بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

الفعل الحضاري للعرب

أفق
الفعل الحضاري للعرب
آخر تحديث:الثلاثاء ,04/10/2011
محمد ولد محمد سالم
من أين يبدأ الفعل الحضاري لأمة ما، بحيث يتجاوزها ذلك الفعل فتؤثر به في غيرها وتتخذ لأجله قدوة، يستلهمون منها أفعالهم، هل تحتاج أن تصل إلى آفاق بعيدة في التطور؟
عندما نشاهد الشعب الأمريكي ينزل إلى الشارع ويحتل شارع وول ستريت، ويرفع شعارات من قبيل “الشعب يطالب بإسقاط النظام المالي”، وعندما نشاهد قبل ذلك ساحات اليونان مملوءة بالمحتجين الذين يرفعون شعارات “الشعب يريد إسقاط الحكومة”، وفي السنغال يرفع شباب من المحتجين “الشباب يريد التغيير” . . عندما ترفع تلك الشعارات في جنوبي الكرة الأرضية وشماليها، وفي بلدان غير عربية وبعدما شاعت شعارات الثورات العربية، وأساليب احتجاجها، فإننا لا بد أن نتوقف عند مثل ذلك الحدث، فهو ليس حدثاً عابراً ولا مجرد تشابه في الشعارات، بل إن له دلالة قوية على مدى التأثير الذي لعبته تلك الثورات في الساحة الدولية والسمعة التي وصلت إليها، وقديماً أثرت الانتفاضة الفلسطينية بأطفالها وحجارتهم في شعوب العالم، فشاهدنا في بعض زوايا العالم أطفالاً بحجارتهم يحتجون على ظلم حكوماتهم .
لو دققنا النظر في مثل تلك الأفعال التي أصبحت تستلهم من قبل الآخرين فإننا يمكن أن نسميها أفعالاً حضارية لأنها انتقلت من صبغتها المحلية إلى صبغة عالمية، وبالتالي نقول إن الأمة العربية قادرة على التأثير الحضاري، وقادرة على المشاركة في بناء وتطوير الحضارة البشرية، وصياغة مفاهيمها، وشرط هذا الفعل الحضاري ليس شيئاً خارجاً عن المجتمع، ولا هو خارق للعادة والعقل، بل هو شرط بسيط قريب وهو الانطلاق من الذات، من القدرات الكامنة في الشعب أو الأمة وإنجاز فعل يتسم بالوحدة والإصرار على العمل والشجاعة قابل للتعميم .
ليست قضية التطور أو التأثير الحضاري لأمة من الأمم شيئاً آخر خارجاً عن قدراتها الذاتية، وليست مسألة انتظار لمستوى من التطور المادي والرفاه الاقتصادي حتى يسمعنا الآخرون، ولا استجلاباً لمظاهر حياة الأمم الأخرى واستزراعاً لها بتعسف في أرض لا تلائمها، ولكنها قضية فعل واع ينشد مستقبلاً أفضل وينطلق من عمق الأمة ويحمل مقوماتها وسماتها الخاصة . . فعل صريح وصادق يستجيب أيضاً لطبيعة النفس البشرية ويقبل التعميم عليها .
ما حدث من جاذبية لساحات الاحتجاج العربية يمكن أن يبنى عليه لإحداث تغييرات في واقع الاقتصاد والمجتمع والثقافة، ولصناعة “جاذبيات” أخرى في تلك المجالات، ويمكن أن يكون فاتحة لتغيير مزدوج، فمن ناحية سيعيد للعرب ثقتهم بأنفسهم وأنهم في مستوى جميع الشعوب، وقادرون على التأثير وما عليهم إلا البدء في هذه اللحظة ومن هنا، ومن ناحية أخرى سيسهم في تغيير الصورة النمطية التي تنظر بها بعض الشعوب للأمة العربية خاصة الشعوب الغربية التي تعتبر العرب متخلفين وغير قابلين للتطور، فكلما استطاع العرب ابتداع طرق لتطوير أدائهم الحضاري، كلما فرضوا أنفسهم واحترامهم على الآخرين .
dah_tah@yahoo.fr
الخليج http://www.alkhaleej.ae/portal/e8527743-5dea-4e6e-8b87-b01914a61eac.aspx

في العمق من اهتمامات الإنسان

أفق
في العمق من اهتمامات الإنسان
آخر تحديث:الأربعاء ,12/10/2011
محمد ولد محمد سالم
تقدم بعض الكتابات التي تعنى بقضايا المثقفين العرب إدانة للمثقفين أنفسهم على مواقفهم المتعالية من شعوبهم حيث ينظرون إليها على أنها عامة ودهماء وجهّال، وتعتبر تلك الكتابات أن تلك النظرة علاوة على ما فيها من احتقار للإنسان وإنسانيته، قد أدت إلى جعل الخطاب الثقافي العربي خطاباً تجهيلياً لا يهدف إلى إحداث وعي ولا إلى تغيير وضع اجتماعي وفكري ما، بل إن غايته هي أن يبقى المثقف مثقفاً في عليائه، والدهماء دهماء في قاعها .
للتدليل على وجهة النظر هذه يقدم أصحاب هذا الرأي مقارنة ببعض المثقفين الغربيين الذين حملوا همّ مجتمعاتهم وعاشوا بعمق ذلك الهم في دمائهم، فأصبحوا لا يرون في اختراعات القرن العشرين وكل ما أحدثه من تكنولوجيا من أهمية سوى ما ما يعود منها على الإنسان بنتيجة مباشرة، وهي أمثلة جديرة بالتوقف عندها، لا مراء في ذلك، لأن همّ أي مثقف ينبغي أن يكون بالدرجة الأولى هو الإنسان، وهو ما يحقق فائدة للإنسان .
هناك ملاحظتان يمكن إبداؤهما على هذا الرأي، إحداهما أنه ينبغي أن نقيم فصلاً بين ممارسة المثقف في حياته الخاصة وبين ما يكتبه، صحيح أن قمة الأخلاق والصدق مع الذات ومع الآخرين هي أن تطابق الأفعال الأقوال، لكنه ما لم يحدث ذلك فإن ما يهم الناس هو خطاب المثقف الذي يبثه إليهم عبر كتاباته أو عبر أية وسيلة إيصال أخرى، فهذا هو الذي يؤثر فيهم وهو الذي ينتظر منه أن يعزز وعيهم ويعمق إحساسهم بإنسانيتهم، وثانيتهما أن هذا الرأي عمّم على كافة المثقفين العرب فسلبهم كل قيمة إنسانية وجعل خطابهم نوعا آخر من قمع الشعوب التي لا تحتاج إلى مزيد قمع، ويكفيها ما هي فيه، والواقع أن قطاعات كثيرة من المثقفين لا تعيش هذا الاستعلاء وقد نذرت نفسها لشعوبها وانغرست في تربة تلك الشعوب، وربما يكون الشعراء والكتاب أكثر من يمثل تلك القطاعات، وأقرب مثال على هؤلاء هو الكاتب الروائي خيري شلبي الذي رحل عنا في الأمس القريب، فهو أصدق من يمثل هذا النوع فقد عاش بقصصه الكثيرة مثل “السنيورة”، و”الأوباش”، و”الشطار”، و”الوتد”، و”فرعان من الصبار”، و”موال البيات والنوم”، و”ثلاثية الأمالى”، و”وكالة عطية”، في العمق من اهتمامات الإنسان، وذهب بعيداً في أغوار المجتمع ليستجلي نماذجه بتنوعها وتنوع حيواتها ومعاناتها، وليؤكد على الجوانب الإنسانية فيها، فرداً وجماعات، وفي رواية “الجوع” يرتفع الكاتب محمد البساطي بشكل باهر بنموذج تلك الأسرة الجائعة التي يتضور أفرادها جوعاً، ولا يجدون خبزة يأكلونها ومع ذلك يحس القارئ بسمو إنساني فريد لدى أولئك الأفراد فهم لا يتسخطون ولا يحقدون على الآخرين أو يحسدونهم، بل تسير بهم الحياة هادئة بسيطة، وقد طووا بطونهم على ألم مكبوت .
مثل تلك النماذج من المثقفين لا يمكن اعتبارها متعالية على المجتمع مجهّلة له، فهي تعمل في الصميم على تأصيل إدراكه بوجوده وقيمته الإنسانية ।
الخليج http://www.alkhaleej.ae/portal/72635231-9ce6-45ec-9154-2fcbf2057a0b.aspx

من أجل الشعر العربي

أفق
من أجل الشعر العربي
آخر تحديث:الأربعاء ,19/10/2011
محمد ولد محمد سالم
يأتي ملتقى “الشعر من أجل التعايش السلمي” الذي اختتم مساء أمس في دبي ونظمته مؤسسة جائزة عبد العزيز بن سعود البابطين للإبداع الشعري ليوفر مساحة حرة من الحوار بين ثقافات مختلفة ومتنوعة، وإمكانية للتواصل أو التفاهم بين تلك الثقافات، باعتبار أن الشعر هو أقدر الأنواع التعبيرية على إبراز جوهر الإنسان وقيمه المطلقة، تلك القيم التي يشترك فيها كل البشر، والتي بها يحققون معنى أخوتهم على وجه الأرض، كما يؤكد أيضا - من خلال وجود عدد كبير من الشعراء والمثقفين العرب- أن الثقافة العربية جسم واحد وكيان متكامل رغم كل الخلافات، ورغم أوجه الإحباط الكثيرة في حياتنا، وكما قالت الدكتورة رفيعة غباش في إحدى جلسات الملتقى “إذا كانت السياسة وأشياء أخرى كثيرة تفرقنا فإن الثقافة تجمعنا وتوحدنا، وإن علينا أن نركز عليها لبناء مستقبلنا المشترك” .
علاوة على تلك الميزات فإن الملتقى يؤكد التزام هذه المؤسسة الفريدة “مؤسسة جائزة عبد العزيز بن سعود البابطين للإبداع الشعري” بما قطعته على نفسها منذ أكثر من عقدين من الزمن من العمل من أجل الشعر العربي، باعتباره رمز الهوية وأسمى تعبير للجمال لدى الأمة، وقد كانت البداية من حب طافح لهذا الشعر ولعذوبته وجماله وإنسانيته ما حدا بصاحبه إلى التفكير في إقامة صرح له، وأهداه تفكيره إلى إنشاء هذه المؤسسة التي أصبحت من خلال كم كبير من الأنشطة راعية حقيقية للشعر في الوطن العربي، ويتذكر الكثيرون كمْ كان لمعجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين عند ظهوره في تسعينات القرن الماضي من صدى حسن وواسع في الأوساط الثقافية العربية، فقد شكل ثبتا ببليوغرافيا لأهم الشعراء المعاصرين في كل الوطن العرب، وأصبح الباحثون والمثقفون يومها، وقبل انتشار الإنترنت، يمتلكون مادة شعرية شاملة توفر عليهم الكثير من جهد البحث .
ولم تكن الجائزة التي تأسست في القاهرة عام 1989 بأقل شأنا من المعجم، فعلى مدى اثنتي عشرة دورة شكّلت جائزة عبد العزيز بن سعود البابطين سندا قويا للمبدعين من الشعراء والنقاد العرب من خلال جوائزها الأربع التي تقدمها كل سنتين وهي: الجائزة التكريمية للإبداع في مجال الشعر، وجائزة الإبداع في مجال نقد الشعر، وجائزة أفضل ديوان، وجائزة أفضل قصيدة، وكانت تصاحب كل دورة بحوث عن شاعر عربي أو جيل من أجيال الشعر العربي، ما زاد من قيمة الجائزة ووسع الفائدة منها، ولم يتوقف الأمر عند هذا فقط، فقد درجت الجائزة على تنظيم ملتقيات حول الشعر العربي في الوطن العربي وخارجه، تفعيلا لساحته وتعريفا به .
ما أجمل أن يحب المرء ثقافته ولغتها وأدبها وأن ينفق حر ماله في سبيلها، لا يسعى لمقصد ربحي، ومتى كانت الثقافة مربحة؟، وما أحوج الثقافة العربية إلى مثل أولئك المخلصين الذين يعطونها بلا حساب اعتزازا بها وإكراما لنبلها وسموها .
Dah_tah@yahoo.fr
الخليج http://www.alkhaleej.ae/portal/0d84b5a2-a879-497a-be67-63f2c961df4c.aspx

