بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 4 مايو 2011

خطة ثقافية مستمرة


أفق
خطة ثقافية مستمرة
آخر تحديث:السبت ,02/04/2011
محمد ولد محمد سالم
من جديد يؤكد صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة أن خطة الشارقة الثقافية ليست خطة آنية ولا هي فكرة عابرة، بل هي خطة مستمرة منذ اثنتين وثلاثين سنة حسب ما أعلنه سموه في حفل ختام أيام الشارقة المسرحية الذي أعاده إلى ذلك التاريخ البعيد، حيث كان الأمل والطموح لدى سموه ولدى زمرة من المحيطين به من الشباب الطامحين دافعاً له لوضع خطة مستمرة للنهوض بالثقافة وبالمسرح خاصة وذلك في عام 1979 حين قال لهم: “لنوقف ثورة الكونكريت ولنبدأ ثورة الثقافة” ثم أردف لهم: “إنني سأفاجئ الشباب بما أخططه للثقافة، والآن وبعد مضي 32 عاماً من ذلك الإعلان نحن نصل إلى ما كنا نصبو إليه” .
تقرير لجنة التحكيم الذي قرأته الفنانة جيانا عيد رئيسة اللجنة وأشادت فيه بنضوج تجربة أيام الشارقة ورسوخها كواحدة من أهم المهرجانات العربية، وباكتمال العناصر الفنية للعروض المسرحية المتقدمة للمسابقة، يدل على نجاح هذه الدورة، خاصة من ناحية قدرة الفرق على تقديم عروض تمتلك العناصر الأساسية للعرض المسرحي، وهو ما يعني تقدماً كبيراً على مستوى الممارسة، وقد عنى ذلك لصاحب السمو أن الخطة التي وضعها للشارقة لتكون عاصمة للثقافة قد آتت أكلها، خاصة في مجال المسرح، وقد عبر سموه عن ذلك قائلاً: “إن كلمات لجنة التحكيم عن نضوج واكتمال تلك الأعمال المسرحية التي قدمت خلال أيام المهرجان، لهي شرف لي ولجميع العاملين معي من أجل الارتقاء بالمسرح الإماراتي” .
وبما أن النجاح هو دوماً حافز على السير قدماً وعلى تطوير التجربة، فإن سموه لم ينس في غمرة الفرحة بتلك اللحظات أن يتخذ قرارات جديدة في سبيل استمرار تطوير تجربة الأيام المسرحية وتطوير التجربة المسرحية الإماراتية ودعم التجارب العربية، وعياً منه أن المسرح هو الأداة الأولى في بث الوعي لدى الشعوب وتحفيز نهضتهم، وأن وجوده ورسوخه علامة على نضج المجتمع، وقد أشار إلى تلك العلاقة بين المجتمع والمسرح حين تحدث عن حرصه الدائم على معرفة كم الحضور الذين تابعوا العرض، وكان ارتفاع الحضور في هذه الدورة واحدا من الأدلة التي لمس فيها سموه دليلاً على ذلك النجاح، وعلى أن المسرح في الإمارات أصبح يؤدي رسالته كما أرادها له، لذلك قرر سموه أن تطبق التوصيات التي قدمتها لجنة التحكيم حرفياً .
يحق لصاحب السمو حاكم الشارقة كما عبّر عن ذلك أن تغمره السعادة بهذا الإنجاز الذي عمل عليه طيلة تلك السنوات، والذي حفز طاقات مسرحية كبيرة ودفع إلى إنشاء فرق عاملة في جميع أنحاء الدولة، وأثمر حركة مسرحية رائدة، وأن يستعيد البدايات الأولى التي كانت حافزاً على الوصول إلى هذه النتائج، والصعوبات التي واجهت سموه وأترابه حين كانوا فتياناً صغاراً وهم يخطون خطواتهم الأولى في سبيل إنشاء حركة مسرحية لا يملكون لها سوى الطموح .
