بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 4 أكتوبر 2013

موضوعية أبي تمام

أفق
موضوعية أبي تمام آخر تحديث:الجمعة ,30/08/2013
محمد ولد محمد سالم
لو لم يحبس الثلج أبا تمام أشهراً في همذان لما حظي تاريخ الأدب بكتاب بديع جمع خلاصة ما أبدعه شعراء العرب قبله، وهو كتاب “ديوان الحماسة” الذي ضم اختيارات شعرية رأى أبو تمام أنها من أفضل ما تركه السابقون، وتلقاها نقاد الأدب على مر التاريخ بالقبول والاحتفاء، وقد كان أبو تمام يُيَمِّم نحو بغداد راجعاً من بلاد فارس فنزل الثلج عليه وهو عند صديق له في همذان، وانقطع به السبيل هناك، فأصابه ضيق من ذلك، فما كان من صديقه إلا أن جلب له ما في خزانته من الكتب، وهي كثيرة، فعكف أبو تمام عليها يقرأ حتى أتى عليها جميعاً، وصنف في تلك الإقامة خمسة كتب كما يذكر مؤرخو الأدب، وقد بقي من تلك الكتب كتابان هما ديوان “الحماسة” و”الوحشيات” أو (الحماسة الصغرى) .

قيل إن أبا تمام “كان في اختياراته أشعر منه في شعره”، وتشير هذه المقولة إلى مفارقة بين ما اختاره أبو تمام من شعر مَنْ سبقوه وبين ما ألفه هو من أشعار، فرغم أن أبا تمام كان صاحب نزعة جديدة في الشعر، وعرف بأنه رائد شعر الصنعة الذي خرج به عن نهج الأقدمين في عمود الشعر، حين أكثر عن قصد من فنون البديع في شعره، وتصيدها بسبق إصرار، ولم يكن الشعراء في العصور التي سبقته يتقصدون البديع ولا يأتي في شعرهم إلا عرضاً، ودون تكلف، ورغم ذلك فإن هذا الاتجاه لم يؤثر في اختياره، ولم يتعسف في البحث عن شعر سابق يعزز به نهجه الجديد الذي حمل لواءه، وفضل في اختياره أن يكون ناقداً محايداً يختار الشعر الجيد بغض النظر عن زمانه وصاحبه، وهو منهج علمي حمده عليه الكثيرون .

وقد قال عنه المرزوقي شارح الحماسة: “وهذا الرجل لم يعمد من الشعراء إلى المشتهرين منهم دون الأَغْفال (المجهولين) . . ولا من الشعر إلى المتردد في الأفواه المجيب لكل داع . . وجمع ما يوافق نظمه ويخالفه، لأن دروب الاختيار لم تخف عليه، وطرق الاستحسان لم تستتر عليه” .

هذا الموقف العلمي الرصين الذي وقفه أبو تمام في مُصنَّفه نادر، وقد رأينا كيف أن كل صاحب اتجاه شعري أو نقدي جديد يسعى جاهداً إلى أن يشطب على سابقيه، وينكر إبداعهم، وحين يصنف عنهم، لا يختار إلا من الزاوية الضيقة التي يراها، ولا يبحث إلا عن الشعر الذي يؤكد نهجه، ويشد أزر مذهبه، وهذه ذاتية بعيدة عن الموضوعية، رأيناها في كتب كثيرة، وحتى في تاريخنا الحديث الذي يفترض أن الخبرة فيه بالمناهج العلمية والالتزام بها أقوى، لكن المفارقة أن حملة كل أصحاب طريقة شعرية جديدة على أسلافهم من الشعراء صارت أشد وأدهى، ولا نزال نتذكر كتباً مثل “في الميزان” للعقاد والمازني، و”الغربال” لميخائيل نعيمة اللذيْن حمل أصحابهما حملة شعواء على كل من سبقوهم، وكل من خالفوهم في نهجهم الشعري، وسلبوهم كل فضيلة شعرية .

لقد كان أبو تمام حصيفاً في نهجه، ودقيقاً في اختياره، ودلل بمنهجه على أن الرؤية الموضوعية هي التي تصمد أمام الزمن، وأن نزعة تدمير الشعر المخالف لرؤانا الأدبية، لن تمحو الإبداع من التاريخ، ولن تبقي ما ليس بإبداع، وغايتها أن تكون نقطة سوداء في تاريخ صاحبها .

الخليج: 
أفق
موضوعية أبي تمام آخر تحديث:الجمعة ,30/08/2013
محمد ولد محمد سالم
لو لم يحبس الثلج أبا تمام أشهراً في همذان لما حظي تاريخ الأدب بكتاب بديع جمع خلاصة ما أبدعه شعراء العرب قبله، وهو كتاب “ديوان الحماسة” الذي ضم اختيارات شعرية رأى أبو تمام أنها من أفضل ما تركه السابقون، وتلقاها نقاد الأدب على مر التاريخ بالقبول والاحتفاء، وقد كان أبو تمام يُيَمِّم نحو بغداد راجعاً من بلاد فارس فنزل الثلج عليه وهو عند صديق له في همذان، وانقطع به السبيل هناك، فأصابه ضيق من ذلك، فما كان من صديقه إلا أن جلب له ما في خزانته من الكتب، وهي كثيرة، فعكف أبو تمام عليها يقرأ حتى أتى عليها جميعاً، وصنف في تلك الإقامة خمسة كتب كما يذكر مؤرخو الأدب، وقد بقي من تلك الكتب كتابان هما ديوان “الحماسة” و”الوحشيات” أو (الحماسة الصغرى) .

قيل إن أبا تمام “كان في اختياراته أشعر منه في شعره”، وتشير هذه المقولة إلى مفارقة بين ما اختاره أبو تمام من شعر مَنْ سبقوه وبين ما ألفه هو من أشعار، فرغم أن أبا تمام كان صاحب نزعة جديدة في الشعر، وعرف بأنه رائد شعر الصنعة الذي خرج به عن نهج الأقدمين في عمود الشعر، حين أكثر عن قصد من فنون البديع في شعره، وتصيدها بسبق إصرار، ولم يكن الشعراء في العصور التي سبقته يتقصدون البديع ولا يأتي في شعرهم إلا عرضاً، ودون تكلف، ورغم ذلك فإن هذا الاتجاه لم يؤثر في اختياره، ولم يتعسف في البحث عن شعر سابق يعزز به نهجه الجديد الذي حمل لواءه، وفضل في اختياره أن يكون ناقداً محايداً يختار الشعر الجيد بغض النظر عن زمانه وصاحبه، وهو منهج علمي حمده عليه الكثيرون .

وقد قال عنه المرزوقي شارح الحماسة: “وهذا الرجل لم يعمد من الشعراء إلى المشتهرين منهم دون الأَغْفال (المجهولين) . . ولا من الشعر إلى المتردد في الأفواه المجيب لكل داع . . وجمع ما يوافق نظمه ويخالفه، لأن دروب الاختيار لم تخف عليه، وطرق الاستحسان لم تستتر عليه” .

هذا الموقف العلمي الرصين الذي وقفه أبو تمام في مُصنَّفه نادر، وقد رأينا كيف أن كل صاحب اتجاه شعري أو نقدي جديد يسعى جاهداً إلى أن يشطب على سابقيه، وينكر إبداعهم، وحين يصنف عنهم، لا يختار إلا من الزاوية الضيقة التي يراها، ولا يبحث إلا عن الشعر الذي يؤكد نهجه، ويشد أزر مذهبه، وهذه ذاتية بعيدة عن الموضوعية، رأيناها في كتب كثيرة، وحتى في تاريخنا الحديث الذي يفترض أن الخبرة فيه بالمناهج العلمية والالتزام بها أقوى، لكن المفارقة أن حملة كل أصحاب طريقة شعرية جديدة على أسلافهم من الشعراء صارت أشد وأدهى، ولا نزال نتذكر كتباً مثل “في الميزان” للعقاد والمازني، و”الغربال” لميخائيل نعيمة اللذيْن حمل أصحابهما حملة شعواء على كل من سبقوهم، وكل من خالفوهم في نهجهم الشعري، وسلبوهم كل فضيلة شعرية .

لقد كان أبو تمام حصيفاً في نهجه، ودقيقاً في اختياره، ودلل بمنهجه على أن الرؤية الموضوعية هي التي تصمد أمام الزمن، وأن نزعة تدمير الشعر المخالف لرؤانا الأدبية، لن تمحو الإبداع من التاريخ، ولن تبقي ما ليس بإبداع، وغايتها أن تكون نقطة سوداء في تاريخ صاحبها .

شدا بحنجرة غير مستعارة

أفق
شدا بحنجرة غير مستعارة آخر تحديث:الجمعة ,20/09/2013
محمد ولد محمد سالم
رحل الذي كان يشدو ب “حنجرة غير مستعارة”، رحل الإنسان الودود والمبدع المهموم بقضايا الإبداع، والمثقف الحاضر في أغلب الأنشطة الثقافية المحلية، رحل الشاعر عاطف الفراية وهو لما يقضِ وطره من الإبداع الذي سكن نفسه التواقة إلى الجديد .

