فازت بجائزة البوكر العربية في أبوظبي
سياقات حكائية متعددة في رواية "القوس والفراشة"
آخر تحديث:السبت ,26/03/2011
محمد ولد محمد سالم
1/2
فازت رواية “القوس والفراشة” للروائي المغربي محمد الأَشعري بجائزة البوكر للرواية العربية لسنة 2011 مناصفة مع “طوق الحمام” للسعودية رجاء عالم، وذلك من بين ست روايات كانت تتنافس على هذه الجائزة هي إلى جانب الروايتين المذكورتين “بروكلين هايتس” للمصرية ميرال الطحاوي، و”معذبتي” للمغربي سالم بنحميش، و”صائد اليرقات” للسوداني أمير تاج السر و”رقصة شرقية” للمصري خالد البري.
تدور رواية الأشعري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين في مدن وقرى مختلفة جنوب المغرب، وهي رواية مربكة فلا بد لقارئها أن يتساءل حين يفرغ من الصفحة الأخيرة منها تساؤلاً حائراً، ما الذي يرمي إليه الأشعري من روايته، ذلك لأن متنها الحكائي لا يساعد على تقديم تفسير واحد لها، فهي ليست قصة واحدة تبدأ وتتطور في شكل تصاعدي، بل قصص متعددة تتحرك في مسارات مختلفة وبالتناوب حسب الفصول، فهناك قصة اختفاء ياسين، وقصة اليسار المغربي، الطفرة العمرانية والفساد وقصة محمد الفرسيوي، وقصة اختفاء عصام، وكلها تمت بصلة شديدة أو واهية إلى حياة شخصية الراوي يوسف الفرسيوي.
تبدأ الرواية بقصة اختفاء ياسين حيث يتلقى والده يوسف محمد الفرسيوي رسالة مجهولة المصدر تبلغه أن ابنه الوحيد ياسين الذي كان يتابع دراسته العليا في فرنسا قد مات في أثناء الحرب في أفغانستان، وتصيبه اللامبالاة وانعدام الإحساس الذي يصبح مزمناً ويجعله محايداً حيال كل ما يقع في حياته من أحداث بصغيرها وكبيرها، وكأنها تقع لشخص غيره، ونتج عن تلك الحالة فقدانه لحاسة الشم، وصارت تأتيه حالات من الشرود يصبح فيها كأنه يجلس مع ابنه ويتحدث إليه حديثاً ذا شجون يعلقان فيه على مجريات الحياة اليومية ليوسف وكأنهما صديقين يناقشان أشياءهما الخاصة جداً، فحين يتعرف البطل إلى امرأة جديدة يبدأ ياسين بسؤاله عن ميوله إليها وما الذي يعجبه فيها، ويتطارحان الرأي فيتفقان ويختلفان، وأثناء ذلك انفصل يوسف عن زوجته بعد خلاف على الذرية التي لم يكن هو راغباً فيها ويرفضها، وكانت هي تريدها.
القصة الثانية هي قصة أصدقاء يوسف من رفاق النضال اليساري القدماء الذين مازال يرتبط بهم ويكوّنون معه عصبة تجتمع في سهرات ليلية في الرباط وفي مكناس يستعيدون فيها سيرة النضال التي انطفأت، ولم يبق منها إلا تلك الحكايات التي يرددونها أوالنقاشات الفارغة التي تتلاشى أفكارها مع سورة النشوة، وقد تحولت حياة بعضهم من السجون والإيمان بالمبادئ الاشتراكية والمساواة إلى المقاولات المشبوهة والعلاقات المتشعبة مع أصحاب النفوذ، ما جعل الأفكار القديمة لا معنى لها في ذلك الواقع.
القصة الثالثة تتعلق بالانفجار العقاري في مدينة مكناس الذي يقف وراءه فساد إداري وشخصيات نافذة والمقاولون الساعون إلى الربح السريع، وقد اكتشفوا في هذه المدينة إمكانات سياحية واعدة، فأخذوا يُجْهزون على تراثها المعماري، ويهدمون معالمها التاريخية في سباق محموم للكسب المادي الفاحش.
