أفق
آخر تحديث:الخميس ,05/04/2012
محمد ولد محمد سالم
يعتبر كتاب “كليلة ودمنة” الذي وضع نصه الأصلي حكيم الهند بيدبا وترجم إلى الفارسية القديمة ثم نقله إلى العربية عبدالله بن المقفع أحد أهم إبداعات البشرية في فنون القول، ذلك لأن الحكيم بيدبا الذي كان يعيش في مجتمع يسوده الظلم والجبروت ويتسلط فيه القوي على الضعيف، ويحكمه سلاطين جائرون، أراد أن يقدم آراءه في العدل والأخلاق والحكمة بطريقة يصل بها إلى الناس ويبلغ بها رسالته من دون أن يجعل أولئك الظالمين يحسون بأنه يدينهم، وأن يضع في أيديهم دليلاً يمكنهم به أن يتسلطوا عليه فيعاقبوه، فلجأ إلى سرد أفكاره على ألسنة الحيوانات، وكانت تلك حيلة بديعة سلم بها من ملاحقة الظالمين، وبلغ فيها مقصوده في تثقيف الأمة وتوعيتها بقيم الحق والعدل، وقد وصفت مقدمة “كليلة ودمنة” تلك الطريقة التي اتبعها بيدبا بأنها “حيلة” من حيل الأدباء: “فلم تَزَلِ العلماءُ من كل أمة ولسان يَلتَمِسونَ أن يُعقَلَ عنهم ويحتالونَ لذلك بصُنوفِ الحِيَلِ ويَبتَغونَ إخراجَ ما عندَهُمْ مِنَ العِلَلِ في إظهارِ ما لديهِمْ مِنَ العُلومِ والحِكَمِ، حتى كانَ من تلك العِلَلِ وضعُ هذا الكتابِ على أفواهِ البَهائِمِ والطير” .
ومنذ أن ابتدع الإنسان فن القول الأدبي للتعبير عن تجاربه في الحياة فهو يواجه خطر الوقوع في المحظور، حين يتجاوز الحدود التي يضعها المجتمع في طريقه، فيضطر إلى مصارعتها، ويخيل لمن يستعرض الأدب القديم أن الشعراء إنما لجأوا إلى المجاز والاستعارة والتشبيه والكناية ومختلف أساليب البلاغة هروباً من سلطة الواقع، واحتيالاً عليها، بمستوى ثان من القول يرتفع عن المباشرة حتى لا يؤخذ عليهم دليل إدانة يؤدي بهم إلى الزنزانة أو المقصلة، لكن هذا الهروب والتعالي على الواقع هداهم إلى ضروب من الجمال الأدبي الأخاذ .
كثيرة هي محاذير الحياة التي تكبل حرية الإنسان في القول، بدءاً بحياته هو ثم حياة الناس من حوله وصولاً إلى قضايا الأخلاق والمجتمع والفكر والمعتقد والسياسة والسلطة، ومع ذلك فإن وجود تلك المحاذير كان دائماً دافعاً إلى الكتابة الرفيعة وإلى صناعة الأدب الراقي الذي يرتفع عن السفاسف، ويفتح للمخيلة آفاقاً رحبة، وقد اهتدى الأدباء إلى طرائق كان أشهرها أنسنة عالم الحيوان، واختراع مجتمع مواز للمجتمع البشري تكون الشخصيات اللاعبة فيه حيوانات تقوم بينها من العلاقات ما يشبه ما يوجد في واقع البشر، وتفكر مثلما يفكرون، وفي المجتمعات المعاصرة التي اكتسب الأديب فيها الحرية أصبح من السهل عليه أن يتجاوز تلك الحدود من دون عناء، وبشكل مباشر لا مواربة فيه، ولا رمزَ، لكن انفتاح الحدود ربما يكون فخاً أدبياً، حيث يفقد معه الأديب عنصر التحدي الذي يحفز خياله للبحث عن تشكيلات تصويرية، وسلاسل إيقاعية وأنساق رمزية بديعة لقول ما لا يمكن قوله، فيسقط في المباشرة ويظل عند مستوى الصفر من القول .