لفت الفراية الانتباه إليه من خلال عدد القصائد التي أعلن فيها تميز صوته مثل قصيدة “سيرة القميص” التي كتبها سنة 2000 ويبدؤها على النحو التالي:

“تكونت من وبر الغيم . ./ حين أفقت على جسد نافر يرتدي . . قامتي / أفقت على أول العابرين إلى جسدي / حين كانت خطوطي . . تعاود ألوانها/والسماء تغير قمصانها . . قبل كل غروب تمزقني” .

ففي هذه السيرة الملحمية للقميص نجدنا بالفعل أمام حنجرة غير مستعارة، وشاعر يبحث عن صوته الخاص، ويمتلك أدوات تحقيق ذلك الصوت، فمنذ الأسطر الأولى يشد مسامعك بالصورة غير التقليدية وغير المستنسخة من آخرين، وبالإيقاع المتدفق الذي يبعث النشوة في النفس في زمن قل فيه الشعراء الذين يعرفون كيف يأسرون أنفاس مستمعيهم بإيقاعات مؤثرة، وهذه القصيدة منشورة في كتابه “حالات الراعي” الذي صدر سنة 2010 وتضمن قصائد أخرى على المنوال نفسه الذي يلتقط سيرة الأشياء غير المهمة والناس الهامشيين فيحولها إلى شعر بديع على نحو ما فعل في قصيدة “حنجرة غير مستعارة” التي منها: (أنا يا صديقة من طلح هذي الصحاري/ ومن ملح هذي البلاد/ ومن صمت كل الجياع) .

أثبت الفراية خصوصية صوته الإبداعي من خلال الجوائز التي حصل عليها، ابتداء من جائزة الشارقة للإبداع عن نصه المسرحي “كوكب الوهم”، ثم جائزة جمعية المسرحيين الإماراتيين عن مسرحية “أشباه وطاولة” وجائزة ناجي نعمان الأدبية في الأردن، وأخيراً جائزة التأليف في مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما، وكان له حضور خاص في مجال الكتابة المسرحية، ورغم استفادته من اتجاهات الحداثة في مجال المسرح، إلا أنه ظل وفياً للمفهوم الدرامي في المسرحية، معتبراً أنها لا يمكن أن تقوم دون صراع درامي، وكانت الرؤية الدرامية في كتاباته محكمة متماسكة العناصر، وأثبت قدراته الإبداعية في هذا المجال .

لم يكن الفراية ذلك الكاتب العابر في سماء الإمارات، بل كان مهموماً بقضايا المجتمع، مساهماً فيها ككاتب عربي معني بكل قضايا الوطن العربي، وكناشط ثقافي حاضر في المنابر، وقد عالج في كتاباته المسرحية خاصة بعض الجوانب المتعلقة بالمجتمع الإماراتي، مثل مسرحية “عندما بكت الجمال” .

يعتبر الفراية من أكثر الشعراء حضوراً وفاعلية على مواقع التواصل الاجتماعي، فكان يذكر أن صفحته على الفيس بوك تضم آلاف الأصدقاء، والغريب أن خاتمة كتاباته على تلك الصفحة كان بيت قيس بن الملوح:(فاصبحت من ليلى الغداة كقابض على الماء خانته فروج الأصابع)، وهو بيت يلخص مأساة الروح أمام تَخَرق المادة (الجسد)، ولا شك في أن هذه الصفحة ستفقد نشاطه وإبداعه، كما فقدته منابر أخرى كثيرة .

الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/1a3e2f36-ec91-4a00-909c-1d000968aeed.aspx

آخر نساء لنجة


"آخر نساء لنجة"آخر تحديث:الجمعة ,04/10/2013
محمد ولد محمدسالم
ما يميز لولوه المنصوري في روايتها “آخر نساء لنجة” الصادرة حديثاً عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة هو الأسلوب الشاعري، فكل شيء قابل لأن يحوّل إلى صورة شعرية، وحتى في أقصى حالات السرد بعداً عن الشاعرية، نحس أن هناك رهافة في رؤية الكاتبة للأشياء، والرواية تداع حر لحياة البطلة ميعاد في تشابكها مع حياة جدتها لأمها رزيقة التي تعيش معها وحيدتين بعد أن توفيت أم ميعاد، وتزوج أبوها متخلياً عنها، وأيضاً بعد أن تزوجت ولم تنجب ثم اختفى زوجها يوسف إلى الأبد، وبقيت رهينة غيبته سبع سنوات .

تتشابك حياة البطلة بحياة جدتها زوجة السردال إبراهيم الذي كان أحد أهم رجال بلدة المحرّق في البحرين قبل أن يرحل بعائلته مع من رحل إلى جلفار في الإمارات، ولا يلبث أن يبتلعه البحر تاركاً زوجته وابنتها التي تزوجها شاب من جلفار، فيرزقان بميعاد، قبل أن يطلق الأب الوالدة ويسعى وراء جمع المال، فتعيش الأم محزونة ثم تصاب بالسل وتموت سريعاً .

يتخذ السرد شكل استرجاع يتزامن مع رحلة العودة المفاجئة التي قررت رزيقة أن تقوم بها إلى المحرق، فتتداعى حكايات حياة أهل المحرق، وسيرة الجدة وزوجها السردال، وكيف بدت العائلة، وفي بيت السردال تستدر ميعاد من جدتها ذلك التاريخ، فتتشكف لنا رزيقة كما وصفتها الكاتبة: “امرأة من حناء وطين وحطب وسمن ورطب، امرأة من شمس وبنادق وصهيل وحطب، وذاكرة جرار الماء فوق الرؤوس”، بهذه الصلابة والانغراس في الأرض والتاريخ تكون العودة بحثاً عن جذور وامتداد لهاتين المرأتين الوحيدتين، وعن شجرة راسخة تسندان إليها ظهريهما الضعيفين، ولا تجدان سوى سالم ابن أخت رزيقة الوحيد الذي يكتب الشعر ويمتهن الصحافة، فتتعلق ميعاد به، ويصيبها بعدوى القراءة والكتابة، لكنه يسافر ليعمل ، وتعود مع جدتها من رحلة الماضي (المحرق) إلى الحاضر في جلفار، وتظل تتبادل مع سالم رسائل وجدانية تترقرق بشاعرية متوهجة .

في “آخر نساء لنجة” يبدو السرد القصصي متعثراً بسبب اتكاء الكاتبة على التصوير الشاعري الذي يعطي مساحة أكبر للبوح والتأمل الذاتي وفلسفة الحياة، فيتقاعس السرد وتضيع القصة بين الحالات الوجدانية للبطلة ومجمل شخصيات القصة التي أبت الكاتبة إلا أن تدخلها كلها في تلك الحالة الشاعرية، ومع هذا التقاعس تفقد الرواية حرارة التحرك إلى الأمام، وتصاب ببرودة رغم الألق الفني للغتها، ويتيه القارئ في تضاعيف وجدان البطلة وخيالاتها .

لا مراء في أن لولوه المنصوري كاتبة متمكنة من أدواتها الفنية، متميزة بأسلوبها الثري، لكنها تحتاج إلى أن تفك الاشتباك بين السرد والشعر، عندما تكون بصدد كتابة الرواية، لأن الأولوية في الرواية لتقنيات السرد ولغته، ورغم أن الأسلوب الشاعري قد يضيف إليها، ولكن في أماكن محددة وحسب اقتضاء السرد، وليس بحسب نزوع الكاتب .

الأحد، 25 أغسطس 2013

"الأستاذية" الأدبية

"الأستاذية" الأدبية آخر تحديث:الجمعة ,02/08/2013
محمد ولد محمد سالم
يتذكر المطلعون على تاريخ الأدب العربي الحديث صالون مي زيادة، حيث كان يلتف الأدباء والمثقفون من كل الفئات حول أيقونة الأدب في مطلع القرن العشرين، مي زيادة، ليقرأوا جديدهم الإبداعي ويناقشوا آراءهم ومستجدات ما طرأ على الساحة الأدبية من كتب وما نشر من مقالات، وكذلك يتذكرون صالون العقّاد، حيث يلتئم أسبوعياً أصدقاء ومريدو ذلك العبقري الفذ ليشاركوه آراءه ويناقشوه فيها، أو يسمعوا منه ويأخذوا من علمه الغزير، أما مقهى ريش فهو حكاية أخرى لا يزال كثيرون ممن نمت مواهبهم الكتابية، وتفتحت آفاقهم الأدبية من خلال جلساته يتذكرون جلوسهم المهيب فيه مع أستاذ الرواية العربية نجيب محفوظ، وهو يوزع آراءه ونكاته بأريحية جميلة .

