بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 15 فبراير 2011

"خذها لا أريدها" استقكشاف جذور العقدة النفسية


في روايتها "خذها لا أريدها"
ليلى العثمان تستكشف عوالم الطفولة الرحبة والمعقدة
آخر تحديث:السبت ,01/01/2011
محمد ولد محمد سالم


1/2

في رواية “خذها لا أريدها” تواصل الكاتبة الكويتية ليلى العثمان سبرها أغوار الحياة الاجتماعية والكشف عن الاختلالات التي ظلت تنخر جسم المجتمع في الماضي وانتقلت معه إلى الحاضر، وتتناول العثمان في هذه المرة قضية نفسية دقيقة هي أثر طلاق الزوجين في أبنائهما، وذلك من خلال استعراض حالة “لبنى” التي فتحت عينيها على خلاف حاد بين أبويها أسلمهما إلى طلاق نهائي أدى بها هي إلى الانفصال عن أمها وهي في السادسة من عمرها، لتعيش منقطعة عن أمها ست سنوات طويلة ولا تراها إلا وهي تخطو خطواتها الأولى في سن النضج، وقد تغيرت أشياء كثيرة في داخلها . ولم تعد تلك البنت الصبية الصغيرة التي تلعب وتعبث بالأشياء في بهو البيت قرب أمها .
نشرت ليلى العثمان مجموعات قصصية كثيرة منذ ،1965 تناولت فيها حياة المجتمع في تفاعلاتها اليومية بما فيها من أحداث وبما تنطوي عليه من صراعات ظاهرة وباطنة، ثم واصلت ذلك التناول بشيء من الروية والعمق وبما تتيحه الرواية من تحليل وتفصيل من خلال مشروع روائي بدأته بروايتها “المرأة والقطة” 1985 التي نقلت فيها السلطة الذكورية إلى المرأة “العمة” التي أصبحت تحكم الأسرة بمفاهيم ذكورية تحكمت من خلالها في ابن أخيها وابنه وزوجتيهما لتدير البيت بقمع ذكوري اختزنته العمة في لا وعيها، وأصبحت تمارسه بشكل طبيعي، لتقول الرواية بذلك إن المرأة نفسها بلا وعي منها تساهم في ترسيخ مفاهيم السيطرة الذكورية والعنف ضد المرأة .
رواية “وسمية تخرج من البحر” الصادرة سنة 1986 رصدت العثمان التغيرات التي أحدثها دخول المجتمع إلى مرحلة الوفرة النفطية وما نتج عنها من تفاوت بين الطبقات الاجتماعية، وذلك من خلال حكاية حب مستحيلة بين “عبد الله” الفتى اليتيم الفقير ابن مريوم الدلالة وبين “وسمية” الفتاة ابنة الحسب والنسب التي يمتلك أبوها أموالاً طائلة وتجارة واسعة، ومن خلال السرد تتكشف تلك الفروق الشاسعة واستحالة التلاقي بين أفراد تلك الطبقات مما يحكم على أي علاقة من تلك العلاقات غير المتكافئة بنهاية مأساوية كما هو وقع لوسمية التي ماتت غرقا وعبد الله الذي انتحر .
وفي روايتها “العصعص” الصادرة سنة 2002 تناولت الكثير من القيم الاجتماعية القديمة والحديثة بالتحليل والكشف من خلال نماذج بشرية تمثل قيم العفة والاستقامة والكرم والحب والبر والصدق وغيرها من قيم الخير، في مقابل الرذيلة والانحراف والبخل والحقد والعقوق والكذب وغيرها من أصناف الشر لترسخ ما هو إيجابي وتدين ما هو سلبي، وتواصل ذلك في “صمت الفراشات” 7002 و”حلم الليلة الأخيرة” ،2010 فكأنها دخلت أعماق المجتمع ولم تخرج منه .