كما يحق للمسرحيين وللحركة المسرحية في الإمارات بل وفي الوطن العربي أن تفرح بهذا الدعم والتفكير الدائم من لدن سموه في ما يمكن أن يطور تلك التجارب ।

سياقات حكائية متعددة في رواية "القوس والفراشة"


فازت بجائزة البوكر العربية في أبوظبي
سياقات حكائية متعددة في رواية "القوس والفراشة"
آخر تحديث:السبت ,26/03/2011
محمد ولد محمد سالم


1/2

فازت رواية “القوس والفراشة” للروائي المغربي محمد الأَشعري بجائزة البوكر للرواية العربية لسنة 2011 مناصفة مع “طوق الحمام” للسعودية رجاء عالم، وذلك من بين ست روايات كانت تتنافس على هذه الجائزة هي إلى جانب الروايتين المذكورتين “بروكلين هايتس” للمصرية ميرال الطحاوي، و”معذبتي” للمغربي سالم بنحميش، و”صائد اليرقات” للسوداني أمير تاج السر و”رقصة شرقية” للمصري خالد البري.
تدور رواية الأشعري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين في مدن وقرى مختلفة جنوب المغرب، وهي رواية مربكة فلا بد لقارئها أن يتساءل حين يفرغ من الصفحة الأخيرة منها تساؤلاً حائراً، ما الذي يرمي إليه الأشعري من روايته، ذلك لأن متنها الحكائي لا يساعد على تقديم تفسير واحد لها، فهي ليست قصة واحدة تبدأ وتتطور في شكل تصاعدي، بل قصص متعددة تتحرك في مسارات مختلفة وبالتناوب حسب الفصول، فهناك قصة اختفاء ياسين، وقصة اليسار المغربي، الطفرة العمرانية والفساد وقصة محمد الفرسيوي، وقصة اختفاء عصام، وكلها تمت بصلة شديدة أو واهية إلى حياة شخصية الراوي يوسف الفرسيوي.
تبدأ الرواية بقصة اختفاء ياسين حيث يتلقى والده يوسف محمد الفرسيوي رسالة مجهولة المصدر تبلغه أن ابنه الوحيد ياسين الذي كان يتابع دراسته العليا في فرنسا قد مات في أثناء الحرب في أفغانستان، وتصيبه اللامبالاة وانعدام الإحساس الذي يصبح مزمناً ويجعله محايداً حيال كل ما يقع في حياته من أحداث بصغيرها وكبيرها، وكأنها تقع لشخص غيره، ونتج عن تلك الحالة فقدانه لحاسة الشم، وصارت تأتيه حالات من الشرود يصبح فيها كأنه يجلس مع ابنه ويتحدث إليه حديثاً ذا شجون يعلقان فيه على مجريات الحياة اليومية ليوسف وكأنهما صديقين يناقشان أشياءهما الخاصة جداً، فحين يتعرف البطل إلى امرأة جديدة يبدأ ياسين بسؤاله عن ميوله إليها وما الذي يعجبه فيها، ويتطارحان الرأي فيتفقان ويختلفان، وأثناء ذلك انفصل يوسف عن زوجته بعد خلاف على الذرية التي لم يكن هو راغباً فيها ويرفضها، وكانت هي تريدها.
القصة الثانية هي قصة أصدقاء يوسف من رفاق النضال اليساري القدماء الذين مازال يرتبط بهم ويكوّنون معه عصبة تجتمع في سهرات ليلية في الرباط وفي مكناس يستعيدون فيها سيرة النضال التي انطفأت، ولم يبق منها إلا تلك الحكايات التي يرددونها أوالنقاشات الفارغة التي تتلاشى أفكارها مع سورة النشوة، وقد تحولت حياة بعضهم من السجون والإيمان بالمبادئ الاشتراكية والمساواة إلى المقاولات المشبوهة والعلاقات المتشعبة مع أصحاب النفوذ، ما جعل الأفكار القديمة لا معنى لها في ذلك الواقع.
القصة الثالثة تتعلق بالانفجار العقاري في مدينة مكناس الذي يقف وراءه فساد إداري وشخصيات نافذة والمقاولون الساعون إلى الربح السريع، وقد اكتشفوا في هذه المدينة إمكانات سياحية واعدة، فأخذوا يُجْهزون على تراثها المعماري، ويهدمون معالمها التاريخية في سباق محموم للكسب المادي الفاحش.
