من خلفه من خيمة أهل الحسن. لا تستطيع الشياطين أن تلعب بي وأنا قاهرتها...أنا قاتلة ابن زعيمكم أيها المردة...هل تتوقون إلى جولة جديدة. مازال ثأر سليمان في أعناقكم وسأنتقم له منكم يوما وربما الآن لو تقدمتم...أنا الأقوى...أنا أم العيد...ها أنذي اقترب... لكن هذا الصوت صوت فتاة إنسية. إنه هناك خلف الحمام. يا الله. هنالك خيال أبيض يتحرك.
- هيه... من هناك؟
... يا إلهي, إنهما شخصان...إني أرى خيال رجل يتحرك جهة الشرق وذالك الخيال الأسود الذي يسرع غربا لا شك أنه خيال صاحبة الصوت الذي سمعته... يا إلهي إنها تلوذ بخيمة أهل الحسن وتختفي خلف الخيمة. أتكون تلك إحدى بنات خديجة!...كم أنا غبية...السالمة كم ظلمتك واتهمتك بالحقد والغيرة من خديجة وبناتها, كنت منزعجة وما زلت أذركر ما دار بيننا:
- ياأم العيد كيف تبقين على هذه الفاجرة وبناتها في أرضك.
- السالمة. اتق الله فيها. إنها مسلمة.
- أنت لا تعرفينها هي فعلا فاجرة تفتح خيمتها للغرباء.
- أخشى أن تكوني تغارين منها ومن بناتها.
- هذا هو دأبك دائما يا أم العيد غافلة عن كل شيء وإذا ما أردت أن أنبهك إلى ما فيه مصلحتك تتهمينني. مع أنك أول من سيتضرر من السمعة السيئة لتلك المرأة لأنها تعيش على أرضك وليس من فاصل بين خيمتها وحجرات منزلك.

...آه...السالمة لقد كنت على حق... وهاهو خيال الدراعة البيضاء يختفي داخل السيارة لتتحرك مخلفة سحابة أتصورها سوداء داكنة تغطي سماءنا...نفثة مسمومة من أخر الليل تتسلل إلى النفوس حين تسحب تلك الضحكة المكتومة الهواء البارد... لعلها تلك الفتاة الغرة الزهرة تسرق النومة البريئة لقريتنا... ولكن القمرالأمين يراقبك من بعيد وحين تتمدد ين على الرمل فإن الرمل سيدون ذالك... وبالطبع لن يدون أوهام الصبية صفية ولن تمتلكوا أرضا هنا...يعرف الرمل أنفاس أصحابه ولن تتخلى الصحراء عن ذاكرتها المليئة بالآثارالغائرة. ولن يمحوها افتيات صبية ثرثارة على صويحباتها...حتى ولو صدقنها كما هو حال سميتي أم العيد الصغيرة ابنة العزة حين جاءتني أسيفة مندهشة:
- النينة لماذا لا تكون لك دار كبيرة وجميلة.
- وأين رأيت دارا كبيرة.
- تقول صفية إن أهلها لديهم داركبيرة في نواكشوط وإنهم سيبنون واحدة أخرى هنا.
- أين سيبنونها.
- هناك في مكان خيمتهم... لم لم تشتر أنت دارا كبيرة مثل دارهم . هل تستطيع سيارة كبيرة أن تحمل دارا مثلها،عليك أن تجلبي لنا دارا لقد قال لي أمي إنك تستطيعين أن تفعلي كل ما تريدين.
- يا صغيرتي, صفية كذابة وليس عند أهلها سوى تلك الخيمة ولن يبنوا أي شئ هنا.
- لكنها قالت لنا ذالك, اسألي الفتيات في المدرسة.
- هذا كذب ولا تحدثي به أحدا. لا تسمعه منك لا العزة ولا حليمة. أفهمت؟
- نعم فهمت... لكنك لم تعطني الحلوى بعد.
- سأعطيها لك. ولكن إياك تحدثي أحدا بذالك وإلا منعت عنك الحلوى في المرات القادمة.
- لن أحدث به أحدا.
... خديجة أيكون هذا جزاء الأرض التي آوتك. أم أن الصبية صفية غرها تحلق صويحباتها حولها فطفقت تهيم في الوهم. لا تنسي أن تعلميها أن أوتادي عميقة في جوف الأرض وأن التيه على الصبايا وهن يتحسسن الجسد الصغير الناعم وتحسد عيونهن الفستان الحريري تنبعث منه رائحة عطر ينسيهن زفت قطعة القطران الوحيدة المربوطة بالخيط على أجيادهن, لن يبني ذالك الازدهاء سوى وهم في خيال صبية صغيرة. وقد زجرت الصغيرة أم العيد أن تحمل لها الحقيبة وهن عائدات من المدرسة فلا يليق ذالك بسمية أم العيد... لم يكن صندوقي يخلو من قنينة عطر ويعرف كل السائقين عني حبي له ويجتهدون في اختيارهداياهم لي منه وكان شيخي بوشامة ينبهرحين أهديه عطرا جميلا... ليس هذا مهما ولكن القمر سيحفظ صورة تلك الفتاة وهي تلوذ بالخيمة وقد تعود الشياطين لسابق عهدها معنا حين كانت تحاول طردي من هنا. أنا الحارسة الأمينة وسأقطع الطريق عليهم كما فعلتها من قبل, لكن ماذا سأقول لحليمة بعد اليوم وهي تلح على أن أطردهن:
- أماه اطردي هذه المرأة وبناتها من أرضنا.