بداية “خذها لا أريدها” تبدأ بفصل “الغسول” الذي يصور مشهد “غسل بدرة” أم لبنى التي ماتت بشكل مفاجئ، وتشهد لبنى الغسل وتتابع بألم حركة يدي الغاسلة، وتحريكها لجسد الميتة من دون رحمة رغم جمل الدعاء والوعظ التي تنطق بها بين الحين والآخر، لكن يبدو أنها مجرد كلمات تعودت عليها لا أكثر ولا أقل، وتنهال على لبنى الذكريات ولا تقوى على تحمل الموقف فتصرخ في المرأة تريدها أن تتوقف عن إهانة جسد أمها، ومن خلال هذا الفصل والفصل الذي يليه “فراق بلا وداع” سنتبين عبر لقطات استرجاعية تتخلل اللحظة الحاضرة أوجها من علاقة لبنى بأمها فتأتي أولا على شكل لقطات، فقد كانت بينهما منذ سنوات قطيعة، كانت هي على وشك أن تنهي تلك القطيعة لكن الموت سبقها إلى أمها مما ضاعف مأساتها، وندرك أنها افترقت عن أمها وهي صبية، ولا يزال مشهد الفراق والجملة الأخيرة التي صرخت بها أمها آنذاك ماثلا يتردد أمام عينيها وتجد صداه في أذنها “خذها لا أريدها”، لم تنسها إياه السنين ولا الجسور التي امتدت بينهما مرات وتقطعت أخرى، كما نعرف أن للبنى بنتا وأنها في سفر للدراسة .
وفي الفصول اللاحقة تعدل الكاتبة عن أسلوب الاسترجاع وتخرج من اللحظة الحاضرة لتبدأ حكايتها منذ الصرخة التي صرختها أمها متخلية عنها ليخرج بها أبوها تتبعه الخادمة مسعودة لتعيش حبيسة حزنها وألمها وحقدها على أمها ولم تودعها بكلمة واحدة، وتركتها لست سنوات وحيدة، وتفسر الكاتبة عن طريق فصل تعقده على لسان أبيها علاقته بأمها التي ملكت قلبه منذ رآها للمرة الأولى في بهو منزل أهله، وهي فتاة عراقية جاء أهلها إلى الكويت وتوظف أبوها عند أبيه وقربه وأصبحت أمها صديقة أمه تذهب إلى بيتهم مراراً، مما وثق العلاقة بينه وبين بدرة حتى أحبها، وأصر على أن يتزوجها رغم معارضة أسرته لذلك فطرده أبوه من البيت والعمل، وطرد أبو بدرة كذلك وانتهت العلاقة بين الأسرتين لكنه في النهاية يحقق حلمه بالزواج من بدرة بعد أن مات والدها فجأة .
ينشأ بين الزوجين خلاف حاد ينتهي بالطلاق الذي مزق نفس البنت لبنى، وتستعيد الكاتبة بأساليب التحليل النفسي فرغم ما كان يغمر الأب به ابنته من حنان وما تحيطها به خادمتها مسعودة من عناية، فإن الفراق وإحساسها بتخلي أمها عنها عمداً جعلاها تعيش خزينة طول حياتها الأولى وقلباً مشاعرها نحو أمها إلى حنق ظل يكبر ويزداد، حتى صار حقداً صريحاً بعد أن علمت أنها تزوجت من رجل آخر، فتصورت أن أمها كانت تكره أباها وأنها تخلت عنه لتتزوج ذلك الرجل، فاعتبرتها ظالمة وحملتها كل أسباب تعاستها، وحين تطلب أمها بعد تلك السنوات رؤيتها فإنها ترفض، وتتعلل الأسباب لكي لا تذهب لرؤية أمها، وحين تقابلها تزداد حقداً عليها وعلى زوجها وبعد عدة زيارات تعود إلى الامتناع من جديد فيتفق أبواها على أن تزورها أمها في البيت، وفي هذه الأثناء تكون قد بلغت مبلغ الزواج لكنها ترفض ابن عمها الشاب وترفض كل الاقتراحات التي تقدم لها شباناً ولا ترضى إلا بزوج في عمر أبيها، وهو اختيار يبين وجها آخر من التداعيات النفسية السلبية لتلك الحياة التي عاشتها البنت في كنف أبيها .
تتزوج لبنى برجل في الثامنة والأربعين تعيش معه ثلاث سنوات من دون إنجاب، وينعكس ذلك بالإحباط واليأس على والدها الذي يمرض ويموت سريعاً، مما يتيح الفرصة للبنى أن تقترب من أمها أكثر فلم يعد لها أحد غيرها، ويتعزز هذا التقارب بقدوم البنت عفاف، حيث أصبحت لبنى أما وأصبحت قادرة على فهم مشاعر الأمهات مستعدة، مما خفف قسوتها على أمها وقلل من اتهامها لها بالمسؤولية الكاملة عن ما حدث لها هي خصوصاً، ثم يموت زوج لبنى فتعيش هي وابنتها ومسعودة وحدهن، ومن جديد يبرز تأثير حياتها الأولى في نفسها حين ترفض الزواج حتى لا يقع لابنتها ما وقع لها، ومن جديد أيضاً ينشأ خلاف حول هذا الرفض بينها وبين أمها، وتعود إلى اتهامها ولو بصورة غير قاسية، ومن دون قطيعة، لكن القطيعة لا تلبث أن تعود حين تكبر عفاف وتريد أن تسافر للدراسة الجامعية في عمّان، فترفض جدتها ذلك باعتبار أنها فتاة لا ينبغي أن تسافر وحدها، تنفض لبنى يدها من أمها وتقطع صلتها بها، خوفاً من أن يؤدي تدخلها في تربيتها لابنتها إلى تخريب حياتهما، وتستعيد الصورة القاسية التي كانت ترتسم في ذهنها عن أمها وهي صغيرة .