والقصة الرابعة عن محمد الفرسيوي والد البطل، وهو رجل من أصول ريفية ذهب إلى ألمانيا ليتعلم فيها، ثم عاد بشهادة عليا وزوجة ألمانية، وقرر ممارسة التجارة، فينافس الشرفاء الأدارسة في زاويتهم في فاس، وصعد صعوداً سريعاً سيطر خلاله على التجارة في تلك المنطقة، وأنشأ الفنادق والمنتجعات السياحية في ويليلي قرب قبر الولي الإدريسي، ثم لا يلبث أن أصاب المنطقة جفاف لسنوات قضى على محصول الزيتون والخروب اللذين كانا عمدة تجارة الفرسيوي ثم تبعها وباء الجرب ليقضي على السياحة، وبسرعة تدهورت أحوال الفرسيوي وتساقطت ممالكه واحدة واحدة وانتحرت زوجته، ولم يبق بيديه شيء وأصيب بالعمى، وجاهد ليبقى دليلاً سياحياً في خربة “ويليلي” التي يحفظ مسالكها عن ظهر قلب.
القصة الخامسة هي اختفاء عصام، وهو ابن إبراهيم الخياطي بالتبني، وكان لإبراهيم صديق خليل، كانت بينهما علاقة غير طبيعية، وقد انتحر هذا الصديق وخلف وراءه ولدين فرأى إبراهيم الخياطي أن يتولى أمرهما وفاء لخليله، وتزوج أمهما شكلياً ليكون قريباً منهما، ويخدمهما من دون شبهة، فأنفق عليهما بسخاء، وعاشا حياة رغدة لكنهما أصبحا خارجين عن طوعه، ويكنان له كراهة شديدة، واتجها إلى احتراف الغناء وأنشآ فرقة من فرق الهيب هوب، وانتهت تلك العلاقة المتوترة بينهما وبينه باختفاء الابن الأكبر عصام اختفاء غامضاً قادت التحقيقات فيه إبراهيم الخياطي إلى السجن بتهمة قتله.
ما الذي يجعل كل تلك الحكايات قصصاً منفصلة بعضها عن بعض؟ للإجابة عن هذا التساؤل ينبغي طرح سؤال آخر: أي تلك القصص هي القصة الرئيسة في الرواية؟
للوهلة الأولى يتوهم قارئ “القوس والفراشة” أن القصة الرئيسة هي حكاية اختفاء ياسين، لأنها هي الحدث الدرامي الأول الذي يصادفه، ولأن الاختفاء يحمل من عناصر المفارقة والتشويق ما يجعله حدثاً روائياً صميماً، لكن هذه الحكاية تتوقف وتتلاشى منذ الفصول الأولى في الرواية ولا يبقى منها غير ذلك الحوار العرضي الذي يعيشه يوسف في لحظات شروده، وهو حوار لا يسعى إلى محاولة تفسير اختفاء ياسين ولا إلى فهم سبب سفره إلى أفغانستان، فهو يتحدث معه وكأنهما صديقان يجلسان في مقهى، ويعلقان بتلقائية على ما يدور أمام عينيهما في حديث ذي شجون تصفه الرواية على النحو الآتي: “كان حديثنا ينصب على كل ما نصادفه من أشغال في المدينة أو مظاهرات أو نساء جميلات، وأحياناً نغوص في أوراقنا القديمة فنتحدث حول الثورات والخيانات وموت الأوهام” ص،77 ونظراً لذلك فإن قصة اختفاء ياسين تبقى معلقة، وتبقى حولها أسئلة كثيرة لا تجد جواباً.
