الكتب الأدبية المورتيانية قليلة جدا،
والروائية منها أقل، وأسباب ذلك يطول شرحها، ويعتبر صدور أية رواية جديدة لكاتب
موريتاني مناسبة جديرة بالاحتفاء بها، في ظل ذلك الجدب المزمن في ساحة أدبية جفاها
مطر الإبداع بسبب غياب تام لكل أنواع الدعم التي يمكن أن تشجع الكتاب على الإنتاج،
وانسداد أفق النشر، مما يجعل التفكير في الكتابة نفسها هو استدعاء لأسباب الإحباط
والنكد، وكأني بذلك الكاتب يناجي نفسه قائلا: "ما دمت لن أجد وسيلة للنشر،
فلماذا أضيع وقتي وجهدي في الكتابة؟، إن ذلك لهو العبث عينه"!.
رغم هذا الأفق المسدود فيمكن القول إن
الرواية في موريتانيا، على شح المنشور منها وتباعد تواريخ نشره، قطعت شوطا كبيرا
في السنوات الأخيرة، وتجاوزت مرحلة التأسيس التي بدأتها مع روايات مثل القبر
المجهول والأسماء المتغيرة وأحمد الوادي والحب المستحيل ومدينة الرياح، وغيرها من
الروايات التي ظهرت في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، ومثلت مرحلة الريادة والتأسيس،
واليوم ها هي الرواية تدشن مرحلة الصوت الخصوصي والبحث عن الإبداع عبر تجارب
روائية بدأت تلفت الانتباه إليها، وتضع أسسا لتقاليد روائية موريتانية، نأمل أن
ترتفع بالسرد الموريتاني إلى المكانة التي تليق به من السرد العربي، فهو سليل تراث
أدبي عريق، لم تنقطع سلسلته منذ قرون، وقد ظل على مر الأزمان يرفد الثقافة العربية
بالشعراء والمؤلفين والعلماء الأفذاذ الذين كان لهم أثرهم حيثما حلوا.
يمكن تصنيف رواية "منينة بلانشيه"
للكاتب محمد ولد أمين أنها واحدة الروايات التي تدشن هذه المرحلة الجديدة، مرحلة
البحث عن الخصوصية والارتقاء إلى مرتبة الإبداع، فهذه الرواية رغم أنها الأولى
لكاتبها إلا أنها تجاوزت كثيرا من عثرات البدايات، واستفادت من الكتابات الصحفية
السابقة لمؤلفها، وهو ناثر متمرس ممتاز، يتمتع بأسلوب عربي سلس أصيل محكم – وهذه
إحدى المؤهلات التلقائية لأغلب الكتاب الموريتانيين التي يرفدهم بها ذلك الإرث
الأدبي الذي أشرنا إليه -، كما أن البناء الروائي عنده محكم متوازن يسير في خط
متصاعد نحو النهاية، وهذه ميزة قلما تتوفر لكثير من الروائيين المعاصرين، فكثيرا
ما تأخذهم "بنيات الطريق" في السرد، فتتعرج بهم في مسارات شتى.
يسعى جوزيف ابلانشيه ( أو أحمد ولد خيبوزي)
إلى معرفة تفاصيل حياة أمه "منينه بنت المختار الأعيور" التي ماتت هي
ووالده القانوني "باتريك بلانشيه" في حادث تحطم طائرة، وتركاه وراءهم،
وهو لم يكمل عامه الثالث، في عهدة السالك ولد خيبوزي الذي ادعى أنه هو والده الحقيقي،
وأراد الاستحواذ على إرثه من أمه، لولا تدخل السفارة الفرنسية التي اعتبرته مواطنا
جوزيف فرنسيا رغم أنها تركته في عهدة ولد خيبوزي، وكان جوزيف منذ صغره يسمع من أهل
خيبوزي الكثير من الشتم والقدح في عرض والدته التي يعتبرونها كافرة عاهرة وهبت
نفسها لنصراني كافر هو باتريك بلانشيه الذي كان القائد الاستعماري لقلعة نواكشوط
قبيل وبعد الحرب العالمية الثانية.
