من الصرامة إلى الفحولة إلى الإنشاد
المعايير النقدية في مسابقة "أمير الشعراء"
آخر تحديث:السبت ,15/08/2009
محمد ولد محمد سالم
1/1
بدأت هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث منذ سنة 2007 تنفيذ مسابقة في الشعر العربي الفصيح تحت عنوان “مسابقة أمير الشعراء” وقد وجدت هذه المسابقة صدى واسعا في الوطن العربي وإقبالا كبيرا من لدن الشعراء العرب، كما أنها أعادت للشعر العربي شيئا من الجماهيرية، والجذوة وحرارة التلقي ونشوة الانفعال به، التي كان قد فقدها منذ وقت ليس بالقصير، بقي فيه حبيس مجالس المتأدبين وفصول الدراسة الأكاديمية، وانقطعت الصلة بينه وبين الجماهير التي لم تعد تفهمه ولم يعد هو يتوجه إليها، فقد أصبح كتابة وفضاء ورقيا وتشكيلا بصريا ومعنى معلقا وتجريبا متواصلا وغير ذلك من اتجاهات الحداثة، التي نكبت عن الجماهيرية واعتبرتها مرادفا للتقريرية والخطابة والانفعال الرومانسي الساذج، وبدلا من ذلك فضلت الحداثة الانزواء في ركن قصي تصوغ فيه أشكالها وتتأمل ذاتها والكون من حولها. وليس موضوعنا هنا مناقشة هذين الاتجاهين اللذين ما زال عجاجهما يسد الأفق في الساحة العربية، ولكن نشير إلى تلك القضية لبيان القيمة التي مثلتها مسابقة أمير الشعراء والموقع الذي اتخذته، فهي حسب ما أراد منظموها جاءت لتمد خيطا انقطع بين الشعر وجماهيره، وتضع الشعراء في مواجهة الحكم المباشر من النقاد والجمهور على السواء. وقد كان لها تأثير على ثلاثة مستويات: أولها أنها وفرت منبرا للشعراء للوصول إلى المواطن العربي حيثما كان، وثانيها أنها حققت نوعا من التواصل كان مفقودا بين الشعراء أنفسهم، يتبادلون فيه المعارف والخبرات، وثالثها أنها أقحمت المواطن العادي في لعبة التلقي والحكم النقدي على الشعر، وقد جاء في التقديم التعريفي الصادر عن الهيئة أن: “إطلاق مشروع شعري جديد خاص بالقصيدة الفصحى العمودية والتفعيلة “الشعر الحر” تحديداً تحت مسمى “أمير الشعراء” يعتبر أمراً ضروريا ومهما حتى تستطيع الثقافة التحليق في الآفاق الرحبة للإبداع خصوصاً بالنظر إلى أنه سيكون أول مشروع إبداعي عربي يعيد للشعر مكانته التاريخية والحضارية ويربطه بنبض المجتمع”.
واليوم وقد اكتملت حلقات الدورة الثالثة من هذا البرنامج ارتأينا أن نتوجه إلى لجنة التحكيم لإنارة الرأي العام حول المعايير النقدية التي تتبعها في إصدار الحكم بصفة جماعية، والملامح النقدية الفردية لكل واحد من أفرادها. واستثنينا من هذه الأسئلة د.علي بن تميم لأنه سيكون لنا معه لقاء موسع.
سألنا د. صلاح فضل: هل هناك معايير نقدية مشتركة تتبعها لجنة التحكيم في تقييم النصوص الشعرية، وما هي؟ فأجاب: “تنطلق لجنة التحكيم من ثلاثة معايير مشتركة وهي:
أولا: صحة اللغة العربية وسلامة الأبنية الموسيقية والتعبيرية، ثانيا: جمال التصوير وقوة التخيل وطرافته ورهافته، ثالثا: الالتزام بمنظومة القيم العربية والإنسانية الرفيعة، وهناك دوماً رؤية شاملة ناظمة للنص.
ولكي يبلغ الشعر تلك الرؤية الشاملة ينبغي أن يعكس:
* تماسك النص وتنامي دلالاته من اتساق منطقي وشعري، وسعة المنظور وصفاء تمثيله لقيم الحرية والتقدم الحضاري، والانسجام بين الوعي الفردي للشاعر والطموح الجماعي للأمة
وحول استخدام اللجنة مصطلحات من مثل “العرامة الشعرية” و”الفحولة الشعرية” قال د. صلاح فضل: “العرامة هي قوة الأصالة وعنفوان الحكمة وشدة التعبير الشعري، والفحولة هي تحديث اللغة واكتشاف قوتها المتجددة مع وثاقة العلاقة بالتراث”.
