بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 11 سبتمبر 2011

كاتب يطل على قارئه من بعيد


شخصيات ثرية تصارع ذواتها
علي أبو الريش يختبر الحرية في "سلايم"
آخر تحديث:السبت ,10/09/2011
الشارقة - محمد ولد محمد سالم:


1/1

يعتبر علي أبو الريش أكثر الروائيين الإماراتيين مثابرة على الكتابة وأغزرهم إنتاجاً، فعلى مدى يزيد على ثلاثين عاماً أصدر أربع عشرة رواية، بدأها برواية “الاعتراف” سنة 1980 ثم “السيف والزهرة”، و”رماد الدم” و”نافذة الجنون”، و”تل الصنم”، و”ثنائية مجبل بن شهوان”، و”سلايم”، و”ثنائية الروح والحجر التمثال”، و”زينة الملكة” إلى آخر القائمة، وقد توجت مسيرته الروائية بجائزة الدولة التقديرية سنة 2008 .
تميزت تجربة أبو الريش الروائية بمرحلتين، فقد تشكلت بدايات تجربته الروائية وهو طالب في مصر في السبعينات وكان منطقياً أن يتأثر بالاتجاه الواقعي الذي كان يسود عالم الرواية في تلك الفترة، فبدأ في رواية “الاعتراف” بداية يصور فيها حياة القرية والعلاقات الاجتماعية التقليدية وصور الصراع التي كانت تحدث بين أفراد المجتمع، وما يحدث من غدر وثأر واستغلال وحرمان وفقر وغير ذلك، وبدايات تشكل وعي الأفراد من خلال المدارس الحديثة واكتساب طلابها وعياً يتجاوز وعي آبائهم ويجعلهم قادرين على الاعتراف بالآخر ابن الغريم ومسالمته بل مودته وحبه وواصل هذا في روايتي “السيف والزهرة”، و”رماد الدم”، لكنه لم يلبث أن انفتح على نمط جديد من الكتابة برز في الوطن العربي في السبعينات وانتشر وتأصل في الثمانينات وهو “تيار الوعي” فطفق أبو الريش يكتب منشداً هذه الصيغة التي وقع عليها، والتي بدا أنها تستجيب لخبراته العلمية كدارس لعلم النفس وحاصل على شهادة البكالوريوس في جامعة القاهرة عام ،1979 وهو من التيارات الأدبية التي نشأت في الرواية الغربية ثم انتقلت بفعل التأثر والترجمة إلى الرواية العربية .
عرف الناقد الإنجليزي روبرت همفرى رواية تيار الوعي بأنها “نوع من السرد الروائي يركز فيه الكاتب على ارتياد مستويات ما قبل الكلام من الوعي بهدف الكشف عن الكيان النفسي للشخصية الروائية من خلال مجموعة من التداعيات المركبة للخواطر عند هذه الشخصية”، ففي هذا النوع من الرواية لا توجد حكاية تتلاحق أحداثها نحو ذروة ثم نهاية بل هي صوت لشخصية تنثر مكنونات نفسها، وما يجيش في خاطرها ويعتمل في شعورها من أفكار وخواطر وأحاسيس، ويتبع الكاتب ذلك النثر بشكل متدفق، لا يعتمد أي رباط منطقي، لا من حيث الحدث ولا الزمان ولا المكان، وتعتبر رواية “سلايم” إحدى أهم الأمثلة على تجربة أبو الريش في هذا الاتجاه، فهي تتكئ على تيار وعي الشخصية الرئيسة “عبد الله الشديد” الذي يحاول أن يتذكر حياته الأولى، ومن هو؟ وأين كان؟ وعن طريق تشغيل تدفق الأفكار يقدم عبدالله الشديد صورة مشوشة عن حياته من خلال استرجاعه صوراً لأشخاص كان لهم دور فيها، وأولهم هي “سلايم” تلك المرأة التي يتملكه الإعجاب بها، ولا نكاد نعرف عنها سوى أنها عاشت ثمانين عاماً في خيمة في حي “لخديجة” ولم تقبل أن يدنس سمعتها أحد، وصدت جميع الرجال الطامعين فيها طلباً لنقاء أبدي فعاشت شامخة كشجرة الغاف المجاورة لخيمتها، فهي رمز الطهر والنقاء والاستقلال وحب الأرض، والشخصية الثانية الحاضرة في وعي عبدالله الشديد هي “النوخذة” الذي عمل معه على سفينته، فكرهه النوخذة لأنه كان قوياً جداً وصامتاً دائماً لا يضحك ولا يشارك في إضحاك النوخذة كما يفعل غيره من البحارة، فما كان من النوخذة إلا أن رمى به في البحر لتأكله الحيتان، لكنه استطاع أن يخرج من البحر، فهذا النوخذة رمز للطغيان والاستبداد والقهر واستعباد الآخرين، وتكميم الأفواه، فلا أحد يجرؤ على نقاشه أو معارضته أو الحديث بما لا يرضيه .
وهناك شخصية شمسة التي أحبها عبدالله الشديد في بداية شبابه، وبادلته الحب لكن مفهومها للحب كان مفهوماً مادياً، ولم تستطع أن ترقى معه إلى الحب الروحي الذي يطلبه ويجد فيه ذاته، لذلك تركها واعتبرها غير جديرة بالحب، وأما غزالة تلك المرأة المفعمة بالحب والقوة والإرادة التي تريده قوياً قاطعاً قادراً على التحرر من ذله ووضاعته وعلى مواجهة الزيف والطغيان .
وهناك شخصيات أخرى تستدعيها ذاكرة عبدالله الشديد كسالم المغربي وعبدو اليمني وراشد الصومالي وهي شخصيات وحيدة غامضة غريبة على القرية لكل منها مسكنه المنعزل ورؤيته للحياة، ويتخذها عبدالشديد للمقارنة رموزاً لواقعه الذي صار إليه بعد خروجه من البحر، واقع التشرد والوحدة والانعزال، والذي سيسلمه إلى الجنون حيث سنكتشف في النهاية أنه يعيش منفرداً في زنزانة مصحة نفسية .