والقصة الرابعة عن محمد الفرسيوي والد البطل، وهو رجل من أصول ريفية ذهب إلى ألمانيا ليتعلم فيها، ثم عاد بشهادة عليا وزوجة ألمانية، وقرر ممارسة التجارة، فينافس الشرفاء الأدارسة في زاويتهم في فاس، وصعد صعوداً سريعاً سيطر خلاله على التجارة في تلك المنطقة، وأنشأ الفنادق والمنتجعات السياحية في ويليلي قرب قبر الولي الإدريسي، ثم لا يلبث أن أصاب المنطقة جفاف لسنوات قضى على محصول الزيتون والخروب اللذين كانا عمدة تجارة الفرسيوي ثم تبعها وباء الجرب ليقضي على السياحة، وبسرعة تدهورت أحوال الفرسيوي وتساقطت ممالكه واحدة واحدة وانتحرت زوجته، ولم يبق بيديه شيء وأصيب بالعمى، وجاهد ليبقى دليلاً سياحياً في خربة “ويليلي” التي يحفظ مسالكها عن ظهر قلب.
القصة الخامسة هي اختفاء عصام، وهو ابن إبراهيم الخياطي بالتبني، وكان لإبراهيم صديق خليل، كانت بينهما علاقة غير طبيعية، وقد انتحر هذا الصديق وخلف وراءه ولدين فرأى إبراهيم الخياطي أن يتولى أمرهما وفاء لخليله، وتزوج أمهما شكلياً ليكون قريباً منهما، ويخدمهما من دون شبهة، فأنفق عليهما بسخاء، وعاشا حياة رغدة لكنهما أصبحا خارجين عن طوعه، ويكنان له كراهة شديدة، واتجها إلى احتراف الغناء وأنشآ فرقة من فرق الهيب هوب، وانتهت تلك العلاقة المتوترة بينهما وبينه باختفاء الابن الأكبر عصام اختفاء غامضاً قادت التحقيقات فيه إبراهيم الخياطي إلى السجن بتهمة قتله.
ما الذي يجعل كل تلك الحكايات قصصاً منفصلة بعضها عن بعض؟ للإجابة عن هذا التساؤل ينبغي طرح سؤال آخر: أي تلك القصص هي القصة الرئيسة في الرواية؟
للوهلة الأولى يتوهم قارئ “القوس والفراشة” أن القصة الرئيسة هي حكاية اختفاء ياسين، لأنها هي الحدث الدرامي الأول الذي يصادفه، ولأن الاختفاء يحمل من عناصر المفارقة والتشويق ما يجعله حدثاً روائياً صميماً، لكن هذه الحكاية تتوقف وتتلاشى منذ الفصول الأولى في الرواية ولا يبقى منها غير ذلك الحوار العرضي الذي يعيشه يوسف في لحظات شروده، وهو حوار لا يسعى إلى محاولة تفسير اختفاء ياسين ولا إلى فهم سبب سفره إلى أفغانستان، فهو يتحدث معه وكأنهما صديقان يجلسان في مقهى، ويعلقان بتلقائية على ما يدور أمام عينيهما في حديث ذي شجون تصفه الرواية على النحو الآتي: “كان حديثنا ينصب على كل ما نصادفه من أشغال في المدينة أو مظاهرات أو نساء جميلات، وأحياناً نغوص في أوراقنا القديمة فنتحدث حول الثورات والخيانات وموت الأوهام” ص،77 ونظراً لذلك فإن قصة اختفاء ياسين تبقى معلقة، وتبقى حولها أسئلة كثيرة لا تجد جواباً.
أما قصة اليسار المغربي فهي رغم أن الرواية تقدمها وكأنها عرضية من خلال شخصيات ترتبط بحياة يوسف بطل الرواية، إلا أنه يخيل للقارئ أنها هي القصة الأصلية بالرغم من أن الكاتب لم يفسر كيفية انكفاء الأحلام الثورية القديمة لهذا اليسار، ولا الأسباب التي جعلته ينخرط من غير ندم أو إحساس بتأنيب الضمير في دوامة الفساد والوصولية “أحمد مجد وإبراهيم الخياطي”، ودون أن تقدم الرواية إدانة لذلك الانخراط، إذا ما استثنينا نفور “ليلى” من السهرات الليلية لأصحاب صديقها يوسف وأحاديثهم الثقيلة، لكنه نفور لا ينبني على إدانة لما انحدروا إليه بقدر ما يعبر عن الحالة النفسية لامرأة تعودت الوحدة ولا تأنس إلا بقراءة الكتب، ولذلك فإن هذه الحكاية تطرح من الأسئلة أكثر مما تجيب عنها، وتخلط من الأوراق أكثر مما تميز.
