بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 4 أكتوبر 2013

موضوعية أبي تمام

أفق
موضوعية أبي تمام آخر تحديث:الجمعة ,30/08/2013
محمد ولد محمد سالم
لو لم يحبس الثلج أبا تمام أشهراً في همذان لما حظي تاريخ الأدب بكتاب بديع جمع خلاصة ما أبدعه شعراء العرب قبله، وهو كتاب “ديوان الحماسة” الذي ضم اختيارات شعرية رأى أبو تمام أنها من أفضل ما تركه السابقون، وتلقاها نقاد الأدب على مر التاريخ بالقبول والاحتفاء، وقد كان أبو تمام يُيَمِّم نحو بغداد راجعاً من بلاد فارس فنزل الثلج عليه وهو عند صديق له في همذان، وانقطع به السبيل هناك، فأصابه ضيق من ذلك، فما كان من صديقه إلا أن جلب له ما في خزانته من الكتب، وهي كثيرة، فعكف أبو تمام عليها يقرأ حتى أتى عليها جميعاً، وصنف في تلك الإقامة خمسة كتب كما يذكر مؤرخو الأدب، وقد بقي من تلك الكتب كتابان هما ديوان “الحماسة” و”الوحشيات” أو (الحماسة الصغرى) .

قيل إن أبا تمام “كان في اختياراته أشعر منه في شعره”، وتشير هذه المقولة إلى مفارقة بين ما اختاره أبو تمام من شعر مَنْ سبقوه وبين ما ألفه هو من أشعار، فرغم أن أبا تمام كان صاحب نزعة جديدة في الشعر، وعرف بأنه رائد شعر الصنعة الذي خرج به عن نهج الأقدمين في عمود الشعر، حين أكثر عن قصد من فنون البديع في شعره، وتصيدها بسبق إصرار، ولم يكن الشعراء في العصور التي سبقته يتقصدون البديع ولا يأتي في شعرهم إلا عرضاً، ودون تكلف، ورغم ذلك فإن هذا الاتجاه لم يؤثر في اختياره، ولم يتعسف في البحث عن شعر سابق يعزز به نهجه الجديد الذي حمل لواءه، وفضل في اختياره أن يكون ناقداً محايداً يختار الشعر الجيد بغض النظر عن زمانه وصاحبه، وهو منهج علمي حمده عليه الكثيرون .

وقد قال عنه المرزوقي شارح الحماسة: “وهذا الرجل لم يعمد من الشعراء إلى المشتهرين منهم دون الأَغْفال (المجهولين) . . ولا من الشعر إلى المتردد في الأفواه المجيب لكل داع . . وجمع ما يوافق نظمه ويخالفه، لأن دروب الاختيار لم تخف عليه، وطرق الاستحسان لم تستتر عليه” .

هذا الموقف العلمي الرصين الذي وقفه أبو تمام في مُصنَّفه نادر، وقد رأينا كيف أن كل صاحب اتجاه شعري أو نقدي جديد يسعى جاهداً إلى أن يشطب على سابقيه، وينكر إبداعهم، وحين يصنف عنهم، لا يختار إلا من الزاوية الضيقة التي يراها، ولا يبحث إلا عن الشعر الذي يؤكد نهجه، ويشد أزر مذهبه، وهذه ذاتية بعيدة عن الموضوعية، رأيناها في كتب كثيرة، وحتى في تاريخنا الحديث الذي يفترض أن الخبرة فيه بالمناهج العلمية والالتزام بها أقوى، لكن المفارقة أن حملة كل أصحاب طريقة شعرية جديدة على أسلافهم من الشعراء صارت أشد وأدهى، ولا نزال نتذكر كتباً مثل “في الميزان” للعقاد والمازني، و”الغربال” لميخائيل نعيمة اللذيْن حمل أصحابهما حملة شعواء على كل من سبقوهم، وكل من خالفوهم في نهجهم الشعري، وسلبوهم كل فضيلة شعرية .

لقد كان أبو تمام حصيفاً في نهجه، ودقيقاً في اختياره، ودلل بمنهجه على أن الرؤية الموضوعية هي التي تصمد أمام الزمن، وأن نزعة تدمير الشعر المخالف لرؤانا الأدبية، لن تمحو الإبداع من التاريخ، ولن تبقي ما ليس بإبداع، وغايتها أن تكون نقطة سوداء في تاريخ صاحبها .

