بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 1 يونيو 2015

منينه ابلانشيه رواية تتنسم الإبداع



الكتب الأدبية المورتيانية قليلة جدا، والروائية منها أقل، وأسباب ذلك يطول شرحها، ويعتبر صدور أية رواية جديدة لكاتب موريتاني مناسبة جديرة بالاحتفاء بها، في ظل ذلك الجدب المزمن في ساحة أدبية جفاها مطر الإبداع بسبب غياب تام لكل أنواع الدعم التي يمكن أن تشجع الكتاب على الإنتاج، وانسداد أفق النشر، مما يجعل التفكير في الكتابة نفسها هو استدعاء لأسباب الإحباط والنكد، وكأني بذلك الكاتب يناجي نفسه قائلا: "ما دمت لن أجد وسيلة للنشر، فلماذا أضيع وقتي وجهدي في الكتابة؟، إن ذلك لهو العبث عينه"!.
رغم هذا الأفق المسدود فيمكن القول إن الرواية في موريتانيا، على شح المنشور منها وتباعد تواريخ نشره، قطعت شوطا كبيرا في السنوات الأخيرة، وتجاوزت مرحلة التأسيس التي بدأتها مع روايات مثل القبر المجهول والأسماء المتغيرة وأحمد الوادي والحب المستحيل ومدينة الرياح، وغيرها من الروايات التي ظهرت في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، ومثلت مرحلة الريادة والتأسيس، واليوم ها هي الرواية تدشن مرحلة الصوت الخصوصي والبحث عن الإبداع عبر تجارب روائية بدأت تلفت الانتباه إليها، وتضع أسسا لتقاليد روائية موريتانية، نأمل أن ترتفع بالسرد الموريتاني إلى المكانة التي تليق به من السرد العربي، فهو سليل تراث أدبي عريق، لم تنقطع سلسلته منذ قرون، وقد ظل على مر الأزمان يرفد الثقافة العربية بالشعراء والمؤلفين والعلماء الأفذاذ الذين كان لهم أثرهم حيثما حلوا.
يمكن تصنيف رواية "منينة بلانشيه" للكاتب محمد ولد أمين أنها واحدة الروايات التي تدشن هذه المرحلة الجديدة، مرحلة البحث عن الخصوصية والارتقاء إلى مرتبة الإبداع، فهذه الرواية رغم أنها الأولى لكاتبها إلا أنها تجاوزت كثيرا من عثرات البدايات، واستفادت من الكتابات الصحفية السابقة لمؤلفها، وهو ناثر متمرس ممتاز، يتمتع بأسلوب عربي سلس أصيل محكم – وهذه إحدى المؤهلات التلقائية لأغلب الكتاب الموريتانيين التي يرفدهم بها ذلك الإرث الأدبي الذي أشرنا إليه -، كما أن البناء الروائي عنده محكم متوازن يسير في خط متصاعد نحو النهاية، وهذه ميزة قلما تتوفر لكثير من الروائيين المعاصرين، فكثيرا ما تأخذهم "بنيات الطريق" في السرد، فتتعرج بهم في مسارات شتى.
يسعى جوزيف ابلانشيه ( أو أحمد ولد خيبوزي) إلى معرفة تفاصيل حياة أمه "منينه بنت المختار الأعيور" التي ماتت هي ووالده القانوني "باتريك بلانشيه" في حادث تحطم طائرة، وتركاه وراءهم، وهو لم يكمل عامه الثالث، في عهدة السالك ولد خيبوزي الذي ادعى أنه هو والده الحقيقي، وأراد الاستحواذ على إرثه من أمه، لولا تدخل السفارة الفرنسية التي اعتبرته مواطنا جوزيف فرنسيا رغم أنها تركته في عهدة ولد خيبوزي، وكان جوزيف منذ صغره يسمع من أهل خيبوزي الكثير من الشتم والقدح في عرض والدته التي يعتبرونها كافرة عاهرة وهبت نفسها لنصراني كافر هو باتريك بلانشيه الذي كان القائد الاستعماري لقلعة نواكشوط قبيل وبعد الحرب العالمية الثانية.
يعيش جوزيف متنازع الانتماء بين مجتمع مورتياني لا يتقبله باعتباره ابنا مطعونا في نسبه، أو على أفضل الحالات، ابنا لنصراني وعاهرة، فلا أحد سيقربه، ولا بنتا من بنات المجتمع ستقبل الزواج منه، وبين وطن فرنسي لا يعرفه، ولا تميل نفسه إليه، وبسبب عقدة الانتماء يفشل في الدراسة، وفي مشاريعه التجارية، ويفقد الطموح فيعيش عاطلا عازبا حتى سن الخمسين، وتتولد لديه نقمة شديدة على ذلك المجتمع الذي لفظه بعيدا، ورغبة شديدة في معرفة حقيقة أمه، وما ألصق بها من تهم اعتقد دائما أنها تهم كاذبة منافقة، لكنه لا يجد أي وسيلة لمعرفة ذلك لأن منينة كانت مقطوعة النسب، فوالدها قاطع طريق مات في سجن الاستعمار، وقبيلته التي كان يتزعمها تشردت ومزقت وطردت بعيدا في بوادي تامشكط، وقد رحلت منينة الفتاة الصغيرة إلى نواكشوط في ذلك الزمن البعيد المعدوم المواصلات، وانقطعت علاقتها بأمها ومن تبقى من أسرتها.
لا يعاني جوزيف من أية مشاكل مادية، فأموال الميراث تكفيه للعيش بترف حتى آخر عمره، لذلك يتنقل سائحا بين فرنسا وبلجيكا وموريتانيا، وفي بلجيكا سوف يقنعه أخصائي نفسي بالخضوع لتجربة صوم علاجية تحت إشرافه، من شأنها أن تجعله يرتحل عبر الزمن ليشاهد مسيرة حياة والدته، فيقبل بالتجربة وتترآى له تفاصيل حياته أمه منذ بداية عملها خادمة في قلعة الإدارة الفرنسية في تامشكط حيث كان أبوها سجينا، مرورا بسفرها إلى نواكشوط وزواجها من قائد قلعته، ثم حملها به من ولد خيبوزي الذي أجره باتريك للقيام بذلك، وأخيرا الانفجار الذي أودى بحياتها.