وكان يمكن لحكاية الحمى العمرانية والفساد والرشوة التي أصابت مكناس وأصبحت تقضي على معالمها التاريخية، وتكشفت عنها حكايات فساد تضرب في أعماق المجتمع والدولة، كان يمكن لهذه الحكاية أن تربط بحكاية اليسار، لأن بعض أفراده انغمس في اللعبة، لكن الكاتب آثر أن يجعلها قضية جانبية متعلقة بتقارير صحفية قدمها الصحفي يوسف الفرسيوي عن الوضع العمراني الجديد في مكناس، ونشأت عن تلك التقارير ضجة إعلامية، وتحرك محدود من جانب الدولة، كما كان يمكن أن يكون لها تأثير على مسار حياة البطل، فتكون هي قضيته الأساسية ويتولد عن ذلك تطوير درامي تتكشف من خلاله خبايا الفساد والأمراض التي تنخر جسم المجتمع، لكن المسألة لم تتجاوز تلك الضجة الإعلامية، وضرب الكاتب عنها صفحاً في بقية الرواية.
القصة الوحيدة التي تبدو مكتملة في الرواية هي قصة محمد الفرسيوي والد البطل، فسياقها مكتمل من بدايته إلى نهايته، وهي مستقلة تماماً عن القصة الأم ولا ترتبط بها إلا بعناصر واهية هي تلك العلاقة المقطوعة بين يوسف وأبيه الفرسيوي، ولو أن الكاتب اقتطع قصة الفرسيوي وحدها لكان استطاع بقليل من الإضافات التي تعمق بعض جوانبها أن يقدم للقارئ قصة مشوّقة وجميلة، ولكشف بها عن جوانب كثيرة من جوانب الصراع بين القديم والجديد في المجتمع المغربي، ولأنها قصة كان يمكن أن تكون جميلة وعميقة، فليس غريباً أن الأشعري وصل بتلك الفصول المتعلقة بالفرسيوي إلى قمة التألق السردي بلغة شاعرية جميلة ومتدفقة مشبعة في أحيان كثيرة بدلالات موحية، لكنها كما قلنا قصة جانبية لا علاقة لها البتة ببقية أحداث الرواية وأشخاصها.
مثل كل الحكايات الأخرى تبدو حكاية عصام سياقاً آخر منفصلاً جيء به لتسليط الضوء على حياة الفئات الجديدة من الشباب المغربي الذين توفرت لهم أسباب العيش الرغيد لكنهم تمردوا فاتجهوا تارة إلى تقليد الحياة الصاخبة المنحطة للشباب الأمريكي، وأخرى إلى الارتماء في أحضان الحركات الإرهابية التي أخذت تفجيراتها تشيع الرعب في المجتمع، لكن الرواية كما سكتت عن أسباب ذهاب ياسين إلى أفغانستان لم تقدم أي تحليل وجيه لأسباب اختفاء عصام المفاجئ وتفجيره لنفسه في نهاية الرواية، في سياق يعين على فهم هذه الظاهرة المستعصية على الفهم في مجتمعاتنا، وبدلاً من ذلك تقتصر الرواية على الإدانة الشفوية وردة الفعل التلقائية للناس حيال هذا النوع من الظواهر العنيفة، وكذلك فإن انقلاباته تلك لم تفلح في إعادة ذويه النظر في حياتهم وعلاقتهم بأبنائهم والتساؤل عما إذا كانوا هم أنفسهم سبباً في ما صار إليه أبناؤهم، وفي الحالات التي يكون فيها السبب وجيهاً للتمرد لا تقدم الرواية موقفاً واضحاً من ذلك السبب، فالرواية تقدم إبراهيم الخياطي على أنه شخص نبيل مرهف الإحساس مات خليله، فأراد أن يتبنى ولديه وفاء له، وتعتبر احتقار الولدين وكراهتهما له خسة وسلوكاً غير مبرر، وكأن تلك العلاقة المشينة والمخالفة للطبيعة البشرية التي ربطته بأبيهم لا تكفي لأن يكرها كل شيء في الدنيا، وحتى نفسيهما.