ويستمر ذلك الخلاف لسنوات يموت خلالها زوج أمها فتسافر إلى بغداد، وفي هذه الأثناء تكون لبنى بتأثير من ابنتها قد راجعت نفسها وقررت إعادة الصلة بأمها، وتنتظر عودتها، وحين تعلم أنها عادت، تلبث أياماً وهي تحضر نفسها لذلك اللقاء، لكن القدر يسبقها إلى أمها التي تموت فجأة، ومن غير سبب واضح .
تتحول الرواية بعد ذلك إلى متابعة علاقة لبنى بماري الفلسطينية المسيحية التي كانت صادقتها على مقاعد الدرس أيام المدرسة، قبل أن تنقطع لبنى عن الدراسة ويعود أهل صديقتها إلى عمّان وتتزوج ماري هناك، ورغم ذلك لم تنقطع الرسائل بينهما، وكانت تشكل هي وزوجها سنداً للبنى وناصحاً لها في أيام أزماتها، تتصل بهما بالهاتف وتراسلهما، وحين تفقد كل شيء تجد فيهما عزاء وبديلاً عن أحبتها الذين فقدتهم، فتظل تسافر بين عمّان والكويت تزورهما وتطمئن على ابنتها التي تدرس في الجامعة، إلى أن تمرض ماري مرضاً مفاجئاً وتموت لتختتم الرواية على ذلك الإيقاع الحزين . ويفهم ذلك التركيز من الكاتبة على رسم علاقة ود عميقة وحميمة بين لبنى وابنتها وبين ماري وأسرتها، دعوة صريحة إلى نبذ الخلافات الطائفية الفروق الدينية والمذهبية لإقامة علاقة إنسانية، فعلى مستوى القيم الإنسانية يمكن للبشر الالتقاء حول أشياء كثيرة مشتركة تؤسس لثقافة الاحترام والصداقة والعيش المشترك .
يمكن القول إن رواية “خذها لا أريدها” لليلى العثمان تشكل وثيقة نفسية لحياة الطفولة الأولى وما تنطوي عليه تلك الحياة من حساسية تجعل أي خلل فيها قادراً على أن يؤثر فيها تأثيراً عميقاً يلازم الإنسان طيلة حياته ويؤثر على وعيه واختياراته في الحياة، لقد شكلت تلك الصرخة القديمة “خذها لا أريدها” عقدة لازمت البطلة وأثرت سلباً على علاقتها بأمها، وعلى كثير من اختياراتها، وجعلت حياتها تعيسة .
بساطة
اعتمدت ليلى العثمان في سردها على أسلوب مباشر بلغة قريبة خالية من التكلف تتخلها حوارات بالعامية الخليجية والشامية حسب الشخصيات التي تتحدث، واتبعت تقنية تقليدية في سرد الأحداث من البداية إلى النهاية، وإن كانت بدأت الرواية من المنتصف وعبر فصلين صورت فيهما لحظة وفاة الأم وتداعيات تلك اللحظة على البطلة إلا أنها لم تلبث أن عادت إلى البداية وسلسلت الأحداث إلى النهاية، فبدا الفصلان الأولان خارج سياق الرواية بحيث يمكن اقتطاعهما من دون تأثير عليها، وأيضاً هناك الموت المهيمن على الرواية ومن دون سبب واضح، وكل الذين ماتوا كانت أعمارهم متوسطة وليس فيهم من بلغ الهرم، بل جلهم تحت الخمسين: جد البطلة لأبيها، وجدها لأمها، ثم أبوها فزوجها فأمها فماري، ولا يوجد لذلك تفسير سوى أن الكاتبة تريد أن تتخلص من الشخصية بعد أن أدت دورها لتتيح للحكاية نمواً جديداً لم يكن متاحاً إلا بالتخلص منها، فجد البطلة لأمها مات ليتسنى لأبيها الزواج من أمها بعد أن كان يرفضه، وجدها لأبيها مات لكي يرث أبوها المال بعد أن طرده أبوه وحرمه من العمل معه، وهكذا كل موت يمكن أن نجد له سبباً من هذا القبيل، وهو عجز تقني يخل بواقعية السرد .