- ولماذا أطردها.
- أماه هذه امرأة فاجرة...تتفتح خيمتها للغرباء.
- اخرسي... ولا تعودي لمثل هذا.
- أماه... لو رأيت ما تفعله أو سمعت عما فعلته في الماضي لما ترددت لحظة في طردها من أرضنا. لقد جاءت هنا هربا من العار الذي لحقها بسبب الحمل الأثم الذي حملت به ابنتها العالية.
- أنت مجنونة وتسمعين إشاعات نسوة حاسدات.
- أنا لا أسمع إشاعات أحد، هذه حقيقة الجميع يعرفها أنت وحدك التي لا تريدين معرفتها. لكني أنا لن أصبرعلى تلك الفاجرة وسأطردها من أرضنا.
- اخسإي ولا تعودي إلى هذا وإلا كسرت عنقك.
- لن أعود إليه ولوشئت فاكتبي لها الأرض باسمها ودعيها هي وبناتها يفعلن ما يشأن.
... يا لحليمة لقد كانت تراودني على فعل لم أكن أملك أن, لم تفهم أني أنا حارسة الطريق الأمينة والعهد بيني وبين القرية أن أفعل ما فعلته. هكذا قهرت الشياطين وقد قال لي شيخي الشيخ بوشامة حين حرزني:
- أما أنت فلا خوف عليك من الشياطين ما دامت القدر تفور وظل السقيفة ممتد ومادام في الشكوة شربة باردة لمسافر.لا خوف عليك بل هم من يخافونك. أنت بإذن الله قاهرتهم.
ذالك عهدي مع شيخي ومع القرية. لكن, إياك أن تفرحي بأن الظل سيظل ممدودا لك ... لن يكتب الظلام في ديوانه اسم ابنتي ولن أترك ضحكتها المكتومة تشق صمت القرية من أخر الليل. وكذالك كل بنات قريتنا لن يفعلنها، أنا الحارسة الأمينة لغفوة قريتي ولن أطلق يدك فيها ولست نادمة على أني آويتك أول مرة حين قدمت, وأنت حائرة وبادرتني قائلة:
- السلام عليكم ورحمة الله.
- وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
- نريد زريقا
* وكأس شاي.
- تفضلوا بالجلوس وسيأتيكم على الفور.
- تبدو قريتكم هذه جميلة.
- إلى أين تتجهون.
- أوه, نسيت... أحمد أعط هذه المرأة المباركة شيئا من خبزانواكشوط...ماذا قلت.
- سالتك أين وجهتكم.
- لا وجهة لي بالتحديد. لدي بنات يلححن علي كثيرا للخروج من زمت الخريف في انواكشوط. وقد خرجت أبحث لهن عن مكان مناسب.
- من حقهن ذالك فلا يستطيع المرأ في هذا الموسم الصبرعلى الأرواح والضجيج في المدينة. لكن أين تذهبون عادة.
- هذه أول مرة نخرج فيها. لا تعرف بناتي غير انواكشوط. وأنا محتارة إذا أوغلت بهن في البادية أن يمرضن.
- هذا صحيح، ولا تبعديهن عن جنب الشارع. ليلا يستوحشن البادية.
- تبدو قريتكم هذه جميلة.
- أرى أنها ستكون مناسبة لبناتك فهي تجمع بين البادية والمدينة.
- أرى ذالك.
- وسأساعدك أنا بمنحك مكانا للنزول مدة ما تريدين.
- أراك امرأة مباركة ولن أعدوك.
هذا هوالعهد يا سالمة... لن أفرط في وصية شيخي ولن أجد على ذالك إلا خيرا. عادت أم العيد إلى فراشها وقد قدرت أنه ما يزال في الليل بقية وأن مسعودا ربما لم يؤذن بعد لصلاة الصبح فلتغف إذن قليلا ريثما تسمع النداء...لكن خيال الفتاة لم يفارقها وقد عاد صدى ضحكاتها إلى أذنيها ولم تستطع النوم بقية ليلتها واستقبلت ذالك اليوم كئيبة كآبة لم تعرف لها مثلا ولم تجد لها تفسيرا.
__________
* - الزريق : مزيج من اللبن والماء مع يضاف إليه شيء من السكر.