الخليج: 
أفق
موضوعية أبي تمام آخر تحديث:الجمعة ,30/08/2013
محمد ولد محمد سالم
لو لم يحبس الثلج أبا تمام أشهراً في همذان لما حظي تاريخ الأدب بكتاب بديع جمع خلاصة ما أبدعه شعراء العرب قبله، وهو كتاب “ديوان الحماسة” الذي ضم اختيارات شعرية رأى أبو تمام أنها من أفضل ما تركه السابقون، وتلقاها نقاد الأدب على مر التاريخ بالقبول والاحتفاء، وقد كان أبو تمام يُيَمِّم نحو بغداد راجعاً من بلاد فارس فنزل الثلج عليه وهو عند صديق له في همذان، وانقطع به السبيل هناك، فأصابه ضيق من ذلك، فما كان من صديقه إلا أن جلب له ما في خزانته من الكتب، وهي كثيرة، فعكف أبو تمام عليها يقرأ حتى أتى عليها جميعاً، وصنف في تلك الإقامة خمسة كتب كما يذكر مؤرخو الأدب، وقد بقي من تلك الكتب كتابان هما ديوان “الحماسة” و”الوحشيات” أو (الحماسة الصغرى) .

قيل إن أبا تمام “كان في اختياراته أشعر منه في شعره”، وتشير هذه المقولة إلى مفارقة بين ما اختاره أبو تمام من شعر مَنْ سبقوه وبين ما ألفه هو من أشعار، فرغم أن أبا تمام كان صاحب نزعة جديدة في الشعر، وعرف بأنه رائد شعر الصنعة الذي خرج به عن نهج الأقدمين في عمود الشعر، حين أكثر عن قصد من فنون البديع في شعره، وتصيدها بسبق إصرار، ولم يكن الشعراء في العصور التي سبقته يتقصدون البديع ولا يأتي في شعرهم إلا عرضاً، ودون تكلف، ورغم ذلك فإن هذا الاتجاه لم يؤثر في اختياره، ولم يتعسف في البحث عن شعر سابق يعزز به نهجه الجديد الذي حمل لواءه، وفضل في اختياره أن يكون ناقداً محايداً يختار الشعر الجيد بغض النظر عن زمانه وصاحبه، وهو منهج علمي حمده عليه الكثيرون .

وقد قال عنه المرزوقي شارح الحماسة: “وهذا الرجل لم يعمد من الشعراء إلى المشتهرين منهم دون الأَغْفال (المجهولين) . . ولا من الشعر إلى المتردد في الأفواه المجيب لكل داع . . وجمع ما يوافق نظمه ويخالفه، لأن دروب الاختيار لم تخف عليه، وطرق الاستحسان لم تستتر عليه” .

هذا الموقف العلمي الرصين الذي وقفه أبو تمام في مُصنَّفه نادر، وقد رأينا كيف أن كل صاحب اتجاه شعري أو نقدي جديد يسعى جاهداً إلى أن يشطب على سابقيه، وينكر إبداعهم، وحين يصنف عنهم، لا يختار إلا من الزاوية الضيقة التي يراها، ولا يبحث إلا عن الشعر الذي يؤكد نهجه، ويشد أزر مذهبه، وهذه ذاتية بعيدة عن الموضوعية، رأيناها في كتب كثيرة، وحتى في تاريخنا الحديث الذي يفترض أن الخبرة فيه بالمناهج العلمية والالتزام بها أقوى، لكن المفارقة أن حملة كل أصحاب طريقة شعرية جديدة على أسلافهم من الشعراء صارت أشد وأدهى، ولا نزال نتذكر كتباً مثل “في الميزان” للعقاد والمازني، و”الغربال” لميخائيل نعيمة اللذيْن حمل أصحابهما حملة شعواء على كل من سبقوهم، وكل من خالفوهم في نهجهم الشعري، وسلبوهم كل فضيلة شعرية .