أما قصة اليسار المغربي فهي رغم أن الرواية تقدمها وكأنها عرضية من خلال شخصيات ترتبط بحياة يوسف بطل الرواية، إلا أنه يخيل للقارئ أنها هي القصة الأصلية بالرغم من أن الكاتب لم يفسر كيفية انكفاء الأحلام الثورية القديمة لهذا اليسار، ولا الأسباب التي جعلته ينخرط من غير ندم أو إحساس بتأنيب الضمير في دوامة الفساد والوصولية “أحمد مجد وإبراهيم الخياطي”، ودون أن تقدم الرواية إدانة لذلك الانخراط، إذا ما استثنينا نفور “ليلى” من السهرات الليلية لأصحاب صديقها يوسف وأحاديثهم الثقيلة، لكنه نفور لا ينبني على إدانة لما انحدروا إليه بقدر ما يعبر عن الحالة النفسية لامرأة تعودت الوحدة ولا تأنس إلا بقراءة الكتب، ولذلك فإن هذه الحكاية تطرح من الأسئلة أكثر مما تجيب عنها، وتخلط من الأوراق أكثر مما تميز.
وكان يمكن لحكاية الحمى العمرانية والفساد والرشوة التي أصابت مكناس وأصبحت تقضي على معالمها التاريخية، وتكشفت عنها حكايات فساد تضرب في أعماق المجتمع والدولة، كان يمكن لهذه الحكاية أن تربط بحكاية اليسار، لأن بعض أفراده انغمس في اللعبة، لكن الكاتب آثر أن يجعلها قضية جانبية متعلقة بتقارير صحفية قدمها الصحفي يوسف الفرسيوي عن الوضع العمراني الجديد في مكناس، ونشأت عن تلك التقارير ضجة إعلامية، وتحرك محدود من جانب الدولة، كما كان يمكن أن يكون لها تأثير على مسار حياة البطل، فتكون هي قضيته الأساسية ويتولد عن ذلك تطوير درامي تتكشف من خلاله خبايا الفساد والأمراض التي تنخر جسم المجتمع، لكن المسألة لم تتجاوز تلك الضجة الإعلامية، وضرب الكاتب عنها صفحاً في بقية الرواية.
القصة الوحيدة التي تبدو مكتملة في الرواية هي قصة محمد الفرسيوي والد البطل، فسياقها مكتمل من بدايته إلى نهايته، وهي مستقلة تماماً عن القصة الأم ولا ترتبط بها إلا بعناصر واهية هي تلك العلاقة المقطوعة بين يوسف وأبيه الفرسيوي، ولو أن الكاتب اقتطع قصة الفرسيوي وحدها لكان استطاع بقليل من الإضافات التي تعمق بعض جوانبها أن يقدم للقارئ قصة مشوّقة وجميلة، ولكشف بها عن جوانب كثيرة من جوانب الصراع بين القديم والجديد في المجتمع المغربي، ولأنها قصة كان يمكن أن تكون جميلة وعميقة، فليس غريباً أن الأشعري وصل بتلك الفصول المتعلقة بالفرسيوي إلى قمة التألق السردي بلغة شاعرية جميلة ومتدفقة مشبعة في أحيان كثيرة بدلالات موحية، لكنها كما قلنا قصة جانبية لا علاقة لها البتة ببقية أحداث الرواية وأشخاصها.
مثل كل الحكايات الأخرى تبدو حكاية عصام سياقاً آخر منفصلاً جيء به لتسليط الضوء على حياة الفئات الجديدة من الشباب المغربي الذين توفرت لهم أسباب العيش الرغيد لكنهم تمردوا فاتجهوا تارة إلى تقليد الحياة الصاخبة المنحطة للشباب الأمريكي، وأخرى إلى الارتماء في أحضان الحركات الإرهابية التي أخذت تفجيراتها تشيع الرعب في المجتمع، لكن الرواية كما سكتت عن أسباب ذهاب ياسين إلى أفغانستان لم تقدم أي تحليل وجيه لأسباب اختفاء عصام المفاجئ وتفجيره لنفسه في نهاية الرواية، في سياق يعين على فهم هذه الظاهرة المستعصية على الفهم في مجتمعاتنا، وبدلاً من ذلك تقتصر الرواية على الإدانة الشفوية وردة الفعل التلقائية للناس حيال هذا النوع من الظواهر العنيفة، وكذلك فإن انقلاباته تلك لم تفلح في إعادة ذويه النظر في حياتهم وعلاقتهم بأبنائهم والتساؤل عما إذا كانوا هم أنفسهم سبباً في ما صار إليه أبناؤهم، وفي الحالات التي يكون فيها السبب وجيهاً للتمرد لا تقدم الرواية موقفاً واضحاً من ذلك السبب، فالرواية تقدم إبراهيم الخياطي على أنه شخص نبيل مرهف الإحساس مات خليله، فأراد أن يتبنى ولديه وفاء له، وتعتبر احتقار الولدين وكراهتهما له خسة وسلوكاً غير مبرر، وكأن تلك العلاقة المشينة والمخالفة للطبيعة البشرية التي ربطته بأبيهم لا تكفي لأن يكرها كل شيء في الدنيا، وحتى نفسيهما.