أبعاد ثقافية
وسألنا الدكتور عبد الملك مرتاض: تحرصون على سلامة لغة الشاعر، فهل تلعب سلامة المفردة دوراً في إبداعيّة النص؟ أم أن لذلك بعداً ثقافيّاً باعتبار الشاعر قدوة للمتكلمين؟ فقال د. مرتاض: “قد يكون هذان الأمرانِ وارديْن معاً. إنّ اللغة المعجميّة في النقد الغربي، في الحقيقة، لا يكاد المعلّق يتعرض لها، ولا يحفِل بها، لأنّ عامة المستعمِلين، ومن باب أولى الشعراء والكتّاب، يُتقنون لغتهم المعجميّة إتقاناً يجعلهم يكتبون بها من دون ارتكاب خطأ نحويّ أو لغويّ إلاّ نادراً جدّاً، وذلك لرُقِيّ التعليم في مؤسساتهم التعليميّة من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة. أما عندنا نحن، في الوطن العربيّ، فإنّ عامّة الناس معرضون لارتكاب الخطأ، ومفترَضون بالقصور في معرفة اللغة العربيّة بقواعدها ومعانيها وبلاغتها، من أجل ذلك، ارتأيت أنا شخصيّاً، في معظم كتاباتي النقدية والتحليليّة أن أتوقّف لدى هذا المستوى من النص الأدبيّ، فأهْوِي على ألفاظ النص المطروح للقراءة لأفحَصها: هل هي سليمة معجميّاً، وصحيحة نحويّاً...؟ ولكن من دون أن أتّخذ من ذلك ركناً مركزيّاً في عمليّة القراءة النقديّة التي قد تجعل من النص الشعريّ الواقع في بعض الأخطاء النحوية أو اللغويّة القليلة، على كل حال، أمثلَ من نص شعريّ آخر لا يشتمل على أيّ خطأ أو هَنَة من حيث ذلك، ولكنه يكون أقربَ إلى النظميّة، وأبعد ما يكون عن الشعريّة بعُرْيه من أي تصوير فني أن أو اشتماله على أيّ إدهاش يَلفت قارئه؛ فلا تُجديه، حينئذ، سلامةُ لغته فتيلاً. ومع ذلك، فهذا لا يشفع للشعراء أن يرتكبوه، فمِن الأَولى أن تكون لغة النص الشعريّ سليمةً حتى تكتمل الصورة الفنية المثلى للنص الشعري المطروح للمتلقّين. ولو شبّهنا مفردات اللغة غير السليمة نحويا ومعجميا في نص من النصوص الأدبيّة، بأجزاء محرّك يؤدي وظيفة ميكانيكيّة، وأنّ هذا المحرك يستحيل عليه أداء وظيفته الميسّرةِ له ما لم تسلَم أجزاءُ قِطعه التي يتكامل عملُ بعضِها مع بعضها الآخر: إذن، لرأينا أن النص كذلك لا ينبغي له أن يتكوّن إلاّ من ألفاظ سليمة، ومفردات نقيّة فيجمع الشاعر بين تحقيق الغايتين: إبداعيّة النصّ وجماليّته، وصيرورتِه حجّةً لقارئه أو متلقّيه في الوقت ذاته”.
وأضاف د. مرتاض: “فقد جنَى على عبقريّة العربية أنها لغة في غاية الدّقّة، ولكنّ معظم مستعمليها هم في غاية اللاّمبالاة بتحقيق مفرداتها”.
وحول تركيز لجنة التحكيم على قيمة الإنشاد في الشعر قال د. مرتاض: “لأمر ما اختصّت العرب قراءة الشعر بالإنشاد، لا بغيره من الإطلاقات الأخرى، كالإلقاء مثلاً، ومن ذلك قول حسّان بن ثابت الشهير:
وإن أشعرَ بيتٍ أنت قائلُه
بيتٌ يقال إذا أنشدْتَه صدَقا
فقال: أنشدته، ولم يقل: ألقيته، أو نحو ذلك.