يدفع بناء تلك الشخصيات برمزياتها التي تحدثنا عنها آنفاً إلى رؤية تأويلية تقوم على المقابلة بين مختلف أنماط تلك الشخصيات . فشخصية “سلايم” يمكن اعتبارها رمز الإنسان الأول في طهره وإخلاصه ونقاء سريرته، إنسان يعيش الحياة بكل جوارحه ويتشبث بها لكنه يأبى أبداً أن تدنسه تلك الحياة أو أن تجرفه سيول جرائم وموبقات الآخرين، رغم استبداد شرورهم واستفحالها، ولذلك اختارها الكاتب عنواناً لروايته “سلايم” وربطها بالقرية والطبيعة ممثلة في شجرة الغاف، في مقابل المدينة الأسمنتية التي يورد تلميحات كثيرة بإدانتها لما جلبته معها من شرور، في مقابل سلايم هناك النوخذة رمز الظلم والكذب وتشويه الحقيقة، وهناك عبدو وراشد وسالم الذين رضوا بالانعزال والفقر على الذل في مقابل رجال النوخذة رمز الذل والمهانة، وهناك غزالة الطاهرة التي هي الصيغة الجديدة من سلايم في مقابل شمسة التي دنستها الحياة وسحقت براءتها، وفي الوسط من كل أولئك يقف عبدالله الشديد وحيداً كالمشردين مؤمناً بسلايم وأفكارها وأصالة موقفها من الحياة، محباً إلى حد العشق لغزالة لكنه عاجز عن الوفاء بشرط حبها وهو مواجهة نفسه والتخلص من خوفه وعقده التي رسخها فيه المجتمع، رغم أنه لم ينافق ولم يذل كما ذل الآخرون، وبكلمة واحدة فهو غير قادر على صناعة ثورته وامتلاك حرية الفعل وصناعة المستقبل، لينتهي في النهاية إلى المصحة مستسلماً عاجزاً حتى عن الهروب من بين يدي الأطباء، ونخلص في النهاية إلى أن الكاتب يريد أن يقدم رؤية وجودية تقول إن شرط تحقق ذات الإنسان هو قدرته على الفعل والاختيار، قدرته على صناعة حريته، وما لم يستطع فعل ذلك فستظل حياته عبثية لا طائل من ورائها، وسيظل العفن مسيطراً على العالم .
هذا التماسك الظاهري في بناء وجهة النظر في الرواية، ليس على إطلاقه ففي داخل الرواية ترد وقائع وأوصاف تشتت ذهن القارئ العادي وتحد من قدرته على التأويل، فصورة سلايم لم تسلم من الاضطراب والغموض حيث ورد في إحدى الصفحات أن كارثة كبيرة حلت بها، وأن جيشاً عظيماً فاتحاً يقوده عنترة بنياشينه قد حل بالمكان وأنها استسلمت، ويتعمد الكاتب ترميز الموقف والإيهام ما يجعل احتمال سقوط صفات الشموخ والنقاء عن سلايم وارداً، وهناك شمسة التي تأرجحت صورتها بين الحب الشديد لعبدالله الشديد وبين خيانته، مما يضعف رمزيتها في النص، كذلك فإن الشخصيات الثلاثة المنعزلة (المغربي واليمني والصومالي) التي أوردها الكاتب هي نمط لشخصية واحدة، ويعسر أن تجد بينها فروقاً ذات رمزية مهمة فوجودها كلها محير في الوقت الذي يمكن أن يستغنى بشخصية واحدة عنها جميعاً، ومما يحد أيضاً من وضوح الرؤية أن عبدالله الشديد في اللاوعي يمتلك نظرة متقدمة إلى العالم تناقض وضعه كبحار جاهل منبوذ، فحين كان صغيراً كان يصغي إلى حكايات أمه عن “حلوم” تلك المرأة الخارقة التي تدعي أمه أنها تطير وتأتي بأفعال لا يمكن أن يأتي بها البشر، ويعلق عبدالله الشديد على ذلك بقوله: “كنت أقاطعها كثيراً وأمطرها بمزيد من الأسئلة بيد أنها كانت تنهرني قائلة: “لا تقاطع الأكبر منك، الكلام الذي أقوله لك لا يقبل الجدل، فأخفض بصري وألتزم الصمت، حلوم بالنسبة إلى أمي كائن يجب ألا تدور حوله الشكوك ، كان لا بد لي أن أنكفئ لكي أسمع المزيد، فمثل هذه القصص على الرغم من سذاجتها إلا أنها ستهديني نهر الحلم في داخلي”، ويصف أمه بأنها كانت تحبه لكنه حب قمعي “وباسم هذا الحب يفتك بالأحلام، وتغتال الآمال”، لكن عذر الكاتب في أن رواية تيار الوعي لا تهتم بالبناء المنطقي للشخصية ولا إقناعيتها، فالشخصية عند أصحاب هذا التيار هلامية مرنة قابلة للتشكل في كل الاتجاهات، وهو أحد أسباب الغموض في هذا النمط من الكتابة .
لم تتوقف مسيرة علي أبو الريش مع الرواية تيار الوعي عند هذا الحد بل ظل يعتمد عليه اعتماداً كلياً أو شبه كلي في رواياته اللاحقة وحتى روايته “ك ص، ثلاثية الحب والماء والتراب” الصادرة سنة 2009 نجده لا يزال يواصل حفره، وكأنه لم يستنفد كل التقنيات الفنية لهذا التيار، ما يدفع إلى التساؤل عما إذا كان أبو الريش قد اطمأن إلى تلك الطريقة أسلوباً خاصاً به أم أنه لا يزال في سياق البحث عن صيغته الخاصة ، وأين يضع القارئ العادي إذ أن الرواية ليست فن الخاصة فقط ، بل هي أكثر الفنون شعبية والتصاقا بالجماهير، فإلى متى سيظل هذا الكاتب الكبير يطل على قارئه من بعيد.