بالموازاة مع ذلك يروي جوزيف تفاصيل أيامه في العلاج، حيث تنشأ بينه وبين مساعدة طبيبه علاقة حب، وتقبل أن تسافر معه إلى نواكشوط لتعيش معه، وهناك يقرر مقاضاة الحكومة الموريتانية لاسترجاع الممتلكات العقارية لأمه والتي من ضمنها المساحة التي يقوم عليها مبنى رئاسة الجمهورية، ويستفيد من تلك المحاكمة التي اتخذت طابعا سياسيا في لفت الانتباه إليه واكتساب اعتراف اجتماعي ظل طيلة حياته محروما منه.
كما قلنا سابقا فإن البناء الروائي محكم ومسترسل لا تعريجات فيه، وقد أفلح الكاتب في تصوير أزمة الانتماء في ذلك المجمتمع الذي تحكمه أعراف قبلية راسخة، وهذا يعد في حد ذاته نجاحا كبيرا، لكن رغم ذلك فإن هنالك ملاحظات يمكن إبداؤها على هذه الرواية، وأولها وأهمها هي أن منينة الشخصية الرئيسية في الرواية، بدت وكأنها بطلة أسطورية، ولم تأخذ طابع شخصية واقعية كما كان يفترض، فرغم وعورة المسار الذي سلكته في حياتها وخطورته، وما كان يمكن أن يجره عليها من المآسي فإنها لم تصب بأي أذى طيلة الرواية، وظلت كل الظروف تتهيأ لها، وتمهد لها طريق النجاح، كأنها لم تعش بين ضباط استعماريين متغطرسين يمتلكون مطلق السلطة لفعل أي شيء يريدونه، وجنود متوحشين وكانت جميلة بشكل فاتن لا يمكن مقاومته، وكأنها لم تسافر وحيدة سفرا قاسيا عبر فلوات شاسعة، وبين شعوب ومدن لا تعرفها، مما يجعلها عرضة لأبشع أنواع الاستغلال والاعتداء، لكنها نجت من كل ذلك وظلت نقية طاهرة، وانتهت إلى الزواج، وجمعت أموالا طائلة في بشكل أسطوري.
هذا الوضع أفقد منينه الإقناعية اللازمة، وجعلها شخصية روائية سلبية، لا تثير عند القارئ تعاطفا إيجابيا أو سلبيا، ويبدو أن وجهة نظر الكاتب وما يريد أن يقوله هو ما كان يتحكم في شخصية منينة ويحد من قدرتها على أن تأخذ بعدها الإنساني بعمق، فقد أراد ولد أمين أن يقدم منينة على أنها امرأة طاهرة بريئة، لكنّه وضعها في مسار يصعب معه أن تكون كذلك، وأرغمها على اختيار يعتبر انتحارا أخلاقيا بمعيار المجتمع في ذلك الوقت، لذلك أن احتاج إلى أن يمهد لها الظروف بطرق الصدف والمجانية التي لا تستطيع أن تقنع القارئ، ولو أن منينة ظهرت بمظهر الفتاة المتمردة الثائرة على مجتمعها، لأمكن أن نجد لها العذر في الارتماء في أحضان المستعمر والاحتماء به والحياة على طريقته، لكنها لم تبد كذلك، ولم تحمل على طول الرواية أية فكرة عن الخير أوالشر، ويأتي قبول البطلة بتأجير ولد خيبوزي لتحمل منه ليناقض مظهر منينة البريئة المتدينة، ويعصف بوجهة نظر الكاتب التي يسعى لإقرارها، مما يؤكد كونها شخصية هلامية بلا ملامح إنسانية، وقد أضعفت وضع البطلة ذاك الرواية، وقلل من قدرتها الإقناعية، على الأقل في الفصول المكتوبة عنها، بينما بدت معاناة جوزيف وتفاصيل حياته أكثر جاذبية وتأثيرا، لأنه أخذ أبعاده كشخصية واقعية تعيش الحياة بحلوها ومرها، ولم يظلّ فكرة في ذهن الكاتب.
سَعْيُ ولد أمين لإظهار منينة في ثوب الفتاة الطاهرة البريئة انعكس سلبا على صورة المجتمع في الرواية، فمنذ البداية ظهر المجتمع الموريتاني مجموعة من المشردين المنافقين الجبناء الغادرين المتكبرين بشكل فاضح، تماما، كما تصفهم مذكرات ووثائق الضباط والإداريين الاستعماريين العنصريين، ولم يُسْتثن من ذلك أحد من شخصيات الرواية، حتى الشيخ العابد المتبتل الذي نزلت منينه عنده يظهر تواطؤه منذ البداية عندما يقول لها مشيرا إلى الضابط الفرنسي "النصراني": "من كان يريدك فليأت إليك"، وهي جملة شاذة في سياق مجتمع عرف عامته بالبراء من المستعمرين "النصارى"، ومقاطعتهم، وتكفير كل من يتعامل معهم، وشأن خاصته في ذلك أشد، فكيف بهذا الرجل الذي هو من الخواص أن يصدر منه ذلك، وكأنه يتمنى أن يأتي ذلك "النصراني الكافر" طالبا يد منينه، ولن يقف الأمر عند ذلك الحد، بل سوف يسهل ذلك الشيخ التقي لمنينه الزواج بالضابط، ويسخّر خلواته التعبدية للدعاء لهما وتحصينهما من الشرور.
في مقابل صورة المجتمع تلك ظهر الضابط الاستعماري في الرواية بمظهر البطل المنقذ الذي يحمي منينة ويؤويها ويدافع عنها بنخوة وشرف، أو الذي يهيم بجمالها ويتلفظ بالشهادتين لكي يتزوجها، وهذا الوضع غريب ويطرح تساؤلات حول أهداف الكاتب منه، وكيف يقبل على نفسه أن يفضل مستعمرا ظالما سفاكا للدماء على مجتمع مستضعف وجد نفسه فجأة نهبا لنيران أسلحة فتاكة لا يملك لها دفعا، وأصبح يقتاد إلى المقاصل والمشانق والسجون ذليلا، وتغتصب بناته جهارا نهارا، وتسلب ماشيته على أعينه، فمهما يكن سوء المجتمع ونفاقه في إظهار القيم والتحلل منها في الوقت ذاته، فإنه لا يبلغ في سوئه ونفاقه وتكبره ما بلغه المسمتعمر البغيض من ذلك، والمقارنة بينهما بهذه الطريقة مجحفة وجارحة.
تلك الملاحظات لا تغض من قيمة الرواية، فهي رواية تتنسم الإبداع وترقى إليه، في كثير من جوانبها، وتشكل إضافة جديدة إلى السرد في موريتانيا.