وهناك أيضاً ظاهرة انفصام العلاقة بين البطلة ومحيطها الأسري في مجتمع خليجي ما يزال يعيش ترابطاً أسرياً، مع أنه لا يوجد ما يحول دون ظهور أهلها في حياتها، فقد كان أبوها رجع إلى أهله بعد أن مات أبوه وقبل أن تولد هي وأخذ حصة من الإرث، وظل على صلة قوية بهم، ويشهد لذلك أنه رشح ابن أخيه للزواج منها، ومع ذلك يمكن القول إن الكاتبة بلغت شيئاً من مقاصدها في دق ناقوس الخطر في التربية اللامبالية للأطفال في عالم اليوم وفي التنبيه على أخذ الحذر في كل فعل يمكن أن يرتد سلباً عليهم

هل تستعيد الخطابة مكانتها


أفق
هل تستعيد الخطابة مكانتها؟
آخر تحديث:الجمعة ,11/02/2011
محمد ولد محمد سالم
كان من النتائج الثقافية للانتكاسة التي أصابت النهضة العربية، أن أصبحت الخطابة شيئاً مستكرهاً، وأصبحت عبارة “العرب ظاهرة صوتية” وصمة يصفون بها أنفسهم، في إطار أدبيات ما عرف في العقود الأخيرة من القرن الماضي ب “جلد الذات”، حيث انبرى كثير من المثقفين يدينون كل أشكال الثقافة العربية المبنية على الاعتداد بالنفس، ويستهجنون كل مظاهر الفخر والاعتزاز قولاً وفعلاً، باعتبارها هي التي أعمت العرب عن واقع حياتهم وشروط تلك الحياة، وأسلمتهم إلى الحلم ثم إلى هزيمة منكرة، وأضحت الخطابة وكل ما يمت إليها معرّة، وكانت تلك ردة فعل مفهومة على أحداث لم يكونوا يتوقعونها فكانت صدمتهم بها أكبر من التحمل، لكن بعض القوى المستفيدة من هذه الانتكاسة وتراجع النهضة، والتي تعرف خطورة الخطابة في التأثير في العقول، عملت على إقرار تلك النظرة السلبية لها لتزهيد الناس فيها، وإبعادهم عن الاستماع أو الاقتناع بما يقوله الخطباء، وفي ظل أوضاع اتسمت بالانغلاق، ومصادرة الحريات آتت تلك الدعوة أكلها، فمات ذلك الفن الأصيل في الثقافة العربية، وقد يلقي ذلك الضوء على العلاقة الطردية بين الحرية والخطابة .
لقد كانت الخطبة هي أهم ما يعتمد عليه في استنهاض الهمم وتوجيه الرأي وتوصيل رسائل الخاصة إلى العامة، وقد بلغ من جليل قدرها في الجاهلية أن النعمان بن المنذر صرف كسرى عن غزو بلاد العرب بخطب من رجال من فصحاء العرب بعثهم إليه، منهم أكثم بن صيفي، وعامر بن الظرب العدواني، وعمرو بن معدي كرب، فلما سمعهم أكرمهم وأعظم شأن العرب .
وقصص الخطابة وما تفعله في نفوس السامعين لا تنتهي، وكان من الخطباء المعدودين قس بن ساعدة، وسهيل بن عمرو، والحجاج بن يوسف، وزياد بن أبيه، وعبدالملك بن مروان، وغيرهم كثير، وربما يأتي الرجل وقد هيئ له السيف والنطع ووقف السيّاف على رأسه فيقال له تكلم فيتكلم بما يعتق رقبته من القتل، كما حدث لتميم بن جميل مع الخليفة المعتصم فيما رواه ابن عبدربه في عقده الفريد حقاً .
من الغريب أنه في عصرنا هذا أصبحت الخطابة مدانة لدى العرب، في حين تزايد الاهتمام بها لدى الأمم الأخرى، وأصبحت تدرس في كثير من المجالات التي تحتاج إلى مواجهة مع الجماهير كالسياسة والمحاماة والعلاقات العامة والإعلام، وقطاعات الترويج وبعض مجالات الاقتصاد، وذلك لما لها من بالغ الأثر في التأثير في عقول الناس وميولهم، وهذا يدل على أن هذا الفن حاجة اجتماعية لا غنى لعامة الناس وخاصتهم عنها، وهي لا تموت لكنها تخمد كما تخمد النار، ثم لا تلبث أن ينير ضوؤها الآفاق .