وكان يمكن لتلك الحكاية أن تروى وحدها وتعمق العناصر الدرامية فيها لتخرج منها رواية بديعة، لكن ذلك لم يحصل وجاء إقحامها في آخر الرواية ربما لإيجاد سبب وجيه يعود بالبطل إلى الحكاية الأولى للبحث عن سبب اختفاء ابنه ياسين، حيث أعطاه شاب لقيه في رحلة بين مدريد والرباط موعداً ليوصله إلى شخص له علاقة تنظيمية بابنه، وحين يذهب إلى الموعد لا يجد أياً من الشخصين، لكنه يلاحظ شخصاً غريب الهيئة فيتبعه من شارع لشارع، وحارة لأخرى متوهماً أنه ابنه، لكنه حين يهجم عليه ليمسك به يعرف فيه ملامح عصام، ولكن بعد فوات الأوان فقد انفجر الحزام الناسف الذي يحمله عصام ليرفعهما عالياً في الجو.
لا شك في أن الأشعري كاتب متمكن من فنه، وهو ما تدل عليه رواية “القوس والفراشة” فهي تتميز بميزات فنية عديدة: التلقائية رسم الشخصية والقدرة على إعطائها حياة واقعية، والبعد عن التكلف والخطابية فنحن نستوحي فكره من سياق الأحداث وليس بخطاب مباشر فج كما يحدث في كثير من الروايات، كما أن أسلوبه فصيح صحيح، وتوظيفه للحوار كان موفقاً في كثير من المواقف، والشيء الأهم هو أنها رواية تحمل هماً روائياً حقيقياً، لكن هذا الهم أراد أن يجيب عن أسئلة عديدة في وقت ما فلم يستطع، ولن يستطيع لأن الرواية لا يمكن أن تكون إلا حكاية واحدة، وإلا قصة واحدة تسير في اتجاه تصاعدي نحو نهايتها، فمن المسلمات الفنية في السرد الروائي أن كل ما يقع في الرواية من أحداث وكل ما يظهر فيها من شخصيات، وكل ما تتحدث عنه من حكايات جانبية كل ذلك يجب أن يكون مسخراً لدعم الحكاية الرئيسة فيها، على صعيدي التفسير والتطوير، وذلك للإجابة عن السؤالين الأساسين بالنسبة إلى الكاتب، لماذا وصلنا إلى هذه النقطة؟ وإلى أين سنتجه؟ وعندما يضع الكاتب هذين السؤالين في اعتباره يكون إمكان أن يقدم بناء روائياً محكماً ومقنعاً إمكاناً كبيراً، أما إذا لم يضعهما في اعتباره، فهنا ينشأ الخلل، وتكون احتمالات التفكك وانعدام الرؤية الواضحة واردة.
طرح الأشعري أسئلة عدة تتعلق بقضايا جوهرية في راهن المجتمع المغربي، تحول أدوار النخب السياسية، والفساد الإداري ونهب الثروات، والظواهر الاجتماعية الجديدة كالإرهاب، والانحلال الأخلاقي، وضياع الشباب، والصراع بين بنية اجتماعية تقليدية مؤسسة على موروثات تخلط الواقعي بالديني بالأسطوري، وبين رؤية جديدة مشبعة برؤية غربية قوامها ليبرالية شرهة لا تعرف التوقف عند حد معين في سعيها إلى الربح، ولا يهمها ما يجلبه ذلك من خسائر للآخرين، بذلك يقدم الأشعري سياقات لقصص متعددة لم يكن في إمكانه إكمالها، فكان مضطراً أن ينهي كل واحدة منها في منتصف الطريق حتى لا تذهب به بعيداً عبر مسارات لا يمكن أن تستوعبها صفحات رواية واحدة.