الجالس تستطيع نقل الثقافة إلى الجمهور


تتميز بالأصالة والتفاعل الخلاق
المجالس الخاصة تذهب بالثقافة إلى الجمهور
آخر تحديث:الاثنين ,05/09/2011
الشارقة محمد ولد محمد سالم:
يشهد شهر رمضان من كل عام نشاطاً مكثفاً لدور “المجالس” الخاصة التي تستضيف متكلمين ومحاضرين في مختلف المجالات، وخاصة الدينية والفكرية والأدبية، وهو ما يلفت الانتباه لأهمية هذه المجالس وأصالتها في تكوين المجتمع، والمجلس يعني في المجتمع الإماراتي والخليجي عامة ذلك المكان الذي يتخذه أحد الشيوخ أو الأعيان والوجهاء في القرية أو “الفريج” لمجالسة أصدقائه وضيوفه، ويدخل معهم في حديث يطال الأدب والتاريخ والعلم وكل المعارف .
شكلت المجالس منابر للتثقيف والتعليم، حيث كان الكبار يأخذون الصغار إليها ويجلسونهم قريباً منهم صامتين ليسمعوا ما يدور من أحاديث وما يروى من أشعار وما يقدم من معارف وعلوم ويحفظونها، وليتعلموا السلوك والأخلاق وقيم المجتمع، ويتعرفوا بشكل تطبيقي مباشر إلى كل ذلك، فكانت تخرّج القادة والحكماء والشعراء والخطباء وكل قادة المجتمع .
مع دخول الإمارات وتيرة التحديث بعد نشوء الدولة وتطور العمران حافظ الناس في تخطيطهم الهندسي لبيوتهم على موقع خاص للمجلس، وازداد الاهتمام به حتى صار تقريباً كل بيت يحتوي على مجلس، كما لفت انتباه المؤسسات الثقافية والاجتماعية فاتخذت لها في مقارها مجالس لاجتماع أعضائها لتداول الأفكار والأحاديث، واهتمت وسائل الإعلام بهذه الظاهرة فأصبحت تنقل جانباً مما يدور من نقاشات في بعض تلك المجالس خصوصاً التي تؤمها الشخصيات الفكرية والأدبية المهمة، لكن رغم هذا الاهتمام المتزايد فقد توقفت تلك المجالس عن دورها التثقيفي التقليدي ولم يعد لها تأثير كبير في حياة الشباب، واقتصرت في أغلب الأحوال على الرجال الكبار، وهو وضع يمكن أن يكون مفهوماً بالنظر إلى الدور الذي أصبحت تقوم به المدارس والجامعات التي تكفلت بمهمة التعليم، وأضحى الأطفال والشباب يصرفون لها جل أوقاتهم، وكذلك المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية التي أصبحت لها مقراتها ومنابرها الخاصة التي تقام فيها الأنشطة الثقافية من محاضرات ولقاءات ومعارض ومسرحيات وغيرها .
مع كل تلك المنابر ومع كل ما تقوم به من أدوار مهمة في حياة الفرد اليوم، فإنه من الممكن استغلال دور المجلس كمنبر ثقافي مهم نظراً لما يحمله من حميمية وقرب وتلقائية بعيداً عن الأنظمة والقوانين الصارمة للمدرسة والجامعة، وعن الطابع الرسمي للمؤسسات الثقافية، ففي المجلس يحسّ المرء كأنه في بيته، ومن هنا يمكن للمؤسسات الثقافية أن تستغل المجالس كمنابر تثقيف وذلك بالتعاون مع أصحابها، وحسب اهتمام جمهور كل مجلس، وأهداف المؤسسة الثقافية، فتضع برنامج محاضرات وجلسات نقاش وغيرها بين متخصصين في مجال الثقافة والفكر والمجتمع وبين جمهور هذه المجالس في كل حي من الأحياء الشعبية، ويكون ذلك بشكل دوري يجعل النشاط الواحد يطوف على أكثر من مجلس في الحي حتى تعم الفائدة وينتشر التواصل، ويضمن ذلك لتلك المؤسسات فاعلية في عملها ويجعلها تتغلب ولو جزئياً على مشكلة جمهور الثقافة الغائب في كثير من الأنشطة الثقافية التي تقوم بها .
كما سيلبي مشروع كهذا الطرح القائل بضرورة أن تذهب الثقافة إلى المجتمع وألا تنتظره حتى يذهب هو إليها، وهو طرح رائج اليوم وتتبناه أغلب المؤسسات الثقافية في العالم وتبحث من خلاله عن صيغ وطرائق جديدة للتواصل مع الجمهور، فلعل يكون استغلال ظاهرة المجلس كمعطى اجتماعي وثقافي إماراتي صميم مفيداً في هذا الصدد، ومن المعروف أن فاعلية أي تطوير أو تحديث تكون أبلغ حين يكون نابعاً من صميم المجتمع، فيكون في الوقت ذاته بناء جديداً على شيء أصيل