وما نشهده اليوم من منتديات خطابية خلال التحركات الشعبية في بعض البلدان العربية، وقوة تلك الخطب في تجميع الجماهير وتحريكهم، وفي توجيه الرأي، ربما يكون بارقة أمل في استعادة هذا الأدب الرفيع مكانته .
Dah_tah@yahoo.fr

هل تعود مصر لقيادة العطاء الثقافي العربي


أفق
قيادة العطاء الثقافي؟
آخر تحديث:الثلاثاء ,15/02/2011
محمد ولد محمد سالم
لم تنقطع مسيرة العطاء الأدبي والثقافي في مصر، وظل أدباؤها ومثقفوها ينتجون، لكن الذي انقطع بعد كامب ديفيد هو قيادة ذلك العطاء الثقافي للحركة الثقافية العربية، وعاشت مصر سنين منكفئة على نفسها ثقافيا وفقد المثقفون العرب المنهل الذي كانوا يردونه ويصدرون عنه، فقدوا المصب الذي تتلاقى فيه الروافد القادمة من كل صوب، وانكفأ كل منهم بدوره على نفسه، في حلقة مفرغة لا تحيل على خارجها . ورغم الحضور المميز والفاعل في هذه الفترة - ما بعد “كامب ديفيد” - لبعض كبريات العواصم العربية وعملها على بقاء بعض خيوط الثقافة العربية مشدودة بين العرب إلا أن تلك الخيوط كانت تتقطع أمام مقصات الفرقة والخلافات السياسية التي عصفت بالوطن العربي، وشتتت شمله الثقافي، فكان الانقطاع المرير الذي جعل منطقة بل كل دولة جزيرة ثقافية مغلقة، لا تتأثر ولا تؤثر فيما حولها .
انتهى ذلك الزمن الذي كان فيه رواد النهضة في مصر يصل صوتهم إلى آخر رقعة عربية شرقاً وغرباً وكانت فيه مقالات وإبداعات شعراء المهجر كجبران خليل جبران وإليا أبوماضي وميخائيل نعيمة وغيرهم تنشر في مجلات مصرية أو في كتب بطبعات دور مصرية، وكان فيه مطران خليل مطران ومي زيادة وأبوالقاسم الشابي ثم نزار قباني ومحمود درويش وقائمة كبيرة من مشرق الأرض ومغربها يصدرون نتاجاتهم في مصر، وكانت فيه دار المعارف ودار الفكر والدار المصرية للكتاب ومكتبة الخانجي ودار الرسالة ومكتبة مدبولي، وغيرها من دور النشر الشهيرة التي حملت إلى القارئ العربي أينما كان أهم كتب الثقافة العربية في العصر الحديث وأمهات كتب التراث العربي .
لم تستطع عودة مصر إلى الساحة العربية في التسعينات ومع انطلاق “مسلسل السلام” أن تعيد لها ذلك الدور الثقافي المركزي الذي كانت تلعبه في ما قبل “كامب ديفيد”، لأن تلك العودة لم تكن على الأسس الحضارية والثقافية السليمة، ولأنها جاءت في ظل ضعف مصري وعربي عام، وتراجع لقيمة الإنسان وانكسار طموحه، فقد كاد ذلك الوهج والانبهار الأول بالثقافة القادمة من مصر يتلاشى، واليوم ومع هذا التغير الجديد الذي يبشر بتصالح مصر مع ذاتها وعودة الثقة للمواطن المصري في نفسه، ومع ما نأمله من عودة الحرية، فلا شك أن الجميع يتطلع إلى استعادة ذلك الشقيق الأكبر لدوره التنويري، وتصدره للمشهد الثقافي من جديد كمنبع وموئل للإبداع، وكملتقى ومنطلق لصوت المثقف العربي .
نأمل أن يكون التغيير في مصر بداية النهاية للقطيعة الثقافية التي يعيش فيها الكتّاب والأدباء والمثقفون العرب، وسببا لخروجهم من الجب الذي يعيشون فيه والذين تتقطع أصواتهم من دون أن تصل إلى سمع أحد .
نأمل أن يكون ذلك بداية لمشوار وحدة ثقافية عربية هي الأمل الوحيد في المستقبل بعد أن عزت الوحدة السياسية والاقتصادية، ولم يعد هناك مبرر للدعوة لهما .
Dah_tah@yahoo.fr