مثل هذه اللقاءات كثيرة على مدى القرن الماضي، ودخلت حكايات بعضها تاريخ الثقافة العربية الحديثة، وكان لها فعل المدرسة الأدبية أو المنتدى الثقافي الذي يدخله الشباب ليأخذوا عن الشيوخ علومهم وأفكارهم، ويصوبوا لهم كتاباتهم ويطلعوهم على “سر مهنة الكتابة”، لكن يبدو أنها اليوم تكاد تكون قد تلاشت، ولم يعد لها وجود إلا نادراً وفي ظروف خاصة، فهل زاد انشغال الأدباء الكبار، فلم يعد لديهم الوقت لمثل هذه اللقاءات واستقبال الكتّاب الأدباء الجدد في بيوتهم أو على المقهى؟ أم أن هؤلاء الكبار هم فعلاً “كبار” بحيث لا ينبغي لهم أن يتنازلوا عن مستواهم للجلوس إلى أدباء “صغار”، قد يخدش وجودهم معهم الهالة الشخصية التي يراهم الناس بها، وهل تخلى الأدباء عن مشاعرهم الإنسانية وميولهم لكل ما يخدم البشرية ويدخل الفرحة على الآخرين؟

قد يكون لتعقيدات الحياة وضروراتها، التي تأخذ كل وقت الإنسان، دور في الانقطاع بين الأدباء، وتخلي الكبار عن رعاية الصغار، لكن من المؤكد أن تغير المفاهيم، والصورة التي أصبح يتمتع بها الأدباء الكبار كنجوم إعلاميين مثلهم مثل الساسة والفنانين والرياضيين، وضع حولهم تلك الهالة التي لا يريدون أن يكسروها باختلاطهم بمن هم دونهم، ومن أجل هذه النجومية أيضا فإن الوقت عندهم له ثمن ولا يريدون أن يضيعوه إلا في لقاء مدفوع الأجر مع قناة تلفزيونية أو مجلة أو مؤسسة ثقافية تروّج لأفكارها أو اجتماعاتها الفكرية .

لم يكتسب العقاد وطه حسين ومحمد مندور ونجيب محفوظ ورجاء النقاش وغيرهم صفة “الأستاذية” إلا من هذا الجانب الإنساني، وهذا الاحتضان الأبوي للآخرين الذين يأتون إليهم طالبين الرأي والتوجيه والنقاش . فقد كانوا يرون أنفسهم أصحاب رسالة ثقافية، يسعون إلى بثّها، وإيصالها إلى الآخرين، وأقرب وسيلة لذلك هو أن يعلموها للذين يأتون من بعدهم لكي يظل المشعل متقدًا، ويتسرب الحق والعدل والجمال إلى المجتمع، لذلك كانوا يفرحون بقصيدة بديعة أو رواية جميلة أو دراسة جديدة لتلاميذهم، وهم أول المهنئين بها، وأول الكاتبين عنها، حيث لم يكن العامل المادي هو الذي يحدد علاقاتهم الأدبية .


http://www.alkhaleej.ae/portal/85854ad0-2399-4691-9d00-8e2b36c51867.aspx

من أجل نشر أدب الطفل

أفق
نظرة إلى أدب الطفلآخر تحديث:الجمعة ,23/08/2013
محمد ولد محمد سالم
الاهتمام بأدب الأطفال على المستوى العربي حديث نسبياً، فلم يفسح الأدب العربي القديم لهذا النوع من الإبداع مجالاً واسعاً لكي ينمو ويتطور، وإن كان يمكن التماس بعض النماذج القليلة التي تخاطب الطفل، ولولا العمل الجبار الذي قام به رائد شعر الأطفال ورائد شعراء النهضة أحمد شوقي لظل الأطفال مغيبين عن الأدب، محرومين من الكلمة الجميلة والإيقاع الذي يبعث النشوة والمعنى الذي يغرس القيم، فقد طرح بين يدي المربين كماً كبيراً من الأشعار الجميلة التي تسعى إلى تنمية الحس الإنساني والروحي وتسمو بفكر وذوق الطفل عن طريق قصص الحيوانات والأشعار التوجيهية المختلفة بلغة بسيطة رقيقة وإيقاعات سريعة راقصة، فكان شعره آسراً سهل الحفظ يتغنى به التلاميذ في المدارس والطرقات، أسهم في تكوين ثقافة أجيال متتالية، عرفت عن طريقه قيم العدل والمساواة وحب الوطن والحرية، وقيمة الأسرة والأهل والأصدقاء .

تبع أحمد شوقي شعراء كثر كان لهم باع طويلة في هذا المجال من أهمهم سليمان العيسى الشاعر الذي رحل منذ أيام بعد أن أنفق نصف عمره- ما يربو على أربعين سنة- في الكتابة للطفل، ساعياً إلى أن يسهم في تكوين أجيال قادرة على أن تتحمل المسؤولية بجدارة، وأن تصل بالعرب إلى ما لم يصل بهم إليه جيله، وعلى مدى تلك السنين المتتابعة ألف العيسى عشرات الدواوين الشعرية التي تغنى فيها بكل شيء يمس حياة الطفل، من الأم إلى الأب إلى الإخوة والأصدقاء والإنسان عامة، والطبيعة والحيوان، والأرض وكل تفاصيل الحياة، راسماً نموذجاً للطفل الكريم المحب للحياة وللعطاء من دون توقف .

يطرح وجود مثل هذا التراث الشعري الذي خلفه أحمد شوقي وسليمان العيسى وغيرهم ممن كتبوا للأطفال سؤالاً حول مدى الاستفادة منه في تكوين ثقافة الطفل في الوقت الراهن، وما هي إمكانيات هذه الاستفادة، ومن المؤكد أن تلك الأشعار دخلت المجال التربوي العربي الرسمي في بعض البلدان العربية عن طريق إدراج نماذج منها في مقررات التعليم العام، لكنّ تلك النماذج تظل محدودة، وفي زمن لم يعد فيه التعليم المدرسي هو العاملَ الرئيس في تكوين ثقافة الطفل، ولذلك فإن استغلال هذا التراث ينبغي أن يكون في مجالات أخرى، وبصيغ تستغل مجال التقنية التي أصبحت منتجاتها من الألعاب والقصص والبرامج الترفيهية هي المشكلَ الأول لعقل ووجدان الطفل .

إن أهم هدية أو تقدير يمكن أن يوجه إلى كتاب الشعر الموجه للطفل العربي هو العمل على صناعة برامج تلفزيون وفيديو، وألعاب تقنية، وقصص كرتون تستوحي أشعارهم بما فيها من حكايات ومشاعر وألفاظ رشيقة وإيقاع جميل وقيم نبيلة، لأن ذلك هو الذي سينشر رسالتهم على اتساع الوطن العربي، ويبلغها كاملة إلى كل بيت وينفع بها كل طفل .

الأحد، 14 يوليو 2013

لا شيء خارج النسق

أفق
لا شيء خارج النسق آخر تحديث:الجمعة ,14/06/2013
محمد ولد محمد سالم
يتمرد كثير من الكتّاب الجدد على مبدأ التصنيف الأدبي الذي يؤطر نصوصهم في جنس معين، ويفضلون أن يكتبوا نصاً مفتوحاً، يأخذ من الرواية والقصة والشعر والمسرحية والخاطرة والرسالة، ويسرح كيف يشاء بحرية لا تحدها قواعد الجنس الأدبي، ولا فرضيات النقاد، معتبرين أن تلك الحرية تتيح لهم التعبير عن ذواتهم بصدق وإبداء آرائهم دون إكراهات من تقنيات أدبية، خصوصاً أن المهم عند أغلبهم هو أن يعبر عن نفسه، وأن يكتب لذاته قبل أن يكتب للقارئ، رغم أنه ينشر ويوزع ما يكتبه، ويطلب من القراء رأيهم فيه .

هذا التمرد مطلوب بالنسبة للأديب، لأن الإبداع هو في حقيقته تمرد، وإعادة بناء، لكن متى يأتي التمرد؟ . . إنه لا يأتي إلا بعد خبرة ودربة دقيقة على النسق السابق، ومعرفة بتقنياته تجعل الكاتب قادراً على النفاذ من تلك التقنيات إلى أفق جديد، يعيد به صياغة النسق لصناعة إبداعه وخصوصيته، فتطوير أي جنس أدبي لا يمكن أن يحدث إلا من داخل هذا الجنس، وبعد امتلاك ناصيته وهضم آليات اشتغاله، لأن فعل التطوير هو فعل ثوري ينبع من الداخل ويصعد إلى السطح في حركة تعيد ترتيب العناصر، وصياغة النسق بشكل مغاير لما كان عليه، أما الذي يقف خارج النسق، فلن يستطيع أن يغيّره، قد يتمكن من أن يهدمه ويقضي عليه، لكنه لن يستطيع إعادة بنائه، وهنا يفقد البوصلة والأصالة ويصبح تماماً كالغازي الذي يحارب مدينة ويقضي على جيشها وسلطتها، وإذا استطاع أن يشوه هويتها ويطمسها فعل ذلك، وإلا فلا بد أن تلفظه المدينة بعيداً عنها ولو بعد حين، هذا تماماً ما يحدث في الأدب، بل وفي كل الأنساق الفنية والمعرفية، لقد استخدم “ماركس” الديالكتيك الهيجلي ليعيد بناءه بما يقوض فلسفة هيغل، وكان أبو تمام أعلم أهل زمانه بشعر الجاهلية، ومع ذلك قاد ثورة شعرية عظيمة، وكان “جيمس جويس” أعلم أهل زمانه بالرواية وأكثرهم التزاماً بها، لكنه كتب رواية عظيمة عدت ثورة في الرواية، ولم تصل أم كلثوم إلى ما وصلت إليه من فرادة في فن الطرب العربي إلا بعد عشرات السنين من ممارسة كل أشكال الغناء التقليدية والتمرس بها، ولم يكن الشيخ عبدالباسط عبد الصمد مبدعاً في فن القراءات إلا لأنه أتقنها جميعاً . واستطاع أن يضيف إليها، ولم يبدع “بريس لي” فن القتال الحر الذي غير طريقة التعامل مع الجسد في كل فنون الأداء، إلا بعدما تعلم كل فنون القتال الصينية التقليدية، وبعد سنوات من التدرب المضني .