Dah_tah@yahoo.fr
الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/717580d8-743e-447d-a500-9d86148dacec.aspx
آخر تحديث:الخميس ,05/04/2012
محمد ولد محمد سالم
يعتبر كتاب “كليلة ودمنة” الذي وضع نصه الأصلي حكيم الهند بيدبا وترجم إلى الفارسية القديمة ثم نقله إلى العربية عبدالله بن المقفع أحد أهم إبداعات البشرية في فنون القول، ذلك لأن الحكيم بيدبا الذي كان يعيش في مجتمع يسوده الظلم والجبروت ويتسلط فيه القوي على الضعيف، ويحكمه سلاطين جائرون، أراد أن يقدم آراءه في العدل والأخلاق والحكمة بطريقة يصل بها إلى الناس ويبلغ بها رسالته من دون أن يجعل أولئك الظالمين يحسون بأنه يدينهم، وأن يضع في أيديهم دليلاً يمكنهم به أن يتسلطوا عليه فيعاقبوه، فلجأ إلى سرد أفكاره على ألسنة الحيوانات، وكانت تلك حيلة بديعة سلم بها من ملاحقة الظالمين، وبلغ فيها مقصوده في تثقيف الأمة وتوعيتها بقيم الحق والعدل، وقد وصفت مقدمة “كليلة ودمنة” تلك الطريقة التي اتبعها بيدبا بأنها “حيلة” من حيل الأدباء: “فلم تَزَلِ العلماءُ من كل أمة ولسان يَلتَمِسونَ أن يُعقَلَ عنهم ويحتالونَ لذلك بصُنوفِ الحِيَلِ ويَبتَغونَ إخراجَ ما عندَهُمْ مِنَ العِلَلِ في إظهارِ ما لديهِمْ مِنَ العُلومِ والحِكَمِ، حتى كانَ من تلك العِلَلِ وضعُ هذا الكتابِ على أفواهِ البَهائِمِ والطير” .
ومنذ أن ابتدع الإنسان فن القول الأدبي للتعبير عن تجاربه في الحياة فهو يواجه خطر الوقوع في المحظور، حين يتجاوز الحدود التي يضعها المجتمع في طريقه، فيضطر إلى مصارعتها، ويخيل لمن يستعرض الأدب القديم أن الشعراء إنما لجأوا إلى المجاز والاستعارة والتشبيه والكناية ومختلف أساليب البلاغة هروباً من سلطة الواقع، واحتيالاً عليها، بمستوى ثان من القول يرتفع عن المباشرة حتى لا يؤخذ عليهم دليل إدانة يؤدي بهم إلى الزنزانة أو المقصلة، لكن هذا الهروب والتعالي على الواقع هداهم إلى ضروب من الجمال الأدبي الأخاذ .
كثيرة هي محاذير الحياة التي تكبل حرية الإنسان في القول، بدءاً بحياته هو ثم حياة الناس من حوله وصولاً إلى قضايا الأخلاق والمجتمع والفكر والمعتقد والسياسة والسلطة، ومع ذلك فإن وجود تلك المحاذير كان دائماً دافعاً إلى الكتابة الرفيعة وإلى صناعة الأدب الراقي الذي يرتفع عن السفاسف، ويفتح للمخيلة آفاقاً رحبة، وقد اهتدى الأدباء إلى طرائق كان أشهرها أنسنة عالم الحيوان، واختراع مجتمع مواز للمجتمع البشري تكون الشخصيات اللاعبة فيه حيوانات تقوم بينها من العلاقات ما يشبه ما يوجد في واقع البشر، وتفكر مثلما يفكرون، وفي المجتمعات المعاصرة التي اكتسب الأديب فيها الحرية أصبح من السهل عليه أن يتجاوز تلك الحدود من دون عناء، وبشكل مباشر لا مواربة فيه، ولا رمزَ، لكن انفتاح الحدود ربما يكون فخاً أدبياً، حيث يفقد معه الأديب عنصر التحدي الذي يحفز خياله للبحث عن تشكيلات تصويرية، وسلاسل إيقاعية وأنساق رمزية بديعة لقول ما لا يمكن قوله، فيسقط في المباشرة ويظل عند مستوى الصفر من القول .
Dah_tah@yahoo.fr
الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/717580d8-743e-447d-a500-9d86148dacec.aspx