ربما يكون عمق تلك الأسئلة وتغلغلها في القضية السياسية والاجتماعية الراهنة للمغرب، وحرج الإجابة عنها وما ينطوي عليه من مخاطر هو ما جعل الكاتب يحجم عن السعي للإجابة عنها أو عن واحد منها على الأقل، وذلك بدفع أحد تلك المسارات إلى نهايته، وحين يطرح الروائي سؤالاً يخاف من الإجابة عنه، فإنه يظلم روايته وفنه وقارئه ويظلم التاريخ।

مسؤولية الروائي


أفق
مسؤولية الروائي
آخر تحديث:السبت ,09/04/2011
محمد ولد محمد سالم
لا أحد يحجر على قلم الروائي، ولا على ما يريد قوله، لكن مجرد إمساكه بالقلم واتجاهه إلى القارئ، يضعه أمام مسؤولية أنه يوجه رسالة إلى هذا القارئ، وأن عليه أن يحترم قارئه بدرجاته المختلفة، بدءاً بقارئه المواطن، فيسعى إلى ما يعزز الوطنية والإحساس بالانتماء إلى الأرض والشعب، وانتهاءً بقارئه القومي بما يعزز هويته وتطوره ويحترم قيمه وحضارته ويسهم في حضوره وفاعليته بين الأمم، وقارئه الإنساني بما يدافع عن قيم الحق والمساواة والعدل والحرية، ويؤازر التفاهم والأخوة والتسامح بين بني البشر .
تلك هي مسؤولية الروائي كما هي مسؤولية كل كاتب ومؤلف ومفكر، واع بخطورة موقعه في صناعة وتوجيه فكر الإنسان، وهي مهمات لا تتعارض لأن قيم الإنسانية مهما اختلفت أوعيتها الثقافية وأساليب تحقيقها بين الشعوب، متشابهة في جوهرها، فالعدل واحد سواء كان في حق فرد أو شعب أو أمة أو البشرية، ومن هنا كانت مهمة الرواية - كما هي مهمة الحدث الدرامي عامة - أن يدافع عن الخير وينحاز له، ويدين الشر ويقف ضده . ويحار المرء حين يقرأ رواية بأكملها فلا يعرف أين يقف منها، إذ تبدو باهتة الرؤية عديمة الملامح، لا يمكن تصنيفها في خانة معينة، ولا تقود إلى التعاطف مع بعض الشخصيات أو النفور من بعضها الآخر، ولا نعني هنا أن نقوّم الأمور بالأبيض والأسود، فتكون الشخصية إما خيّرة فنتعاطف معها، وإما شرّيرة فنمقتها، فليس هذا ما يبحث عنه القارئ، لأن الشخصية قد تكون شريرة لكن لها ما يبرر شرها في الرواية، فتكون الإدانة للظروف التي دفعتها إلى ذلك، وليس لها كإنسان ضعيف مسلوب الإرادة يصارع قوى أكبر منه، فالموقف من الشر أو الخير لا يرتبط بالضرورة بمظهر الشخصيات، لكنه جو عام يشيع في الرواية ويحسه القارئ عن طريق وجود صراع ما، ظاهر أو باطن، ونعود هنا إلى فكرة (الصراع) التقليدية التي نشأت عليها الدراما قصداً لأنها أزلية في الوجود الإنساني .