 محمد ولد محمد سالم 
الرائد 212 إبريل 2015

جبل الزمرد".. محاولة فلسفية تتوسل بقالب روائي


تعتبر الكاتبة منصورة عز الدين إحدى الروائيين العرب الذين يمتلكون صوتهم الخاص، ويسعون باستمرار إلى تطويره وتأكيد تميزه، من خلال مشروع للكتابة مسكون بهموم الإبداع، ظهر ذلك في روايتها "متاهة مريم" ثم روايتها "وراء الفردوس" التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2010، وها هي تؤكده في روايتها الجديدة "جبل الزمرد" التي فازت بجائزة معرض الشارقة للكتاب 2014.
تعي الكاتبة جيدا المهمة التي تقدم عليها في "جبل الزمرد" وهي المحاورة الفنية والفكرية لكتاب ألف ليلة وليلة، ومد خيط التناص لأقصاها سعيا لاجتراح تقنيات فنية جديدة تمزج بين الغرائبي والواقعي، وتستعير من ذلك النص التاريخي الخالد بعض أدواته دون أن تسقط في تقليده، وقد نجحت عز الدين في هذه المهمة بجدارة، وخرجت بنص متميز.
تتأسس الرواية على بحث امرأة تسمى "بستان البحر" عن الصيغة الصحيحة لحكاية "زمردة" أميرةِ جبل قاف وابنةِ ملكه التي عاشت فيه منذ آلاف السنين، وتسببت في إصابته بالزلزلة وتهدمه وتشتت من نجا من سكانه، وتعود أصول "بستان البحر" إلى أحد كهنة جبل قاف الذين كانوا أحياء عندما حدثت الزلزلة وفروا على رأس من فر من سكانه، وقد أقام جدها ذلك هو وطائفة من الناجين على قمة جبل "آلموت" في إيران وهناك خبأ الرقوق التي تحمل شذرات من حكاية "زمردة"، وقد حرص والد بستان البحر، وهو آخر العارفين بقصة جبل قاف، على تعليمها أسرار قومه، ونقل إليها معارفه ومهاراته في السحر، وحثها على البحث عن الصيغة الحقيقية لحكاية زمردة التي شوهها الرواة عبر العصور، وأضافوا إليها ما ليس منها، وأسقطوها من حكايات ألف ليلة وليلة، التي كانت تروى ضمنها، وذلك بسبب اللعنة التي صاحبت تلك الحكاية والتي كانت تصيب كل من يرويها.
يستولي على بستان البحر اعتقاد بأنها منذورة لترميم تلك الحكاية وإرجاعها إلى كتاب ألف ليلة وليلة، لأن في ترميمها خلاصا لزمردة من رماد احتراقها، وعودة لجبل قاف "جبل الزمرد" إلى حياته وازدهاره كما كان، وتجد في نبوءات الكهنة المكتوبة في آثارهم أن وسيطها إلى استعادة الحكاية الحقيقية سيكون فتاة مصرية أضاعت في صغرها فصا من الزمرد من خاتم أمها الجميلة التي تلقب بأنثى المرايا، ولذلك تستقر بستان البحر في القاهرة، وقد جمعت كل المصادر التي تذكر جانبا من حكاية زمردة، كما جمعت كل طبعات كتاب الليالي، وبعد بحث طويل وانتظار تعثر على تلك الفتاة - واسمها هدير- بمساعدة شاب إيراني تاجر مجوهرات، هو الآخر من سلالة قوم جبل قاف، ومن الذين يبحثون عن حقيقة زمردة، وتوهم بستان البحر هدير بأنها تحقق في قصص ألف ليلة وليلة، وتقنعها بأن تعمل معها بوظيفة موثقة وبراتب مغر.
بالتناوب مع حكاية بستان البحر وهدير تروي الكاتبة حكاية قوم جبل قاف واللعنة التي أصابتهم بسبب الأميرة الجميلة "زمردة" ابنة ياقوت ملك جبل قاف، وأمها نورسين ابنة عالم اختطفها الملك ياقوت من بلدتها، وطار بها على ظهر العنقاء إلى جبله الذي يبعد آلاف السنين عن مدينتها، والمحروس بحية عملاقة تمنع الداخلين إليه والخارجين منه، وتختفي نورسين بعد ميلاد زمردة، ولا يعثر لها على أثر، وتتعلم زمردة كل شيء على يد معلمين جلبهم أبوها، ويصل إلى الجبل "بلوقيا" بمعجزة، فلم يستطع قبله أحد أن يصل إلى الجبل، ويتعرف على ابنة الملك الباحثة عن أمها، ويكون بينهما غرام، ويعطيها سرا يمكّنها من التخلص من الحية الحارسة للجبل وقد عرفت أنها قتلت أمها.
مسيرة "زمردة" مع بلوقيا كانت مراقبة من طرف "مروج" حفيدة الكاهن التي تعلمت من الأسرار والحكمة من أمها، وأوصلها توقها للمعرفة عبر سرداب خفي إلى ذلك الطيف العالم بأسرار قاف، وقد أخبرها بالزلزلة التي ستحيق بالجبل بسبب الأميرة التي ستقتل الحية الحارسة للجبل، وكانت مروج تكتب وقائع حياة زمردة أولا بأول.
استطاعت بستان بعد أن أنِست بها هدير أن تقنعها بمساعدة كريم بالخضوع لجسلة أسرار تستخدم فيها بستان البحر معارفها السحرية لتجعل هدير ترتقي عبر الحلم إلى حياة "جبل قاف" وتستعرض حياة الأميرة وأهل الجبل، والوقائع الأخيرة التي سببت الزلزال العظيم الذي شتت شملهم، ورأت كيف أن مروج لما رأت زمردة تقتل الحية، أيقنت أنه ينبغي التخلص من زمردة قبل أن تحيق بأهل الجبل الزلزلة، فسلمت الأوراق التي فيها حياتها إلى الكهنة، ولما اطلعوا على ما فيها من كلام فاضح عن زمردة وعلاقتها بلوقيا، هموا بقتل مروج قناعة منهم أن ذلك افتراء عظيم على أميرتهم الجميلة الطاهرة، وأثناء محاكمتها بدأت علائم الزلزلة تظهر، فاستخدمت مروج أسرارها وأحرقت الأميرة، لعل ذلك يوقف الزلزلة، لكنّ الندم أصابها فقتلت نفسها، وبدأ الجبل يتساقط، فمات من مات وفر من استطاع النجاة.
بتلك النهاية استطاعت بستان البحر أن ترمم الحكاية وتستعيدها على حقيقتها، ولم تنته الجلسة حتى كانت الحكاية قد أخذت مكانها بين صفحات كتاب ألف ليلة وليلة في جميع طبعاته التي بحوزة بستان البحر.