لا شيء يحدث خارج النسق، ولا تصنع الفوضى والتلقائية أدباً عظيماً، ولا فناً راسخاً، لكن إدمان النسق والتدرب عليه والخبرة به تفتح الباب للمنفذ الذي يأتي منه التغيير ويتهيأ الإبداع، ولا يمكن للشاعر أن يبدع في الشعر، ويتجاوز لحظته الحاضرة إلا من خلال الشعر، ولا يمكن للروائي أن يبدع رواية عظيمة، إلا من خلال فن الرواية .

رواية اللحظة الخاطفة

أفق
رواية اللحظة الفارقة آخر تحديث:الخميس ,27/06/2013
محمد ولد محمد سالم
الإمساك باللحظة الفارقة في حياة المجتمع، حين يقف على مفترق طرق بين الماضي والحاضر هو موضوع روائي أصيل، في تلك اللحظة يتداعى الماضي في شكل ذكريات تحنّ إليها الشخصيات، ويتكشف المستقبل في شكل رؤى غائمة ومحيرة، وتبدو اللحظة الحاضرة مضطربة قلقة، هكذا أمسك سرفانتس في مطلع تاريخ الرواية بحياة مجتمع على مفترق طرق تتداعى قيمه القديمة تاركة المجال لقيم جديدة، حيث صوّر في روايته “دون كيشوت” بسخرية جميلة حياة بطله “دون كيشوت” الواهم والحالم بالفروسية، وبإنجازات عظيمة في زمن تلاشت فيه الفروسية، وذهبت قيمها إلى الأبد، يتخذ ذلك الرجل المغفل هيئة الفارس الشجاع، ويذهب لقتال طواحين الهواء (رمز العالم الجديد الذي بدأ يتشكّل) متوهماً أنها كائنات شريرة تغزو الأرض وتريد القضاء على البشر، وهكذا فعل باحتراف نجيب محفوظ في ثلاثيه الرائعة التي صوّر فيها حياة المجتمع المصري في بداية القرن العشرين، حين كان على مفترق طرق بين حياة تقليدية وحياة حديثة، وشكّل الاختلاف في التصرفات والأفكار والرؤى بين الأب أحمد عبد الجواد وأبنائه، خاصة كمال أحد أوجه ذلك الاختلاف بين الحياتين، حتى التناقض في شخصية الأب بين حياة ظاهرة تنسجم مع متطلبات حياة “السيد” في البيت التقليدي، وبين حياة سرية تقبل على ما توفره الحياة الجديدة من غوايات، هو أحد أوجه ذلك المفترق الذي وضع محفوظ أقدام شخصياته عليه، والأمثلة في هذا الباب كثيرة شرقاً وغرباً .

هذا المفترق عرفته المجتمعات الخليجية، وبالأخص المجتمع الإماراتي، وشهد ذروته في فترة الثمانينات عندما بدأ التوسع الاقتصادي ودخل المجتمع دفعة واحدة إلى أساليب الحياة الحديثة بفضل الوفرة المادية، ولاشك أن ذلك كله كانت له تداعيات على الأفراد بين من لم يعرف سوى تلك الحياة، فوقف متحسراً حزيناً وهو يراها تتداعى، وبين من لم يعرف سوى الحياة الجديدة، فيتعجب كيف كان أسلافه يحيون تلك الحياة المجهدة، وبين من عايش الاثنتين وأدرك الجيلين، فأصبح قلقاً لا يدري على أي جنب يستقر، وكان حرياً بهذا التحول أن يكتب عنه، وأن يجد الكاتب الذي يضع يده على اللحظة الفارقة، ويكثفها ويرسم تداعياتها على الإنسان .

لقد عالجت القصة القصيرة الإماراتية هذه اللحظة بعمق وبما يسمح به نفسها القصير، لكنّ الرواية، وهذا ميدانها الأصيل، حامت حول لحظة المفارقة، فعالجتها في اتجاهين، إما بتصوير المجتمع التقليدي وحياته “طروس إلى مولاي السلطان” لسارة الجروان، أو تصوير تداعيات الحياة الحديثة على الإنسان “مزون” لمحمد عبيد غباش و”رائحة الزنجيبل” لصالحة غابش، ولم تجعل من اللحظة الحرجة، لحظة التحول موضوعها الأساسي، أو أنها حاولت أن تجعلها، لكن الأداة الفنية أعوزت كاتبها، فلم يوفق في تقديم رواية بالمستوى الإبداعي القادر على تصوير الأشياء بعمق، والنتيجة أنه ما زالت هناك حاجة لكتابة تستجلي بعمق ما حدث من تغيير .

"المعطف" ونموذج الإنسان

أفق
"المعطف" ونموذج الإنسان آخر تحديث:السبت ,06/07/2013
محمد ولد محمد سالم
كانت روايتا الأسطورة والفروسية تقدمان البطولة كنموذج مكتمل للخير أو الشر، لا تتغير معه طوابع الشخصية النفسية والفكرية والاجتماعية، بمعنى أن الواقع لا يؤثر في شخصية البطل، فقد تستمر الرواية على مئات السنين، ويدخل الأبطال عوالم كثيرة، ويخرجون من صراع إلى آخر دون أن يطرأ أي تغير على عواطفهم وأفكارهم، ولم يكن كتّاب هذه الروايات يلتفتون إلى المعنى العميق للإنسان القائم على صراع المتناقضات، والتجاذب بين القوة والضعف، والخير والشر، الذي تعتريه كل الاحتمالات ويطوره الواقع، وتعلمه التجارب، لكنّ قصة “المعطف” للكاتب الروسي نيكولاي غوغول في بداية القرن التاسع عشر وضعت أسس الكتابة الروائية الحديثة .

نموذج “أكاكي أكاكيفيتش” الموظف البسيط المسحوق بالروتين الكئيب، والبيروقراطية القاتلة والراتب الذي لا يغني من جوع، ورغم ذلك يعمل بصمت وإخلاص، ويجد المتعة في إتقان عمله، ويحلم بأن يكون له معطف جديد جميل، ويضع كل جهده في تحقيق حلمه، ويضاعف جهده ويحرم نفسه من المتع الصغيرة للوصول إلى المتعة الكبرى، ويشتري المعطف، فيفرح به ويزهو، لكنّ الفرحة لا تكتمل لأن اللصوص سوف يسلبون منه معطفه، فيعود إلى بيته كسيراً، هذا النموذج هو الإنسان باستسلامه وخضوعه، بأحلامه وإرادته، بتهوره وتعقله، بظروف حياته التي تناقض إرادته وتحول دون تحقيقه لمبتغاه، وهذه الطريقة في التناول هي سر نجاح هذه القصة الباهرة، الذي جعل أحد أقطاب الأدب الروسي الذين جاؤوا بعد نيكولاي غوغول “وهو ديستويفسكي” يقول: “لقد خرجنا جميعاً من معطف غوغول” .

أطلقت قصة “المعطف” أدب الواقعية الروسي من عقاله ليقدم النماذج العظيمة في تاريخ الرواية المعاصرة، لكنّ قيمة هذه القصة لا تقتصر على كونها فاتحة للأدب الواقعي، بل في كونها وضعت أدب القص عامة على طريقه الصحيح، طريق الإنسان على حقيقته، فسواء كتبنا اليوم رواية أسطورية، أو رواية فروسية، أو رواية حيوانات، فإن التجربة الإنسانية هي المثال الذي يقيس عليه الكتّاب، وينطلقون منه في تصورهم لتلك القصص، وروايتهم لها، نموذج “الإنسان” المتأثر بمؤثرات الحياة، الذي يعيش التناقض والصراع، هو الذي يسود تلك القصص، سواء كانت شخصياتها بشرية أو غير بشرية .