يعيش جوزيف متنازع الانتماء بين مجتمع
مورتياني لا يتقبله باعتباره ابنا مطعونا في نسبه، أو على أفضل الحالات، ابنا
لنصراني وعاهرة، فلا أحد سيقربه، ولا بنتا من بنات المجتمع ستقبل الزواج منه، وبين
وطن فرنسي لا يعرفه، ولا تميل نفسه إليه، وبسبب عقدة الانتماء يفشل في الدراسة،
وفي مشاريعه التجارية، ويفقد الطموح فيعيش عاطلا عازبا حتى سن الخمسين، وتتولد
لديه نقمة شديدة على ذلك المجتمع الذي لفظه بعيدا، ورغبة شديدة في معرفة حقيقة
أمه، وما ألصق بها من تهم اعتقد دائما أنها تهم كاذبة منافقة، لكنه لا يجد أي
وسيلة لمعرفة ذلك لأن منينة كانت مقطوعة النسب، فوالدها قاطع طريق مات في سجن
الاستعمار، وقبيلته التي كان يتزعمها تشردت ومزقت وطردت بعيدا في بوادي تامشكط،
وقد رحلت منينة الفتاة الصغيرة إلى نواكشوط في ذلك الزمن البعيد المعدوم
المواصلات، وانقطعت علاقتها بأمها ومن تبقى من أسرتها.
لا يعاني جوزيف من أية مشاكل مادية، فأموال
الميراث تكفيه للعيش بترف حتى آخر عمره، لذلك يتنقل سائحا بين فرنسا وبلجيكا
وموريتانيا، وفي بلجيكا سوف يقنعه أخصائي نفسي بالخضوع لتجربة صوم علاجية تحت
إشرافه، من شأنها أن تجعله يرتحل عبر الزمن ليشاهد مسيرة حياة والدته، فيقبل
بالتجربة وتترآى له تفاصيل حياته أمه منذ بداية عملها خادمة في قلعة الإدارة
الفرنسية في تامشكط حيث كان أبوها سجينا، مرورا بسفرها إلى نواكشوط وزواجها من
قائد قلعته، ثم حملها به من ولد خيبوزي الذي أجره باتريك للقيام بذلك، وأخيرا
الانفجار الذي أودى بحياتها.
بالموازاة مع ذلك يروي جوزيف تفاصيل أيامه في
العلاج، حيث تنشأ بينه وبين مساعدة طبيبه علاقة حب، وتقبل أن تسافر معه إلى
نواكشوط لتعيش معه، وهناك يقرر مقاضاة الحكومة الموريتانية لاسترجاع الممتلكات
العقارية لأمه والتي من ضمنها المساحة التي يقوم عليها مبنى رئاسة الجمهورية،
ويستفيد من تلك المحاكمة التي اتخذت طابعا سياسيا في لفت الانتباه إليه واكتساب
اعتراف اجتماعي ظل طيلة حياته محروما منه.
كما قلنا سابقا فإن البناء الروائي محكم
ومسترسل لا تعريجات فيه، وقد أفلح الكاتب في تصوير أزمة الانتماء في ذلك المجمتمع
الذي تحكمه أعراف قبلية راسخة، وهذا يعد في حد ذاته نجاحا كبيرا، لكن رغم ذلك فإن
هنالك ملاحظات يمكن إبداؤها على هذه الرواية، وأولها وأهمها هي أن منينة الشخصية الرئيسية
في الرواية، بدت وكأنها بطلة أسطورية، ولم تأخذ طابع شخصية واقعية كما كان يفترض،
فرغم وعورة المسار الذي سلكته في حياتها وخطورته، وما كان يمكن أن يجره عليها من
المآسي فإنها لم تصب بأي أذى طيلة الرواية، وظلت كل الظروف تتهيأ لها، وتمهد لها
طريق النجاح، كأنها لم تعش بين ضباط استعماريين متغطرسين يمتلكون مطلق السلطة لفعل
أي شيء يريدونه، وجنود متوحشين وكانت جميلة بشكل فاتن لا يمكن مقاومته، وكأنها لم
تسافر وحيدة سفرا قاسيا عبر فلوات شاسعة، وبين شعوب ومدن لا تعرفها، مما يجعلها
عرضة لأبشع أنواع الاستغلال والاعتداء، لكنها نجت من كل ذلك وظلت نقية طاهرة،
وانتهت إلى الزواج، وجمعت أموالا طائلة في بشكل أسطوري.