التواصل بين أجيال المثقفين والمسؤولية الغائبة


التواصل المفقود بين أجيال المثقفين والمسؤولية الغائبة
آخر تحديث:الأربعاء ,31/08/2011
الشارقة - محمد ولد محمد سالم:
تعاني بعض المؤسسات الثقافية الأهلية في الإمارات هجرة أعضائها، فقد تضم المؤسسة مئات الأعضاء لكنّ الذين يحضرون أنشطتها قلة معدودة، والتعليل الدائم لهذا الغياب، عدم وجود الوقت الكافي لمتابعة أنشطة هذه المؤسسة أو تلك، وضغط العمل الوظيفي الذي يمنع صاحبه من الحضور الدائم لتلك النشاطات، لكنّ الواقع هو أن أغلب الأنشطة الثقافية أنشطة مسائية حيث يكون كل الموظفين في بيوتهم، ومن المفترض أنهم لا تشغلهم مهمات الوظيفة في تلك الأوقات، وحتى لو كان عبء الوظيفة ومتاعبها يصل إلى البيت، فإن الإجازات الأسبوعية والسنوية والإجازات الرسمية والدينية كلها مناسبات لأنشطة ثقافية، يمكن للحريص على الحضور وعلى استمرارية المؤسسة الثقافية التي ينتمي إليها أن يستغلها لمتابعة نشاطها ومؤازرة زملائه فيها .
لكن الأمر يتجاوز مجرد توفر الوقت إلى نوع من الزهد أو اللامبالاة، وعدم إحساس بعض المثقفين بالمسؤولية تجاه الأجيال القادمة التي من المفترض في المؤسسة أن ترعاها وتأخذ بيدها، كما أخذت بيده هو وغيره، لكن البعض ينسى ذلك، ينسى أن عليه ديناً لهذه المؤسسة التي احتضنته ورعت تكوينه الثقافي ووصلت به إلى مراتب من العطاء والشهرة، من المحتمل أنه كان من العسير عليه الوصول لها لولا توفر منابر تلك المؤسسة، أفَلَيْس الوفاء لها أن يكون حريصاً على أنشطتها دائم الحضور لها، وأن يحمل همها كما حملت همه، وحمله آخرون سبقوه إليها .
قد يرى البعض أنه نضج واستقل بنفسه وكون اسماً يغنيه عن الانخراط الدائم في أنشطة تلك المؤسسة، فلم يعد في حاجة إليها، أو أبعد من ذلك يرى أنه لا يليق به أن يبقى في ذلك المكان الذي يرتاده المبتدئون والمتطفلون على الثقافة أو الفنون، وهو من هو مكانة وسمعة، لكن هذه أنانية لا تليق بالمثقف الواعي الذي يحمل هم وطنه ومواطنه، لا تليق بمن يؤمن بالإنسانية وبالعطاء من أجل الإنسان .
هذا المثقف سواء كان مفكراً أو أديباً أو مسرحياً أو فناناً تشكيلياً أو غير ذلك ينبغي أن يكون أسمى من أن يحجم نفسه في مجرد أهداف ومقاصد ذاتية، ويجب أن يعرف أن عليه ديناً لوطنه، ديناً للأجيال القادمة، أن يعطيها من وقته وجهده ليثقفها ويعلمها، ويأخذ بيدها نحو المستقبل لكي تستمر الجذوة جيلاً بعد جيل، ولكي لا يحدث الانقطاع الذي يتحدث الكثيرون اليوم عنه، لا بد للوعي الثقافي والإبداع من رعاية واعية ومسؤولة، لا بد له من رعاة يحملون همه وهم الهوية الحضارية للأمة كي يسلموه بنقائه وصفائه للأجيال اللاحقة، ومن غير تلك الرعاية لن تتطور ثقافة ولا إبداع، ولن تمتد جذور، وستعيش الأجيال القادمة مبتورة عن أصولها تائهة لا تعرف من أين تبدأ ولا أين ينبغي أن تنتهي، وستحدث تلك الأزمة التي بدأنا نشهد بعضاً من مظاهرها، صحيح أن في ما تقدمه تلك المنابر من الأفكار والموضوعات والفنون ما يكون هذا الأديب أو الفنان قد هضمه واستوعبه وأصبح شيئاً متجاوزاً بالنسبة إليه، لكن هناك الآلاف ممن لم يسمعوا تلك الأفكار ولا عرفوا عنها شيئاً، وهم بحاجة إليها لتأسيس وعيهم، وينبغي أن يكون من يعطونها لهم أناس على قدر من الوعي، وحضور أمثال أولئك الناس الدائم في الأنشطة الثقافية يعطي للأجيال الصاعدة ثقة في ما يقدم إليهم، ويجعلهم مواظبين على الحضور جادين في الأخذ بتلك الآراء والأفكار وتطبيقها، فليس عبثاً ولا عيباً أن يقتطع الإنسان جزءاً من وقته لتلك المهمات الجليلة العظيمة .
ليس عزوف المثقف عن تلك الصروح الثقافية وتخليه عنها علامة للعظمة، ففي سير العظماء أنهم كانوا حريصين على رعاية الأجيال التي تأتي بعدهم، سعداء بكل نجاحاتهم وإبداعاتهم، وقد كان نجيب محفوظ حريصاً على أن يسمع أفكار الشباب وأن يقرأ ما يقدمه إليه الكتّاب الجدد من كتب ليقدم لهم النصح في سبيل تثقيف النفس وطرق الإبداع


ذكرى نازك الملائكة


أفق
ذكرى نازك الملائكة
آخر تحديث:الاثنين ,29/08/2011
محمد ولد محمد سالم
مرت قبل أيام ذكرى ميلاد نازك الملائكة، ولدت في 23 أغسطس/ آب ،1923 من دون أن يذكرها ذاكر، ومن دون أن تحتفي بها المنابر الثقافية والأدبية، وليست هذه أول مرة تعاني فيها هذه الشاعرة الرائدة التجاهل، فقد عاشت آخر سنوات عمرها وقبل وفاتها في عام 2007 منسية تعاني من المرض في القاهرة التي اختارتها لتقيم فيها بعد أن خرجت من وطنها العراق في عام 1990 بسبب ويلات الحرب، وقبل ذلك كانت نازك قد مر عليها فترة وهي ملء السمع والبصر حين فجرت مع ثلة من الشعراء الجدد في أواخر الأربعينات في العراق ثورة شعرية عندما نشروا قصائد انقلبت على نسق البيت الشعري العربي وتركت للشاعر حرية الإطالة في سطره ما شاء في ما عرف بالشعر الحر أو شعر التفعيلة، وتنازعت مع بدر شاكر السياب الريادة بقصيدة الكوليرا التي كتبتها عام ،1947 وظلت حاملة لواء ذلك الشعر مدافعة عنه ومنظرة له، وخاضت في سبيله معارك أدبية لم يخب أوارها حتى استقر فناً شعرياً معترفاً به من بين فنون الشعر العربي، ورغم أن الشعر العربي قطع أشواطاً كبيرة بعد هذه الفترة وتنازعته تيارات كثيرة إلا أن فضل الريادة في التطوير والإبداع يبقى راسخاً ولا يمكن محوه عن الملائكة وجيلها، وستبقى دواوينها “عاشقة الليل” و”شظايا ورماد” و”قرارة الموجة” من أهم ما كتب في تلك الفترة بما حملته من إبداع شعري جميل .
صحيح أنه ليس بالإمكان الرصد الدائم لذكريات ميلاد وموت كل الرواد والمبدعين في الحياة والثقافة والتوقف عندها في كل مرة، وإلا لتحولت حياة الناس إلى احتفالات يومية بتلك الذكريات، لكثرة من يستحقون أن تستعاد ذكراهم وتخلد أسماؤهم، لكن التجاهل التام أيضاً لا ينبغي خصوصاً وأن هناك من المبدعين الذين رحلوا من يحظى على الدوام بالاحتفاليات والكتابة عنه وتبجيل ذكراه، فهو الغائب الحاضر دوماً، وقد لا يكون أنجز أكثر مما أنجزه الآخرون، بل في بعض الأحيان يكون أقل شأناً من آخرين لم ينالوا مثل ما ناله من احتفاء، وهذا اصطفاء غير مبرر أو هو ظالم، اللهم إلا إذا كان بدوافع غير أدبية ولا ثقافية .
بين التجاهل التام للمبدع والاحتفال المستمر بذكراه توجد منزلة وسطى، تبدأ بتوفير الحد الأدنى من الرعاية له في حياته من حيث العناية بما ينتجه وإيصاله للمتلقي وتفريغه لمشاريعه الإبداعية حتى يجد لها الوقت الكافي، وإعطائه مخصصات مادية تضمن له أدنى لقمة عيشه، وعلاجه كلما احتاج إلى ذلك، ثم تخليد اسمه في جائزة أو صرح ثقافي مهم، وأخيراً الاحتفاء به من فترة لفترة في ندوة أو ملتقى يعرف الأجيال به التي أتت بعده بإنجازه ليستلهموه ويجعلوه قدوة .
Dah_tah@yahoo.fr


