بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 10 ديسمبر 2009

البنية الثقافية للعيد


أفق
البنية الثقافية للعيد
آخر تحديث:الاثنين ,30/11/2009
محمد ولد محمد سالم

تقوم ثقافة العيد على بنية احتفالية ذات دلالة أخلاقية هي في الصميم رسالة انسجام نفسي واجتماعي، وتتلخص البنية الاحتفالية للعيد في لبس الجديد، ثم حضور الألعاب والاحتفالات الجماعية التي تقام بهذه المناسبة، من سباقات ومباريات وحفلات غناء وغير ذلك من الأنشطة الجماعية التي لا تخلو من بُعد ثقافي والتي كانت المجتمعات تحرص عليها، حتى إنها جعلت العيد مناسبة لإقامة حفلات الزفاف إمعاناً في إظهار البهجة.
وتدل كل عناصر هذه الاحتفالية على إرادة التواصل وتأكيد روابط الود والمحبة بين الناس عامة، فللّباس الجديد بهجة في النفس، وأما الزيارة فهي عنوان التواصل، إذ تسمح بالمواجهة فيحمل الوجه للوجه ما في القلب من مودة، ويصدق اللسان ذلك الشعور بالتبريكات والتمنيات الجميلة، فتطمئن الأنفس وتتآلف ويصفو ودها ويذهب جفاؤها، وتأتي الهدايا المتبادلة وما يقدمه القادرون للمحتاجين من خيرات العيد لتعزز هذه الرابطة، وتستل سخيمة الحقد والكراهة من الأنفس.
تلك هي الأبعاد العميقة للبنية الثقافية للعيد فهو رسالة مودة وترابط اجتماعية تتجدد من حين إلى حين، لكن هذه البنية بدأت اليوم تتبدل عناصرها وتختزل في إطارات جديدة، وذلك بسبب تعقد الحياة ودخول التكنولوجيا في أخص تفاصيل الحياة الإنسانية، فأصبح التلفون، بل الرسالة النصية أو الإيميل بديلاً عن الزيارة، وفي ذلك ما فيه من تغريب للإنسان وتباعد بين الأشخاص، فما قيمة رسالة تهنئة من أخ إلى أخيه أو من بنت إلى أمها أو عمتها إذا كان متاحاً لها أن تتصل بها في كل لحظة، لن يكون ذلك سوى دلالة على الجفاء والعزوف عن التلاقي، وأصبح السفر للسياحة في أماكن بعيدة وفي مجتمعات قد تكون مختلفة ثقافة وحضارة بديلاً عن المشاركة في الأنشطة الاحتفالية الجماعية في وطن الإنسان وبين أهله، ولم تعد نفقات السفر تترك لصاحبها ما يمكن أن يصل به المحتاجين. ويبدو أن هذا الاتجاه سيجعل العيد شيئاً فشيئاً مناسبة للعزلة والابتعاد عن الآخرين. ويزيد من الهوة بين أفراد المجتمع بدل أن كان موجهاً لتعزيز الترابط.
إن هذا التفكك في بنية تلك الاحتفالية الثقافية المسماة “العيد” ليس سوى مظهر من كثير من الاحتفاليات والبنيات الثقافية الأخرى التي بدأت تتفكك في مجتمعاتنا وتفقد معانيها منهزمة أمام ظواهر أخرى دخيلة لا تزيدنا إلا إيغالاً في الوحدة والتفرد التي كانت سبباً لأمراض نفسية واجتماعية عصفت بكثير من المجتمعات ودمرتها وأحالتها إلى “فردانية” متوحشة، وهو خطر داهم بحاجة إلى مواجهة منهجية قادرة على وضع تصور تربوي يعيد دمج الفرد في وسطه الاجتماعي ويشجعه على المشاركة والإحساس بقيمة الجماعة بوصفها متنفساً وسنداً للفرد.