الأساس الآخر الذي تقدمه قصة “غوغول” تلك، هو الانطلاق من “الحكاية” عند كتابة القصة أو الرواية، فالحكاية المكتملة العناصر التي تحمل بُعدَ إدهاش هي حجر الزاوية في الكتابة السردية، وما لم تكن اللبنةَ الأولى التي ينطلق منها الكاتب، فإن ما سيكتبه سيبقى محفوفاً بخطر التشتت، وغياب الرؤية الكلية، أو وجهة النظر التي تسمح للقارئ بالتأويل والوصول إلى شيء، وسيكون أيضاً محفوفاً بخطر الإملال، وغياب التشويق الذي هو أحد عناصر الجذب المهمة في كل عمل قصصي .

تغير الأجناس الأدبية

أفق
تغيّر الأجناس الأدبية آخر تحديث:الجمعة ,12/07/2013
محمد ولد محمد سالم
هل يمكن القول: إن الذوق الأدبي العربي تغيّر بعد ظهور الإنترنت وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي؟

وهل يمكن الحديث عن أجناس أدبية جديدة؟، أو أن ما يحدث وسيحدث في المستقبل ليس سوى تغير في وعاء الرسالة، وليس الرسالة نفسها، بمعنى أننا إذا كنا قديماً نقرأ في الورقة، فإننا في الحاضر نقرأ على الشاشة، وكل منهما صفحة، أي وعاء للعمل الأدبي الذي يمتلك بالضرورة استقلاليته عن الصفحة التي يكتب فيها، ولا يتأثر بطبيعتها، لكن إطلالة على ماضي الأجناس الأدبية عند العرب قد تقول غير ذلك، فهي تفيدنا أن الجنس الأدبي ارتبط فنيّاً ومصيرياً بطبيعة الوعاء الذي يقدم فيه .

الجنس الأول الذي عرفه العرب كان الشعر، وكان في بدايته بيتاً وبيتين وثلاثة أبيات ومقطوعة قليلة، في عصر لم تكن فيه الكتابة، ففصّل الشعراء النص على هذا المقاس لكي يستطيع المتلقي حفظه ونقله، ولما بدأت الكتابة تنتشر أصبح الشعر “قصيداً” طويلاً تكلفت الرِّقاق نقله وحفظه . ثم مع ظهور الدولة الإسلامية ونشأة الدواوين واتساع مجال الكتابة ظهر فن الرسائل، ثم أدب الرحلات وفن المقامة، وغير ذلك كثير، وتطور الشعر، حتى وصلنا إلى عصر النهضة، وما جاء به من أجناس جديدة نتيجة اللقاء الحضاري بين العرب والغرب، ونتيجة تغير الذوق وظهور المطابع والجرائد والكتب التي هي أوعية فتحت الباب لأجناس جديدة كالخاطرة والقصة القصيرة والرواية، والشعر الحديث، وما صاحبه من تغيرات في تقنيات الشعر، وكيفيات التعبير عن التجربة الشعرية، حيث تأثر الشعراء بالتشكيل ومزج الألوان وبالصورة التلفزيونية وبالمونتاج السينمائي، كل ذلك مجاراة لذوق المتلقي .

مع الشاشة وطغيان الصورة أصبح القارئ أقل استعداداً لبذل الجهد في متابعة نص طويل، واحتالت الصحف عليه بإضافة الصورة الكبيرة مع النص القصير نسبياً لكي تجذب انتباهه، وكانت القصة القصيرة هي أول الأجناس الأدبية تأثراً بذلك، حيث اختفى من الصفحات الثقافية ذلك النص الطويل الذي يحتل نصف الصفحة الأسفل، ووصلنا الآن إلى مرحلة نتحدث فيها عن موت القصة القصيرة .

مع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وطبيعة النص الذي يكتب فيها، سواء من ناحية شكل هذا النص، أو من ناحية متطلبات ذوق متلقيه، هل يمكن القول إن الشعر والرواية سيختفيان ليتركا المجال لنص أدبي جديد يتبلور الآن شكله في “التويتر” و”الفيس بوك” وأشباههما؟

قد يحتج البعض بأن هذا العصر هو عصر الرواية ولا يمكن أن تختفي؟ لكن هل القارئ مستعد لقراءة مئات الصفحات بعد اليوم؟ وهل فعلاً في وقتنا الحاضر مازال هناك من يقرأ الرواية لذاتها بعيداً من الدعاية الإعلامية المرتبطة بالجوائز الأدبية، أو المرتبطة بروايات الإثارة؟

الخميس، 25 أبريل 2013

البوكر العربية نافذة الآخر على الأدب العربي


جائزة البوكر نافذة الآخرين على الأدب العربي آخر تحديث:الاثنين ,22/04/2013
 محمد ولد محمد سالم

تترقب الأوساط الأدبية والثقافية العربية هذه الأيام إعلان الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية “بوكر العربية” خلال معرض أبوظبي للكتاب، الجائزة التي أصبحت على مدى ست سنوات متتالية أهم جائزة روائية عربية، ورغم الضجيج الكثير والنقد المبالغ فيه في بعض الأحيان والاتهامات الجزافية التي توجه إليها، فإنها استطاعت أن تتجاوز جوائز عريقة في هذا المجال، وقدمت للرواية والروائيين العرب سمعة ورواجاً سواء داخل الوطن العربي أو خارجه، فقد أوجدت شبه إجماع عليها رغم بعض النواقص التي قد تشوبها أحياناً، وأصبحت الروايات التي تصل إلى قوائمها الاثنتين الطويلة والقصيرة، تلقى اهتماماً من الناشرين وإقبالاً من القراء، وذاع صيت كتّاب عرب مخضرمين كان لهم تاريخهم الكتابي في بلدانهم، لكنهم لم يكونوا يجدون الفرصة لتجاوز تلك البلدان، كما ظهرت أسماء جديدة لم يكن لها أن تظهر وتتعرف إليها جماهير القراء العرب لولا هذه الجائزة، ومن ميزاتها أنها لا تنظر إلى تاريخ الكاتب ولا إلى سمعته، بل إلى الرواية نفسها، فهي مكافأة لأحسن رواية صادرة خلال العام نفسه الذي تقدم فيه .
تضم القائمة القصيرة لهذا العام ست روايات هي رواية “ساق البامبو” للكاتب الكويتي سعود السنعوسي، وتحكي عن أزمة حياة شاب ولد من أب كويتي وأم فلبينية، يطرده الفقر والجوع من بلاد أمه ولا يجد الاعتراف في بلاد أبيه، ورواية “القندس” للسعودي محمد حسن علوان التي تحكي عن رجل يشعر باغتراب نحو المجتمع، ويجد صعوبة في التكيف مع عاداته وتقاليده فيعيش قسراً على هامشه، وفي رواية “مولانا” للمصري إبراهيم عيسى تطل علينا شخصية غير مألوفة للواعظ الذي يصبح نجماً للفضائيات بفعل روحه الخفيفة وأسلوبه الساخر، ومراوغته في الإجابة عن الأسئلة الفقهية والدينية لكل أطراف المجتمع، ورواية “سعادته السيد الوزير” للتونسي حسين الواد وتحكي عن مدرس يعين بشكل مفاجئ وزيراً، فيكشف حجم الفساد وتعقد الشبكات التي تتحكم فيه، ومع الوقت يصبح هو نفسه جزءاً من ذلك الفساد، ورواية “يا مريم” للعراقي سنان أنطون التي تدور في يوم واحد، عن شيخ وفتاة مسيحيين يعيشان في منزل واحد وينظران إلى واقع العراق نظرتين مختلفتين، فالرجل المسن عاش جزءاً من حياته في فترات تبرر تعلقه بالأمل رغم ما يحيط به من يأس ودمار، وأما الشابة الفتية فلم تر في حياتها القصيرة سوى الألم والموت والأحزان، ما يجعلها يائسة فاقدة لكل أمل في المستقبل، ورواية “أنا وهي والأخريات” للبنانية جني فواز الحسن تتحدث عن امرأة تبحث منذ طفولتها عن الفرحة والحرية والانطلاق، لكنها تجد نفسها في كل مرحلة من مراحل حياتها مكبلة بقيود المجتمع، وتكتشف أنها تسير على خطى حياة أمها المغلوبة على أمرها، والأنكى من ذلك أنها تتزوج من شاب معقد يضربها ويحاصر حياتها، ما يدفعها إلى الرذيلة ثم إلى محاولة الانتحار .