المثقف والوقت


أفق
المثقف والوقت
آخر تحديث:الاثنين ,22/08/2011
محمد ولد محمد سالم
هل يجد المثقف اليوم الوقت للبحث والمطالعة والإنتاج، أم أن الوقت يتسرب من بين يديه خلسة، كما يتسرب من أيدي غيره من الناس؟
كثيراً ما نكرر عبارات من قبيل “الوقت من ذهب” و”الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”، لكننا نادراً ما نعمل بمقتضى تلك العبارات، فيضيع الوقت سدى، ونرتاح إلى التلقي البصري المباشر الذي لا يحتاج إلى عناء كعناء القراءة أو التفكير أو الكتابة، فننشد إلى الصورة التلفزيونية لساعات طوال من اليوم، أو ندخل موقعاً من المواقع الاجتماعية على الإنترنت فنجد أن الكثيرين ممن هم مسجلون على صفحتنا قد تركوا لنا رسائل كثيرة وعلينا أن نجيب على كل رسالة على حدة، وربما دخلنا في “دردشة” مكتوبة أو ملفوظة مع أحدهم وقد يطول الأمر لساعات، وللهاتف المحمول أيضاً حكاية أخرى مع ضياع الوقت، لا تقتصر على مجرد أن الإنسان قد يتلقى اتصالاً طويلاً من أحد الثقلاء الفارغين الذين ليس لحديثهم طعم ولا رائحة، بل يتعداه إلى ما أصبح يحتويه هذا الجهاز من برامج تضاهي برامج الكمبيوتر، وتطال كل مجالات حياة الإنسان جداً ولعباً، ومن السهل عليك وأنت تقلب خياراته أن تضيع في تفحص صور أو سماع تسجيلات أو ممارسة لعبة أو تغيير برمجة أو كتابة رسالة أو غير ذلك .
الإنسان الواعي يستطيع أن يحدد ما يحتاج إليه من تلك الأجهزة والوقت اللازم لها، ويحسب الوقت الزائد عن الحاجة الذي يضيع منه في تلك الأجهزة، ثم يتعامل معها في حدود حاجته، ويستبقي وقته الآخر لمهماته الأساسية كالمطالعة أو الإنتاج الفكري، وعندها سيجد أنه قد وفر وقتاً كبيراً هو في حاجة ماسة إليه ولا يمكنه أن ينتج إنتاجاً ذا بال من دونه، وفي سير العظماء من الكتاب والمفكرين ما يوحي بحرصهم الشديد على الوقت والتزامهم الصارم بالمواعيد، يذكر الروائي جمال الغيطاني عن نجيب محفوظ أنه كان حريصاً بشدة على مواعيد الكتابة ويلزم نفسه بذلك كأنه واجب يومي، فكان لكل شيء عنده وقت محدد منذ نهاية دوامه الرسمي وحتى ينام ليلاً، وقد كان نتيجة ذلك الجهد والجد هذا الكم الهائل من الروايات البديعة التي وصلت ترجماتها إلى كل أصقاع العالم .
ويروى عن الفيلسوف الألماني عمانويل كانط أنه لشدة حرصه على الوقت كان جيرانه يضبطون أوقاتهم على مواعيد خروجه ودخوله التي لم يكن يتخلف عنها ثانية .
ومن طرائف استغلال الوقت ما روي عن ابن قيم الجوزية، وهو أحد العلماء المسلمين الغزيري الإنتاج، أنه لما كثرت عليه زيارة العاطلين والفارغين الذين لا شغل لهم ولا علم يستفاد منهم، صار يخصص وقت زيارتهم لإعداد أدوات، فكان يبري الأقلام ويصفف الأوراق وهو يحدثهم، وبذلك لم يضع عليه وقته كلية .
dah_tah@yahoo.fr


أدب البدايات


أفق
أدب البدايات
آخر تحديث:الثلاثاء ,09/08/2011
أصبح مجرد إصدار كتاب وعنونته بأنه رواية أو ديوان أو مجموعة قصصية يجعل صاحبه يظن أنه أصبح أديباً مبدعاً وأن ما يكتبه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويسعى بكل ما أوتي من وسائل لتكريس نفسه بهذه الصفة فتراه يجري وراء وسائل الإعلام المختلفة للدعاية لنفسه، وشيئاً فشيئاً ينطبع في أذهان الآخرين أنه أديب روائي مبدع أو شاعر كبير، ويكون قلمه قد أمسك عن الكتابة منذ ذلك اليوم الذي أصدر فيه كتابه اليتيم .
ليس عيباً أن يصدر المرء كتاباً وينسب لنفسه صفة شاعر أو كاتب، حتى إنه يمكن أن يبلغ به مبالغ راقية من الإبداع، وفي تاريخ الشعر العربي يوجد من الشعراء من عرفوا بشعراء العقيدة الواحدة كطرفة بن العبد الذي لم يؤثر عنه من شعر صحيح سوى معلقته الدالية “لخولة أطلال ببرقة ثهمد” والتي عد بها من فحول الشعراء الجاهليين وضمنها من الإبداع ما يعدل مئات الدواوين من الغثاء الذي يكتب اليوم، ومنهم أيضا عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة النونية المشهورة “ألا هبي بصحنك فاصبحينا”، والتي بلغ من قوتها وشهرتها أن اكتفت بها تغلب عن قول الشعر، حتى سخر منهم شاعر بقوله:
ألهى بني جَشَم عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
لكنّ هذه نوادر قليلا ما تتكرر، وإن تكررت فلواحد أو اثنين وعلى فترات زمنية متباعدة، والحالة الطبيعية، والحالة التي يقبلها العقل هي أن البدايات هي للمحاولة والتدريب وأخذ رأي النقاد والقراء لمعرفة سبيل الإبداع وكيفية السير في الطريق، ولا ينتظر منها الكثير، ولذلك يميل أكثر المبدعين الكبار عند جمع أعمالهم الكاملة إلى إسقاط “البدايات” وإغفالها قصداً، لأنهم يجدون أنها لم تعد تمثلهم، ولا يليق بهم أن ينشروها ثانية، ويذكر الكاتب الكبير توفيق الحكيم مؤسس الأدب المسرحي في الأدب العربي، وصاحب المسرحيات الشهيرة “أهل الكهف” و”الملك أوديب” و”شهرزاد” و”بيجماليون”، و”الأيدي الناعمة”، أنه حين كان في بداياته كان مواظباً على الكتابة وكان كلما ينتهي من كتابة مسرحية يتلفها، وعياً منه بأنه في تلك الفترة ما زال في فترة تدريب والمتدرب لا ينتظر منه الإبداع، فكان ما أتلفه فيها أكثر مما استبقاه ونشره .
يعني هذا أن الموهبة تحتاج إلى وقت لإنضاجها، وحتى تستوعب آليات الإبداع في الفن الذي تتصدى له، وتمتلك أدواته كاملة، فمجرد النشر ليس دليلا على أية صفة، وضجة الإعلام وإن وصلت إلى الآفاق فإنها لا تلبث أن تنطفئ، والذي يبقى الإبداع والقدرة على الإضافة والإتيان بالجديد المبهر، ذلك هو ما يبقى على الأيام وما يطفو على السطح ولو بعد حين، حتى ولو لم يصحبه ضجيج ولا دعاية .
محمد ولد محمد سالم
dah_tah@yahoo.fr