محترف كتابة

أفق
محترف كتابة
آخر تحديث:الأربعاء ,02/11/2011
محمد ولد محمد سالم
“محترف كتابة” هو الاسم الذي يطلقه مجلس الجائزة العربية للرواية العالمية على الورشة التي تنظمها سنوياً لمصلحة مجموعة من الكتّاب العرب الشباب بإشراف كاتبين عربيين متميزين .
تقوم الفكرة على جمع مجموعة من الكتّاب في ظروف مواتية للكتابة، بحيث يكونون متفرغين تماماً لأن يكتبوا مدة عشرة أيام ينجزون خلالها قصة قصيرة أو فصلاً من رواية حسب اختيار كل منهم، ويلتقي الكتّاب والمشرفون يومياً في جلستين صباحية ومسائية، يقرأ فيها كل واحد منهم ما أنجزه بين كل جلستين ويناقشه الآخرون ويبينون له مناطق القوة والضعف في ما كتبه، ويصوب المشرفان الآراء، ويطلب إلى الكاتب أن يراجع ما كتبه على ضوء ما قدم له من آراء .
تجربة هذا العام هي امتداد لتجربة العامين السابقين، وقد تميزت بجمعها مجموعة من الكتّاب الشباب من سبع دول عربية كلهم لهم تجربة في الكتابة الروائية أو القصصية وأغلبهم لهم كتب مشهورة ومعروفون في بلدانهم وربما خارجها، كما هو حال جوخة الحارثي، ومحمود الرحبي من عمان، ورشا الأطرش من لبنان، ومحسن سليمان من الإمارات، ما قد يعطي فكرة عن اتجاهات الكتابة الروائية في المستقبل، باعتبار أن أولئك الكتّاب يتوقع أن يكون لهم تأثير على الأقل في بلدانهم .
من ناحية أخرى فإن هذا التجمع أظهر أن لغة الكتابة الروائية هي لغة واحدة، والخيارات الأسلوبية خيارات متقاربة، وأن الكتابة الروائية العربية قطعت أشواطاً بعيدة من التقدم، كما أظهر أيضاً أن تنوع البيئات وتعدد الخلفيات مصدر غنى للعوالم الروائية والقصصية العربية، فتكتب فيه رشا الأطرش عن عالم المرأة العربية المعاصرة وإحباطاتها، وهي تنحدر نحو خريف العمر، ولا يبتعد محمود الرحبي عن تلك الأجواء من خلال أسطرة واقع الطفولة، في تلك القرى، ولا يبعد محسن سليمان عن أجواء الطفولة لكنه يربطها فيبحث في رؤية الأطفال النقدية إلى الغرباء الذين يدخلون الأرض ويسعون لأن يرسخوا فيها أقدامهم، ويبسطون عليها سلطتهم، أما علي غدير فيلتقط أجواء قرى كركوك وأحلام شبابها في العيش الرغيد في بغداد أواخر القرن الماضي، وبشيء من الفانتازيا تقرأ سارة الدريس من خلال الفنجان، التمايزات الطبقية في المجتمع الكويتي المعاصر، وفي عوالم متخيلة لمجتمع معاصر يجرّب البحريني وليد هاشم كتابة الرواية البوليسية، ومن موقف فتاة من الزواج تطل تقاليد المجتمع الموريتاني وموقع الفتاة فيها .
كل تلك العوالم تجمعت بشكل جميل لترسم خريطة مصغرة لعوالم المجتمعات العربية، وإمكاناتها الهائلة كمنبع لا ينضب للكتّاب العرب، تحمل من الجدة والإدهاش ما يجعل الاحتكاك بين أصحابه يشكل غنى لكل منهم .
كما أن الاحتكاك بكاتبين عربيين مبدعين لهما رسوخهما في عالم الكتابة الروائية هو أيضاً تجربة أخرى لها غناها الفريد، فقد كان ما قدمه أمير تاج السر ومنصورة عزالدين للمشاركين في الورشة من توجيهات وتصويبات مفيدا للمشاركين للوصول إلى حداثة روائية عربية هي في صلب الحداثة العالمية .
dah_tah@yahoo.fr
الخليج
http://www.alkhaleej.ae/portal/7810e75c-9496-412f-a78f-d3778ffdf125.aspx

المثقف العربي في الصميم من حركة التغيير

المثقف العربي في الصميم من حركة التغيير
آخر تحديث:الأربعاء ,09/11/2011
الشارقة - محمد ولد محمد سالم:

أصبح الحراك الاجتماعي والحديث عنه مناسبة جيدة للوم المثقف العربي والشكوى من دوره السلبي وغيابه عن الإسهام في التحولات التي اجتاحت مناطق عدة من الأقطار العربية، بل عدائه لها في بعض الأحيان، وعقدت حول ذلك ندوات كثيرة شخصت أسباب تلك السلبية وأرجعتها تارة إلى نظرة الاستعلاء التي ينظر بها المثقف إلى الجماهير، فهم في نظره “رعاع” و”دهماء” و”جهّال” لا يصدر عنهم رأي سديد ولا موقف سليم، وتارة إلى تعلق هذا المثقف بالسلطة وارتمائه في أحضانها وتزلفه لها، ما جعله مدافعاً مستميتاً عنها، ومنظراً حاذقاً لاستمرار سيطرتها، وبوقاً مرتفعاً بالدعاء لها، وطوراً لا تسعف هذا المثقف القدرة الصحيحة على التحليل المنطقي والعلمي للواقع فيخطئ في تقديره لما يحدث ويدفعه ذلك لاتخاذ موقف سلبي، وفي أحيان أخرى يكون الخوف هو دافع المثقف إلى تلك السلبية واللامبالاة ।
وسط تلك التحليلات والتفسيرات لم نعثر على رأي يقر بأن للمثقفين دوراً في التغييرات الجارية، ويعترف لهم بحسنة ولو طفيفة في هذه التحولات والتحركات، فهل صحيح أن المثقف العربي متعال وسلبي وخائف إلى هذه الدرجة البائسة التي حرمته من أن يسهم ولو بنقير في ما حدث؟
يذكر محمد حسنين هيكل في أحد كتبه التي تؤرخ للثورة المصرية أن بعض قادة تلك الثورة كانوا قراء جيدين لكتب العقاد وطه حسين وروايات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم من الأدباء والمفكرين مما أسهم في صنع أفكارهم التغييرية وتحفيز هممهم للثورة، ويحفل تاريخ الثورة الفرنسية بأسماء كثيرة لمثقفين كانت كتاباتهم عاملاً حاسماً في تهيئة المناخ لتلك الثورة بما بثته من أفكار تغييرية حركت ووسعت مدارك الناس وحركت الجماهير للإطاحة بالحكم المستبد، وعلى رأس أولئك المثقفين يأتي فولتير (1694-1778) الذي كان داعية صريحا إلى التغيير ونبذ الاستبداد، ومونتسكيو (،1689 1755) الذي كتب “روح القوانين”، وجان جاك روسو (ت 1778) صاحب كتاب “العقد الاجتماعي” وفرانسوا كيناي (ت 1778) الذي كتب “المخطط الاقتصادي”، وغيرهم ممن هيأوا الأوضاع للتغيير السريع والعميق في فرنسا .
أين ذهبت قصائد شاعر مثل أمل دنقل ودعوته الشهيرة “لا تصالح” التي يقرأها طلاب المدارس في أغلب البلدان العربية وقصائد نزار قباني الجماهيرية التي تحولت إلى أغان لأشهر الفنانين العرب وانتشرت لدى الجماهير، وقصائد أجيال عديدة من الشعراء العرب الذين جاؤوا بعدهم والذين ما زال الكثير منهم يحمل راية تغيير الواقع، أين ذهبت كتب مفكرين حللوا الخطاب العربي المعاصر ونظروا لحركة الواقع وطرحوا أفكارهم في التغيير من أمثال محمد عابد الجابري، وهشام جعيط، وحسن حنفي، وحسين مروة واللائحة تطول، وأين ما تمور به الصحف والمجلات في كل يوم من أطروحات وآراء حول التغيير والاستبداد، والعدل والمساواة وحرية الرأي، أليس كل ذلك هو نتاج أقلام مثقفين أصحاب رأي حر شجاع .
ليست الثورة أو التغيير طفرة ولا ظاهرة منبتة عن الواقع تحدث فجأة ومن بدون مقدمات، وإنما هي الذروة في حركة طويلة المدى تسهم في صياغتها عوامل كثيرة وأعمال دؤوبة لأناس نذروا أنفسهم لذلك التغيير، وليست التغييرات في الوطن العربي حالة شاذة عن هذه الحقيقة التاريخية، فهي نتاج لكل تلك الأطروحات وللعمل السياسي الدؤوب لأجيال من السياسيين العرب الأحرار، مع ما استجد من تأثيرات العولمة والثورة الإلكترونية، ما فتّح وعي الجماهير على آراء النخبة المثقفة وحفزهم لاتخاذ زمام المبادرة .
لن يكون دور المثقف في أي تحول سياسي أو اجتماعي دور القائد الميداني الذي يحمل الراية وينزل للشارع، وإن كان ذلك مباحا له ومحمودا منه إن هو فعله، لكن دوره الأكبر هو بما يبثه من أفكار إصلاحية، ورأي حر ينشد العدل والمساواة وحقوق الإنسان وينبذ الظلم والجور، وما يسند به حركة الجماهير من مواقف توجيهية وآراء تحريضية، فهو ليس واجهة إعلامية ولا صورة توضع على الشاشة لاستقطاب الأتباع، لكنه صاحب الرأي المتأني الذي يستقر في الفكر وينغرس في الأنفس مجرداً عن صاحبه وعن اللحظة التاريخية إلى حالة إنسانية وقناعة فكرية لا تتزحزح، وربما لهذا الدور الخفي البعيد عن الأضواء اختلط على البعض الأمر فحسب أن المثقف العربي لم يقدم شيئاً ولم يسهم فيها، في الوقت الذي هو في الصميم منها ومنكوٍ بنارها ।
الخليج