الملاحظة الأولى التي تتبادر إلى الذهن عند قراءة هذه الرواية هي أننا لسنا أمام رواية أدبية عادية تقدم للقارئ حكاية مسترسلة متصاعدة تتآزر عناصرها لتأخذ القارئ نحو النهاية، بل نحن أمام عالم من الحكايات التي تستقل كل منها بذاتها، وإن كانت قد ترتبط بها بسبب ظاهر أو خفي، مما يحتم علينا القول بأننا أمام محاولة في التفلسف تتوسل بقالب الرواية، حيث أن القائد المركزي لعمل عز الدين ليس الحكاية، بل هو فرضية كون: الحَكْيِ (القص) حياةً وتحقّقا لذات الفرد بما هي جوهره الإنساني، فلا معنى لوجود الإنسان من دون الحكاية، التي هي في التأويل النهائي العلم والمعرفة، أي الحقيقة مدسوسة في قالب فني شفّاف، لذلك فمحاولة ترميم حكاية زمردة، ما هي إلا محاولة لفهم الحقيقة، وامتلاكها، تقول الكاتبة: "ذكرت النبوءات المكتوبة على هيئة ألغاز وأشعار غامضة أن الكاهنة المنتظرة ستبعث زمردة من رماد احتراقها، عبر تنقية حكايتها مما أصابها من تحريف، وإعادتها إلى متن "ألف ليلة وليلة"، ولحظتها سوف يتجسد جبل قاف من جديد، وتبطل لعنته فيعود إليه أهله بعد قرون من التيه" ص19، ومصداقا لهذه النبوءة، فقد انتهت الرواية بمجرد تحقق مطلب عودة حكاية زمردة إلى متن ألف ليلة وليلة.
يعتبر حضور حكاية "ألف ليلة وليلة" في الرواية تأكيدا على ذلك الملمح الفلسفي للحكاية الذي تسعى الرواية إلى إثباته، فالحكاية كانت تميمة شهرزاد ضد الموت، وبها امتلكت الحياة ودفعت الموت عنها وعن بنات جنسها، وأصبحت الحكاية أيقونة المرأة وعنوان وجودها ومعيار تحقق كينونتها، وقد جعلت عز الدين الشخصيات الرئيسية في الرواية نساء، وكانت امرأة كل تبحث عن تمام حكاية ستؤدي إلى خلاصها، وانعتاقها من إسار عالمها، تماما مثلما كانت الحكاية خلاص شهرزاد، فنورسين تريد أن طريقا للخلاص من أسرها الذي وضعها فيه الملك ياقوت عندما اختطفها من بلدتها وطار بها على ظهر العنقاء إلى جبل الزمرد المحروس الذي لا يخرج منه أحد ولا يدخله، وسيكون ذلك البحث سببا في اختفائها، وابنتها زمردة تبحث عنها وتريد أن تجد وسيلة لاستعادتها، لذلك كان علاقتها بلوقيا وسيلة لامتلاك جانب من المعرفة استخدمته لقتل الحية العظيمة الحارسة للجبل، ومروج تبحث عن حقيقة النبوءة التي تتحدث عن انفجار مدمر للجبل ستتسبب فيه ابنة الملك، لكنهن يتجاوزن حد البحث عن المعرفة واستكمال الحكاية إلى إرادة استخدام تلك المعرفة في تغيير قوانين الكون، وهنا يكون بحثهن مدمر لهن كلهن، فينتهين نهايات مأساوية، بينما تحقق حلم بستان البحر فاستكملت الحكاية دون انعاكسات مأساوية، وذلك لأنها لم ترد أكثر من ترميم الحكاية، ولم تسع إلى التحكم في قوانين الكون، هل معنى ذلك أن وظيفة المرأة هي وظيفة معرفية جمالية (الحكي معرفة وفن)، وليست وظيفة تحكمية سلطوية؟ ربما.
ذكرنا في ما سبق أن رواية "جبل الزمرد" لا تقرأ بوصفها رواية أدبية عادية، فلن يجد القارئ العادي ما يشوقه للقراءة حتى النهاية، فالأحداث لا تسير في شكل تصاعدي، بل تتوزع أفقيا في شكل حكايات متوازية، وذلك يشتت ذهن القارئ ويصيبه بالملل، فهل يركز على حكاية بستان البحر أو هدير أو نورسين أو زمردة بلوقيا أو العملاق أو مروج، وأين هو الخيط الذي يربط له كل ذلك؟، قد نقبل في مستوى التحليل الفلسفي أن هناك ترابطا دلاليا بين مجموع تلك القصص، لكنّ القارئ العادي ينتظر من الكاتب "حكاية مترابطة" وأحداثا منطقية يسلم بعضها إلى بعض في وتيرة متصاعدة حتى النهاية، فالروية فن الحدث قبل أن تكون فن الفكرة، وهي انتقال من حدث إلى دلالة وليس العكس، وكثيرا ما تقع الرواية في معضلة عندما يصنع الكاتب في ذهنه فكرة فلسفية ويجلس ليفصل لها قالبا حكائيا على قدّها، لأن تدخل المنطق سيفسد الحكاية، ويقلم أجزاءها ويعيد تفصيلها على مقاسات الأفكار التي يحملها المؤلف في ذهنه، فتبدو مشتتة مبعثرة، والعبرة في الرواية ليس ما تقدمه من أفكار فلسفية منطقية، لكنها في المنظور النهائي الذي يقربنا من فهم ذواتنا، وتحقيق إنسانيتنا التي هي في جوهرها انحياز إلى الخير وبعد عن الشر.
من المؤشرات البينة الدلالة على أسبقية الرؤية الفلسفية على الحكاية في هذه الرواية على الحكاية وضع شخصية "هدير"، فقد بدت "سلبية" بشكل كامل، فهي لا تثير أية مشاعر لدى القارئ، لا إيجابية ولا سلبية، وسوف يخرج كل من قرأ الرواية بموقف محايد منها، وهذا يعني أنها لم تأخذ بعدا إنسانيا يثير الحب أو الكراهية أو الشفقة أو التجاذب بين مشاعر متعددة، وإنما ظلت تمثيلا لفكرة "الوسيط" الذي هو أداة لاختراق العوالم، آية ذلك أن الرواية أغفلت ذكرها بعد أن خضعت لجسلة التجلي التي سترحل فيها بتأثير من تعويذات بستان البحر إلى عالم زمردة وتتكشف لها خلال الرحلة تفاصيل حياة تلك الأميرة، فقد غابت هدير تماما كأنها كانت مجرد محطة معراج لبستان البحر إلى الحقيقة، وهذه الهيئة التي بدت بها هدير لم تكن متوقعة، فكل المؤشرات تدل على أنها بطلة رئيسية في القصة، وهي الشخصية البشرية الوحيدة المتحققة في الرواية إذا ما استثنينا الشخصيات الثانوية مثل كريم والجدة شيرويت، واستثنينا بستان البحر التي تمتلك قدرات سحرية فوق قدرات البشر، وهذا الوجود البشري الخالص بضعفه وقواه المحدودة هو في القصص الخرافية والقصص ذات الأبعاد الفنتازية موضع للتعاطف الدائم من طرف القارئ الذي يرى فيه ضعفه الوجودي، ويتمنى أن يراه ينتصر في صراعه مع القوى الخارقة، وقد كانت سلبية هدير في الرواية محبِطة من هذه الناحية، لأنها لم تدخل في صراع مع تلك القوى، وقد كانت مؤهلة لذلك منذ صغرها، لكنّ تفكير الكاتبة كان منصبا على شيء آخر، لذلك أغفلت هذا الجانب.
لقد قدمت منصورة عز الدين طرحا فلسفيا محكما حول موضوع الحكاية والإنسان أو الحكاية والمرأة على الأصح، لكنها حرمت قارئها متعة الحكاية.