هذا الوضع أفقد منينه الإقناعية اللازمة،
وجعلها شخصية روائية سلبية، لا تثير عند القارئ تعاطفا إيجابيا أو سلبيا، ويبدو أن
وجهة نظر الكاتب وما يريد أن يقوله هو ما كان يتحكم في شخصية منينة ويحد من قدرتها
على أن تأخذ بعدها الإنساني بعمق، فقد أراد ولد أمين أن يقدم منينة على أنها امرأة
طاهرة بريئة، لكنّه وضعها في مسار يصعب معه أن تكون كذلك، وأرغمها على اختيار
يعتبر انتحارا أخلاقيا بمعيار المجتمع في ذلك الوقت، لذلك أن احتاج إلى أن يمهد
لها الظروف بطرق الصدف والمجانية التي لا تستطيع أن تقنع القارئ، ولو أن منينة
ظهرت بمظهر الفتاة المتمردة الثائرة على مجتمعها، لأمكن أن نجد لها العذر في
الارتماء في أحضان المستعمر والاحتماء به والحياة على طريقته، لكنها لم تبد كذلك،
ولم تحمل على طول الرواية أية فكرة عن الخير أوالشر، ويأتي قبول البطلة بتأجير ولد
خيبوزي لتحمل منه ليناقض مظهر منينة البريئة المتدينة، ويعصف بوجهة نظر الكاتب
التي يسعى لإقرارها، مما يؤكد كونها شخصية هلامية بلا ملامح إنسانية، وقد أضعفت
وضع البطلة ذاك الرواية، وقلل من قدرتها الإقناعية، على الأقل في الفصول المكتوبة
عنها، بينما بدت معاناة جوزيف وتفاصيل حياته أكثر جاذبية وتأثيرا، لأنه أخذ أبعاده
كشخصية واقعية تعيش الحياة بحلوها ومرها، ولم يظلّ فكرة في ذهن الكاتب.
سَعْيُ ولد أمين لإظهار منينة في ثوب الفتاة
الطاهرة البريئة انعكس سلبا على صورة المجتمع في الرواية، فمنذ البداية ظهر
المجتمع الموريتاني مجموعة من المشردين المنافقين الجبناء الغادرين المتكبرين بشكل
فاضح، تماما، كما تصفهم مذكرات ووثائق الضباط والإداريين الاستعماريين العنصريين،
ولم يُسْتثن من ذلك أحد من شخصيات الرواية، حتى الشيخ العابد المتبتل الذي نزلت
منينه عنده يظهر تواطؤه منذ البداية عندما يقول لها مشيرا إلى الضابط الفرنسي
"النصراني": "من كان يريدك فليأت إليك"، وهي جملة شاذة في
سياق مجتمع عرف عامته بالبراء من المستعمرين "النصارى"، ومقاطعتهم،
وتكفير كل من يتعامل معهم، وشأن خاصته في ذلك أشد، فكيف بهذا الرجل الذي هو من
الخواص أن يصدر منه ذلك، وكأنه يتمنى أن يأتي ذلك "النصراني الكافر"
طالبا يد منينه، ولن يقف الأمر عند ذلك الحد، بل سوف يسهل ذلك الشيخ التقي لمنينه
الزواج بالضابط، ويسخّر خلواته التعبدية للدعاء لهما وتحصينهما من الشرور.
في مقابل صورة المجتمع تلك ظهر الضابط
الاستعماري في الرواية بمظهر البطل المنقذ الذي يحمي منينة ويؤويها ويدافع عنها
بنخوة وشرف، أو الذي يهيم بجمالها ويتلفظ بالشهادتين لكي يتزوجها، وهذا الوضع غريب
ويطرح تساؤلات حول أهداف الكاتب منه، وكيف يقبل على نفسه أن يفضل مستعمرا ظالما
سفاكا للدماء على مجتمع مستضعف وجد نفسه فجأة نهبا لنيران أسلحة فتاكة لا يملك لها
دفعا، وأصبح يقتاد إلى المقاصل والمشانق والسجون ذليلا، وتغتصب بناته جهارا نهارا،
وتسلب ماشيته على أعينه، فمهما يكن سوء المجتمع ونفاقه في إظهار القيم والتحلل
منها في الوقت ذاته، فإنه لا يبلغ في سوئه ونفاقه وتكبره ما بلغه المسمتعمر البغيض
من ذلك، والمقارنة بينهما بهذه الطريقة مجحفة وجارحة.
تلك الملاحظات لا تغض من قيمة الرواية، فهي
رواية تتنسم الإبداع وترقى إليه، في كثير من جوانبها، وتشكل إضافة جديدة إلى السرد
في موريتانيا.