فنون "المناسبات"


أفق
فنون "المناسبات"
آخر تحديث:السبت ,06/08/2011
محمد ولد محمد سالم
كان من أسباب الثورة الشعرية التي حمل لواءها رواد الحركة الرومانسية العربية أن الشعر تحول قبلهم إلى ما سمّوه شعر “مناسبات”، فقد عاش قروناً من الجمود والتقليد فقدَ معها روح الإبداع التي كانت تسكنه في العصور السابقة، وضمُرت ثقافة الشعراء وهزُلت مواهبهم، فانقلبوا إلى نظّامين جاهزين يتحينون المناسبات السياسية والاجتماعية، العامة والخاصة لينظموا فيها كلاماً موزوناً يرصونه رصاً ويعيدون فيه تكرار المعاني والمواضيع والأوصاف والصور التي سبقهم إليها الشعراء المتقدمون، يحشدونها حشداً ويرصونها رصاً، وأصبحت تلك المعاني والصور جاهزة لكل مناسبة في المدح والرثاء والاحتفالات والتهنئة بالزواج أو بالترقية أو أي مناسبة أخرى، فوصل الشعر إلى بداية النهضة منهكاً باهتاً قليل الإبداع ولولا رموز قليلون استطاعوا أن يحافظوا على نصاعته لانتهى إلى الأبد .
هذه “المناسبات” يبدو أنها اليوم بدأت تعود ليس في الشعر وحده، بل في كل ميادين الأدب والفن، فقد اغتنم الكثير من الكتاب والتشكيليين والمخرجين السينمائيين والمسرحيين “مناسبة” الثورات العربية لتقديم أعمال فنية تستلهم هذه الثورات التي لم تنضج بعد ولم تؤت أكلها، فشاهدنا اللوحات التشكيلية والمعارض المختلفة التي تحاول أن تدون في رسومات مختلفة لحظات “ميادين التحرير” ورفرفة اللافتات الثائرة في السماء، صدرت الكتب والروايات التي توثق أدبياً لتلك اللحظات منها المجموعات القصصية والروايات، كما عجت المكتبات بالمذكرات واليوميات التي توثق لجوانب كثيرة من تلك الحركات، وظهرت أيضاً كتب السيرة الذاتية عن شخصيات أثرت في هذا الواقع إيجاباً وسلباً، حتى إن المؤرخين بدأوا يكتبون تاريخ تلك الأيام قبل أن تكون تاريخاً، وأخيراً جاءت موجة المسلسلات الرمضانية التي تلعب على الظاهرة وتستثمر جدتها وتعاطف الناس معها، لغرض استقطاب المشاهد لتلك المسلسلات .
كلها فنون مناسبات غرضها الأول اغتنام الفرصة واقتناص ما يمكن أن تدره اللحظة من رواج وسمعة وعائد مادي، مثل هذه الفنون هي فنون اللحظة التي تعد لتؤخذ سريعاً ثم تنتهي وتخبو عند انتهاء مناسبتها وذهاب لحظتها، ومن النادر أن تقدم إبداعاً ناضجاً، متماسك الرؤية متقن الفنيات، لأن الإبداع كالطبيخ تحرقه شدة الاشتعال وقوة النار ويحتاج إلى نار هادئة لكي ينضج .
هذه الظاهرة ليست وليدة ميادين التحرير، بل إنها كانت موجودة من قبل، لكن الفارق هو أن مجتمع “ما قبل ميادين التحرير” كان يعرف الكثير من الظواهر الشاذة والكثير من الطفيليين والانتهازيين في شتى الميادين ومنها الأدبية والفنية، واليوم وقد عرفت تلك المجتمعات كيف تكون صادقة مع ذاتها وكيف تملك زمام نفسها، وتحاول أن تصنع مستقبلها بوضوح وصفاء، فإن على أولئك الانتهازيين و”المناسباتيين” أن يكفوا بأسهم ويعرفوا أن بضاعتهم كاسدة وفنهم فاشل، ويتركوا “الميدان” لغيرهم من الفنانين والأدباء الصادقين المبدعين الذين يعرفون كيف ينضجون “الطبخة” ويخرجونها إبداعاً جميلاً।

علي الحميري في "تيجان البونسيانا"


علي الحميري في “تيجان البونسيانا”
رهافة الفنان تمنح السرد مذاق الأمل
آخر تحديث:السبت ,30/07/2011
محمد ولد محمد سالم


