الأبرز فيه صوت الشعر
مقطع من المشهد الإبداعي القطري
آخر تحديث:السبت ,12/12/2009
محمد ولد محمد سالم
1/1
تطرح الدراسات المتعلقة بالشعر في دولة قطر وفي مختلف البلدان الخليجية إشكالات كبيرة تتعلق بأولية هذا الشعر والحدود الجغرافية له ونسبة الشعراء إلى هذه الإمارة أو تلك كما هو حال الشاعر عبد الرحمن المعاودة الذي عاش بين البحرين وقطر، وتفسير ذلك أن القبائل ظلت إلى عهد قريب تعيش حياة بداوة وتنقل بين المناطق على طول الساحل، وعاشت صراعات تبادلت فيها أدوار السيطرة على مختلف مناطق الساحل ونتج عن هذا تداخل في التاريخ القديم للبلدان الخليجية التي نشأت بعد فترة الاستعمار، ومن هنا فإن التاريخ السابق على هذه البلدان هو تاريخ مشترك، لا يمكن النظر إليه إلا بوصفه كتلة واحدة اللهم إلا في حالات نادرة، لكن خارج ذلك لا يمكن تمييز تاريخ لقطر أو الكويت أو الإمارات أو البحرين أو عمان منفصلاً بعضه عن بعض، والأمر في الثقافة والأدب أصعب منه في غيرهما ذلك أن حوادثهما في العادة مجردة عن الزمان والمكان، ومن هنا فمن الصعب أن نتحدث عن تاريخ للشعر في قطر، لأن الكيان الجغرافي والسياسي لهذه الإمارة لم يتحدد قبل 1868 حين أبرمت بريطانيا معاهدة مع الشيخ محمد بن ثاني تعترف بموجبها بسيادته على شبه الجزيرة القطرية وقبائلها، ومنذ ذلك التاريخ بدأ تكون ما يعرف بإمارة قطر، ولا تشكل هذه البداية السياسية بالضرورة البداية الفعلية للأدب العربي الحديث في قطر، ذلك أنه ونتيجة لانعدام مراكز حضارية مستقرة فقد انعدم التعليم أو كاد، وظل الموجود منه مقتصرا على محو الأمية وتحفيظ بعض سور القرآن، فتراجعت العلوم المرتبطة بالتعليم، ومنها الشعر، واستغنى الناس بشعر النبط، فأصبح هو الشكلَ الشعري السائد لديهم، والعنصر المؤسس للثقافة ضمن القيم المتداولة والمعايير الجمالية المشتركة التي تواضع عليها المجتمع، فحمل أفراحهم وأتراحهم وفلسفتهم في الحياة وقيمهم وعاداتهم، وقد شاكل النبط القصيدة الجاهلية في أبنيتها وصورها ومعانيها، كما شاكلت حياة البدو حياة الجاهليين في كثير من جوانبها قبل أن تدخلها الحضارة الحديثة.
ويذهب محمد عبد الرحيم كافود إلى أن التعليم في المجتمع لم يظهر إلا متأخراً.. يقول: “بالنسبة للمجتمع الخليجي فإن التعليم لم يظهر حتى أربعينات القرن المنصرم وفي دول بعينها، ومعه بدأت حركة التوثيق، أما سابقا فلم يكن هناك إلا الروايات الشفوية التي اعتُمِدَ عليها لحفظ الأدب، فيما كانت الأمية سائدة واقتصر التعليم وقتها على حفظ القرآن وبعض قواعد اللغة العربية، والتعاطي مع بعض الكتب القديمة”.