dah _tah@yahoo.fr
الخليج

الدولة العثمانية والثقافة العربية


الدولة العثمانية والثقافة العربية
آخر تحديث:السبت ,28/11/2009
محمد ولد محمد سالم


1/1

تأسست الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن السابع الهجري أي الثالث عشر الميلادي، على يد عثمان آرطغرل بن سليمان شاه ت 726ه 1325م، وكان أبوه زعيم قبيلة مسلمة من سلالة الإيغوريين الأتراك، وقد استطاع أن يخضع القبائل في آسيا الصغرى “منطقة الأناضول” ووضع أسس دولة منظمة ولها جيش قوي، وبدأ التوسع على حساب الدولة البيزنطية، وعدّ بذلك المؤسس الحقيقي للدولة العثمانية، وقد اتخذ لنفسه لقب السلطان وصكت النقود باسمه، كما نودي باسمه في خطبة الجمعة.
تمت للعثمانيين السيطرة على العراق سنة 1524 بعد سجال طويل مع الدولة الصفوية التي كانت تحتل بغداد ودخل سليمان القانوني بغداد ثم حاصر تبريز عاصمة الصفويين حتى صالحوه، وبذلك أنهى أطماعهم في العراق، وكان العثمانيون قد استولوا على بلاد الشام وفلسطين سنة (922هـ الموافق ل 1516م)، ومصر:سنة (923هـ الموافق ل 1517م)، ثم جزيرة العرب والحجاز، ثم اليمن 1532 وألحقوا بها شمال إفريقيا سنة ،1552 وبذلك تمت لهم السيطرة على كل البلدان العربية تقريباً، بل كل البلدان الإسلامية، وملكوا القسطنطينية عاصمة بيزنطة ليجعلوها عاصمة ملكهم “استانبول”.
كان الوطن العربي قبل سيطرتهم مزقا من الأقاليم والمدن والدويلات المتصارعة وكانت حياة المدن والأقاليم العربية قد تدهورت في شتى نواحيها، وفقدت المدن التي كانت منارات للعلوم والثقافة وهجها، وجف معين العطاء فيها، فبغداد عاصمة الخلافة العباسية وحاضرة الإسلام كان قد احتلها التتار المغول سنة 656هـ 1258م وعاثوا فيها فسادا وأسالوا نهر دجلة حبرا أسود بما أتلفوا فيه من كنوز العلم التي حوتها خزائن هذه المدينة، وتبعتها في ذلك أهم مدن العراق الأخرى كالكوفة والبصرة، وأما الشام فقد ظلت لوقت عرضة لهجمات الصليبيين الذين أنهكوها، واحتلوا القدس قرابة ثمانين عاما، ولم تسلم منهم دمشق ولبنان، وفي مصر لم يكن الحال بأفضل فقد تناهبها قادة المماليك وأثخنتها صراعاتهم شبه اليومية ودسائس بعضهم لبعض، وفي الجزيرة العربية قبائل يغير بعضها على بعض، حتى لم تعد تستقيم بها دول. ونتج عن هذا الوضع أن هزلت الثقافة العربية وتراجع العطاء وذهب ماء الإبداع واستشرى الجهل.
ميراث
حين ورث العثمانيون هذا الواقع كان همهم الأول هو تثبيت أركان ملكهم وتوسلوا لذلك بالقوة وبالوسائل التي تستميل القلوب، فاعتنوا بمكة والبيت الحرام وأغدقوا الأموال على أوقافه وأوقاف المدينة والمسجد النبوي، وعلى القدس فبنى سليمان القانوني(ت1566) سورها الحالي ورمم المسجد الأقصى وقبة الصخرة، فكان أن حافظت هذه الأركان الإسلامية على مكانتها كمقدسات ومحاجّ للمسلمين ومنارات علم يملأ العلماء والطلاب أركانها، وجعلوا للأزهر مشيخة وأقروه مدرسة للمذاهب الفقهية الأربعة على اختلافها المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، فكان أهم مؤسسة تعليمية في مصر والوطن العربي، وقد قاد بعض شيوخه تيارات التجديد في ذلك العصر كما فعل الشيخ أحمد الدمنهوري الذي تولى المشيخة بين 1768م و1776م، فقد ألف في العلوم العقلية والتطبيقية فضلا عن العلوم النقلية التي هي اختصاصه الأول.