مثل تلك الروايات الباهتة الرؤية قد كثرت في الأدب العربي في السنوات الأخيرة، وليت الأمر قاصر على روايات مغمورة لكتاب لا يعرفهم أحد، لكنه موجود في روايات ذات شهرة، فما هو الموقف الذي يمكن أن نتخذه من بطلة رواية “بروكلين هايتس” لميرال طحاوي، وما هو المنظور الروائي الذي يمكن أن تقدمه لنا الرواية غير تلك التداعيات السردية لحكاية بسيطة لامرأة عاشت في وطنها بلا أهداف وسافرت إلى أمريكا من دون طموحات، وعاشت هي وابنها حياة عادية ككل المهاجرين؟ والتساؤلات نفسها تطرح عن رواية “روائح ماري كلير” للحبيب السالمي، ويضيق المقام عن الأمثلة وشرحها .
dah_tah@yahoo.fr

بلطجية الثقافة


أفق
الثقافة والحرية
آخر تحديث:الأحد ,17/04/2011
محمد ولد محمد سالم
تعني “البلطجية” في القاموس السياسي الراهن مجموعات العنف والقتل المدنية أو التي تتخفى في أزياء مدنية وتتخذها الأنظمة القمعية للتصدي الشعبية السلمية المطالبة بالحرية والمشاركة السياسية، لكن هذا المفهوم لم يعد قاصراً على المفهوم السياسي، بل يمكن اليوم وفي ظل ما يجري من أحداث وما نشاهده على شاشات التلفزيون أو نقرأه من مقالات، سحب مفهوم البلطجية على قطاع كبير من المثقفين العرب الذين انبروا للدفاع عن تلك الأنظمة الاستبدادية، وراهنوا على موالاتها رهاناً خاسراً، ولم يستطيعوا أن يروا الضوء الذي سطع في نهاية النفق، وأعمتهم سنوات من التذلل والخضوع لتلك الأنظمة، وتفصيل أثواب من الثقافة المرقعة الخشنة لها .
ظن أولئك المساكين الذين عاشوا عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة من صناعة خطاب ثقافي مقلوب رأسه إلى الأسفل ورجلاه في الهواء، يعرف القتل والسجن وتكميم الأفواه وعسكرة الإعلام بأنها إجراءات أمنية ضرورية لمسيرة البلاد، ويعد القصيدة التي تتنشق نسيم الحرية، وتختلق لغة طافحة بالجمال وتمجيد الإنسان، خيانة عظمى، وكل رواية تمجد الحرية والعدالة والمساواة وتحمل هم المواطن البسيط، هي معادية لأهداف البناء، وكل كتابة للتاريخ لا توثق لمآثر وعطاءات الحاكم بطل الثورة والوطن والحرب والسلام والزعيم التاريخي الأعظم، هي كتابة منافية للحق وتشوه التاريخ وتسعى لضرب حقائق نضال الأمة، وكل فكر وعلم هو خارج عن السياق إذا لم يتضمن شيئاً عن ذلك النظام القمعي، وينبغي أن يحاكم أصحاب تلك الآداب والعلوم ويزج بهم في السجون أو يقتلوا بتهمة المساس بأمن الدولة .
هذا الواقع جعل المثقف بين موقفين إما أن ينخرط في التشكيلة ويكون عضواً في الأوركسترا، أو أن يهرب بنفسه إلى ركن قصي مظلم ليقبع في زوايا النسيان، حتى يموت غير مأسوف عليه، وانتهى الأمر إلى خطاب واحد منسجم مع الرؤية السائدة، خطاب يخترع طرقاً للتدجين والتخدير لا تنتهي، ولم يعد يسمع لتلك الخطابات الأخرى المغايرة أو الباحثة عن صوت خارج الثكنة أي صوت، واطمأن المطبلون إلى أن العجلة ستظل تسير باستمرار وما عليهم إلا أن يواصلوا إعادة تفصيل تلك المرقعات .
ما حدث في الآونة الأخيرة من حركات تتنسم عبير الحرية في تلك البلدان كشف عن أن أولئك “البلطجية” من بعض المثقفين أخطر من بلطجية الأمن والسياسة لأن لهم القدرة على إنكار الشمس في رابعة النهار وقلب المفاهيم، وغسل الأدمغة بأفكارهم المنمقة، وتوصيل أجزائها حتى تخفي ما وراءها من قبح، وفي الوقت الذي كان يفترض فيه أن يكونوا أول من يستشعر ما هو قادم من تغيير ويسمعوا صوت الحق، ويحسوا بما يتشكل في الواقع، في الوقت الذي كان ينتظر أن يستيقظ في هؤلاء الضمير تجدهم يستميتون في دفع الأمواج عن تلك السفينة الغارقة حتى تكل أيديهم فيغرقوا، ومن أين لهم أن تستيقظ ضمائرهم وقد طمروها تحت طبقات وطبقات من النفاق والذل والتملق .