على أنه ورغم هذا الواقع فقد حفظ التاريخ أسماء بعض من الشعراء القطريين الذين ظهروا في بداية القرن العشرين، وليس من المستبعد أن يكون سبق هؤلاء أمثالهم في القرون الماضية، لكن أشعارهم وذكرهم ضاع بسبب غياب التدوين، يمكن إذن أن نتلمس أثراً لشعراء قطريين ظهروا في أوائل القرن العشرين وتركوا بعضاً من الأشعار مخطوطة أو مروية، ومن هؤلاء الشاعر ماجد بن صالح الخليفي (1873-1907) فقد ترك تراثاً شعرياً مدوناً، وقد هيأت له تجارته وأسفاره الكثيرة في الجزيرة العربية واتصاله بالعلماء والشعراء في الحجاز اطلاعاً على أشعار العرب وخبرة بنظم الشعر، وقد نظم الفصيح والنبط، وتم جمع ديوانه ،1963 وهو يحوي 67 قصيدة ما بين فصيحة ونبطية، وتناولت أشعاره جميع الأغراض التقليدية تقريبا من فخر وغزل ووصف ورثاء، وجاءت لغته بسيطة ما يدل على أنه كان يمثل البداية الشعرية في عصره وترسم طريقة الأقدمين في التصوير، بل كانت جل أوصافه استنساخا لمعاني القدماء في الوصف يقول في رثاء زوجته:
يا عين جودي بدمع منك مدرار
واحك السماء إذا هلت بأمطار
يا دهر مالك قد كدرت عيشتنا
بعد الصفاء فقد شيبت بأكدار
أبقيتني واحدا في الدار منفردا
من بعد أنسي بها يا طول إحساري
إن كنت أسقيتها كأس الردى فلقد
أسقيتني بعدها كاسات إمرار
ومن هؤلاء أيضاً محمد بن عبد الله بن عثيمين “1854- 1944” وهو في الأصل نجدي، نشأ وتفقه وتأدب في نجد، وتنقل بين البحرين وقطر وعمان، ولكنة سكن قطر وحمل راية الأمير قاسم بن ثاني في بعض حروبه، واشتغل بتجارة اللؤلؤ، وكان شاعراً قوي السبك غزير اللغة جزل اللفظ، دائراً في أغراض الأقدمين ومعانيهم وتصاويرهم.. يقول في مقدمة غزلية:
قِفوا بي على الرَبعِ المُحيلِ أُسائِلُه
وَإِن كانَ أَقوى بَعدَ ما خَف آهِلُه
وَما في سُؤالِ الدارِ إِطفاءُ غُلةٍ
لِقلبٍ مِنَ التَذكارِ جَم بَلابِلُه
تَعَللُ مُشتاقٍ وَلَوعَةُ ذاكِرٍ
لِعَهدِ سُرورٍ غابَ عَنهُ عَواذِلُه
فَإِن أَسلُ لا أَسلو هَواهُم تَجَلداً
وَلكِن يَأساً أَخلَقتني أَوائِلُه
خَليلَي لَو أَبصَرتُما يَومَ حاجِرٍ
مُقامي وَكَفّي فَوقَ قَلبي اُبادِلُه
عَشِيةَ لا صَبري يُثيبٌ وَلا الهَوى
قَريبٌ وَلا دَمعي تَفيضُ جَداوِلُه
لَأَيقَنتُما أَن الأَسى يَغلِبُ العَزا
وَأَنّ غَرامي لا غَرامَ يُماثِلُه
ولا شك أنه كان للإقامة الطويلة لهذا الشاعر المُجيد في قطر أثر في الشعر العربي فيه بحيث شكل رافدا مهما من روافده.