 محمد ولد محمد سالم
مجلة الرافد 

"شوق الدرويش" علاقة حب باهتة وأسئلة مستعصية


تقدم رواية "شوق الدرويش" للكاتب السوداني حمور زيادة التي دخلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2015 حكاية الشاب السوداني بخيت منديل مع الفتاة المصرية من أصول يونانية ثيودورا أثناء حكم المهدية في السودان.
بخيت زنجي اختطفه النخاسون صغيرا وباعوه عبدا لأوروبي مقيم في الخرطوم، وبعد سنوات يجد حريته وتضطره المجاعة إلى اللحاق بجيش المهدي الذي غزا مصر، وهناك يقع في الأسر والعبودية مرة أخرى، لكنه لا يلبث أن يتحرر ويعود إلى السودان، ليتعرف على ثيودورا أو حواء كما صار اسمها بعد الأسر، وهي راهبة شابة جاءت إلى السودان لتعمل مدرّسة في إحدى مدارس التنصير في الخرطوم أيام الحكم العثماني المصري أواخر القرن التاسع عشر، ولما استولى جيش المهدي على الخرطوم سنة 1885 أسرت ثيودورا، وأخذت إلى أم درمان، ووقعت في نصيب أحد الأعيان من أنصار المهدي، سلبه جمالها الفاتن وأرادها لمتعته، لكنّها لم تمنّعت عليه، فتركها لخدمة زوجته، حتى توفيت زوجته فأصبحت هي مدبرة المنزل، وأثناء ذلك تعرفت على بخيت، وكان أفطس الأنف أجعد الشعر خشن الملامح، يعمل بالأجر في مختلف الأعمال اليدوية، فكانت تلقاه في السوق وتجالسه عند بسطة أحد أصدقائه، وقد أعجبتْ به، وأُغْرِم بها.
لكنّ ثيودورا تاقت إلى مصر وتدبرت حيلة للهرب، إلا أن مهربيها خانوها، وسلموها إلى رجال سيدها، وحملت إلى منزله وضرتب حتى ماتت، وفقد بخيت صوابه حين علم بموتها، وأصبح مخبولا يمشي في الشوارع سكران، وقد أمسك به جنود المهدي على تلك الحالة، فأخذوه إلى السجن، ليؤدي عقوبة تعزيرية، لكنّ الإهمال واللامبالات السائدة في السجن جعلته يقضّي فيه سبع سنوات شهد فيها أنواع العذاب والإهانة ما وضعه على شفا الموت مرات عديدة، ثم خرج أثناء الفوضى التي أصابت الخرطوم بعد استيلاء الجيوش المصرية البريطانية عليها، وبعد خروجه يبدأ بخيت في قتل الرجال الذين قتلوا ثيودورا واحدا واحدا، ويقع في الأسر وقد قتل منهم ستة وبقي واحد، لم يتمكن من الوصول إليه.
يمتاز حمور زيادة بأسلوب سلس متدفق، أصيل العبارة بعيد عن التكلف والتعقيد، وفي مجال السرد، فهو حكّاء راسخ لا ترهقه التفاصيل الدقيقة، ولا تغيب عنه شواهد الأماكن وملامح البشر وعلائم الزمان، وتلك كلها ميزات جيدة لكاتب محترف، وقد استطاع عبر روايته أن يرسم بدقة ملامح السودان في فترة عصيبة من فتراتها، شهدت فيها اضطرابات ومجاعات وعنف دموي مُبيد، وكل ذلك يجعل روايته من أوفر الروايات المترشحة لهذه الجائزة حظا، ومن أجدرها بها، لكنّ الرواية لا تخلو من عدة مشاكل، فعلى مستوى البناء الفني، نجد أن الكاتب قد أكثر من عملية الاسترجاع (الفلاش باك) مما يسبب تشويشا يجعل القارئ في بعض الأحيان لا يتبين هل هو أمام لحظة حاضرة أم لحظة ماضية، فتصعب عليه إعادة بناء الأحداث، ففي الفصل 5 يبدأ الفصل باسترجاع لحياة السجن، ثم فجأة يقفز إلى أحداث حياة بخيت الحاضرة أثناء عمله في السُّخْرَة، ودون أن نجد ما يوضح ذلك الانتقال، وكأن حوادث السخرة تلك وقعت أثناء السجن، وربما تكون هيمنة الراوي العليم على كل مفاصل السرد، وغياب صوت الشخصية هو ما سبب ذلك، لأن الاسترجاع في الغالب يكون عن طريق ضمير المتكلم، والصوت الداخلي للشخصية، وهي تستعرض في ذهنها ماضي حياتها، ويحتاج تعدد الأزمنة إلى تعدد الأصوات، وتعدد تقنيات السرد، لكي تكون لدى الكاتب مرونة في التنقل، فعن طريق الذاكرة مثلا تستطيع الشخصية أن تقفز من الحدث الحاضر إلى أحداث ماضية، لكنّ الرواي العليم الذي يروى عن الشخصيات لا يستطيع ذلك،.