dah_tah@yahoo.fr

الأفكار المؤسسة للتغيير


أفق
الأفكار المؤسسة للتغيير
آخر تحديث:الاثنين ,25/04/2011
محمد ولد محمد سالم
النظر في تراث كتاب النهضة العربية ومثقفي فترة التحرر من الاستعمار يدلنا على أن الموضوع المركزي في ذلك الإنتاج كان هو الدعوة إلى المساواة بين أفراد المجتمع، وحفلت كتاباتهم بالتأصيل لهذه المساواة سواء عن طريق الرجوع إلى التراث العربي الإسلامي، أو عن طريق الرجوع إلى الفكر الفلسفي والسياسي الغربي، واختلطت نشوة التحرر من الاستعمار في أجزاء من الوطن العربي بنشوة تسلم تيارات فكرية وسياسية تنبني رؤيتها على أطروحة المساواة، وكان تمثيلها الأبرز في تلك الأنظمة العسكرية التي وصلت إلى السلطة بثورات لندخل في ما عرف بالاشتراكيات العربية، وتبع ذلك أن ترجمت أفكار المساواة والاشتراكية إلى دساتير تحكم تلك الدول .
لفترة ظن المواطن العربي أنه قد وضع الأساس الحضاري لنهضته واستعادة هويته التي طمستها قرون من الانحطاط قبل أن يأتي الاستعمار على بقيتها، وظن أنه سيصل إلى ما حلم به من رغد العيش وما يوفره له مبدأ المساواة من انتفاء للطبقية وتشارك في وسائل الإنتاج، ومن إمكانيات الوصول إلى حقوقه، ونسي ذلك المواطن المسكين أن تحقق مبدأ المساواة رهين بمبدأ آخر هو مبدأ “الحرية” التي هي شرط لممارسته أي نشاط، وشرط لإمكانات تعامله مع السلطة .
لم يقدم الفكر العربي غداة النهضة كبير شيء في ما يتعلق بمبدأ “الحرية” اللهم إلا في جانب علاقتها بالتحرر من الاستعمار، لكن ما يتعلق منها بالمواطنة (الحرية السياسية وحرية الكلمة والفكر وإبداء الرأي) ظل غائباً، وطغى على صوته صوت مشروعات إقامة دولة المساواة التي لم تلبث أن حُرفت إلى طغيان حول الدولة إلى جهاز أمن، والفكر إلى خادم له، والمواطن إلى رهينة، وتسربت قصداً كل أطروحات النهضة وكل أفكار المواطنة .
في ظل هذا الوضع بدأ الفكر العربي يتنبه شيئاً فشيئاً إلى الخطأ الجسيم الذي ارتكبه ابتداء، فكان أن ظهرت في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين تنظيرات حول حرية الممارسة السياسية وحرية الرأي وحرية الإعلام وغيرها من الحريات، واقتنعت قطاعات اجتماعية كثيرة بأنه لا يمكن للمجتمع أن يحقق نهضته ويستعيد هويته بصدق من دون حصوله على تلك الحريات، وأنه ليس ب”الخبز وحده يحيا الإنسان”، وحتى هذا الخبز لا يمكن الحصول عليه من دون تلك الحرية، لأنه في غيابها سيكون إما خبزاً مشروطاً بقبول الظلم وإما تجويعاً حتى الموت .
مع تزايد ضغط ذلك الاستعباد والتجويع وتفشيه في المجتمع، ومع انفتاح فضاء الإعلام وتكشف بشاعة الظلم والقهر الذي كان سائداً في تلك الأنظمة، وانفتاح فضاء التواصل أمام الجمهور، ورواج الفكر الديمقراطي المؤسس على مبادئ الحرية، كان لا بد من الوصول إلى لحظة الانفجار، والهبة العظيمة لاستعادة الكرامة والهوية، وهو ما نراه اليوم في الثورات التي تشهدها بعض من الأقطار العربية .
dah_tah@yahoo.fr