ومنهم الشاعر أحمد بن يوسف الجابر “1903-1992” وقد ولد في الدوحة وفيها توفي، وهو شاعر ضليع في اللغة وعلوم الدين له اطلاع واسع على التراث الشعري العربي، يتسم شعره بنزعة دينية وتوجيهية، وكثيراً ما كان ينظمه في المناسبات الدينية والوطنية، يمتاز بسلامة اللغة وقرب المعاني والبعد عن التكلف والميل إلى الحكمة وله ديوان طبع سنة 1983.. يقول في استنهاض همة المسلمين لنجدة فلسطين:
لا ترجعوها إلى رأيٍ ومحكمةٍ
فآية السيف تمحو ما بنى القلم
أمجلس الأمن يُرجى أن يثيب لكم
من ليس يعطفُه إل ولا رَحِم
يشكو الجريح نزيفاً وسط معركةٍ
فهل ترق له العِقبان والرخَم
شاموا به العجز فاستشرى عنادُهم
وشايعَتْهم طغاة الكفر فاحتدموا
شدّوا الخناق عليها أمةً لُعنتْ
من عهد داودَ لعناً ليس ينفصم
لعناً تسلسل في الأصلاب واشتملت
شر البطون عليه، صابها العقم
تلك كانت مجرد بدايات شعرية فردية وبصمات أولية تركها شعراء على فترات متباعدة، أما النقلة النوعية في هذا الشعر والتي تمثل حركة شاملة، فكان لا بد لها من سياق اجتماعي ومناخ ثقافي يستمد منه الشاعر رؤاه وينفعل بتوجهاته وتتجاوب فيه أصداء شعراء ومثقفين متعددين، وهذا المناخ هو ما بدأ يتشكل في قطر في النصف الثاني من القرن العشرين حين بدأ استغلال النفط وتكونت الدولة وأخذت الحياة تزدهر والمدارس تنتشر وجذبت البلاد إليها المثقفين والأساتذة من الوطن العربي، ونشأت الصحافة القطرية بظهور “مجلة العروبة” و”جريدة العرب” ثم “العهد” ثم “مجلة الدوحة”، فصاحب ذلك نشوء حركة أدبية أخذت في التطور، ويجمع الدارسون على أن عقدي الثمانينات والتسعينات كانا قمة هذا التطور، حيث نضجت في هذه الفترة التجربة الشعرية القطرية، وعكست كامل التوجهات والاختيارات الأسلوبية والإيقاعية للشعر العربي الحديث في اتجاهاته الثلاثة.. القصيدة الخليلية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وسيصادفنا في بداية هذه المرحلة الشاعر الشيخ علي بن سعود آل ثاني “1932-1999”، الذي تلقى تعليما تقليديا وحفظ القرآن، ثم التحق بالتعليم النظامي في سنة 1950 لكنه لم يطل فيه كثيرا، وامتهن التجارة، وكان ميله للشعر طاغيا فظل يقرضه إلى آخر أيامه، وله خمسة دواوين هي “في غدير الذكريات” 1986 و”حمامة ورقاء” 1994 و”فلسطين المجاهدة” 1994 و”مسرح الأوهام” 1994 و”سراب الحالمات”،1999 وقد شكّل بداية التحرر من المحاكاة العمياء للأقدمين والتخفف من المحسنات البلاغية، وسلك سبيل معالجة همومه الحاضرة وابتداع الهموم المناسبة لذلك، واقترب وطبع أسلوبه بطابع رومانسي شفاف.
ويشكّل الشاعر الشيخ مبارك بن سيف آل ثاني المولود 1950 قمة هذا الاتجاه، وذلك عبر دواوينه المنشورة حتى الآن “الليل والضاف” 1983 و”أنشودة الخليج” 1984 و”ليال صيفية”1990 و”الفجر الآتي” 1992 وهي مسرحية شعرية، وقد عكست تلك الدواوين اتجاهاً رومانسياً ناضجاً يبحث عن شروط إبداعه من خلال حياته وتجاربه الوجدانية، ويتخفف من ضغط الماضي الشعري رغم وفائه للأوزان الخليلية، لكن ذلك الوفاء لم يمنعه من استلهام تجربة الشعر الحديث في رؤاها وبناء أخيلتها، أو من كتابة شعر التفعيلة حتى عُد من رواده في قطر.. يقول على هذا النسق:
تعاليْ نُرددُ أغنيةً.. تذكرُنا بليالي الطفولة
تعالي لنلعب تحت المطر..
ونمحو عن سدرة في الفناء بقايا غبار
لنجلوَ حرفين كنا كتبناهما
تحتها في الظهيرة.
وفي الاتجاه نفسه الساعي إلى التحرر وتعميق تجربة الحداثة الشعرية، سار مجموعة من الشعراء رسخوا قصيدة الشعر الحر في قرارة التجربة الشعرية القطرية منهم علي ميرزا محمود، ومحمد خليفة العطية، ومحمد قطبة، وسعاد الكواري وزكية مال الله، وهذه الأخيرة من أهم من رسخ التجربة الحداثية في الشعر القطري، نظرا لغزارة إنتاجها الشعري وكثرة ما أصدرته حتى الآن من دواوين التزمت فيها بخط حداثي يفتش دائما عن لغته الخاصة وجمالياته التصويرية المستقاة من كونه المعرفي والإنساني، ومن خلال أهم دواوينها “معبد الأشواق” سنة 1985 و”ألوان من الحب” 1987 و”في عينيك يورق البنفسج”1990 و”من أسفار الذات” 1991 و”مواسم العقيق” 2007 و”حرث الطين” 2008 ونصوص أخرى كثيرة مزجت بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة استطاعت مال الله أن تجترح لنفسها تجريبا جماليا خاصا يتلاقى وأفق التجريب في الشعر العربي والشعر العالمي بعيدا عن الانصياع لأية أطر جمالية قبلية.. تقول في ديوان “في عينيك يورق البنفسج”:
“طريد بروحي
تسلقت أضلاع قلبي...