ذلك بأنّ الأصل في الشعر بعامة، والشعر العربي بخاصة، هو إيقاعه المغروز في صوره المنسوجة بلغة منتقاةٍ بعناية فائقة. ولأمر ما تعدّدت إيقاعات الشعر العربيّ فبلغت ستة عشر شكلاً إيقاعياً، أو طابَعاً بالمصطلح الموسيقيّ. ولذلك كثيراً ما نجد الشعراء الذين لا يُحسنون التغنّي بإلقاء قصائدهم، أي الذين لا يجيدون الإنشاد بمعناه الموسيقيّ: نجدهم يَكِلُون ذلك إلى مَن هم أحسنُ منهم إنشاداً، ليتولوْا إنشادَ أشعارهم وهم في المحافل شُهودٌ.
هذا أمر، وأما الأمر الآخر فإن طبيعة القصائد الملقاة في مسرح شاطئ الراحة، هي ذات صبغة مسرحيّة احتفالاتيّة، تُلْقى ولا تُقرَأَ، ما يجعل من شأن التشكيل البصريّ، وفضاء الورق، وهما من التّعِلاّت التي ينادي بها مَن يعجزون عن مَلْءِ قراطيسهم بالشعر، فيملؤونها بالنقط والبياض، طالبين من المتلقّين أن يُكملوا كتابة ما يكتبون لكي يفهموه، فهل كلّ قرّاء الشعر، بناء على هذا التصوّر، يستحيلون إلى شعراءَ فيُلْحَقُوا بهؤلاء الذين يملؤون أسطار قراطيسهم بالنقاط والبياض؟ وهل من واجب القراء أن يكونوا كذلك فتتغيّر الأدوار، وتتبدّل العَلاقات بين الإرسال والاستقبال في الكتابة الشعريّة؟ أم يجب أن تظلّ الأدوار هي هي فلا تلتبس ببعضها، ولا تتداخل في ما بينها؟...
إنّ التشكيل البصري، إذا حقّ له أن يكون في المعمار الهندسيّ للكتابة الأدبيّة، إنما أولى له أن يكون في نص سرديّ مِن أن يكون في نصّ شعري كُتِب، في أصله، ليُمْتِع بموسيقاهُ وإيقاعِه، وإلاّ لكان الشعر استحال إلى فلسفة تُقرَأُ فتُتَأّملُ في أعمق التفكير العقليّ البشريّ، أو إلى ألغاز مُلغزةٍ لا يفكّها شِق وسَطيح، ولعل من أجل ذلك قال الناقد الفرنسي جون كوهين في كتابه “بنية اللغة الشعريّة” ما معناه: ليس الشاعر شاعراً لأنه يفكر، ولكنه شاعر لأنه يقول... وهذا القول -الشعريّ- من الأَولى له أن يكون في منتصف الطريق بين الفهم واللاّفهم: بحيث لا هو مستغلَق، ولا هو عارٍ.
وإذن، فلا نرى مكانةً للتشكيل البصريّ، على فرْض التسليم بقبوله، لِمَا يُنشَد من قصائدَ شعرية، خصوصاً، على جمهور مسرح شاطئ الراحة، وجمهور المشاهدين العريض حيث إنّ التلقّي المشافه المباشر يحول بينهم وبين القدرة على فكّ ألغاز التشكيل البصريّ، ولا العَمْد إلى فعْل فضاء الورق، وبعد، فإن هذا الشكل من الشعر الذي طُرح عنه السؤال قد يكون خالصاً لشعر التفعيلة الجديد، والشعر الأجدّ، وليس للقصيدة العموديّة التي لا تعوّل في بنائها المعماريّ على الفراغات ومَلْءِ الأسطار بالبياض طوراً، والنقاط الملغزة طوراً آخر”.
وقال الناقد نايف الرشدان أحد أعضاء لجنة التحكيم حول بعض الآليات النقدية في المسابقة: “إن الوقت المحدد للجنة في عرض ما لديهم لايتجاوز أربعين ثانية فمن أين لهم بوقت يعقدون فيه الصلح مع جاك دريدا ورفاقه وان يفككوا مثل ما فككوا إلى جانب أن التفكيكية القائمة على أنقاض البنيوية هي في الأصل مذهب فلسفي أكثر منه أدبي.