مقالب أمير تاج السر

سيرة روائية” الصفة التي اختارها الكاتب السوداني أمير تاج السر لكتابه الجديد “قلم زينب” الصادر عن وزارة الثقافة في قطر، الذي يتعرض فيه بطريقة روائية لفترة من فترات عمله طبيباً في بلده السودان، ويوحي ذلك الوصف بأن الأحداث التي يرويها كلها واقعية، لكن طريقة رواية الأحداث ورسم الشخصيات تعطي انطباعاً بأن للخيال أيضاً دوراً في تلك السيرة، فهناك اشتغال على نمذجة الشخصيات، كما أن الكاتب لم يهتم بحياته الشخصية إلا في تماسها مع أحداث القصة التي يرويها لنا .
تتلخص حكاية “قلم زينب”، في أن الكاتب كان في بداية مشواره العملي قد افتتح عيادة صغيرة في حي شعبي فقير، وذلك لتساعده على مصروفاته التي لا يفي بها الراتب الحكومي، وهو يومئذ خريج يتدرب في مستشفى حكومي في أم درمان، وفي أيامه الأولى لافتتاح العيادة زاره شخص اسمه علي إدريس، ومن تلك الزيارة تبدأ ورطة الكاتب الطبيب، حيث يختفي علي إدريس لكنه يبدأ في حياكة سلسلة من الخدع يحتال بها على الطبيب وعلى أناس قريبين منه بدعوى أنه صديق حميم له، ويبدأ الطبيب في دوامة البحث عن ذلك الشخص مستعيناً بالشرطة، وبأحد أصدقائه العسكريين، وتمر أشهر لا تتوقف فيها المقالب، ثم يعثر الكاتب على علي إدريس ذاته في المستشفى الذي أدخل إليه للعلاج، هو ومجموعة من السجناء، وحين يبلغ عنه يكتشف أنه يقضي عقوبة سجن منذ خمس سنوات، أي قبل سلسلة الحوادث التي تعرض لها الكاتب بسنوات، ولا يجد دليلاً على أنه كان يخرج من السجن لتدبير خدعه .
متعة السرد في “قلم زينب” تأتي من التقنية التي اتبعها الكاتب في حكايته للأحداث، فهو يجمع تقنية الرواية البوليسية حيث البحث المستمر الذي يقوم رجل الشرطة أو يجريه الكاتب بمساعدة العسكري، والمفاجآت الكثيرة التي تحصل له أثناء ذلك، كاحتيال علي إدريس على قريبه ليأخذ منه مالاً بدعوى أن الطبيب يريده، واحتياله على الأسرة التي تقصد الحج، وسرقته لمولد الكهرباء للعيادة وغيرها كثير، ما يحفز ذهن القارئ ويشوقه للمتابعة، وأما التقنية الأخرى فهي استدعاء الكاتب عن قصد أو عن غير قصد لتقاليد الطرائف والنوادر العربية، ونموذج الشخصية المخادعة والشخصية المغفلة في تلك النوادر التي نصادفها كثيراً، فكأننا أمام شخصية عيسى بن هشام في مقامات بديع الزمان الهمذاني وهو يتجول في سوق بغداد يقتنص المغفلين ليحتال عليهم فيسلبهم ما عندهم، ويختفي .
يمكن أن نطلق على أسلوب أمير تاج السر في هذا الكتاب “أسلوب المقالب”، لكنه ليس المقالب التي تقدم لمجرد الضحك والهزء، فالكتاب يكشف الأحداث من خلال التي تجري في ذلك الحي الشعبي الفقير في أعماق المجتمع السوداني في أواخر القرن الماضي، وما يسود فيه من تناقضات وفساد، وفيه اشتغال محترف على نماذج إنسانية يرغم القارئ على التعاطف معها والإحساس بإنسانيتها رغم مظهرها المنفر ।
الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/7cf07ca5-d351-4987-bec3-135759a694fd.aspx

الأحد، 11 سبتمبر 2011

كاتب يطل على قارئه من بعيد


شخصيات ثرية تصارع ذواتها
علي أبو الريش يختبر الحرية في "سلايم"
آخر تحديث:السبت ,10/09/2011
الشارقة - محمد ولد محمد سالم:


1/1

يعتبر علي أبو الريش أكثر الروائيين الإماراتيين مثابرة على الكتابة وأغزرهم إنتاجاً، فعلى مدى يزيد على ثلاثين عاماً أصدر أربع عشرة رواية، بدأها برواية “الاعتراف” سنة 1980 ثم “السيف والزهرة”، و”رماد الدم” و”نافذة الجنون”، و”تل الصنم”، و”ثنائية مجبل بن شهوان”، و”سلايم”، و”ثنائية الروح والحجر التمثال”، و”زينة الملكة” إلى آخر القائمة، وقد توجت مسيرته الروائية بجائزة الدولة التقديرية سنة 2008 .
تميزت تجربة أبو الريش الروائية بمرحلتين، فقد تشكلت بدايات تجربته الروائية وهو طالب في مصر في السبعينات وكان منطقياً أن يتأثر بالاتجاه الواقعي الذي كان يسود عالم الرواية في تلك الفترة، فبدأ في رواية “الاعتراف” بداية يصور فيها حياة القرية والعلاقات الاجتماعية التقليدية وصور الصراع التي كانت تحدث بين أفراد المجتمع، وما يحدث من غدر وثأر واستغلال وحرمان وفقر وغير ذلك، وبدايات تشكل وعي الأفراد من خلال المدارس الحديثة واكتساب طلابها وعياً يتجاوز وعي آبائهم ويجعلهم قادرين على الاعتراف بالآخر ابن الغريم ومسالمته بل مودته وحبه وواصل هذا في روايتي “السيف والزهرة”، و”رماد الدم”، لكنه لم يلبث أن انفتح على نمط جديد من الكتابة برز في الوطن العربي في السبعينات وانتشر وتأصل في الثمانينات وهو “تيار الوعي” فطفق أبو الريش يكتب منشداً هذه الصيغة التي وقع عليها، والتي بدا أنها تستجيب لخبراته العلمية كدارس لعلم النفس وحاصل على شهادة البكالوريوس في جامعة القاهرة عام ،1979 وهو من التيارات الأدبية التي نشأت في الرواية الغربية ثم انتقلت بفعل التأثر والترجمة إلى الرواية العربية .
عرف الناقد الإنجليزي روبرت همفرى رواية تيار الوعي بأنها “نوع من السرد الروائي يركز فيه الكاتب على ارتياد مستويات ما قبل الكلام من الوعي بهدف الكشف عن الكيان النفسي للشخصية الروائية من خلال مجموعة من التداعيات المركبة للخواطر عند هذه الشخصية”، ففي هذا النوع من الرواية لا توجد حكاية تتلاحق أحداثها نحو ذروة ثم نهاية بل هي صوت لشخصية تنثر مكنونات نفسها، وما يجيش في خاطرها ويعتمل في شعورها من أفكار وخواطر وأحاسيس، ويتبع الكاتب ذلك النثر بشكل متدفق، لا يعتمد أي رباط منطقي، لا من حيث الحدث ولا الزمان ولا المكان، وتعتبر رواية “سلايم” إحدى أهم الأمثلة على تجربة أبو الريش في هذا الاتجاه، فهي تتكئ على تيار وعي الشخصية الرئيسة “عبد الله الشديد” الذي يحاول أن يتذكر حياته الأولى، ومن هو؟ وأين كان؟ وعن طريق تشغيل تدفق الأفكار يقدم عبدالله الشديد صورة مشوشة عن حياته من خلال استرجاعه صوراً لأشخاص كان لهم دور فيها، وأولهم هي “سلايم” تلك المرأة التي يتملكه الإعجاب بها، ولا نكاد نعرف عنها سوى أنها عاشت ثمانين عاماً في خيمة في حي “لخديجة” ولم تقبل أن يدنس سمعتها أحد، وصدت جميع الرجال الطامعين فيها طلباً لنقاء أبدي فعاشت شامخة كشجرة الغاف المجاورة لخيمتها، فهي رمز الطهر والنقاء والاستقلال وحب الأرض، والشخصية الثانية الحاضرة في وعي عبدالله الشديد هي “النوخذة” الذي عمل معه على سفينته، فكرهه النوخذة لأنه كان قوياً جداً وصامتاً دائماً لا يضحك ولا يشارك في إضحاك النوخذة كما يفعل غيره من البحارة، فما كان من النوخذة إلا أن رمى به في البحر لتأكله الحيتان، لكنه استطاع أن يخرج من البحر، فهذا النوخذة رمز للطغيان والاستبداد والقهر واستعباد الآخرين، وتكميم الأفواه، فلا أحد يجرؤ على نقاشه أو معارضته أو الحديث بما لا يرضيه .
وهناك شخصية شمسة التي أحبها عبدالله الشديد في بداية شبابه، وبادلته الحب لكن مفهومها للحب كان مفهوماً مادياً، ولم تستطع أن ترقى معه إلى الحب الروحي الذي يطلبه ويجد فيه ذاته، لذلك تركها واعتبرها غير جديرة بالحب، وأما غزالة تلك المرأة المفعمة بالحب والقوة والإرادة التي تريده قوياً قاطعاً قادراً على التحرر من ذله ووضاعته وعلى مواجهة الزيف والطغيان .
وهناك شخصيات أخرى تستدعيها ذاكرة عبدالله الشديد كسالم المغربي وعبدو اليمني وراشد الصومالي وهي شخصيات وحيدة غامضة غريبة على القرية لكل منها مسكنه المنعزل ورؤيته للحياة، ويتخذها عبدالشديد للمقارنة رموزاً لواقعه الذي صار إليه بعد خروجه من البحر، واقع التشرد والوحدة والانعزال، والذي سيسلمه إلى الجنون حيث سنكتشف في النهاية أنه يعيش منفرداً في زنزانة مصحة نفسية .
يدفع بناء تلك الشخصيات برمزياتها التي تحدثنا عنها آنفاً إلى رؤية تأويلية تقوم على المقابلة بين مختلف أنماط تلك الشخصيات . فشخصية “سلايم” يمكن اعتبارها رمز الإنسان الأول في طهره وإخلاصه ونقاء سريرته، إنسان يعيش الحياة بكل جوارحه ويتشبث بها لكنه يأبى أبداً أن تدنسه تلك الحياة أو أن تجرفه سيول جرائم وموبقات الآخرين، رغم استبداد شرورهم واستفحالها، ولذلك اختارها الكاتب عنواناً لروايته “سلايم” وربطها بالقرية والطبيعة ممثلة في شجرة الغاف، في مقابل المدينة الأسمنتية التي يورد تلميحات كثيرة بإدانتها لما جلبته معها من شرور، في مقابل سلايم هناك النوخذة رمز الظلم والكذب وتشويه الحقيقة، وهناك عبدو وراشد وسالم الذين رضوا بالانعزال والفقر على الذل في مقابل رجال النوخذة رمز الذل والمهانة، وهناك غزالة الطاهرة التي هي الصيغة الجديدة من سلايم في مقابل شمسة التي دنستها الحياة وسحقت براءتها، وفي الوسط من كل أولئك يقف عبدالله الشديد وحيداً كالمشردين مؤمناً بسلايم وأفكارها وأصالة موقفها من الحياة، محباً إلى حد العشق لغزالة لكنه عاجز عن الوفاء بشرط حبها وهو مواجهة نفسه والتخلص من خوفه وعقده التي رسخها فيه المجتمع، رغم أنه لم ينافق ولم يذل كما ذل الآخرون، وبكلمة واحدة فهو غير قادر على صناعة ثورته وامتلاك حرية الفعل وصناعة المستقبل، لينتهي في النهاية إلى المصحة مستسلماً عاجزاً حتى عن الهروب من بين يدي الأطباء، ونخلص في النهاية إلى أن الكاتب يريد أن يقدم رؤية وجودية تقول إن شرط تحقق ذات الإنسان هو قدرته على الفعل والاختيار، قدرته على صناعة حريته، وما لم يستطع فعل ذلك فستظل حياته عبثية لا طائل من ورائها، وسيظل العفن مسيطراً على العالم .
هذا التماسك الظاهري في بناء وجهة النظر في الرواية، ليس على إطلاقه ففي داخل الرواية ترد وقائع وأوصاف تشتت ذهن القارئ العادي وتحد من قدرته على التأويل، فصورة سلايم لم تسلم من الاضطراب والغموض حيث ورد في إحدى الصفحات أن كارثة كبيرة حلت بها، وأن جيشاً عظيماً فاتحاً يقوده عنترة بنياشينه قد حل بالمكان وأنها استسلمت، ويتعمد الكاتب ترميز الموقف والإيهام ما يجعل احتمال سقوط صفات الشموخ والنقاء عن سلايم وارداً، وهناك شمسة التي تأرجحت صورتها بين الحب الشديد لعبدالله الشديد وبين خيانته، مما يضعف رمزيتها في النص، كذلك فإن الشخصيات الثلاثة المنعزلة (المغربي واليمني والصومالي) التي أوردها الكاتب هي نمط لشخصية واحدة، ويعسر أن تجد بينها فروقاً ذات رمزية مهمة فوجودها كلها محير في الوقت الذي يمكن أن يستغنى بشخصية واحدة عنها جميعاً، ومما يحد أيضاً من وضوح الرؤية أن عبدالله الشديد في اللاوعي يمتلك نظرة متقدمة إلى العالم تناقض وضعه كبحار جاهل منبوذ، فحين كان صغيراً كان يصغي إلى حكايات أمه عن “حلوم” تلك المرأة الخارقة التي تدعي أمه أنها تطير وتأتي بأفعال لا يمكن أن يأتي بها البشر، ويعلق عبدالله الشديد على ذلك بقوله: “كنت أقاطعها كثيراً وأمطرها بمزيد من الأسئلة بيد أنها كانت تنهرني قائلة: “لا تقاطع الأكبر منك، الكلام الذي أقوله لك لا يقبل الجدل، فأخفض بصري وألتزم الصمت، حلوم بالنسبة إلى أمي كائن يجب ألا تدور حوله الشكوك ، كان لا بد لي أن أنكفئ لكي أسمع المزيد، فمثل هذه القصص على الرغم من سذاجتها إلا أنها ستهديني نهر الحلم في داخلي”، ويصف أمه بأنها كانت تحبه لكنه حب قمعي “وباسم هذا الحب يفتك بالأحلام، وتغتال الآمال”، لكن عذر الكاتب في أن رواية تيار الوعي لا تهتم بالبناء المنطقي للشخصية ولا إقناعيتها، فالشخصية عند أصحاب هذا التيار هلامية مرنة قابلة للتشكل في كل الاتجاهات، وهو أحد أسباب الغموض في هذا النمط من الكتابة .
لم تتوقف مسيرة علي أبو الريش مع الرواية تيار الوعي عند هذا الحد بل ظل يعتمد عليه اعتماداً كلياً أو شبه كلي في رواياته اللاحقة وحتى روايته “ك ص، ثلاثية الحب والماء والتراب” الصادرة سنة 2009 نجده لا يزال يواصل حفره، وكأنه لم يستنفد كل التقنيات الفنية لهذا التيار، ما يدفع إلى التساؤل عما إذا كان أبو الريش قد اطمأن إلى تلك الطريقة أسلوباً خاصاً به أم أنه لا يزال في سياق البحث عن صيغته الخاصة ، وأين يضع القارئ العادي إذ أن الرواية ليست فن الخاصة فقط ، بل هي أكثر الفنون شعبية والتصاقا بالجماهير، فإلى متى سيظل هذا الكاتب الكبير يطل على قارئه من بعيد.