أما في الحواضر التركية فقد اهتم السلاطين العثمانيون بتشييد المساجد والمدارس الدينية المرتبطة بها لتعليم الدين واللغة العربية، كما نشطت الزوايا الصوفية في بث العلم بين الناس وانتشرت المكتبات، فنشأت أولى المكتبات مع المدارس الدينية في كل من مدينتي بورصة وبولو. وتعتبر المكتبة التي أنشئت ضمن مدرسة دار الحديث في أدرنة العاصمة القديمة للعثمانيين من أوائل المكتبات في العهد العثماني. وقد أنشأ السلطان محمد الفاتح ت 1481 في القسطنطينية بعدما سيطر عليها مدارس ومكتبات. وكانت أولاها تلك الموجودة في مجمع مسجد الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري، وبعدما شيد المسجد المعروف باسمه “مسجد السلطان محمد الفاتح” سنة 1470م أنشأ حوله ثماني مدارس أمر بأن يدرس فيها العلم وصحاح اللغة العربية، ليرتادها طلاب العلم وزودها بمكتبة مركزية لتسهيل وصول الطلاب إلى الكتب والمصادر في كل وقت.
وتقول المصادر التركية إن عدد الكتب التي أهداها السلطان محمد الفاتح للمكتبة المركزية بلغ ثمانمائة وتسعة وثلاثين كتابا، كما أنشأ مكتبة في قصر طوبقابي ونقل إليها الكتب التي كانت موجودة في أدرنة بعد نقل العاصمة إلى استانبول.
ولم يكن إنشاء المكتبات العلمية في العهد العثماني مقتصراً على السلاطين، بل كانت هناك مكتبات أنشأها بعض الولاة ومشاهير العلماء في استانبول والمدن الأخرى مثل أدرنة وبورصة وأماسيه وقونيه، ومن هؤلاء العلماء والولاة محيي الدين العلائي وعلي باشا العتيق وأحمد جلبي أفضل زاده ومحيي الدين جلبي، وغيرهم. وقد أولاها السلطان أحمد ت 1740 اهتماما كبيرا حيث أنشئت عشرات المدارس، وازدادت بشكل كبير في عهد السلطان محمود الأول.
وتشير الإحصاءات التركية اليوم إلى أن عدد المخطوطات المكتوبة باللغة العربية يزيد على مائة وستين ألف مخطوطة، تتقاسمها أكثر من خمس وثلاثين مكتبة تابعة لوزارة الثقافة التركية. بينما لا يتجاوز عدد المخطوطات المكتوبة باللغة التركية سبعين ألفا. وهو فرق دال على ما كانت تحظى به اللغة العربية كحامل للعلم والثقافة الإسلامية في الدولة العثمانية.
أما الأدب والشعر فقد كانت سوقهما غير نافقة في دولة بني عثمان، ذلك أن الثقافة - كما أسلفنا- في هذه الفترة كانت قد انحطت انحطاطا كبيرا، ونضبت ينابيعها، ولم تزد الفترة العثمانية حال الأدب إلا سوءا لأنهم كانوا أعاجم لا يفهمون الشعر، وقد كان رواج الشعر في العصور السابقة بسبب تشجيع الأمراء له وتقريبهم للشعراء وإجازاتهم لهم، وأما النثر فقد لحقه الضعف بسبب استبدال اللغة التركية باللغة العربية في دواوين الحكم، فلم يعد يحتاج إلى كتبة باللغة العربية. وكان ديوان الإنشاء أهم ما ازدهر به النثر في العصور التي سبقت ذلك، وشاع في هذا العصر التكلف الكثير والتقليد واللغز في الشعر والأحاجي وأكثر الشعراء من التفنن في المحسنات البديعية لا لشيء إلا تقصدا للإغراب وعجزا لتقحمّ مجالات الإبداع، وكثر في النثر الخطأ وشاعت فيه لغة العامة، ومع هذا فقد شهدت جوانب الثقافة الأخرى عطاءات كبيرة، ويكفي أن نذكر أن هذا العصر هو الذي عاش فيه وشاعت كتب التاريخ والموسوعات واللطائف، مثل كتاب “اللطائف النووية في المنح الدمنهورية” للشيخ الدمنهوري الذي ألف في مجال العلوم التطبيقية، ففي الكيمياء ألف “الدرة اليتيمة في الصنعة الكريمة”، وفي الجيولوجيا “رسالة عن الحياة في استنباط المياه” وفي الطب “القول الصريح في علم التشريح” و”إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد” وكتاب “بدائع الزهور في وقائع الدهور” لابن إياس المتوفى 930ه وكتابه في تاريخ مصر، ومنها كتاب “مفتاح السعادة ومصباح السيادة” ل”طاش كبري زاده” المتوفى في سنة 968ه وكتابا “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” و”أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض” لأحمد المقري التلمساني المتوفى سنة 1041ه.