تأسست الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2007 بتمويل من مؤسسة الإمارات للنفع الاجتماعي وفي إطار تعاون بينها وبين ومؤسسة بوكر البريطانية التي ترعى أهم جائزة روائية إنجليزية، وقد تولت هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة تمويلها منذ عام ،2012 وهي جائزة تهدف إلى مكافأة التميّز في الأدب العربي المعاصر، ورفع مستوى الإقبال على قراءة هذا الأدب عالمياً من خلال ترجمة الروايات الفائزة والروايات التي وصلت إلى القائمة القصيرة إلى لغات رئيسة أخرى ونشرها، وتمنح في جنس الرواية فقط، ويتم ترشيح ست روايات في القائمة القصيرة لتتنافس على الجائزة، وتمنح الرواية الفائزة خمسين ألف دولار . إضافة إلى عشرة آلاف دولار للروايات الست جميعاً، وشهد عام ،2008 أولى دورات الجائزة، وفازت بها حينها رواية واحة الغروب للروائي المصري بهاء طاهر التي نافست خمس روايات هي: “مديح الكراهية” لخليفة خليفة، و”مطر حزيران” لجبور دويهي و”تغريدة البجعة” لمكاوي سعيد و”أرض اليمبوس” لإلياس فركوح و”أنتعل الغبار وأمشي” لمي منسي، ثم شهدت الدورة الثانية 2009 منافسة شديدة بين كتّاب آخرين وفازت بها رواية “عزازيل” للمصري يوسف زيدان، وفي 2010 فازت بها رواية “ترمي بشرر” للسعودي عبده خال، وفي 2011 فازت بها روايتان هما “القوس والفراشة” للمغربي محمد الأشعري و”طوق الحمام” للسعودية رجاء عالم، وفي 2012 فازت بها رواية “دروز بلغراد” للّبناني ربيع جابر .

من أهم ما قدمته الجائزة للأدب العربي أنها عرفت به وبكتابه خارج الوطن العربي، فقد ضمن التعاون مع بوكر البريطانية أن ترجمت الروايات الفائزة والروايات التي وصلت إلى المراحل الأخيرة للجائزة إلى عشرين لغة عالمية من الإنجليزية والفرنسية والألمانية والبوسنية والنرويجية والإندونيسية والصينية، فرواية “واحة الغروب” لبهاء طاهرترجمت إلى الإنجليزية وصدرت عن دار سبتر في خريف العام ،2009 ثم ترجمت إلى ثماني لغات أخرى، و”عزازيل” ليوسف زيدان ترجمت إلى الإنجليزية وصدرت عن دار أتلانتيك في العام ،2102 ثم ترجمت إلى ثلاث عشرة لغة غير الإنجليزية، ويجري العمل على ترجمة الروايات الأربع الأخرى الفائزة بالجائزة إلى لغات أجنيبة عدة وإصدارها عن دور نشر عالمية، وكذلك لقيت بعض الروايات التي وصلت إلى القوائم القصيرة في السنوات الماضية عقوداً للترجمة إلى لغات أجنبية عدة، وأصبح الكتاب المُترجَم لهم يدعون لحضور حفلات توقيع كتبهم ومهرجانات أدبية ومعارض في دول أجنبية عدة، ومن شأن ذلك كله أن يعرف بالأدب العربي، ويفرض وجوده في خريطة الأدب العالمي، ويقرب للآخر الصورة الحقيقية عن الإنسان والمجتمع العربي التي شوهت كثيراً خلال العقود الماضية، كما من شأنه أن يؤهل الأدباء العرب للفوز بالجوائز العالمية التي تقتضي أن يكون أدب الكاتب مترجماً إلى الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية، كجائزة نوبل التي تشترط أن يكون أغلب إنتاج المترشح لها مترجماً إلى الإنجليزية .

لم تكن طريق جائزة البوكر العربية مفروشاً بالورود فقد صاحبتها منذ دورتها الأولى ضجة كبيرة، وسيل من الاتهامات تارة بالمحاباة وتارة بالانحياز الجهوي، وأخرى بالسعي لإقامة توازن مناطقي على حساب الفن، لكنّ كل تلك الاتهامات سقطت مع الوقت، ونجحت الجائزة في تكريس حضورها كجائزة أولى للرواية العربية، وقد ضمن لها ذلك التزام الجهة الممولة لها (وهي مؤسسة الإمارات للنفع الاجتماعي سابقاً، وهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة حالياً)، بعدم التدخل في مجريات التحكيم ومعاييره، وهو ما كان نادراً في الجوائز العربية السابقة التي تخضع في كثير من الأحيان لاعتبارات ذاتية لدى الجهة الممولة لها سواء من حيث المعايير المطروحة للتحكيم أو اختيار المحكمين أو اختيار الفائزين، فتفقد بذلك استقلاليتها ومصداقيتها، على أنه رغم ما تتمتع به الجائزة العالمية للرواية العربية من استقلالية ومن معايير عالية في اختيار لجان التحكيم، فإنها لم تخل من بعض الانتقادات كأن تصل روايات رديئة إلى القائمة القصيرة في الوقت الذي لا تدخل فيه روايات جيدة القوائم، ما يعني عدم وجود خطوط عريضة متفق عليها كمعيار لجودة الرواية، وهو انتقاد من المرجح أنه سيظل قائماً، لأنه من الصعب الاتفاق على مثل تلك الخطوط العريضة للرواية، في ظل التطور المستمر الذي يشهده هذا الجنس الأدبي والصعوبات النقدية المتعلقة بتحديد مقاييسه، وفي ظل غياب مرجعية نقدية وثقافية عربية تحدد ما الذي نعنيه ب”الرواية العربية”، عندما نطلق هذه التسمية، وسيبقى الأمر خاضعاً للمواقف الشخصية لأعضاء لجنة التحكيم الذين قد لا يكونون محايدين جميعاً، ومهما افترض فيهم من حياد، فإنهم عند الاختيار بين نصوص متقاربة سوف تختلف معاييرهم، ويعود كل منهم إلى نوازعه الذاتية، وهذه الملاحظة لا تختص بها هذه الجائزة وحدها، بل ربما تنسحب على كل الجوائز الأدبية العالمية، لأن أساس التذوق الجمالي في الأدبي ذاتي ثم يصير الناقد إلى تعليل ذوقه بمعايير موضوعية .

الخليج الثقافي:
 http://www.alkhaleej.ae/portal/ad384d20-ca0a-4571-b1e4-283b143996d6.aspx

ساق البامبو

أفق
"ساق البامبو"آخر تحديث:الجمعة ,05/04/2013
محمد ولد محمد سالم
“ساق البامبو” هي إحدى روايات القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر العربية”، وهي من تأليف الكاتب الكويتي الشاب سعود السنعوسي الذي له تجارب روائية سابقة تنم عن معدن كاتب أصيل، وتُروى الأحداث على لسان “هوزيه” الذي يحكي عن مأساة حياته بين الفلبين وطن أمه الذي عاش فيه فترة من طفولته وبداية شبابه، وبين الكويت وطن أبيه الذي غادره وليداً وعاد إليه شاباً باحثاً عن اعتراف من أسرة أبيه التي أنكرته وضيقت عليه .

يولد “هوزيه” كما يدعوه أخواله أو “عيسى” كما سماه أبوه، من زواج بين الخادمة الفلبينية والابن الوحيد للأسرة التي تعمل عندها، والذي وجد في شغف الخادمة بالقصص والحكايات التي ترويها له في الليل وهو جالس على مكتبه يقرأ أو يكتب، حميمية إنسانية قربتها إلى نفسه وجعلته يحبها، ويتزوجها، وسط ذهول والدته وأخواته اللواتي كن يعددنه رجل الأسرة بعد أن توفي أبوه، ولم تستطع أمه تقبل أن يتزوج ابنها ذو الحسب والنسب من خادمة، فطردتهما، ليعيشا في حي آخر، وبعد أن يولد “عيسى”، يضطر الأب إلى ترحيله هو وأمه إلى الفلبين ريثما يصلح ما بينه وبين أمه ويهيئ لهما الظروف لعودتهما معززين، لكّن إقامتهما في الفلبين تطول ثم تنقطع أخبار الوالد عنهما في ظروف الاحتلال العراقي للكويت الذي سيأخذه أسيراً ليموت في العراق .

يتربى “هوزيه” في ظروف من الفقر المدقع وبين أفراد محطمين، وتحت رحمة جد معقد يسومه كل أصناف السخرة والإذلال، وحين يشب يتقلب بين أعمال زهيدة، ولا يفارقه حلم العودة إلى وطن أبيه، والعيش هناك، وهو ما يتحقق له في النهاية عن طريق صديق الوالد، لكنه لا يجد الاعتراف من جدته ولا عماته اللواتي يرين في وجوده خطراً على سمعة الأسرة، ومكانتها الاجتماعية، ويسعين بكل نفوذهن إلى محاصرته وتهديده لكي يخرج من البلاد، وفي النهاية يخرج ليعود خائباً إلى بلاد أمه ويستقر هناك .

لو اكتفى سعود السنعوسي بالقسم الأول من روايته الذي ينتهي بتسلم البطل جوازه الكويتي وتذكرة السفر، لكان قدم رواية رائعة، لكنه في القسم الثاني الذي انتقل فيه البطل إلى الكويت، فقدت أحداث القصة التماسك المنطقي والعمق التحليلي، وبدا أن الكاتب يريد بكل وسيلة أن يقدم مبررات عودة بطله مضطراً إلى الفلبين، رغم أنه في أثناء وجوده كوّن صداقات قوية كان يمكن أن تكون مساعداً له في بناء حياته الجديدة . لقد عطل المؤلف كل تلك الإمكانات في سبيل عودة البطل إلى المستنقع الذي خرج منه والذي يَعُدُّ العيش على هامش المجتمع الجديد أكرم له منه .