لقد كان أبو تمام حصيفاً في نهجه، ودقيقاً في اختياره، ودلل بمنهجه على أن الرؤية الموضوعية هي التي تصمد أمام الزمن، وأن نزعة تدمير الشعر المخالف لرؤانا الأدبية، لن تمحو الإبداع من التاريخ، ولن تبقي ما ليس بإبداع، وغايتها أن تكون نقطة سوداء في تاريخ صاحبها .

شدا بحنجرة غير مستعارة

أفق
شدا بحنجرة غير مستعارة آخر تحديث:الجمعة ,20/09/2013
محمد ولد محمد سالم
رحل الذي كان يشدو ب “حنجرة غير مستعارة”، رحل الإنسان الودود والمبدع المهموم بقضايا الإبداع، والمثقف الحاضر في أغلب الأنشطة الثقافية المحلية، رحل الشاعر عاطف الفراية وهو لما يقضِ وطره من الإبداع الذي سكن نفسه التواقة إلى الجديد .

لفت الفراية الانتباه إليه من خلال عدد القصائد التي أعلن فيها تميز صوته مثل قصيدة “سيرة القميص” التي كتبها سنة 2000 ويبدؤها على النحو التالي:

“تكونت من وبر الغيم . ./ حين أفقت على جسد نافر يرتدي . . قامتي / أفقت على أول العابرين إلى جسدي / حين كانت خطوطي . . تعاود ألوانها/والسماء تغير قمصانها . . قبل كل غروب تمزقني” .

ففي هذه السيرة الملحمية للقميص نجدنا بالفعل أمام حنجرة غير مستعارة، وشاعر يبحث عن صوته الخاص، ويمتلك أدوات تحقيق ذلك الصوت، فمنذ الأسطر الأولى يشد مسامعك بالصورة غير التقليدية وغير المستنسخة من آخرين، وبالإيقاع المتدفق الذي يبعث النشوة في النفس في زمن قل فيه الشعراء الذين يعرفون كيف يأسرون أنفاس مستمعيهم بإيقاعات مؤثرة، وهذه القصيدة منشورة في كتابه “حالات الراعي” الذي صدر سنة 2010 وتضمن قصائد أخرى على المنوال نفسه الذي يلتقط سيرة الأشياء غير المهمة والناس الهامشيين فيحولها إلى شعر بديع على نحو ما فعل في قصيدة “حنجرة غير مستعارة” التي منها: (أنا يا صديقة من طلح هذي الصحاري/ ومن ملح هذي البلاد/ ومن صمت كل الجياع) .

أثبت الفراية خصوصية صوته الإبداعي من خلال الجوائز التي حصل عليها، ابتداء من جائزة الشارقة للإبداع عن نصه المسرحي “كوكب الوهم”، ثم جائزة جمعية المسرحيين الإماراتيين عن مسرحية “أشباه وطاولة” وجائزة ناجي نعمان الأدبية في الأردن، وأخيراً جائزة التأليف في مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما، وكان له حضور خاص في مجال الكتابة المسرحية، ورغم استفادته من اتجاهات الحداثة في مجال المسرح، إلا أنه ظل وفياً للمفهوم الدرامي في المسرحية، معتبراً أنها لا يمكن أن تقوم دون صراع درامي، وكانت الرؤية الدرامية في كتاباته محكمة متماسكة العناصر، وأثبت قدراته الإبداعية في هذا المجال .

لم يكن الفراية ذلك الكاتب العابر في سماء الإمارات، بل كان مهموماً بقضايا المجتمع، مساهماً فيها ككاتب عربي معني بكل قضايا الوطن العربي، وكناشط ثقافي حاضر في المنابر، وقد عالج في كتاباته المسرحية خاصة بعض الجوانب المتعلقة بالمجتمع الإماراتي، مثل مسرحية “عندما بكت الجمال” .

يعتبر الفراية من أكثر الشعراء حضوراً وفاعلية على مواقع التواصل الاجتماعي، فكان يذكر أن صفحته على الفيس بوك تضم آلاف الأصدقاء، والغريب أن خاتمة كتاباته على تلك الصفحة كان بيت قيس بن الملوح:(فاصبحت من ليلى الغداة كقابض على الماء خانته فروج الأصابع)، وهو بيت يلخص مأساة الروح أمام تَخَرق المادة (الجسد)، ولا شك في أن هذه الصفحة ستفقد نشاطه وإبداعه، كما فقدته منابر أخرى كثيرة .

الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/1a3e2f36-ec91-4a00-909c-1d000968aeed.aspx

آخر نساء لنجة


"آخر نساء لنجة"آخر تحديث:الجمعة ,04/10/2013
محمد ولد محمدسالم
ما يميز لولوه المنصوري في روايتها “آخر نساء لنجة” الصادرة حديثاً عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة هو الأسلوب الشاعري، فكل شيء قابل لأن يحوّل إلى صورة شعرية، وحتى في أقصى حالات السرد بعداً عن الشاعرية، نحس أن هناك رهافة في رؤية الكاتبة للأشياء، والرواية تداع حر لحياة البطلة ميعاد في تشابكها مع حياة جدتها لأمها رزيقة التي تعيش معها وحيدتين بعد أن توفيت أم ميعاد، وتزوج أبوها متخلياً عنها، وأيضاً بعد أن تزوجت ولم تنجب ثم اختفى زوجها يوسف إلى الأبد، وبقيت رهينة غيبته سبع سنوات .

تتشابك حياة البطلة بحياة جدتها زوجة السردال إبراهيم الذي كان أحد أهم رجال بلدة المحرّق في البحرين قبل أن يرحل بعائلته مع من رحل إلى جلفار في الإمارات، ولا يلبث أن يبتلعه البحر تاركاً زوجته وابنتها التي تزوجها شاب من جلفار، فيرزقان بميعاد، قبل أن يطلق الأب الوالدة ويسعى وراء جمع المال، فتعيش الأم محزونة ثم تصاب بالسل وتموت سريعاً .

يتخذ السرد شكل استرجاع يتزامن مع رحلة العودة المفاجئة التي قررت رزيقة أن تقوم بها إلى المحرق، فتتداعى حكايات حياة أهل المحرق، وسيرة الجدة وزوجها السردال، وكيف بدت العائلة، وفي بيت السردال تستدر ميعاد من جدتها ذلك التاريخ، فتتشكف لنا رزيقة كما وصفتها الكاتبة: “امرأة من حناء وطين وحطب وسمن ورطب، امرأة من شمس وبنادق وصهيل وحطب، وذاكرة جرار الماء فوق الرؤوس”، بهذه الصلابة والانغراس في الأرض والتاريخ تكون العودة بحثاً عن جذور وامتداد لهاتين المرأتين الوحيدتين، وعن شجرة راسخة تسندان إليها ظهريهما الضعيفين، ولا تجدان سوى سالم ابن أخت رزيقة الوحيد الذي يكتب الشعر ويمتهن الصحافة، فتتعلق ميعاد به، ويصيبها بعدوى القراءة والكتابة، لكنه يسافر ليعمل ، وتعود مع جدتها من رحلة الماضي (المحرق) إلى الحاضر في جلفار، وتظل تتبادل مع سالم رسائل وجدانية تترقرق بشاعرية متوهجة .

في “آخر نساء لنجة” يبدو السرد القصصي متعثراً بسبب اتكاء الكاتبة على التصوير الشاعري الذي يعطي مساحة أكبر للبوح والتأمل الذاتي وفلسفة الحياة، فيتقاعس السرد وتضيع القصة بين الحالات الوجدانية للبطلة ومجمل شخصيات القصة التي أبت الكاتبة إلا أن تدخلها كلها في تلك الحالة الشاعرية، ومع هذا التقاعس تفقد الرواية حرارة التحرك إلى الأمام، وتصاب ببرودة رغم الألق الفني للغتها، ويتيه القارئ في تضاعيف وجدان البطلة وخيالاتها .

لا مراء في أن لولوه المنصوري كاتبة متمكنة من أدواتها الفنية، متميزة بأسلوبها الثري، لكنها تحتاج إلى أن تفك الاشتباك بين السرد والشعر، عندما تكون بصدد كتابة الرواية، لأن الأولوية في الرواية لتقنيات السرد ولغته، ورغم أن الأسلوب الشاعري قد يضيف إليها، ولكن في أماكن محددة وحسب اقتضاء السرد، وليس بحسب نزوع الكاتب .