أما التصانيف النحوية والفقهية فقد شهدت تطورا كبيرا تمثل في ظهور الحواشي وتفاسير التفاسير والمختصرات والأنظام مثل أرجوزة لعصام الدين بن عربشاه الإسفراييني المتوفى سنة (951ه) باسم “الألغاز النحوية” ومنظومة “الدرة البهية في نظم الآجرومية” لشرف الدين العمريطي ت 97ه ومنظومة “الفرائد الجميلة” للشريفي ت “1016ه”. و”جوامع الإعراب وهوامع الأدب” لعمر الفارسكوري ت “1018ه”، وقد نظم بها “جمع الجوامع” وشرحه “همع الهوامع” لجلال الدين السيوطي، وألفية علي بن محمد الأجهوري ت سنة (1066ه). وغيرها كثير وأما الفقه وعلومه ففيها من تصانيف وشروح وحواش ما لا يكاد يحصى، وشيوعها وكثرتها في المذاهب كلها تغني عن ذكرها، ويعتبر النظم أسلوبا تربويا يهدف إلى تسهيل الحفظ على طلاب العلم، ولا يخفى ما للشروح من دور في توضيح غوامض النصوص.
يوصف العهد العثماني في الأدبيات التاريخية العربية بأنه عصر انحطاط للثقافة العربية الإسلامية ونكوص لها، ويحمّل الكثير من المؤرخين المسؤولية في ذلك للعثمانيين، ويصمونهم بوصمة العنصرية والتعصب على العرب، والحقيقة أن الواقع لم يكن كذلك فلئن كان السلاطين العثمانيون يؤثرون قوميتهم وينحازون لها ويقدمون لغتهم على غيرها من اللغات، لئن كان ذلك كذلك فإنه لم يؤثر عنهم أنهم حاربوا اللغة العربية ولا الثقافة الإسلامية، ولم يضايقوها في بيئاتها أو ينكروا على أهلها استخدامهم لها، وتشهد وقائع التاريخ كما قدمنا آنفا أن العثمانيين استولوا على بلاد العرب وفي وقت كانت فيه اللغة العربية الفصحى والثقافة تلفظان أنفاسهما الأخيرة، ويحسب لهم أنهم أبقوا على معاقل من معاقلها قائمة، وفتحوا لها المدارس في حدود اهتماماتهم الدينية، ولم يكن منتظرا من العثمانيين أن تزدهر اللغة العربية ولا ثقافتها في عهدهم بحكم أن دولتهم نشأت واستتب أمرها خارج بلاد العرب وخارج لغتهم وثقافتهم.
ولولا آصرة الإسلام التي ربطت الأتراك بالعرب وجعلتهم يحترمون لغتهم وثقافتهم لما كان عليهم بأس لو أنهم حاربوها ومحوها من الأرض، لكنه جلال اللغة المرتبط بجلال الرسالة التي تحمل والتي آمن بها العثمانيون جعلتهم، يعظمونها ويدافعون عنها وعن أرضها، فقد صدوا هجمات البرتغال الصليبيين على ميناء جدة عام “923هـ/ 1517 م” وعلى ميناء السويس عام “926هـ/ 1520م”، وعلى إثر هذه الهجمات أنشأ العثمانيون قاعدة بحرية ظلت تمنع السفن المسيحية من دخول البحر الأحمر، وفي شمال إفريقيا كان السجال بينهم وبين الصليبيين الذين حملت لواءهم المنظمة الصليبية المعروفة باسم “فرسان القديس يوحنا”، والتي اتخذت من جزيرة مالطة مستقراً ودعمتها كل من البرتغال وإسبانيا، وكثفت هجماتها على تونس، ولم يهدأ الصراع حتى هزمهم العثمانيون وشتتوا شمل أساطيلهم ليستتب لهم الأمر عام “982 هـ/ 1574م”.
ويذكر التاريخ العربي الحديث موقف السلطان عبدالحميد من توطين اليهود في فلسطين في وقت ضعفت فيه دولته، ولم تعد له سيطرة على كل أجزائها لكنه رفض بشدة توطينهم فأصدر سنة 1882 فرمانا يمنع عليهم الإقامة فيها، وأتبعه بقرارات أخرى تشدد على ذلك المنع وتتخذ إجراءات صارمة فيه مثل ما جاء في تعميم 1902:
“كنا شددنا على منع دخول “الإسرائيليين” إلى أرض فلسطين، ولكن الموظفين تراخوا في تطبيق الأمر وأساءوا تأويله.
و”الإسرائيليون” يأتون بحجة الزيارة ويتوطنون كما أشعرنا متصرف القدس الشريف. إن مكثهم لا يجوز بأي حال من الأحوال. إن مأموري الدولة مسؤولون بشدة فوق العادة عن تنفيذ هذا الأمر بدقة، وحتى اليهود من أتباع الدولة العلية لا يجوز لهم الإقامة بصفة دائمة.
إن هذه الأوامر لا تمانع في زيارة اليهود للأراضي المقدسة منفردين كانوا أو جماعات، ولكنها لا تسمح بإقامتهم الدائمة ويجب أخذ تعهد من قنصليات الدول التابعين لها”.
إنه لو لم يكن للعثمانيين من حسنة سوى أنهم ضربوا طوقا دفاعيا على بلاد العرب وصدوا عنها هجمات الأمم الأخرى وخاصة الصليبيين الحاقدين وحفظوا لها خصوصيتها وثقافتها في عصور الظلام التي لا مكان فيها إلا للقوى، والعرب يومئذ شذر مذر، لكفاهم، ولاستحقوا عليه الشكر من قبل كافة العرب والمسلمين.
الخليج