الجالس تستطيع نقل الثقافة إلى الجمهور


تتميز بالأصالة والتفاعل الخلاق
المجالس الخاصة تذهب بالثقافة إلى الجمهور
آخر تحديث:الاثنين ,05/09/2011
الشارقة محمد ولد محمد سالم:
يشهد شهر رمضان من كل عام نشاطاً مكثفاً لدور “المجالس” الخاصة التي تستضيف متكلمين ومحاضرين في مختلف المجالات، وخاصة الدينية والفكرية والأدبية، وهو ما يلفت الانتباه لأهمية هذه المجالس وأصالتها في تكوين المجتمع، والمجلس يعني في المجتمع الإماراتي والخليجي عامة ذلك المكان الذي يتخذه أحد الشيوخ أو الأعيان والوجهاء في القرية أو “الفريج” لمجالسة أصدقائه وضيوفه، ويدخل معهم في حديث يطال الأدب والتاريخ والعلم وكل المعارف .
شكلت المجالس منابر للتثقيف والتعليم، حيث كان الكبار يأخذون الصغار إليها ويجلسونهم قريباً منهم صامتين ليسمعوا ما يدور من أحاديث وما يروى من أشعار وما يقدم من معارف وعلوم ويحفظونها، وليتعلموا السلوك والأخلاق وقيم المجتمع، ويتعرفوا بشكل تطبيقي مباشر إلى كل ذلك، فكانت تخرّج القادة والحكماء والشعراء والخطباء وكل قادة المجتمع .
مع دخول الإمارات وتيرة التحديث بعد نشوء الدولة وتطور العمران حافظ الناس في تخطيطهم الهندسي لبيوتهم على موقع خاص للمجلس، وازداد الاهتمام به حتى صار تقريباً كل بيت يحتوي على مجلس، كما لفت انتباه المؤسسات الثقافية والاجتماعية فاتخذت لها في مقارها مجالس لاجتماع أعضائها لتداول الأفكار والأحاديث، واهتمت وسائل الإعلام بهذه الظاهرة فأصبحت تنقل جانباً مما يدور من نقاشات في بعض تلك المجالس خصوصاً التي تؤمها الشخصيات الفكرية والأدبية المهمة، لكن رغم هذا الاهتمام المتزايد فقد توقفت تلك المجالس عن دورها التثقيفي التقليدي ولم يعد لها تأثير كبير في حياة الشباب، واقتصرت في أغلب الأحوال على الرجال الكبار، وهو وضع يمكن أن يكون مفهوماً بالنظر إلى الدور الذي أصبحت تقوم به المدارس والجامعات التي تكفلت بمهمة التعليم، وأضحى الأطفال والشباب يصرفون لها جل أوقاتهم، وكذلك المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية التي أصبحت لها مقراتها ومنابرها الخاصة التي تقام فيها الأنشطة الثقافية من محاضرات ولقاءات ومعارض ومسرحيات وغيرها .
مع كل تلك المنابر ومع كل ما تقوم به من أدوار مهمة في حياة الفرد اليوم، فإنه من الممكن استغلال دور المجلس كمنبر ثقافي مهم نظراً لما يحمله من حميمية وقرب وتلقائية بعيداً عن الأنظمة والقوانين الصارمة للمدرسة والجامعة، وعن الطابع الرسمي للمؤسسات الثقافية، ففي المجلس يحسّ المرء كأنه في بيته، ومن هنا يمكن للمؤسسات الثقافية أن تستغل المجالس كمنابر تثقيف وذلك بالتعاون مع أصحابها، وحسب اهتمام جمهور كل مجلس، وأهداف المؤسسة الثقافية، فتضع برنامج محاضرات وجلسات نقاش وغيرها بين متخصصين في مجال الثقافة والفكر والمجتمع وبين جمهور هذه المجالس في كل حي من الأحياء الشعبية، ويكون ذلك بشكل دوري يجعل النشاط الواحد يطوف على أكثر من مجلس في الحي حتى تعم الفائدة وينتشر التواصل، ويضمن ذلك لتلك المؤسسات فاعلية في عملها ويجعلها تتغلب ولو جزئياً على مشكلة جمهور الثقافة الغائب في كثير من الأنشطة الثقافية التي تقوم بها .
كما سيلبي مشروع كهذا الطرح القائل بضرورة أن تذهب الثقافة إلى المجتمع وألا تنتظره حتى يذهب هو إليها، وهو طرح رائج اليوم وتتبناه أغلب المؤسسات الثقافية في العالم وتبحث من خلاله عن صيغ وطرائق جديدة للتواصل مع الجمهور، فلعل يكون استغلال ظاهرة المجلس كمعطى اجتماعي وثقافي إماراتي صميم مفيداً في هذا الصدد، ومن المعروف أن فاعلية أي تطوير أو تحديث تكون أبلغ حين يكون نابعاً من صميم المجتمع، فيكون في الوقت ذاته بناء جديداً على شيء أصيل

التواصل بين أجيال المثقفين والمسؤولية الغائبة


التواصل المفقود بين أجيال المثقفين والمسؤولية الغائبة
آخر تحديث:الأربعاء ,31/08/2011
الشارقة - محمد ولد محمد سالم:
تعاني بعض المؤسسات الثقافية الأهلية في الإمارات هجرة أعضائها، فقد تضم المؤسسة مئات الأعضاء لكنّ الذين يحضرون أنشطتها قلة معدودة، والتعليل الدائم لهذا الغياب، عدم وجود الوقت الكافي لمتابعة أنشطة هذه المؤسسة أو تلك، وضغط العمل الوظيفي الذي يمنع صاحبه من الحضور الدائم لتلك النشاطات، لكنّ الواقع هو أن أغلب الأنشطة الثقافية أنشطة مسائية حيث يكون كل الموظفين في بيوتهم، ومن المفترض أنهم لا تشغلهم مهمات الوظيفة في تلك الأوقات، وحتى لو كان عبء الوظيفة ومتاعبها يصل إلى البيت، فإن الإجازات الأسبوعية والسنوية والإجازات الرسمية والدينية كلها مناسبات لأنشطة ثقافية، يمكن للحريص على الحضور وعلى استمرارية المؤسسة الثقافية التي ينتمي إليها أن يستغلها لمتابعة نشاطها ومؤازرة زملائه فيها .
لكن الأمر يتجاوز مجرد توفر الوقت إلى نوع من الزهد أو اللامبالاة، وعدم إحساس بعض المثقفين بالمسؤولية تجاه الأجيال القادمة التي من المفترض في المؤسسة أن ترعاها وتأخذ بيدها، كما أخذت بيده هو وغيره، لكن البعض ينسى ذلك، ينسى أن عليه ديناً لهذه المؤسسة التي احتضنته ورعت تكوينه الثقافي ووصلت به إلى مراتب من العطاء والشهرة، من المحتمل أنه كان من العسير عليه الوصول لها لولا توفر منابر تلك المؤسسة، أفَلَيْس الوفاء لها أن يكون حريصاً على أنشطتها دائم الحضور لها، وأن يحمل همها كما حملت همه، وحمله آخرون سبقوه إليها .
قد يرى البعض أنه نضج واستقل بنفسه وكون اسماً يغنيه عن الانخراط الدائم في أنشطة تلك المؤسسة، فلم يعد في حاجة إليها، أو أبعد من ذلك يرى أنه لا يليق به أن يبقى في ذلك المكان الذي يرتاده المبتدئون والمتطفلون على الثقافة أو الفنون، وهو من هو مكانة وسمعة، لكن هذه أنانية لا تليق بالمثقف الواعي الذي يحمل هم وطنه ومواطنه، لا تليق بمن يؤمن بالإنسانية وبالعطاء من أجل الإنسان .
هذا المثقف سواء كان مفكراً أو أديباً أو مسرحياً أو فناناً تشكيلياً أو غير ذلك ينبغي أن يكون أسمى من أن يحجم نفسه في مجرد أهداف ومقاصد ذاتية، ويجب أن يعرف أن عليه ديناً لوطنه، ديناً للأجيال القادمة، أن يعطيها من وقته وجهده ليثقفها ويعلمها، ويأخذ بيدها نحو المستقبل لكي تستمر الجذوة جيلاً بعد جيل، ولكي لا يحدث الانقطاع الذي يتحدث الكثيرون اليوم عنه، لا بد للوعي الثقافي والإبداع من رعاية واعية ومسؤولة، لا بد له من رعاة يحملون همه وهم الهوية الحضارية للأمة كي يسلموه بنقائه وصفائه للأجيال اللاحقة، ومن غير تلك الرعاية لن تتطور ثقافة ولا إبداع، ولن تمتد جذور، وستعيش الأجيال القادمة مبتورة عن أصولها تائهة لا تعرف من أين تبدأ ولا أين ينبغي أن تنتهي، وستحدث تلك الأزمة التي بدأنا نشهد بعضاً من مظاهرها، صحيح أن في ما تقدمه تلك المنابر من الأفكار والموضوعات والفنون ما يكون هذا الأديب أو الفنان قد هضمه واستوعبه وأصبح شيئاً متجاوزاً بالنسبة إليه، لكن هناك الآلاف ممن لم يسمعوا تلك الأفكار ولا عرفوا عنها شيئاً، وهم بحاجة إليها لتأسيس وعيهم، وينبغي أن يكون من يعطونها لهم أناس على قدر من الوعي، وحضور أمثال أولئك الناس الدائم في الأنشطة الثقافية يعطي للأجيال الصاعدة ثقة في ما يقدم إليهم، ويجعلهم مواظبين على الحضور جادين في الأخذ بتلك الآراء والأفكار وتطبيقها، فليس عبثاً ولا عيباً أن يقتطع الإنسان جزءاً من وقته لتلك المهمات الجليلة العظيمة .
ليس عزوف المثقف عن تلك الصروح الثقافية وتخليه عنها علامة للعظمة، ففي سير العظماء أنهم كانوا حريصين على رعاية الأجيال التي تأتي بعدهم، سعداء بكل نجاحاتهم وإبداعاتهم، وقد كان نجيب محفوظ حريصاً على أن يسمع أفكار الشباب وأن يقرأ ما يقدمه إليه الكتّاب الجدد من كتب ليقدم لهم النصح في سبيل تثقيف النفس وطرق الإبداع