وكان يمكن لتلك الحكاية أن تروى وحدها وتعمق العناصر الدرامية فيها لتخرج منها رواية بديعة، لكن ذلك لم يحصل وجاء إقحامها في آخر الرواية ربما لإيجاد سبب وجيه يعود بالبطل إلى الحكاية الأولى للبحث عن سبب اختفاء ابنه ياسين، حيث أعطاه شاب لقيه في رحلة بين مدريد والرباط موعداً ليوصله إلى شخص له علاقة تنظيمية بابنه، وحين يذهب إلى الموعد لا يجد أياً من الشخصين، لكنه يلاحظ شخصاً غريب الهيئة فيتبعه من شارع لشارع، وحارة لأخرى متوهماً أنه ابنه، لكنه حين يهجم عليه ليمسك به يعرف فيه ملامح عصام، ولكن بعد فوات الأوان فقد انفجر الحزام الناسف الذي يحمله عصام ليرفعهما عالياً في الجو.
لا شك في أن الأشعري كاتب متمكن من فنه، وهو ما تدل عليه رواية “القوس والفراشة” فهي تتميز بميزات فنية عديدة: التلقائية رسم الشخصية والقدرة على إعطائها حياة واقعية، والبعد عن التكلف والخطابية فنحن نستوحي فكره من سياق الأحداث وليس بخطاب مباشر فج كما يحدث في كثير من الروايات، كما أن أسلوبه فصيح صحيح، وتوظيفه للحوار كان موفقاً في كثير من المواقف، والشيء الأهم هو أنها رواية تحمل هماً روائياً حقيقياً، لكن هذا الهم أراد أن يجيب عن أسئلة عديدة في وقت ما فلم يستطع، ولن يستطيع لأن الرواية لا يمكن أن تكون إلا حكاية واحدة، وإلا قصة واحدة تسير في اتجاه تصاعدي نحو نهايتها، فمن المسلمات الفنية في السرد الروائي أن كل ما يقع في الرواية من أحداث وكل ما يظهر فيها من شخصيات، وكل ما تتحدث عنه من حكايات جانبية كل ذلك يجب أن يكون مسخراً لدعم الحكاية الرئيسة فيها، على صعيدي التفسير والتطوير، وذلك للإجابة عن السؤالين الأساسين بالنسبة إلى الكاتب، لماذا وصلنا إلى هذه النقطة؟ وإلى أين سنتجه؟ وعندما يضع الكاتب هذين السؤالين في اعتباره يكون إمكان أن يقدم بناء روائياً محكماً ومقنعاً إمكاناً كبيراً، أما إذا لم يضعهما في اعتباره، فهنا ينشأ الخلل، وتكون احتمالات التفكك وانعدام الرؤية الواضحة واردة.
طرح الأشعري أسئلة عدة تتعلق بقضايا جوهرية في راهن المجتمع المغربي، تحول أدوار النخب السياسية، والفساد الإداري ونهب الثروات، والظواهر الاجتماعية الجديدة كالإرهاب، والانحلال الأخلاقي، وضياع الشباب، والصراع بين بنية اجتماعية تقليدية مؤسسة على موروثات تخلط الواقعي بالديني بالأسطوري، وبين رؤية جديدة مشبعة برؤية غربية قوامها ليبرالية شرهة لا تعرف التوقف عند حد معين في سعيها إلى الربح، ولا يهمها ما يجلبه ذلك من خسائر للآخرين، بذلك يقدم الأشعري سياقات لقصص متعددة لم يكن في إمكانه إكمالها، فكان مضطراً أن ينهي كل واحدة منها في منتصف الطريق حتى لا تذهب به بعيداً عبر مسارات لا يمكن أن تستوعبها صفحات رواية واحدة.
ربما يكون عمق تلك الأسئلة وتغلغلها في القضية السياسية والاجتماعية الراهنة للمغرب، وحرج الإجابة عنها وما ينطوي عليه من مخاطر هو ما جعل الكاتب يحجم عن السعي للإجابة عنها أو عن واحد منها على الأقل، وذلك بدفع أحد تلك المسارات إلى نهايته، وحين يطرح الروائي سؤالاً يخاف من الإجابة عنه، فإنه يظلم روايته وفنه وقارئه ويظلم التاريخ।