من المشكلات الفنية أيضا اشتمال الرواية على حكاية طويلة امتدت على عشرات الصفحات هي حكاية للدرويش الحسن الجريفاوي، وهو شخصية ثانوية لا يرد له دور في الأحداث الفعلية إلا في اللحظات الأخيرة عندما أمسك هو ورجاله ببخيت واقتادوه مكبلا بالأغلال إلى المسلمية ليشنق فيها، وذلك بعد أن قتل بخيت سيده التاجر إبراهيم ود الشواك، فتلك الحكاية الطويلة عن حياة الجريفاوي وعبادته ودروشته، ثم نهضته في الجهاد لا علاقة لها بمتن رواية بخيت وثيودورا، ويمكن حذفها دون أن تترك أي خلل في الرواية، والعجيب أن تسمية العنوان "شوق الدرويش" مستوحى من حكاية الجريفاوي لأن بخيت لم يتدروش، ودخوله الجندية لفترة قصيرة كان فرارا من المجاعة.
على مستوى المنظور الفكري إذا تجاوزنا حيلة التشويق التي وضعنا فيها الكاتب في البداية، والتي لم يلبث أن حلها حين عرفنا أن بخيت قتل غرماءه، إذا تجاوزنا ذلك فإن الرواية تبدو عادية خالية من أية دهشة، أو منظور فكري واضح، وهي في الأصل قائمة على علاقة حب غير منطقية بين عبد - قبيح كما تصفه الرواية – وفتاة بيضاء بارعة الجمال، تمنّعت على سيدها الثري وابنه، ولم يكن بخيت منديل نصرانيا فيكون ميلها إليه وسط أمة من المسلمين مبررا، ولم تكن تريده أن يهرّبها ويخلصها من عبوديتها فيكون ذلك معقولا، ولم يكن واقعا في العبودية حين التقته فيكون ميلها إليه من باب الاشتراك في الهم، وكان بيت سيدها مليئا بالعبيد الذين قد يكونون أحسن منه طلعة، وحتى إن سلمنا بامكانية علاقة الحب تلك فإننا نجد أنها ظلت باهتة متوقفة في نقطة واحدة، ولم تتحرك إلا عندما أراد بخيت الانتقام لثيودورا، فحبهما لم تعانده قوة تقف في وجهه، وتصارعه وتعطيهما فرصة الكفاح من أجله، وبالتالي بعده الإنساني العميق، وليس أدل على ذلك من كون ثيودورا لم تمت من أجل الحب، بل ماتت وهي تحاول الهرب إلى مصر، وبخيت لم يقتل الرجال الستة لأنهم ظلموه ووقفوا في وجه حبه، بل لأن حظهم السيء جعلهم يشاركون في قتل ثيودورا، وهذا يسلب فعل بخيت بعده الإنساني ويحوله إلى مجرد عملية انتقام دامية.

إذا عدنا إلى الفترة السياسية التي اختارها حمور زيادة لروايته، وهي فترة روائية خصبة على عدة مستويات، فهناك صراع سياسي عسكري بين أطراف متعددة للصراع، هي الأتراك والإنجليز والمصريون وحركة المهدي، وهناك صراع إيماني بين الدروشة وحياة الإنسان العادي، وصراع ديني بين المسيحية والإسلام ، وهناك صراع من أجل لقمة العيش في زمن اجتاحت فيه السودان مجاعة مرعبة، وقد حاول زيادة رصد كل ذلك، ونجح في جوانب كثيرة منه، لكن اتخاذه لتلك الصراعات كلها كخلفية لحدث الحب بين بخيت وثيودورا قلل من التركيز على تلك الصراعات، ومن دورها في الأحداث، وجعل رؤية الكاتب لها مشوشة، فهو يقدم صورة ناصعة للدرويش حسن الجريفاوي، في نفس الوقت الذي ينظر فيه إلى ضابط الاستعمار الإنجليزي غوردون باشا الذي كان حاكما للخرطوم وقتله جيش المهدي على أنه "حاول نشر الأمل في مدينة (الخرطوم) يخنقها اليأس"، هذا التذبذب حاصل أيضا في حياة ثيودورا نفسها، فهي جاءت لتُنَصّر أبناء السودان، فأمسك بها رجال المهدي وأرغموها على الإسلام، فسعيها لم يكن برئيا في البداية لكي تثير تعاطف القارئ في ما آلت إليه في النهاية، والأمثلة على هذا الاضطراب والتذبذب كثيرة في الرواية، وربما كان تركيز الكاتب على علاقة الحب الباهتة وسيلة للخروج من تلك الأسئلة المستعصية التي رمى بنفسه فيها من غير أن يكون قد عرف كيف سيخرج منها.