ذكرى نازك الملائكة


أفق
ذكرى نازك الملائكة
آخر تحديث:الاثنين ,29/08/2011
محمد ولد محمد سالم
مرت قبل أيام ذكرى ميلاد نازك الملائكة، ولدت في 23 أغسطس/ آب ،1923 من دون أن يذكرها ذاكر، ومن دون أن تحتفي بها المنابر الثقافية والأدبية، وليست هذه أول مرة تعاني فيها هذه الشاعرة الرائدة التجاهل، فقد عاشت آخر سنوات عمرها وقبل وفاتها في عام 2007 منسية تعاني من المرض في القاهرة التي اختارتها لتقيم فيها بعد أن خرجت من وطنها العراق في عام 1990 بسبب ويلات الحرب، وقبل ذلك كانت نازك قد مر عليها فترة وهي ملء السمع والبصر حين فجرت مع ثلة من الشعراء الجدد في أواخر الأربعينات في العراق ثورة شعرية عندما نشروا قصائد انقلبت على نسق البيت الشعري العربي وتركت للشاعر حرية الإطالة في سطره ما شاء في ما عرف بالشعر الحر أو شعر التفعيلة، وتنازعت مع بدر شاكر السياب الريادة بقصيدة الكوليرا التي كتبتها عام ،1947 وظلت حاملة لواء ذلك الشعر مدافعة عنه ومنظرة له، وخاضت في سبيله معارك أدبية لم يخب أوارها حتى استقر فناً شعرياً معترفاً به من بين فنون الشعر العربي، ورغم أن الشعر العربي قطع أشواطاً كبيرة بعد هذه الفترة وتنازعته تيارات كثيرة إلا أن فضل الريادة في التطوير والإبداع يبقى راسخاً ولا يمكن محوه عن الملائكة وجيلها، وستبقى دواوينها “عاشقة الليل” و”شظايا ورماد” و”قرارة الموجة” من أهم ما كتب في تلك الفترة بما حملته من إبداع شعري جميل .
صحيح أنه ليس بالإمكان الرصد الدائم لذكريات ميلاد وموت كل الرواد والمبدعين في الحياة والثقافة والتوقف عندها في كل مرة، وإلا لتحولت حياة الناس إلى احتفالات يومية بتلك الذكريات، لكثرة من يستحقون أن تستعاد ذكراهم وتخلد أسماؤهم، لكن التجاهل التام أيضاً لا ينبغي خصوصاً وأن هناك من المبدعين الذين رحلوا من يحظى على الدوام بالاحتفاليات والكتابة عنه وتبجيل ذكراه، فهو الغائب الحاضر دوماً، وقد لا يكون أنجز أكثر مما أنجزه الآخرون، بل في بعض الأحيان يكون أقل شأناً من آخرين لم ينالوا مثل ما ناله من احتفاء، وهذا اصطفاء غير مبرر أو هو ظالم، اللهم إلا إذا كان بدوافع غير أدبية ولا ثقافية .
بين التجاهل التام للمبدع والاحتفال المستمر بذكراه توجد منزلة وسطى، تبدأ بتوفير الحد الأدنى من الرعاية له في حياته من حيث العناية بما ينتجه وإيصاله للمتلقي وتفريغه لمشاريعه الإبداعية حتى يجد لها الوقت الكافي، وإعطائه مخصصات مادية تضمن له أدنى لقمة عيشه، وعلاجه كلما احتاج إلى ذلك، ثم تخليد اسمه في جائزة أو صرح ثقافي مهم، وأخيراً الاحتفاء به من فترة لفترة في ندوة أو ملتقى يعرف الأجيال به التي أتت بعده بإنجازه ليستلهموه ويجعلوه قدوة .
Dah_tah@yahoo.fr


المثقف والوقت


أفق
المثقف والوقت
آخر تحديث:الاثنين ,22/08/2011
محمد ولد محمد سالم
هل يجد المثقف اليوم الوقت للبحث والمطالعة والإنتاج، أم أن الوقت يتسرب من بين يديه خلسة، كما يتسرب من أيدي غيره من الناس؟
كثيراً ما نكرر عبارات من قبيل “الوقت من ذهب” و”الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”، لكننا نادراً ما نعمل بمقتضى تلك العبارات، فيضيع الوقت سدى، ونرتاح إلى التلقي البصري المباشر الذي لا يحتاج إلى عناء كعناء القراءة أو التفكير أو الكتابة، فننشد إلى الصورة التلفزيونية لساعات طوال من اليوم، أو ندخل موقعاً من المواقع الاجتماعية على الإنترنت فنجد أن الكثيرين ممن هم مسجلون على صفحتنا قد تركوا لنا رسائل كثيرة وعلينا أن نجيب على كل رسالة على حدة، وربما دخلنا في “دردشة” مكتوبة أو ملفوظة مع أحدهم وقد يطول الأمر لساعات، وللهاتف المحمول أيضاً حكاية أخرى مع ضياع الوقت، لا تقتصر على مجرد أن الإنسان قد يتلقى اتصالاً طويلاً من أحد الثقلاء الفارغين الذين ليس لحديثهم طعم ولا رائحة، بل يتعداه إلى ما أصبح يحتويه هذا الجهاز من برامج تضاهي برامج الكمبيوتر، وتطال كل مجالات حياة الإنسان جداً ولعباً، ومن السهل عليك وأنت تقلب خياراته أن تضيع في تفحص صور أو سماع تسجيلات أو ممارسة لعبة أو تغيير برمجة أو كتابة رسالة أو غير ذلك .
الإنسان الواعي يستطيع أن يحدد ما يحتاج إليه من تلك الأجهزة والوقت اللازم لها، ويحسب الوقت الزائد عن الحاجة الذي يضيع منه في تلك الأجهزة، ثم يتعامل معها في حدود حاجته، ويستبقي وقته الآخر لمهماته الأساسية كالمطالعة أو الإنتاج الفكري، وعندها سيجد أنه قد وفر وقتاً كبيراً هو في حاجة ماسة إليه ولا يمكنه أن ينتج إنتاجاً ذا بال من دونه، وفي سير العظماء من الكتاب والمفكرين ما يوحي بحرصهم الشديد على الوقت والتزامهم الصارم بالمواعيد، يذكر الروائي جمال الغيطاني عن نجيب محفوظ أنه كان حريصاً بشدة على مواعيد الكتابة ويلزم نفسه بذلك كأنه واجب يومي، فكان لكل شيء عنده وقت محدد منذ نهاية دوامه الرسمي وحتى ينام ليلاً، وقد كان نتيجة ذلك الجهد والجد هذا الكم الهائل من الروايات البديعة التي وصلت ترجماتها إلى كل أصقاع العالم .
ويروى عن الفيلسوف الألماني عمانويل كانط أنه لشدة حرصه على الوقت كان جيرانه يضبطون أوقاتهم على مواعيد خروجه ودخوله التي لم يكن يتخلف عنها ثانية .
ومن طرائف استغلال الوقت ما روي عن ابن قيم الجوزية، وهو أحد العلماء المسلمين الغزيري الإنتاج، أنه لما كثرت عليه زيارة العاطلين والفارغين الذين لا شغل لهم ولا علم يستفاد منهم، صار يخصص وقت زيارتهم لإعداد أدوات، فكان يبري الأقلام ويصفف الأوراق وهو يحدثهم، وبذلك لم يضع عليه وقته كلية .
dah_tah@yahoo.fr