1/1

علي أحمد الحميري قاص وروائي إماراتي صدرت له مجموعات قصصية عديدة هي “قزم وعملاق” 1999 و”الداسيات”2000 و”ذرة فوق شفة” 2001 و”شيء من هذا القبيل” 2001 و”عيون السمك الباردة” 2002 و”شفافية الثلج” 2003 و”خربشات على أديم الجدران” 2008 ورواية “النبراس” ،2006 وأخيرا مجموعته القصصية “تيجان البونسيانا” عن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، وهي تضم واحدا وعشرين قصة قصيرة، كتبت على فترات مختلفة أقدمها يعود إلى عام 1988 وأحدثها يعود إلى عام ،2008 “البونسيانا” اسم لشجرة استوائية أو شبه استوائية، جميلة، ورودها حُمراء وأوراقها كثيفة .
يندرج السرد في المجموعة في إطار الواقعية، ويتناول الكاتب بلغة قوية، محكمة سليمة بعيدة عن الإسفاف مجموعة من الظواهر والمواقف الاجتماعية والحالات التي يتعرض لها بطله الذي يتحدث دوما بلسان المتكلم، فيكاد القارئ في بعض الأحيان التي لا يعرف فيها اسم البطل أن يماهي بين شخصيته وشخصية الكاتب، خصوصا وأن البطل في أحيان كثيرة هو كاتب، فكأن في الأحداث شيئاً من أحداث حياة الكاتب ويومياته، وهو ما يمكن أن يفسر ميل الكاتب إلى التسجيل، والتقاط الحادثة والحالة وتوثيقها من دون اللجوء إلى صناعة حبكة قصصية واستقصاء جوانبها . فكثير من نصوص المجموعة هي تسجيل لواقعة لكن الكاتب يركز على الوقائع ذات الدلالة الاجتماعية أو النفسية أو السياسية .
قصة “تيجان البونسيانا” التي سميت المجموعة بها يجد القارئ نفسه فيها أمام حبكة قصصية متكاملة استخدم فيها الكاتب تداخل الأزمنة منطلقا من اللحظة الحاضرة التي تشكل المثير أو المحفز لاستذكار الماضي واستعراض الأحداث التي كانت سبباً في دهشة تلك اللحظة، فتبدأ الحكاية باللحظة التي يعود فيها البطل إلى قريته لرؤية جدته المريضة التي غاب عنها سنوات طويلة بعد أن فقد ابنة خالته التي كان يحبها والتي زوجها والداها من دون رجل آخر من دون مراعاه حبه لها، فيكره البطل القرية ويتركها، وبعودته إليها تعود الذكريات وسمر الليل مع القصص، وفي القرية يكتشف أن تلك الفتاة التي أحبها يوما لم تنس حبه ولم تزل تذكره، رغم أنه لم يلقها، وحين يعود إلى المدينة يعود وقد برعم الأمل في نفسه التي كانت يائسة متبرمة بالحياة، وتتفتح أمام عينيه تيجان شجرة البونسيانا التي كان يراها دوما يابسة جافة خلال كل تلك السنوات، ويرتقي الكاتب في مقاطع من سرده بلغته إلى أسلوب الاستعارة الجميلة: “ثمانية أعوام لم أرها فيها ولم أسمع صوتها وما جمعنا مكان قط، لكنها بقيت كامنة في أعماقي، مترصدة رادعة لكل وجه أنثوي التقيت به في المدينة، وفي كل بلاد ذهبت إليها تفرض علي الخريف، ترفض أن تعيد لمناخي بقية فصوله، كانت صارمة صارفة وجهها إلى الفناء الذي أحرق الخريف كل حشائشه وزهوره كأنها ترسخ الجفاف في حقولي، ورغم ذلك فقد كنت أرى وجهها بكل أبعاده الجميلة أراه في الوجه الصغير الحائم حول سرير جدتي” .
أما قصة “حكاية” فيرصد فيها على لسان بطله موقفاً قابل فيه امرأة شابة في بلد عربي تدير بنجاح إدارة مؤسسة خاصة، ودهش من نجاحها وقدرتها على إدارة الأشخاص الذين يكبرونها بكثير، ويواصل نفس التناول للظواهر الاجتماعية في “ريق الصالحين” و”أذن مؤذن” و”محاولة جريئة” و”قصاصة ورق”، وفي نفس السياق تصب “حكايات صغيرة” التي هي مجموعة من اللقطات السريعة ترصد حادثاً أو حالة ذات بعد رمزي منها لقطة (انتحار): “كان مؤشر السرعة في سيارتي ثابتا على مئة وثلاثين ورغم ذلك فقد مر بجواري كسهم طائش وكانت أنواره مطفأة فلم أتمكن من التقاط رقم سيارته، ولو كانت مضاءة ما تمكنت، هبت زوجتي مذعورة في المقعد المجاور، متمتمة بجمل متقطعة، لم أفهم منها شيئا، لكنها بدت لي حوقلات واسترجاعات، فما كاد يختفي في المنحنى القريب من مدخل البحر حتى ارتفع دوي هائل أعقبه صمت مقيت ودماء وقطع حديد متناثرة” .
فساد الموظفين ومشاكل الإدارة هي واحدة من الظواهر التي تناولها الكاتب في “صرير أبواب صدئة” نقد للإهمال الإداري وفقدان المسؤولية لدى كثير من الموظفين، فهو يروي حادثة وقعت لامرأة ظلت تتردد بين شبابيك إحدى الإدارات، وأمام كل شباك يصدها الموظف محيلا إياها على الشباك الآخر، ليتفرغ للثرثرة عبر هاتفه المحمول أو مع أحد أصدقائه أو يذهب لبعض شأنه غير عابئ بطابور المراجعين، وتظل المسكينة متنقلة حتى آخر شباك ولا تجد من يتقبل أوراقها، وتحار وتعاود الكرة لدى أحد الشبابيك فيلومها الموظف لأنها رجعت إليه، ويرمي أوراقها بعيدا، مما يغضب أحد الرجال في صف المراجعين الذين ملوا الوقوف من دون أن يجدوا من ينظر في معاملاتهم، فينبري للموظف لائما إياه ومهددا، ويلتف حول الرجل بقية الناس في الصف يدعمون موقفه، ويرتبك الموظفون وراء الشبابيك، ويدب فيهم الهلع، فيتسابقون إلى مقاعدهم ويبادرون بالنظر في معاملات المراجعين مخافة أن تتطور الأمور إلى الأسوء ما سيهدد وظائفهم، وبأسلوب تداعي الأفكار يسحب البطل تلك الظاهرة على جميع أوجه الحياة العربية التي تعاني من خلل في البنية التنظيمية وفي البنية التربوية للفرد .
ولا تبعد قصة “ضروب من المعاناة” عن القصة السابقة فهي تقيم بشكل غير مباشر مقارنة بين حياة الغربيين وبين حياتنا، فهم تعودوا على النظام والعمل والمساواة والعدل ونحن تعودنا على الكسل والمحسوبية والوساطة وغيرها من الأمراض التي تجعل ذلك الشيخ الإنجليزي الهرم يعلق بعد أن شرح له البطل ذلك الواقع: (أوه وليد هذا محال!)، وفي نفس السياق قصة ''أكشن زون'' التي تقيم مقارنة بين قيمة العمل لدى المؤسسات الغربية التي تتقن العمل وتحترم الزبون وبين مؤسساتنا الخاصة التي لا تعتني بعملها ولا تحترم أبناءها .
السياسة أيضاً كانت حاضرة في بعض النصوص مثل “تورابورا” الذي يصور فيها على لسان فتاة أفغانية معاناة الناس البسطاء من ويلات الحرب التي تشنها الأمم الكبرى في بلادهم فتصيبهم بسببها المآسي والفواجع التي لا ذنب لهم فيها، وكذلك الشأن في قصة “خنجر في الخاصرة” .
من المواضيع التي تناولها الحميري أيضاً في مجموعته المواضيع النفسية أو النصوص التي ترصد أوضاعا وحالات نفسية مثل نص “الشارع الإمبراطور”، وفي السياق نفسه يأتي نص “وجه في الذاكرة” حكاية تذكار الأوجه القديمة وما تثيره رؤيتها في النفس من عودة إلى زمن بعيد و”حدث ذات ليلة” و”محروس” و”خفافيش الفجر” و”عالم صغير” و”سلامتك يا علي” و”قطار الرحلة الأخيرة” و”قلم جاف أحمر” .
في سرده يبدو الحميري كاتباً مفعماً بالحب منحازا إلى قيم الإنسانية، يلتقط الحادثة والخاطرة برهافة الفنان الذي يتأثر بكل ما هو إنساني وينفعل بالوقائع السعيدة والمأساوية على حد سواء، وتجنح نصوصه في بعض الأحيان إلى حدود الخاطرة أو المقالة التي تبنى على حادثة ثم يترك الكاتب لنفسه حرية تحليل الأفكار وتفسيرها وإبداء رأيه فيها على لسانه أو لسان البطل ।