محمد ولد محمد سالم
مجلة الرافد 213 ، مايو 2015

“طابق 99” . . خفة الماضي

أفق
تاريخ النشر: 10/03/2015
تواصل جنى الحسن في روايتها الجديدة "طابق 99" التقنية السردية نفسها التي بدأتها في روايتها الأولى "أنا وهي والأخريات" والقائمة على استنطاق الشخصيات بالدخول إلى أذهانها وتوليد الأفكار في داخلها، عبر بوح ينثر شعاب الأدمغة، وينشر طويات الأنفس، باحتراف ولغة سلسة سهلة .
في "طابق 99" التي وصلت إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية ،2015 تقدم الحسن حكاية الشاب الفلسطيني مجد الذي يعمل في شركة لبرمجة ألعاب الكمبيوتر في نيويورك، وهيلدا الشابة اللبنانية التي تدرس فن الباليه .
منذ أن جاء مجد إلى نيويورك في سن المراهقة مع والده، وهو يحاول أن ينسى حياته السابقة في مخيم صبرا وشاتيلا، ومشاهد الإبادة التي حاقت بذلك المخيم، وقد ذهبت أمه ضحيتها، وأصيب هو فيها بجروح تركت عرجاً في إحدى رجليه وندبة سوداء في جبهته، وسعى إلى أن يعيش لحظته، ويقطع صلته مع ماضيه، خصوصاً بعد أن مات والده، لكنّ ظهور هيلدا في حياته، جعله يسترجع ذلك الماضي، خاصة أن هيلدا تنتمي أسرتها إلى فصيل كان وراء مذبحة صبرا وشاتيلا .
لقد كان وجود هيلدا في نيويورك محاولة للفرار من مجتمعها، وقيود مكانتها الاجتماعية كبنت لأسرة ثرية مرموقة، وكان احتراف فن الباليه وسيلتها إلى التحرر من تلك القيود، وقد أعادتها علاقتها مع مجد إلى ذاكرتها بعد سبع سنوات من الغربة ومحاولة نسيانها، فقررت فجأة العودة إلى لبنان، وإلى ضيعة أهلها، لتقيس درجة علاقتها بذلك المكان، ولا يستوعب مجد ذلك القرار المفاجئ، لكنه يتركها تذهب .
تدخل الرواية في تناوب حكائي بين يوميات مجد في مكتبه في الطابق 99 من إحدى عمارات نيويورك، وتفكيره حول علاقته بهيلدا وإمكانية استمرارها، ويوميات هيلدا في لبنان وعلاقتها المضطربة بأبيها، ومعارضتها لسلطته وقيم حياته، إلى أن تقرر أنه يستحيل عليها العيش مع تلك الحياة، فتحزم أمتعتها عائدة إلى نيويورك .
رغم الاحترافية التي تكتب بها جنى الحسن فإن روايتها "الطابق 99" تبدو سطحية وربما يكون سبب ذلك أنها اختارت شخصيتين هاربتين من ماضيهما، وقد عملت كل منهما على قطع الصلة به، والانخراط في مجتمع آخر مختلف تماماً، فلم يكن لقاؤهما لقاء عدوين تاريخيين يحمل كل منهما ماضيه، ما يسمح بصراع وتطور يعمق الأحداث، ويثير الدهشة، ويمكن أن يوصل إلى نتيجة، بل كان لقاء اللحظة الحاضرة المكتملة الخالية من المشاكل المنفصلة عن التاريخ، ولئن كانت عودة هيلدا المفاجئة محاولة لإبراء الذمة من علاقتها بماضيها، حتى تستطيع أن تعيش حاضرها بشكل نهائي، فإنهاء علاقتها بمجد، جاءت متحققة عن الإرث التاريخي، وهذا واضح في كون الرواية انتهت عند قرار العودة .
والسؤال الذي يمكن طرحه على الكاتبة، هو: هل ينبغي أن نتخلص من ماضينا وهوياتنا، ونعيش في مجتمع غربي لكي نقيم تصالحاً بين ذواتنا؟ ألا يمكن أن نخلق على أرضنا وفي عمق مجتمعاتنا أسباباً للتصالح والتعايش؟
محمد ولد محمد سالم
dah_tah@yahoo.fr
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/c17b8926-5fc4-46f5-8e0c-68c7c9942901#sthash.6hXDYeQh.dpuf

هيمنة السياسي في “الطلياني”