أدب البدايات


أفق
أدب البدايات
آخر تحديث:الثلاثاء ,09/08/2011
أصبح مجرد إصدار كتاب وعنونته بأنه رواية أو ديوان أو مجموعة قصصية يجعل صاحبه يظن أنه أصبح أديباً مبدعاً وأن ما يكتبه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويسعى بكل ما أوتي من وسائل لتكريس نفسه بهذه الصفة فتراه يجري وراء وسائل الإعلام المختلفة للدعاية لنفسه، وشيئاً فشيئاً ينطبع في أذهان الآخرين أنه أديب روائي مبدع أو شاعر كبير، ويكون قلمه قد أمسك عن الكتابة منذ ذلك اليوم الذي أصدر فيه كتابه اليتيم .
ليس عيباً أن يصدر المرء كتاباً وينسب لنفسه صفة شاعر أو كاتب، حتى إنه يمكن أن يبلغ به مبالغ راقية من الإبداع، وفي تاريخ الشعر العربي يوجد من الشعراء من عرفوا بشعراء العقيدة الواحدة كطرفة بن العبد الذي لم يؤثر عنه من شعر صحيح سوى معلقته الدالية “لخولة أطلال ببرقة ثهمد” والتي عد بها من فحول الشعراء الجاهليين وضمنها من الإبداع ما يعدل مئات الدواوين من الغثاء الذي يكتب اليوم، ومنهم أيضا عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة النونية المشهورة “ألا هبي بصحنك فاصبحينا”، والتي بلغ من قوتها وشهرتها أن اكتفت بها تغلب عن قول الشعر، حتى سخر منهم شاعر بقوله:
ألهى بني جَشَم عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
لكنّ هذه نوادر قليلا ما تتكرر، وإن تكررت فلواحد أو اثنين وعلى فترات زمنية متباعدة، والحالة الطبيعية، والحالة التي يقبلها العقل هي أن البدايات هي للمحاولة والتدريب وأخذ رأي النقاد والقراء لمعرفة سبيل الإبداع وكيفية السير في الطريق، ولا ينتظر منها الكثير، ولذلك يميل أكثر المبدعين الكبار عند جمع أعمالهم الكاملة إلى إسقاط “البدايات” وإغفالها قصداً، لأنهم يجدون أنها لم تعد تمثلهم، ولا يليق بهم أن ينشروها ثانية، ويذكر الكاتب الكبير توفيق الحكيم مؤسس الأدب المسرحي في الأدب العربي، وصاحب المسرحيات الشهيرة “أهل الكهف” و”الملك أوديب” و”شهرزاد” و”بيجماليون”، و”الأيدي الناعمة”، أنه حين كان في بداياته كان مواظباً على الكتابة وكان كلما ينتهي من كتابة مسرحية يتلفها، وعياً منه بأنه في تلك الفترة ما زال في فترة تدريب والمتدرب لا ينتظر منه الإبداع، فكان ما أتلفه فيها أكثر مما استبقاه ونشره .
يعني هذا أن الموهبة تحتاج إلى وقت لإنضاجها، وحتى تستوعب آليات الإبداع في الفن الذي تتصدى له، وتمتلك أدواته كاملة، فمجرد النشر ليس دليلا على أية صفة، وضجة الإعلام وإن وصلت إلى الآفاق فإنها لا تلبث أن تنطفئ، والذي يبقى الإبداع والقدرة على الإضافة والإتيان بالجديد المبهر، ذلك هو ما يبقى على الأيام وما يطفو على السطح ولو بعد حين، حتى ولو لم يصحبه ضجيج ولا دعاية .
محمد ولد محمد سالم
dah_tah@yahoo.fr

فنون "المناسبات"


أفق
فنون "المناسبات"
آخر تحديث:السبت ,06/08/2011
محمد ولد محمد سالم
كان من أسباب الثورة الشعرية التي حمل لواءها رواد الحركة الرومانسية العربية أن الشعر تحول قبلهم إلى ما سمّوه شعر “مناسبات”، فقد عاش قروناً من الجمود والتقليد فقدَ معها روح الإبداع التي كانت تسكنه في العصور السابقة، وضمُرت ثقافة الشعراء وهزُلت مواهبهم، فانقلبوا إلى نظّامين جاهزين يتحينون المناسبات السياسية والاجتماعية، العامة والخاصة لينظموا فيها كلاماً موزوناً يرصونه رصاً ويعيدون فيه تكرار المعاني والمواضيع والأوصاف والصور التي سبقهم إليها الشعراء المتقدمون، يحشدونها حشداً ويرصونها رصاً، وأصبحت تلك المعاني والصور جاهزة لكل مناسبة في المدح والرثاء والاحتفالات والتهنئة بالزواج أو بالترقية أو أي مناسبة أخرى، فوصل الشعر إلى بداية النهضة منهكاً باهتاً قليل الإبداع ولولا رموز قليلون استطاعوا أن يحافظوا على نصاعته لانتهى إلى الأبد .
هذه “المناسبات” يبدو أنها اليوم بدأت تعود ليس في الشعر وحده، بل في كل ميادين الأدب والفن، فقد اغتنم الكثير من الكتاب والتشكيليين والمخرجين السينمائيين والمسرحيين “مناسبة” الثورات العربية لتقديم أعمال فنية تستلهم هذه الثورات التي لم تنضج بعد ولم تؤت أكلها، فشاهدنا اللوحات التشكيلية والمعارض المختلفة التي تحاول أن تدون في رسومات مختلفة لحظات “ميادين التحرير” ورفرفة اللافتات الثائرة في السماء، صدرت الكتب والروايات التي توثق أدبياً لتلك اللحظات منها المجموعات القصصية والروايات، كما عجت المكتبات بالمذكرات واليوميات التي توثق لجوانب كثيرة من تلك الحركات، وظهرت أيضاً كتب السيرة الذاتية عن شخصيات أثرت في هذا الواقع إيجاباً وسلباً، حتى إن المؤرخين بدأوا يكتبون تاريخ تلك الأيام قبل أن تكون تاريخاً، وأخيراً جاءت موجة المسلسلات الرمضانية التي تلعب على الظاهرة وتستثمر جدتها وتعاطف الناس معها، لغرض استقطاب المشاهد لتلك المسلسلات .
كلها فنون مناسبات غرضها الأول اغتنام الفرصة واقتناص ما يمكن أن تدره اللحظة من رواج وسمعة وعائد مادي، مثل هذه الفنون هي فنون اللحظة التي تعد لتؤخذ سريعاً ثم تنتهي وتخبو عند انتهاء مناسبتها وذهاب لحظتها، ومن النادر أن تقدم إبداعاً ناضجاً، متماسك الرؤية متقن الفنيات، لأن الإبداع كالطبيخ تحرقه شدة الاشتعال وقوة النار ويحتاج إلى نار هادئة لكي ينضج .
هذه الظاهرة ليست وليدة ميادين التحرير، بل إنها كانت موجودة من قبل، لكن الفارق هو أن مجتمع “ما قبل ميادين التحرير” كان يعرف الكثير من الظواهر الشاذة والكثير من الطفيليين والانتهازيين في شتى الميادين ومنها الأدبية والفنية، واليوم وقد عرفت تلك المجتمعات كيف تكون صادقة مع ذاتها وكيف تملك زمام نفسها، وتحاول أن تصنع مستقبلها بوضوح وصفاء، فإن على أولئك الانتهازيين و”المناسباتيين” أن يكفوا بأسهم ويعرفوا أن بضاعتهم كاسدة وفنهم فاشل، ويتركوا “الميدان” لغيرهم من الفنانين والأدباء الصادقين المبدعين الذين يعرفون كيف ينضجون “الطبخة” ويخرجونها إبداعاً جميلاً।

علي الحميري في "تيجان البونسيانا"


علي الحميري في “تيجان البونسيانا”
رهافة الفنان تمنح السرد مذاق الأمل
آخر تحديث:السبت ,30/07/2011
محمد ولد محمد سالم


1/1

علي أحمد الحميري قاص وروائي إماراتي صدرت له مجموعات قصصية عديدة هي “قزم وعملاق” 1999 و”الداسيات”2000 و”ذرة فوق شفة” 2001 و”شيء من هذا القبيل” 2001 و”عيون السمك الباردة” 2002 و”شفافية الثلج” 2003 و”خربشات على أديم الجدران” 2008 ورواية “النبراس” ،2006 وأخيرا مجموعته القصصية “تيجان البونسيانا” عن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، وهي تضم واحدا وعشرين قصة قصيرة، كتبت على فترات مختلفة أقدمها يعود إلى عام 1988 وأحدثها يعود إلى عام ،2008 “البونسيانا” اسم لشجرة استوائية أو شبه استوائية، جميلة، ورودها حُمراء وأوراقها كثيفة .
يندرج السرد في المجموعة في إطار الواقعية، ويتناول الكاتب بلغة قوية، محكمة سليمة بعيدة عن الإسفاف مجموعة من الظواهر والمواقف الاجتماعية والحالات التي يتعرض لها بطله الذي يتحدث دوما بلسان المتكلم، فيكاد القارئ في بعض الأحيان التي لا يعرف فيها اسم البطل أن يماهي بين شخصيته وشخصية الكاتب، خصوصا وأن البطل في أحيان كثيرة هو كاتب، فكأن في الأحداث شيئاً من أحداث حياة الكاتب ويومياته، وهو ما يمكن أن يفسر ميل الكاتب إلى التسجيل، والتقاط الحادثة والحالة وتوثيقها من دون اللجوء إلى صناعة حبكة قصصية واستقصاء جوانبها . فكثير من نصوص المجموعة هي تسجيل لواقعة لكن الكاتب يركز على الوقائع ذات الدلالة الاجتماعية أو النفسية أو السياسية .
قصة “تيجان البونسيانا” التي سميت المجموعة بها يجد القارئ نفسه فيها أمام حبكة قصصية متكاملة استخدم فيها الكاتب تداخل الأزمنة منطلقا من اللحظة الحاضرة التي تشكل المثير أو المحفز لاستذكار الماضي واستعراض الأحداث التي كانت سبباً في دهشة تلك اللحظة، فتبدأ الحكاية باللحظة التي يعود فيها البطل إلى قريته لرؤية جدته المريضة التي غاب عنها سنوات طويلة بعد أن فقد ابنة خالته التي كان يحبها والتي زوجها والداها من دون رجل آخر من دون مراعاه حبه لها، فيكره البطل القرية ويتركها، وبعودته إليها تعود الذكريات وسمر الليل مع القصص، وفي القرية يكتشف أن تلك الفتاة التي أحبها يوما لم تنس حبه ولم تزل تذكره، رغم أنه لم يلقها، وحين يعود إلى المدينة يعود وقد برعم الأمل في نفسه التي كانت يائسة متبرمة بالحياة، وتتفتح أمام عينيه تيجان شجرة البونسيانا التي كان يراها دوما يابسة جافة خلال كل تلك السنوات، ويرتقي الكاتب في مقاطع من سرده بلغته إلى أسلوب الاستعارة الجميلة: “ثمانية أعوام لم أرها فيها ولم أسمع صوتها وما جمعنا مكان قط، لكنها بقيت كامنة في أعماقي، مترصدة رادعة لكل وجه أنثوي التقيت به في المدينة، وفي كل بلاد ذهبت إليها تفرض علي الخريف، ترفض أن تعيد لمناخي بقية فصوله، كانت صارمة صارفة وجهها إلى الفناء الذي أحرق الخريف كل حشائشه وزهوره كأنها ترسخ الجفاف في حقولي، ورغم ذلك فقد كنت أرى وجهها بكل أبعاده الجميلة أراه في الوجه الصغير الحائم حول سرير جدتي” .
أما قصة “حكاية” فيرصد فيها على لسان بطله موقفاً قابل فيه امرأة شابة في بلد عربي تدير بنجاح إدارة مؤسسة خاصة، ودهش من نجاحها وقدرتها على إدارة الأشخاص الذين يكبرونها بكثير، ويواصل نفس التناول للظواهر الاجتماعية في “ريق الصالحين” و”أذن مؤذن” و”محاولة جريئة” و”قصاصة ورق”، وفي نفس السياق تصب “حكايات صغيرة” التي هي مجموعة من اللقطات السريعة ترصد حادثاً أو حالة ذات بعد رمزي منها لقطة (انتحار): “كان مؤشر السرعة في سيارتي ثابتا على مئة وثلاثين ورغم ذلك فقد مر بجواري كسهم طائش وكانت أنواره مطفأة فلم أتمكن من التقاط رقم سيارته، ولو كانت مضاءة ما تمكنت، هبت زوجتي مذعورة في المقعد المجاور، متمتمة بجمل متقطعة، لم أفهم منها شيئا، لكنها بدت لي حوقلات واسترجاعات، فما كاد يختفي في المنحنى القريب من مدخل البحر حتى ارتفع دوي هائل أعقبه صمت مقيت ودماء وقطع حديد متناثرة” .
فساد الموظفين ومشاكل الإدارة هي واحدة من الظواهر التي تناولها الكاتب في “صرير أبواب صدئة” نقد للإهمال الإداري وفقدان المسؤولية لدى كثير من الموظفين، فهو يروي حادثة وقعت لامرأة ظلت تتردد بين شبابيك إحدى الإدارات، وأمام كل شباك يصدها الموظف محيلا إياها على الشباك الآخر، ليتفرغ للثرثرة عبر هاتفه المحمول أو مع أحد أصدقائه أو يذهب لبعض شأنه غير عابئ بطابور المراجعين، وتظل المسكينة متنقلة حتى آخر شباك ولا تجد من يتقبل أوراقها، وتحار وتعاود الكرة لدى أحد الشبابيك فيلومها الموظف لأنها رجعت إليه، ويرمي أوراقها بعيدا، مما يغضب أحد الرجال في صف المراجعين الذين ملوا الوقوف من دون أن يجدوا من ينظر في معاملاتهم، فينبري للموظف لائما إياه ومهددا، ويلتف حول الرجل بقية الناس في الصف يدعمون موقفه، ويرتبك الموظفون وراء الشبابيك، ويدب فيهم الهلع، فيتسابقون إلى مقاعدهم ويبادرون بالنظر في معاملات المراجعين مخافة أن تتطور الأمور إلى الأسوء ما سيهدد وظائفهم، وبأسلوب تداعي الأفكار يسحب البطل تلك الظاهرة على جميع أوجه الحياة العربية التي تعاني من خلل في البنية التنظيمية وفي البنية التربوية للفرد .
ولا تبعد قصة “ضروب من المعاناة” عن القصة السابقة فهي تقيم بشكل غير مباشر مقارنة بين حياة الغربيين وبين حياتنا، فهم تعودوا على النظام والعمل والمساواة والعدل ونحن تعودنا على الكسل والمحسوبية والوساطة وغيرها من الأمراض التي تجعل ذلك الشيخ الإنجليزي الهرم يعلق بعد أن شرح له البطل ذلك الواقع: (أوه وليد هذا محال!)، وفي نفس السياق قصة ''أكشن زون'' التي تقيم مقارنة بين قيمة العمل لدى المؤسسات الغربية التي تتقن العمل وتحترم الزبون وبين مؤسساتنا الخاصة التي لا تعتني بعملها ولا تحترم أبناءها .
السياسة أيضاً كانت حاضرة في بعض النصوص مثل “تورابورا” الذي يصور فيها على لسان فتاة أفغانية معاناة الناس البسطاء من ويلات الحرب التي تشنها الأمم الكبرى في بلادهم فتصيبهم بسببها المآسي والفواجع التي لا ذنب لهم فيها، وكذلك الشأن في قصة “خنجر في الخاصرة” .
من المواضيع التي تناولها الحميري أيضاً في مجموعته المواضيع النفسية أو النصوص التي ترصد أوضاعا وحالات نفسية مثل نص “الشارع الإمبراطور”، وفي السياق نفسه يأتي نص “وجه في الذاكرة” حكاية تذكار الأوجه القديمة وما تثيره رؤيتها في النفس من عودة إلى زمن بعيد و”حدث ذات ليلة” و”محروس” و”خفافيش الفجر” و”عالم صغير” و”سلامتك يا علي” و”قطار الرحلة الأخيرة” و”قلم جاف أحمر” .
في سرده يبدو الحميري كاتباً مفعماً بالحب منحازا إلى قيم الإنسانية، يلتقط الحادثة والخاطرة برهافة الفنان الذي يتأثر بكل ما هو إنساني وينفعل بالوقائع السعيدة والمأساوية على حد سواء، وتجنح نصوصه في بعض الأحيان إلى حدود الخاطرة أو المقالة التي تبنى على حادثة ثم يترك الكاتب لنفسه حرية تحليل الأفكار وتفسيرها وإبداء رأيه فيها على لسانه أو لسان البطل ।