وبرنامج المسابقة موجه لعدد من شرائح المجتمع ولا يمكن إسقاط مواقف النقاد الثقافية أو الإرث الثقافي المعرفي على نصوص شعرية في عمل مشاع للنخب والسواد والعامة المتذوقين، وعليه فان فعلا نعنى بالجانب الأخلاقي مجاورا ومسايرا للجانب الفني ففي نظري أنهما جناحا أي عمل أدبي ولا يستطيع أي مبدع أن يحلق بغيرهما وان فعل فإنما ذلكم لأمر يسير، ليحط الطائر فجأة على واقع القيم والتحضر أما بالنسبة لممارساتنا النقدية السريعة فهي تقوم على استنهاض المعاني المخبوءة والمتاحة وتقديم رؤية تشع من أتون أفكار النص ومع ثقتنا في أن الشعراء يعون ما يكتبون فإننا نحاول استنطاق أقوال يمكن أن تقال ومعاني يمكن أن تنبثق من وحي الجو الذي يخلقه النص.
وسألنا الرشدان: كثيرا ما تقومون بعمليات إحصائية ترتبون عليها تفسيرات معينة، فهل هو نوع من التأثر ببنيوية كولدمان التكوينية؟ فأجاب: “لوسيان كولدمان يسعى من خلال رؤيته ومن خلال بنيويته التكوينية إلى رصد رؤى العالم في الأعمال الأدبية عبر عمليتي الفهم والتفسير بعد تحديد البنى الدالة في شكل مقولات ذهنية وفلسفية ويعتمد العمل الأدبي وحدة متكاملة ولا يقف عند حدود الشعر، لكن لا نخفي عليك أننا نحاول أن نستفيد من كل طاقاتنا القرائية والتجريبية في الاقتراب من توسيع المهمة الإبداعية إلى حد الشروع في التأويل الباني العامر للّحظة الإبداعية القائم على إعلاء قدر النمذجة والارتقاء بقيمة النص الغائب الذي قد يحضر بشكل نسبي أو كلي أو حتى يقوم بإيقاظ اللحظة المشتركة أو المتشابهة أو المتنافرة التي يعلو فيها صوت المعترض والمخالف، وهذه هي القيمة الحقيقية للغائية النصية والقراءة النقدية سواء العابرة أو المتأنية، لاشك أن الحديث عن النص المفقود والغائب والموحى إليه يرفد الحديث عن نص اللحظة أو النص المخاطب وقد وجدنا في بعض نصوص الشعراء إلماحات خلاقة قد تفر من بين يدي المتلقي وربما فرت كثيرا من أيدينا.
د.أحمد أخريس
- تنأون بنفسكم عن تمثل نظرية بعينها، ولهذا فأنتم تراوحون بين النقد التاريخي بمحمولاته الاجتماعية أو النفسية أو الأخلاقية وبين النقد البنيوي، فهل تأخذون بالرأي القائل بأن لكل نص منهجه المناسب له؟
إن الاستعانة بالمناهج النقدية الحديثة لا يجب أن يطغى على الوظيفتين الأساسين في النقد الأدبي، وأعني بهما التقييم والتحليل. وإذا كان التقييم بمثابة حكم، فإنني أتوخى دوماً أن يكون مصحوباً بالتعليل حتى لا يكون انطباعياً أو تأثرياً. أما التحليل فركيزته الأساس هي البنية الفنية، وتعني، بنوع من التبسيط، كيفية تعامل الشاعر مع موضوعه أسلوبيا وعبر اللغة، ولا أقصد هنا اللغة بالمفهوم الواسع بقدر عنايتي بعلاقة النص الشعري بموروثه النوعي. التعامل إذاً مع المدارس النقدية لا يلغي جوهر النقد الذي ينبغي توافره في البرنامج، لكننا نؤثر ألا نرهق المتفرج والمستمع بما يستهجنانه من مصطلحات أو رؤى نقدية.
- تعتبرون حسن الإنشاد قيمة فنية، فهل حقا له ما تزال له تلك القيمة؟
لا بد للشاعر أن يتوج كتابته للقصيدة بإلقاء جيد يقربها للمتلقي، ولقد أدرك بعض الشعراء حاجتهم لمثل هذه الموهبة فأعرضوا عن إلقاء قصائدهم وأناطوا بهذا الأمر غيرهم ممن يحسنونه، ولعل أقرب مثال هو أمير الشعراء أحمد شوقي. إذا فالإلقاء مسألة مهمة عند التقييم، لأنها تجمل الكلام المكتوب وتعطيه بعداً مسرحياً، وربما أوضح الإلقاء معاني كانت غامضة لو اكتفينا بالقراءة وحدها، لأن الإلقاء نوع من التفسير التعبيري الحسي عبر التنغيم والوقف وغيرهما.
الخليج - المحلق الثقافي