أفق
تاريخ النشر: 02/03/2015
يقدم شكري المبخوت في روايته "الطلياني" التي وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية ،2015 جردة سياسية لواقع تونس في أواخر حكم بورقيبة، وبداية حكم زين العابدين بن علي وأشكال الصراع التي كانت قائمة بين التيارات السياسية والفكرية آنذاك .
تدور حكاية "الطلياني" حول حياة الشاب عبدالناصر الذي يلقب بالطلياني نتيجة لملامح وجهه التي تشبه ملامح الإيطاليين، رغم أن لا صلة بينه وبينهم، فهو ولد وتربى في أسرة محافظة متوسطة الحال في أحد أحياء تونس، وتعود بنا الرواية إلى بداية انخراط عبد الناصر في الحياة السياسية بعيد دخوله الجامعة لدراسة الحقوق سنة ،1980 واختياره التيار اليساري للنضال من خلاله، وفي الجامعة تبرز قدراته القيادية، فيصبح محل ثقة من فصيله السياسي، ويختار لتمثيل الطلاب في الجامعة، ويرتبط في هذه الفترة بعلاقة حب مع إحدى مناضلات الحركة الأكثر حضوراً ونباهة في الساحة الطلابية "زينة" التي تدرس الآداب، لكنّ الطلياني بعد أن دخل إلى دهاليز حركته السياسية ورأى كيف تجري الأمور، وعاين وسائل العنف التي تستعملها، لم يرض عن ذلك، واكتشفت الحركة ميوله تلك فجردته من مسؤولياته النقابية، وأصبح منبوذاً، ولما أراد أن يعمل خارجها، اعتدى عليه بعض عناصرها وهددوه بالقتل .
تخرج عبد الناصر في الجامعة وبقي عاطلاً عن العمل يعيش على مصروف زهيد يبعث به إليه أخوه المهاجر إلى سويسرا، وفي هذه الأثناء تخرجت زينة وعملت مدرسة للفلسفة، وتشهد حياة الطلياني تطوراً مهماً حين يدخل إلى إحدى صحف الجمهورية ويبدأ العمل فيها، وذلك في آخر أيام بورقيبة، ليصعد نجمه الصحفي ويصبح مسؤولاً عن الملحق الثقافي فيها، مشبعاً بذلك ميوله الأدبية والكتابية، ولكنه يصدم بكم الرقابة والكبت المفروض على الصحفيين، وفي هذه الأثناء تضطرب علاقته بزينة الطامحة إلى متابعة دراساتها العليا في الخارج، والرافضة للزواج وإنجاب الأطفال، وينعكس كل ذلك على شخصيته فينتهي إلى حياة ضائعة .
أفلح شكري المبخوت في روايته في الاستقصاء الواسع للخريطة السياسية وصراعاتها في تونس في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ورسم أوجه الفساد والقهر والظلم التي كانت سائدة، لكنّ المبخوت سقط في أهم مزلق من مزالق الرواية السياسية وهو الانشغال بتتبع تفاصيل المشهد السياسي ورهاناته ودسائسه وخلافاته، على حساب المشهد الإنساني المتعلق بالإنسان وتجربته الخاصة، فعلى مدى صفحات الرواية البالغة 342 صفحة لم يحضر الطلياني وزينة وغيرهما من الشخصيات إلا في جوانبهم السياسية والفكرية، وتضيق الرواية بحوارات ونقاشات سياسية وفكرية مطولة مملة بينهما، أو بين غيرهما، وهي نقاشات لا تعني للقارئ شيئاً وربما لا يفهمها، فما يهم القارئ هو التجارب الإنسانية للأفراد وانعكاس الوجود والحياة على مشاعرهم وعلاقاتهم وتفاصيل حياتهم اليومية .

محمد ولد محمد سالم

dah_tah@yahoo.f
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/76fb4273-4ac0-4d1c-9830-53e3476714b7#sthash.ceOGmdpm.dpuf

حياة “ليست” معلقة



تاريخ النشر: 10/04/2015







نجح عاطف أبوسيف في روايته "حياة معلقة" التي دخلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية ،2015 في أن يرينا أن حياة سكان غزة ليست معلقة، فهم يعيشون الحياة بكل تفاصيلها وطموحها وإحباطاتها، منهمكون في أحوالهم كبقية سكان المدن العربية، وما لم ينجح فيه أنه قدم لنا الحالة الاستثنائية لهذه المدينة التي لا تشبهها مدينة، حيث الحصار الدائم الذي يجعلها بحق سجناً كبيراً، وحالة التهديد الدائم بالقصف والتدمير التي ينشرها عدو يوجه أسلحته إليها ويحكم القبضة على الزناد .
أراد أبوسيف أن يوحي إلينا أن حياة أهل غزة، هي حياة معلقة، لكنه أخطأ حين فصلها عن السبب الأول في هذا التعليق وهو الحصار على المعابر، والحصار على البحر وعلى حدود ذلك الشريط، فقدم حياة أناس عاديين منهمكين في شؤون حياتهم اليومية، تتقدم حياتهم وتتطور كغيرهم من الناس، فمنهم الذي سافر ونجح كسليم بطل الرواية، وآخرون كثر ترد أسماؤهم في الرواية، ومنهم من بقي ونجح مثل ياسر ويافا وأبناء المختار وغيرهم، ومنهم من يتوق إلى الخروج بحثاً عن فرصة أفضل في الغرب أو الخليج، وربما أحس الكاتب بهذا النقص في توصيف حالة سكان غزة، فلجأ إلى العودة للوراء، إلى النكبة والنكسة وجذور الأزمة الفلسطينية متابعاً تاريخ شخصيات الرواية وآبائهم، لكنه بذلك حول روايته إلى نُثار من السير المنفصلة التي لا تربطها إلا روابط واهية .
لا تقدم "حياة معلقة" قصة متنامية تُنسج حولها العلاقات، وتدور في فلكها الشخصيات، فهي تبدأ بمقتل نعيم والد سليم برصاص قناص "إسرائيلي"، وكان نعيم منهمكا في فتح أبواب مطبعته في المخيم الكائن على الحدود، وتسرد سيرة حياته ونزوح أهله من يافا وتشتتهم، وإقامته للمطبعة التي أصبحت مع الوقت ذات دور مهم في حياة الناس، ثم تنتقل الرواية إلى حياة ابنه سليم الذي جاء إلى غزة لحضور جنازة والده، قادماً من سويسرا التي حصل فيها على الدكتوراه والجنسية وعمل في مركز أبحاث كبير، وفي غزة التي لم يكن يطيق البقاء فيها، يقرر البقاء من دون عمل تاركاً عمله ووضعه الذي ظل طيلة حياته السابقة يحلم به، وذلك لسبب واه، وهو حزنه على تركه لأبيه وحيداً، وغيابه عنه لسنوات طويلة حتى توفي، وفي الرواية متابعات لحيوات شخصيات كثيرة أخرى لها علاقة بسليم مثل يافا ونتالي ونصر ونيفين وخالد وخميس والمختار والحاج، وغيرهم، وهي متابعة مملة لأنها لا تقوم على ارتباط عميق بحدث واحد أو حكاية جامعة لكل ذلك الشتات .
رواية المدينة أو القرية أو الحي، وما يطلق عليه رواية المكان، عموماً، هي رواية حدث أو أزمة تنسحب على السكان جميعاً وتصيب مصائرهم، وترصد ردود فعلهم، ومشاعرهم تحت ضغط تلك الأزمة، وهذا ما غاب عن رواية أبي سيف فضاع نصه في تفاصيل لا معنى لها، ولا تقدم شيئاً استثنائياً يمكن أن يجعل منها رواية جيدة.

dah_tah@yahoo.fr
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/8ff97dd2-cdf5-476f-bdad-ebe0326e43b5#sthash.RPBckl96.dpuf