الدعم المادي للمثقف


أفق
الدعم المادي للمثقف
آخر تحديث:الثلاثاء ,26/07/2011
محمد ولد محمد سالم
أعلن منذ أيام في موريتانيا عن استئناف تنظيم جائزة شنقيط الثقافية التي كانت توقفت منذ عام ،2009 وعلى مدى سنتين متتاليتين من دون سابق إنذار ومن دون أدنى توضيح لأسباب ذلك التوقف، وهي أعلى جائزة تمنحها الدولة للأدباء والباحثين في مجال العلوم الإنسانية والعلوم البحتة، تشجيعاً لجهودهم في تلك المجالات، كما أنها الجائزة الوحيدة من نوعها في موريتانيا، فلا يحظى المثقف والباحث بأية جائزة من أي نوع رسمية كانت أو خاصة، وقد أثار توقفها دهشة في الأوساط الثقافية لأنها على محدودية من يحصلون عليها سنوياً، ورمزية قيمتها المادية، كانت تعطي لأصحابها تشجيعاً معنوياً يدفعهم إلى المزيد من العمل، وتشجيعاً مادياً هم في أمسّ الحاجة إليه، باعتبار ما يعانونه من إهمال ومن قلة مردودية لإنتاجهم .
في مجتمعات لا تقرأ ولايشكل اقتناء الكتاب أو الوعاء المعرفي فيها قيمة ثقافية كما هو حال المجتمعات العربية لا يمكن أن تزدهر صناعة النشر، وبالتالي لن يكون لإنتاج المعرفة مردود ولن تروج سوقه، ويصبح البديل الوحيد عن ذلك هو ما تقدمه الحكومات والمنظمات الأهلية والمؤسسات الخاصة من دعم للإنتاج المعرفي في اتجاهين، هما تشجيع المنتج للمعرفة معنوياً ومادياً، وإيصال المعرفة للمتلقي واتخاذ الوسائل الضرورية لاستفادته منها، ولا بديل عن هذا الدعم لأنه هو السبيل للوصول إلى المرحلة التي يقبل فيها المجتمع على تلك المعرفة، وتصبح لها نسبة في مصروفاته تماماً كما لطعامه ولباسه وسكنه .
الثقافة لم تكن يوماً من الأيام منتجاً ربحياً يمكنه أن يعوض أصحابه عن جهدهم ووقتهم بمردوده المادي، ولم تزدهر في أي مجتمع إلا بدعم رسمي مباشر، وحتى في المجتمعات الرأسمالية التي حولت الثقافة إلى منتج ربحي مستغلة وجود مجتمع مثقف يدفع في مقابل الحصول على المعرفة، فإن المثقف في هذه المجتمعات لم يستغن يوماً من الأيام عن الدعم الرسمي الذي يلقاه من الدولة ومن المؤسسات الخاصة، ولا أدل على ذلك من قوانين التفريغ التي تطبقها وزارات الثقافة في تلك البلدان وقوانين التشجيع والدعم وكثرة الجوائز واتساع مشموليها، من جوائز رياض الأطفال إلى جوائز الدولة التقديرية، ففي جميع المراحل العمرية، وجميع الفئات الاجتماعية هناك جوائز كثيرة للإبداع أدباً وفناً واحترافاً، حتى في أوساط العمال الحرفيين واليدويين تقدم الحكومات والنقابات المهنية تلك الجوائز تشجيعاً للأفراد لزيادة اطلاعهم على المعرفة وترقية مساهمتهم في إنتاج الثقافة .
إن أحد مفاتيح ترقية الثقافة في الوطن العربي، وتأسيس مجتمع المعرفة هو سن القوانين الداعمة للمثقف التي تجعل له حقاً معلوماً في ميزانية الحكومات والمؤسسات الثقافية، وتخصيص الجوائز المشجعة للإبداع في كل مستويات ومراحل العمر، وإبعاد تلك القوانين والجوائز عن مزاجية الأنظمة عن عوامل الوصولية والمحسوبية والحزبية، وجعلها خالصة للثقافة، لا يتحكم فيها أفراد مزاجيون بقرارات فردية جبل أصحابها على كره الثقافة والمثقفين ।

الخميس، 21 يوليو 2011

شارع الأحلام

أفق
شارع الأحلام
آخر تحديث:الثلاثاء ,05/07/2011
محمد ولد محمد سالم
ميزة أسماء الزرعوني بين الكتّاب الرواد في الإمارات أنها كاتبة مثابرة، ففي الوقت الذي توقف فيه الكثيرون عن الكتابة بقيت أسماء وقلة من زملائها يواصلون المسيرة، وها هي تؤكد من جديد حضورها بروايتها الجديدة “شارع المحاكم” الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، وفي هذه الرواية تواصل نهجها في الاشتغال على المشكلات الاجتماعية ووضعية المرأة في المجتمع .
الميزة الأساسية في رواية “شارع المحاكم” أنها تشكل وثيقة اجتماعية ونفسية لواقع الحياة في شارع المحاكم في الشارقة في ستينات القرن العشرين، وخاصة حياة البنات طالبات المدارس، ورؤاهن وأحلامهن الصغيرة، وكفاحهن لتحقيق ما يحلمن به، فهي سيرة الكفاح وبداية تشكل الوعي عند المرأة الإماراتية، من خلال استرجاع البطلة “سلوى” لمسيرة حياتها هي وصديقاتها في ذلك الحي مركزة على أحلام أولئك البنات، وسعيهن للفوز بحياة سعيدة، كما تتضمن الرواية تداعيات اجتماعية متشابكة تتعلق بالزواج على وجه الخصوص، فلا تجد الفتاة من خيار سوى أن تذعن للواقع فتقبل بالزواج من قريبها كما قبلت “موزة” وكما تخلت “زهرة” عن خطيبها للاختلاف المذهبي، أو أن تتحدى المجتمع وتتزوج وتتحمل ما ينتج عن قرارها، كما فعلت “شيخة” التي أصرت أن تتزوج ذلك الشاب المصري الذي أحبته مضحية بعلاقتها بأهلها الذين قطعوا كل صلة بها، وحرموا عليها أن تدخل بيتهم بعد ذلك، فاضطرت إلى الانتقال إلى رأس الخيمة مقطوعة من كل صلات القربى والحنان والألفة التي تربت عليها، وكما هو حال البطلة نفسها التي هربت مع “سيف” إلى عمان ليتزوجا، ولتواجه بعد ذلك العنف والحبس من أهلها الذين أرغموها على الانفصال عن زوجها ليزوجوها بأحد أقاربها وتعيش حبيسة حياة لم تعرف لها طعما، وكثيرة هي القصص الأخرى التي تتضمنها الرواية لأولئك الفتيات اللواتي تتكسر أحلامهن على صخرة الواقع الاجتماعي بأطره المحددة سلفا، وبما يضعه من حواجز أمام أولئك الفتيات فلا يترك لهن كثيرا من الخيارات، ويوحي انكسار أحلام الفتيات بأن الكاتبة لا تناصر التمرد المطلق على المجتمع، لكنها أيضا ليست ضد الكفاح للوصول إلى تلك الأحلام بأقل الخسائر الممكنة .
يبقى أن هناك ملاحظتين أساسيتين على هذه الرواية أولاهما أن فيها مبالغة رومانسية تخرجها في بعض الأحيان عن حد المعقول وما يسمح به الواقع، فلا يوجد في تلك الظروف ما يجعل فتاة مرفهة وتعيش وسط أهلها وأبناء عمومتها مثل “شيخة” تهيم بحب “خادم” أبيها “سيف” وتضحي من أجله كل هذه التضحية، فهذا لا يحدث إلا في الخيال، كما أن لغة الحوار اشتطت في استخدام العامية إلى الحد الذي دخلتها معه “رطانة” الوافدين من غير العرب، وهو أمر غير مستساغ، خصوصاً أن أغلب النقاد مجمعون على أن استخدام العامية في الحوار ينبغي أن يكون في حدود ما يقارب الفصحى .
Dah_tah@yahoo.fr
الرابط: http://www.alkhaleej.ae/portal/5843104a-ad36-41ae-9fc8-31389453004a.aspx