الاثنين، 15 أبريل 2013

نقاشات رواية "مولانا"





محمد ولد محمد سالم
تتناول رواية “مولانا” لإبراهيم عيسى التي وصلت إلى القائمة القصيرة في البوكر العربية 2013 حياة داعية ديني تلفزيوني، وكيف تتشابك علاقة ذلك الداعية مع مجتمع المال والدعاية التلفزيونية وترتبط بخيوط سرية بجهاز الأمن وبأعلى قمة الهرم في السلطة .

يعيش مولانا الشيخ حاتم شخصيتين، شخصية ظاهرة هي شخصية الداعية المفتي الذي يقدم للناس الرأي بناء على ما تقرر عند الفقهاء المتقدمين، ويسعى إلى إرضاء جهاز الأمن بحيث لا تثير فتاواه أية خلافات أو تشويش لدى الجمهور من شأنه أن يعكر صفو السلطة الحاكمة، وتؤمن له تلك الشخصية الثراء الذي يسعى وراءه بنهم لا يشبع، وهي شخصية قابلة للتشكل حسب الخطة الدعائية للبرنامج الذي يظهر فيه مولانا، والفئة العمرية التي يتوجه إليها، مما جعله شيخا معاصرا، أما الشخصية الثانية التي يعيشها الشيخ حاتم سرا فهي شخصية “الفقيه الحداثي” الذي يحمل آراء فقهية وعقائدية صادمة لا يستطيع أن يبديها إلا للخاصة لأنه لو باح بها علناً فسوف تثير الجمهور وتحرك جهاز الأمن، وتؤدي به إلى الهلاك .

لا تقدم رواية مولانا “حكاية” متكاملة من بدايتها إلى نهايتها، ولكنها تقدم مواقف ومناسبات مرتبطة بشخص “مولانا”، يختارها إبراهيم عادة للتمهيد للدخول في قضية من القضايا الفقهية والعقائدية قصد نقاشها وإبداء الرأي فيها، وتكون البداية بحلقة دينية نكتشف من خلالها قدرة الشيخ حاتم على التنقل بين الأوضاع المختلفة لشخصيته، فهو على الواجهة شيخ ملتزم وقور، وخلف الكواليس عابث وصانع نكات، وفي قرارته يتوق إلى إبراز آرائه الحقيقية، ثم ينقلنا الكاتب بعد ذلك إلى دعوة مسائية دعيت إليها وجوه من ساسة ورجال أعمال وضباط أمن وشيوخ دين، وحضرها الشيخ حاتم ليقوم نقاش بينه وبين أحد شيوخ العلم حول قضية أهل الذمة ووضع الأقباط في مصر، وبعد ذلك ينقلنا إلى قصر ابن الرئيس، وهناك يكلف الشيخ بمهمة إقناع الفتى حسن شقيق زوجة ابن الرئيس بالرجوع عن آرائه الفكرية، ليبدأ بينهما نقاش مستفيض يأتي على كل القضايا العقائدية والأخلاقية، وهكذا تبدو كل علاقات الشيخ حاتم موجهة لهذا الغرض، فهو يناقش مع القسيس القبطي قضايا الأقباط، ويبدي لنادر الفنان الكوميدي آراءه في الفن، وكذلك يفعل مع رجل الأعمال .

إبراهيم عيسى كاتب صحفي، لا مراء في قدراته اللغوية والأسلوبية، لكن المأزق الذي وقع فيه في رواية “مولانا” هو أنه أراد أن يحسم من خلال الرواية إشكاليات فقهية وعقائدية مطروحة في حاضر المجتمع المصري، ولم يتجه إلى الرواية بغرض كتابة رواية “حكاية” فجاء كتابه مجموعة من النقاشات الطويلة المملة للقارئ الباحث عن الحكاية المشوقة والبعد الإنساني في الرواية .


http://www.alkhaleej.ae/portal/db2ffc4b-bbcc-4b65-adbe-622f4bcccf30.aspx


الثلاثاء، 29 يناير 2013

"القندس" وغياب المنظور الروائي

محمد ولد محمد سالم
يمتلك الروائي السعودي الشاب، محمد حسن علوان، قدرات سردية كبيرة، ولغة سلسة تجنح في أحيان كثيرة إلى استعارة أدوات الشعر، خصوصاً في الوصف المبني على الاستعارة والمجاز، هذا ما يتجلى في روايته “القندس” التي وصلت إلى القائمة القصيرة من الجائزة العالمية للرواية العربية لهذا العام .
تدور الرواية حول حياة “غالب” الرجل الأربعيني العاطل عن العمل الذي قضى كل عمره في حياة فارغة عابثة، معتمداً على ما يستدره من أبيه التاجر، وكذلك حياة أسرته الممزقة التي يضع كل فرد فيها سداً حول نفسه وحياته الخاصة، ويكتشف غالب أثناء فسحة صيد على شاطئ نهر في مدينة بورتلاند في أمريكا أن هناك شبهاً بين أفراد أسرته وبين حيوان “القندس” الذي يراه للمرة الأولى، ففي شكل ذلك الحيوان وسلوكه في العزلة والفردانية وبناء السدود التي تصد الآخرين عنه، شبه بينه وأسرة أبو غالب ومن يمت لهم بصلة، وهنا يبدأ البطل في استعادة سيرة حياته وعلاقته بأبيه وأمه اللذين افترقا بعيد ميلاده بقليل، وبأخته الشقيقة وإخوته لأب، ومسيرته الدراسية الفاشلة التي انتهت قبل أن يحصل على الشهادة الجامعية، وساعات السهر الطويلة الفارغة في بيته مع أصدقائه، وعزوفه عن العمل مع أبيه المتسلط، وتنتهي الرواية باستدعاء غالب من بورتلاند إلى الرياض بسبب تدهور صحة والده الذي لا يلبث أن يموت، وعند إحصاء الإرث يكتشف غالب وإخوته أن أباهم لم يكن غنياً كما يظنون، ويجد غالب نفسه في مواجهة مستقبل لم يستعد له .
يتحكّم علوان في خيوط اللعبة السردية بشكل جيد جعله قادراً على المناوبة بين مختلف لحظات السرد باحتراف، لكن الرواية لم تستطع أن تتجاوز واجهة السرد الظاهري لحياة بطلها إلى تقديم منظور إنساني أو فكري، فنحن أمام استعراض سطحي لحياة أسرة متنافرة من دون سبب عميق، رغم أن كل أسباب التواصل التي عادة تكون بين أفراد الأسرة موجودة، وشاب عاطل على مدى عشرين عاماً من دون أن يكون هناك مبرر لهذه البطالة، وصورة مكررة لأب يتحكم في أفراد أسرته . وقد ساعد على ذلك التسطيح هيمنة صوت المتكلم المفرد (غالب)، حتى في الحالات التي كانت تحتاج إلى صوت الراوي المحايد، ما جعل الرواية رهينة لرؤية غالب الضبابية، وكراهيته غير المبررة لأفراد أسرته .
قد يتمتع قارئ “القندس” بلغتها وتدفق السرد فيها، ولن يجد ما يدفعه إلى التعاطف مع شخصياتها أو النفور منها، أو إلى تكوين وجهة نظر أو موقف فكري، لن يجد ما يجعله يعيش تجربة إنسانية أو فكرية عميقة .