نفذت إلى سدرة الهاوية
ترقرقت... نهراً
نموت صنوبرة دانية
إليك... اقتطفنيَ
أمسك بوردك
وانفض غبار شتائك
في شمسيَ الحانية”
الهم العام
أما الأدب السردي فقد كان من الطبيعي أن يظهر متأخرا وأن يترافق ظهوره مع ظهور الصحافة التي فتحت صفحاتها، وقد كانت القصة القصيرة أسرع انتشارا من غيرها من ألوان السرد نظرا لملاءمتها للنشر الصحافي، وكانت البداية في السبعينات مترافقة مع مجلة “العروبة” القطرية التي احتضنت عدداً من المبدعين، ممن كان لهم شأنهم في تطوير القصة القصيرة في قطر، وقد تعرض الباحث د.عبد الله إبراهيم في دراسته “القصة القصيرة في قطر دراسة ومختارات” لمجموعة ضمت اثنتين وعشرين قصة قصيرة مختارة لاثنين وعشرين قصاصا وقد عكست سمات القصص المدروسة انشغالاً بالهموم العامة والهموم الشخصية وتنوعاً في أساليب السرد ما بين الوصف والتداعي الحر والمناجاة وتيار الوعي والتجريب والمونتاج، مما يعني أن هذه التجارب استطاعت أن تستوعب تاريخ القصة القصيرة وتتمثل اتجاهاتها في وقت وجيز، ويجيز الحكم بأن القصة القصيرة في قطر قد تجاوزت مرحلة التأسيس وأصبحت مهيأة للإبداع، ومن أهم من أسهموا في بناء صرح القصة القصيرة نذكر كلثم جبر وهدى النعيمي وخليفة هزاع ونورة آل سعد وحسن رشيد ووداد الكواري وزهرة المالكي وراشد الشيب.
أما الرواية فقد حملت لواءها الأختان دلال وشعاع وتعتبر رواية دلال خليفة “أسطورة الإنسان والبحيرة” الصادرة سنة 1993 أول عمل روائي قطري، وبعدها بوقت قصير أصدرت شعاع خليفة روايتيها “أحلام البحر القديمة” 1993 و”العبور إلى الحقيقة” ،1993 ثم روايتها “في انتظار الصافرة” ،1994 وعادت دلال لتصدر روايتين أخريين هما: “أشجار البراري البعيدة” 1994 و”مِنَ البحّار القديم إليك”،1995 وتميزت هذه الروايات بنضج فني وعمق في التجربة، وانشغال بالواقع بالإيغال في الهم السياسي والاجتماعي والتفاعل مع روح الحداثة، مع محاولة جادة لتوظيف عناصر القص والفلكلور في التراث الشعبي، وإلى جانب هاتين الأختين برز كل من أحمد عبد الملك في روايتيه “أحضان المنافي” و”القنبلة” ومريم آل سعد في روايتها “تداعي الفصول”، وهناك إرهاصات لكتاب جدد ما يدل على أن الرواية القطرية بدأت تخط طريقها بثبات في محيط الرواية العربية. وقد لاحظ كثير من الدارسين للسرديات في قطر طغيان الأدب النسوي عليه، وهي سمة ينفرد بها بين الآداب العربية المعاصرة، حيث إن أهم الأصوات في الرواية هي لنساء، وقد أدرج د. عبدالله إبراهيم في دراسته “القصة القصيرة في قطر دراسة ومختارات” اثنتي عشرة قصة لكاتبات في حين أن الكتّاب الرجال حظوا فقط بعشر قصص. وهي ظاهرة جديرة بالدراسة وربما تكون جديرة بها في الخليج عامة بالنظر إلى الكم الهائل من الأدب القصصي النسوي فيه.