الدعم المادي للمثقف


أفق
الدعم المادي للمثقف
آخر تحديث:الثلاثاء ,26/07/2011
محمد ولد محمد سالم
أعلن منذ أيام في موريتانيا عن استئناف تنظيم جائزة شنقيط الثقافية التي كانت توقفت منذ عام ،2009 وعلى مدى سنتين متتاليتين من دون سابق إنذار ومن دون أدنى توضيح لأسباب ذلك التوقف، وهي أعلى جائزة تمنحها الدولة للأدباء والباحثين في مجال العلوم الإنسانية والعلوم البحتة، تشجيعاً لجهودهم في تلك المجالات، كما أنها الجائزة الوحيدة من نوعها في موريتانيا، فلا يحظى المثقف والباحث بأية جائزة من أي نوع رسمية كانت أو خاصة، وقد أثار توقفها دهشة في الأوساط الثقافية لأنها على محدودية من يحصلون عليها سنوياً، ورمزية قيمتها المادية، كانت تعطي لأصحابها تشجيعاً معنوياً يدفعهم إلى المزيد من العمل، وتشجيعاً مادياً هم في أمسّ الحاجة إليه، باعتبار ما يعانونه من إهمال ومن قلة مردودية لإنتاجهم .
في مجتمعات لا تقرأ ولايشكل اقتناء الكتاب أو الوعاء المعرفي فيها قيمة ثقافية كما هو حال المجتمعات العربية لا يمكن أن تزدهر صناعة النشر، وبالتالي لن يكون لإنتاج المعرفة مردود ولن تروج سوقه، ويصبح البديل الوحيد عن ذلك هو ما تقدمه الحكومات والمنظمات الأهلية والمؤسسات الخاصة من دعم للإنتاج المعرفي في اتجاهين، هما تشجيع المنتج للمعرفة معنوياً ومادياً، وإيصال المعرفة للمتلقي واتخاذ الوسائل الضرورية لاستفادته منها، ولا بديل عن هذا الدعم لأنه هو السبيل للوصول إلى المرحلة التي يقبل فيها المجتمع على تلك المعرفة، وتصبح لها نسبة في مصروفاته تماماً كما لطعامه ولباسه وسكنه .
الثقافة لم تكن يوماً من الأيام منتجاً ربحياً يمكنه أن يعوض أصحابه عن جهدهم ووقتهم بمردوده المادي، ولم تزدهر في أي مجتمع إلا بدعم رسمي مباشر، وحتى في المجتمعات الرأسمالية التي حولت الثقافة إلى منتج ربحي مستغلة وجود مجتمع مثقف يدفع في مقابل الحصول على المعرفة، فإن المثقف في هذه المجتمعات لم يستغن يوماً من الأيام عن الدعم الرسمي الذي يلقاه من الدولة ومن المؤسسات الخاصة، ولا أدل على ذلك من قوانين التفريغ التي تطبقها وزارات الثقافة في تلك البلدان وقوانين التشجيع والدعم وكثرة الجوائز واتساع مشموليها، من جوائز رياض الأطفال إلى جوائز الدولة التقديرية، ففي جميع المراحل العمرية، وجميع الفئات الاجتماعية هناك جوائز كثيرة للإبداع أدباً وفناً واحترافاً، حتى في أوساط العمال الحرفيين واليدويين تقدم الحكومات والنقابات المهنية تلك الجوائز تشجيعاً للأفراد لزيادة اطلاعهم على المعرفة وترقية مساهمتهم في إنتاج الثقافة .
إن أحد مفاتيح ترقية الثقافة في الوطن العربي، وتأسيس مجتمع المعرفة هو سن القوانين الداعمة للمثقف التي تجعل له حقاً معلوماً في ميزانية الحكومات والمؤسسات الثقافية، وتخصيص الجوائز المشجعة للإبداع في كل مستويات ومراحل العمر، وإبعاد تلك القوانين والجوائز عن مزاجية الأنظمة عن عوامل الوصولية والمحسوبية والحزبية، وجعلها خالصة للثقافة، لا يتحكم فيها أفراد مزاجيون بقرارات فردية جبل أصحابها على كره الثقافة والمثقفين ।