الأحد، 6 يناير 2013

الكتاب هو الإنسان

ذاكرة عابرة للزمان والمكان
الكتاب مدونة الإنسان آخر تحديث:الاثنين ,12/11/2012
محمد ولد محمد سالم
أحس الإنسان بالفناء يهدده من كل ناحية، الجسد يبلى ويضمحل ثم يفنى، ويتلاشى وتذهب ريحه، والذاكرة التي اعتمد عليها وأسس لاستمرارها بنقل محتواها من السابق إلى اللاحق وجد أنها مهددة بعوامل أخرى في مقدمتها النسيان الذي يجعل اللاحق غير دقيق في نقل المعلومة وإيصالها إلى من يأتي بعده، ومنها أيضا تعمّد تغيير المعلومة وتوجيه محتواها من طرف ناقلها، ولكي يتغلب الإنسان على ذلك النقصان لجأ إلى تعميم المعلومة بين أفراد المجتمع لتكوّن ذاكرة جماعية تستعصي على عوامل النسيان والتشويه، ورغم ذلك تشعبت الذاكرة الجماعية وتعددت رواياتها، ودخلها الاختلاف، والتعارض الذي هو في ذاته نوع من الاضمحلال، يعيد الإنسان إلى الصفر، إلى نقطة البداية، لأنه يجعل حقيقته التي أراد توثيقها وتخليدها مشكوكاً فيها، يجعلها غامضة متلاشية، هنا لجأ إلى الكتابة، اخترعها رسماً ثم حرفاً يحفر به هويته، طموحه، نضاله، صبره، مثابرته، مواجهته التراجيدية مع قوى الطبيعة، مغامرته لإثبات وجوده، تميزه ككائن فريد على وجه الأرض، وتفوقه على سائر المخلوقات، هكذا كانت الكتابة، عنوانا على الإنسان من حيث هو إنسان يمتلك إرادة وعقلاً يتصرف به في الكون ويعيد به ترتيب الموجودات لتلائم حياته، وتحقق مقاصده .
آلة إبقاء الهوية أو توثيق الأثر في الكون ظلت تتطور وتتعزز بفعل الاختراعات المتتالية عبر الزمن إلى أن رست على شكلها الراقي، شكلها المكتمل مضمونياً وفنياً، والذي أطلقت عليه اسم “الكتاب«، وهو أرقى سلاح رفعه الإنسان في وجه الفناء، لأنه به خلد إنسانيته، خلد روحه وعقله وإحساسه، حتى ابتلاءات جسده خلدها، فلم يشذ شيء من لحظات الوجود الإنساني عن ذلك الاختراع السحري الذي احتال به على مصيره المحتوم، ليبقى الإنسان كمفهوم مجرد إذا بليت مادة وجوده وتحللت وفنيت .
الكتاب أقوى أسلحة البقاء لأنه مستمر في الزمن، فالشعوب تتفرق وتهاجر وتتحول هوياتها، والكتاب يستعصي على الزمن، ينسخ من ورق لورق، ويتنقل من يد ليد ومن تلك إلى أيد، ثم إلى عصر فدهور .
بالقلم والمداد والورق صنع الإنسان ذاكرته، ليحافظ على سلم تطوره، ويكرس نفسه الكائن الوحيد المتفوق في هذه الحياة، ويدجن الكائنات الأخرى فيذلّلها لخدمته، لم يعرف الفيل ولا الأسد سبيلاً إلى الكتابة، ولا عرفها غيرهما من الحيوانات، كبيراً أو صغيراً، قوياً أو ضعيفاً، فظلت كلها رهينة وجودها الأول، ولم يختلف أخلافها عن أسلافها، كأنها جاءت إلى الدنيا اليوم، وكأن آخر مولود فيها هو أوله، أما الإنسان فدون كل لحظة من لحظات وجوده، وكل تجربة من تجارب حياته، وتركها لنسله، ليقرأوها وتعيها عقولهم، ويبنوا عليها حياتهم، فهو أبدا لا يبدأ من الصفر، ولا يعود إلى المربع الأول الذي بدأ منه آدم، وإنما يختزل بين دفتي كتابه، كتابِ الوجود الإنساني، تجاربَه وتاريخ فعله في الوجود، ليستفيد منها من خلفه ويضيف إليها، وتبقى دائما هناك صفحات فارغة ليأتي آخرون فيملأوها .
في الكتاب نقرأ روح الإنسان لأنه دون فيه نوازع تلك الروح ومعتقداتها، وتوقها إلى الخلود، والانعتاق من مادة الجسد، وتعلقها بما وراء الوجود الفيزيائي المتحلل الفاني المخالف لطبيعتها الروحانية الخالدة، واستجابة لهذا التوق نزلت الرسالات السماوية خطاباً قولياً، وسميت كتباً، لأنها قابلة لأن تنسخ بالقلم والمداد على الورق، وتنقل من سابق للاحق، لتبقى مع الإنسان حيث ما حل أو ارتحل، تبشره بذلك الخلود الذي تاقت روحه يوما إليه، وتشرح له طريقة الترقي والمعراج إلى ذلك الخلود .
في الكتاب عقل الإنسان، فلسفته البدائية حين رأى أن الكون خلق من العناصر الأربعة الماء والهواء والتراب والنار، ومن امتزاج بعض عناصرها وتنافر البعض الآخر نشأت كل الكائنات الأخرى، وقد دون تلك الرؤى لتبقى للخلف، ثم فسلفته المتطورة مع عقلانية سقراط وروحانية أفلاطون، ومنطق أرسطو الذي اعتبره الفكر القديم المثيل الصوري للعقل، واحتكموا إليه في كل شيء، وبنوا عليه سائر علومهم حتى المادي منها على مدى عصور طويلة إلى أن جاء فرانسيس بيكون ووضع المنهج العلمي القائم على التجربة الحسية، وأدار هو وفلاسفة العلوم من بعده ظهورهم لمنطق أرسطو والفلسفة العقلانية برمتها، ليسجل الكتاب انبثاق العلوم التجريبية الواحد تلو الآخر ويواكب تطورها وتوسعها، وتشعب كل منها إلى علوم لا حصر لها، لكن ظهور العلوم الدقيقة وضع المنهج التجريبي في مأزق، لم يستطع الخروج منه إلا بقبول مبدأ الاحتمال والظنية، لتتسرب العقلانية من جديد وينفتح الباب أمام ما عرف بالفلسفات الإنسانية، التي ستذهب بالعقل بعيدا في غمار اتجاهات الإدراك والشعور وغيرها من الظواهر التي لا يزال العقل البشري العجيب ينقلها من ذاتي صرف إلى موضوع للعلم، ويسجل براءة اختراعها في كتابه الذي لا يفارقه .
في الكتاب تاريخ المشاعر البشرية، وتقلبات الوجدان بين الفرح والحزن، والحب والبغض، والإقبال والصد، النصر والهزيمة، الوجدان والفقدان، وغيرها من انفعالات النفس البشرية التي لا تتوقف، تعيش القلق الوجودي بمعنييه، الإيجابي والسلبي، كأن الريح تحتها تحركها أينما اتجهت، على حد عبارة الشاعر الخالد أبي الطيب المتنبي، رسم الإنسان تلك المشاعر بالكلمة فكانت شعرا وبالوتر فكانت لحنا وبالريشة فكانت فناً تشكيلياً .
دواوين الشعر، عربية وأجنبية قديمة وحديثة، لا تزال تتداولها الأيدي وتذهب من قارئ لقارئ، وتقف سجلاً شاهداً على ذلك التاريخ الطويل من المشاعر، نقرأها فنهتز بها، وننفعل كأننا نحن ذلك الشاعر الذي كتبها، رغم أنه قد تكون آلاف السنين تفصلنا عنه، لكنها تجربة مدونة نجد نحن فيها عزاءً لضعفنا وسندا لقوتنا، وتعمق قيم الإنسانية فينا .
في الموسيقا والغناء يشهد كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني على ما أسداه الكتاب لهذه الصناعة من خدمة، فقد ضمن الأصفهاني كتابه كل علوم اللحن وشواهده وشرح مقاماته ومناسباته، وأنواع النصوص التي تغنى مع كل لحن، وآداب مجالسه، وغير ذلك من تقاليد الطرب، فكان كتابه دستورا باقيا ينهل منه الملحنون في كل عصر ويلجؤون إليه عند غياب المعلم واختفاء الآلة، وقد حذا حذوه كثير من الكتاب في عصور لاحقة فزادوا تراثه بما استجد في عصورهم، والظاهرة لا تقتصر على العرب، بل تعم الأمم الأخرى، وما يقال في الموسيقا يقال في الفنون التشكيلية وسائر الإبداعات البشرية حفظها ذلك الاختراع السحري الخالد .
في عصرنا الحاضر أصبح الكتاب في كل مكان، في البيت وفي المكتب وفي الحقيبة، وفي القطار، وتطور شكله ونوعه بشكل جذري، فأصبح إلكترونياً، لا يشغل حيزاً في المكان ويسهل حفظه واسترجاعه واقنتاؤه بالملايين، ولم يعد عمر المرء يكفي لقراءة كم الكتب التي يخزنها في ذاكرة جهازه، وشمل الكتاب الحديث كل الموضوعات، لم يترك مهماً ولا حقيراً منها إلا ووثقه ونشره، تشعب بتشعب الوعي البشري، وجنوحه إلى الاستفادة من كل شيء، وإخضاعه كل موضوع للدراسة والبحث . فنيا أصبح الناشرون يتفنون في إخراج الكتاب ليكون جذابا، وليعطي غنى بصريا للقارئ قبل أن يلج إلى داخله الذي يفترض أن يعطي هو الآخر غنى عقليا، وأصبح الكتاب تمثيلا للعقل البشري، يبوب ويفصل على حسب تفصيلات التفكير العقلي لكاتبه، مما ارتقى به أكثر، وعزز ارتباط القارئ به، على الأقل في ناحية الكتاب الورقي .
لو لخصنا مفهوم الكتاب اليوم لقلنا إنه باختصار هو (الإنسان) في كل تفاصيله الوجودية، وفي علاقته مع كل ما يحيط به، فمن لم يقرأ الكتاب لم يفهم الإنسان، ولم يعش تجربة الوعي الإنسانية في بعده المثالي الراقي، ومن لم يقرأ لم يخرج من إهاب الحيوانية إلى حلة الإنسانية، ولم ينخرط في مغامرة البشرية الجميلة لمواجهة الزمن