ثقافة الترابط والمحبة

أفق
ثقافة الترابط والمحبة
آخر تحديث:الأربعاء ,13/07/2011
محمد ولد محمد سالم
في رواية، شيكاغو، للكاتب علاء الأسواني، يعاني الدكتور رأفت ثابت عالم الأنسجة الذي يعيش في أمريكا أزمة مستعصية، فقد انحدرت ابنته الوحيدة في عالم الفساد وتركت البيت لتعيش في أحياء بائسة وسط عالم من الإدمان والجريمة، ولا يمتلك، وهو أبوها، أي حق في صدها عما تفعله، وحين يطلب منها العودة تهدده بالشرطة، فيعود يمضغ حسرته وآلامه، غير قادر على أن يستوعب كيف أن قانوناً يحرمه من حقه في تربية ابنته وتوجيهها التوجيه الصحيح، ويمنعه من إعادتها لتعيش في كنفه آمنة .
لقد نشأ في ثقافة تعطي أهمية كبرى لقيم الترابط والتواصل الاجتماعي، وأولوية الآباء في تربية أبنائهم وإيوائهم وحقهم في الدفاع عنهم ضد كل ما يمكن أن يفسدهم، نشأ في ثقافة أن يرحم الكبير الصغير ويرأف به ويعلمه الصحيح من الخطأ، وأن يوقر الصغير الكبير ويحترمه، ثقافة تؤسس للمحبة المبنية على العطاء السمح الذي لا يرجو مقابلاً ولا ينتظر مكافأة، والذي يرثه الأبناء عن آبائهم ويأتونه طواعية وبسعادة تجعلهم يحسون بأنهم هنا من أجل الآخرين وأن الآخرين أيضاً وجدوا من أجلهم .
يفاجأ رأفت بعد عقود من العيش في أمريكا، والعمل فيها أنه أمام ثقافة تدخل في أخص خصائص حياته، لتحول بينه وبين أعز شيء لديه في الدنيا وهو ابنته الوحيدة، ثقافة تقول للأب والأم أنجِبا وربيا وكبّرا، ثم اجلسا بعيدا لا حق لكما في الحب والسعادة والاحترام من أبنائكما، مفهوم للحياة محوره الفرد قيمةً مطلقةً، مقطوعاً عن كل ما حوله، مكوراً في دهاليز ذاته، ومعزولاً عن الآخر، عن نسيجه الاجتماعي، ذلك النسيج الذي لم يعد له وجود في واقع الحياة هناك، فماذا سيفعل رأفت المسكين غير أن يموت كمدا ويلعن اليوم الذي رمى به إلى ذلك المجتمع، ويصاب بالمرض كجميع الأمريكيين والغربيين الذين يعانون من أمراض القلق والخوف والوحدة والاكتئاب والجنون، والتي كثيرا ما توصلهم إلى الانتحار، وهي كلها أمراض ناشئة عن تلك الفردانية القاسية التي بنى عليها الغرب رؤيته للحياة .
من البدهي أن الفرد ينبغي أن يحترم كهوية إنسانية وتحترم اختياراته، وحريته في التصرف، وأن لا تطغى قيم الأسرة أو الجماعة وأولوياتها على أولوياته هو، لكن تلك الحرية تبقى مرهونة باحترامه هو لذاته الإنسانية، فلا يتصرف بما يضيعها أو يقضي عليها، فليس أحد حرا في أن ينتحر مثلا، كما هو رهين باحترامه للقيم الاجتماعية والثقافية للجماعة وتفاعله الإيجابي معها، لأنه بذلك الاحترام ينشأ الترابط والتعاضد والمحبة، ويعيش الإنسان بإحساس بالانتماء والأمان وبأن هناك من يهتم به، ومن هو مستعد لخدمته من دون مقابل، وتلك الأحاسيس هي التي تعصمه من الأمراض السالفة الذكر ।
محمد ولد محمد سالم
dअह_तह@याहू.fr
الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/960e5737-c358-457b-96dc-ce25e8ad0c92.aspx

الرواية والتاريخ

أفق
الرواية والتاريخ
آخر تحديث:السبت ,16/07/2011
محمد ولد محمد سالم
لا تنفصل الرواية عن التاريخ، لأنها بناء لنموذج من الحياة الاجتماعية لا ينشأ من فراغ وإنما يستخلصه صاحبه من الماضي، سواء أكان ذلك الماضي هو التاريخ أم المجتمع الذي يعيش فيه هذا الكاتب أم حتى ماضيه هو نفسه، فالتاريخ هنا حاضر بصيغ متعددة، عام أو اجتماعي أو شخصي، لكن التاريخ بمفهومه الاصطلاحي بوصفه أحداثاً تاريخية ماضية معروفة ومسطرة في كتب التاريخ بتفاصيلها، يضع الكاتب أمام إشكالية حين يعود ليصنع منه مادته الروائية، فهل يتبع أحداث التاريخ الحقيقية ويصوغ روايته بأمانة لتلك الأحداث، أم أنه يتصرف فيها ويغيّر ليصوغ رؤيته هو وروايته، مقتبساً من تلك الأحداث، غير منجرف وراء تفاصيلها الكثيرة التي قد لا تخدم رؤيته؟
توفر الأحداث التاريخية الكبيرة للروائي بنية روائية متماسكة يستريح إليها، وتوفر عليه تعب التخيل وصناعة حكاية من نسج ذهنه، فلا يحتاج معها إلا إلى تصرف بسيط في المادة، وربما في جانب بناء الشخصية ونسج الروابط بين مختلف الأبطال فقط، ولهذا يفضل الكثير من الروائيين العودة إلى تلك الأحداث والبناء عليها، وقد أصبحت هذه ظاهرة متواترة في الروايات العربية الحديثة .
في رواية “عزازيل” ليوسف زيدان الفائزة بالبوكر العربية عام ،2009 يجد القارئ نفسه أمام أحداث تاريخية كثيرة تُروى على لسان الراهب “هيبا”، يوثق فيها أحداث الصراع الكنسي الذي وقع في مصر في القرن الخامس الميلادي، وتقدم الرواية تفاصيل كثيرة لذلك الصراع، ونقاشات مطولة حول الخلافات بين المذاهب ورؤى كل فريق، ما يبتعد أحياناً عن محور حياة الشخصية الرئيسة “هيبا”، ويصيب الرواية في أجزاء منها بالرتابة، رغم أنها رواية جيدة وتحمل في النهاية رؤية روائية متماسكة - مهما يكن موقفنا منها- لكن قارئها سوف يتجاوز الكثير من الأحداث الجانبية، والصفحات التي لا يرى فيها كبير فائدة لكي يصل إلى نهايتها .
أما في رواية “واحة الغروب” لبهاء طاهر التي فازت بالجائزة نفسها في دورتها الأولى ،2008 فنجد اتكاء على حادثة تاريخية هي تفجير ضابط حامية مصرية لمعبد أثري في واحة “سيوه” في الغرب المصري، لكن بهاء طاهر إذ ينطلق من تلك الحكاية التاريخية يهتم ببناء الأحداث حول شخصية الضابط، ويصبح عمله الأساسي هو التخيل، فيتخيل شخصية ذلك الضابط ونفسيته ومحيطه الاجتماعي وعلاقاته، ليقدم في النهاية بنية روائية هي تجربة اجتماعية ونفسية لشخصية البطل والشخصيات الأخرى المساهمة معه في الأحداث، ويعمل تعميق تلك التجربة بعيداً عن الانجراف وراء أحداث تاريخية أو مفاهيم عقائدية، أو فلسفية قد لا تغني كبير غناء في مهمة الروائي التي هي التجربة الاجتماعية والنفسية للإنسان، وهو يخوض الصراع اليومي مع معوقات الحياة ومنغصاتها، الإنسان وهو يحلم ويأمل ويكدح، فينجح ويخفق ويتعذب، فيقدم الروائي خلاصة لتلك التجارب تعمق فهمنا لحياتنا وذواتنا وتعطينا أدوات جديدة وآمالاً في أن نعيش غداً أفضل، وتلك هي مهمة الروائي الأساسية، وهي الفرق الجوهري بينه وبين عمل المؤرخ الذي يهتم بحقيقة ما حدث وتسجيله بأمانة اعتماداً على شواهد التاريخ ووثائقه، دون تدخل من خياله ।
محمد ولد محمد سالم
الخليج:http://www.alkhaleej.ae/portal/960e5737-c358-457b-96dc-ce25e8ad0c92.aspx

التأديب باللغة والشعر

أفق
التأديب باللغة والشعر
آخر تحديث:الخميس ,21/07/2011
كانت كلمة “أدب” في الأصل ذات مدلول أخلاقي صرف، تعني “حُسن الخلق”، لكنه في عصر الدولة الإسلامية وبعد أن اختلط العرب بغيرهم من الأمم، ودخلت العُجْمة إلى لسان العرب، احتاج الناس في تأديب أبنائهم إلى تعليمهم أيضاً اللغة والشعر حتى يشبوا فصحاء، وحتى لا تغلب العجمة على ألسنتهم، ومن هنا انتقلت الكلمة إلى المعنى الذي صارت عليه لاحقاً، وصار ذلك ركناً ركيناً من أركان تربية الأطفال، يستوي فيه أبناء الجميع، وقد اتخذ الخلفاء مؤدبين يؤدبون أبناءهم على اللغة والفصاحة وإتقان علوم اللغة والنحو، وحكايات فصاحة عبد الملك بن مروان وأولاده في عهد بني أمية، وفصاحة المنصور والمهدي والرشيد وأبنائهم في عصر بني العباس، وأخذهم بالتشدد في ذلك كثيرة، ومليئة بها كتب الأدب والأخبار .
وبلغ من ذلك أن صار من شروط كل من يستعمله الخليفة في عمل أو يصطفيه لصحبة أن يكون فصيحاً أديباً، ولم تستثن من ذلك الجواري والمغنيات، فقد روي أن الخليفة الواثق بن المعتصم بن هارون الرشيد كان شاعراً حسن الشعر له رواية ودراية في الشعر والنحو، وكانت له جارية حسنة الصوت حسنة الأدب اتفق أن غنت في مجلسه يوماً من شعر العرجي قوله:
أظلوم إن مصابكم رجلاً أهدى السلام تحيةً ظلمُ
فلحنها أحد جلسائه في نصب “رجلاً”، وقال هي “رجلٌ” بالرفع على أنه خبر ل”إن”، فقالت لقد أخذتها عن شيخي أبي عثمان المازني هكذا بالنصب - وأبو عثمان هو شيخ النحاة في البصرة في زمانه - فأمر الواثق أن يؤتى إليه بأبي عثمان، فلما حضر بين يديه سأله في ذلك، فقال هي بالنصب لأنها مفعول المصدر “مصابكم” بمعنى إصابتكم، وأما خبر إن فهو “ظلم”، فأعجب الواثق بجوابه وإتقانه وحسن تأديبه للجارية، وأجازه ألف دينار .
مثل هذه القصص كثيرة، وجديرة بالوقوف عندها لتأمل ما كان عليه أولئك القوم من حرص على أن تظل لغتهم نقية صافية جميلة، وألا تغلب عليها لغات الأمم الأخرى فتمحوها، وحين يقارن المرء اليوم ذلك الاهتمام منهم مع قلة وسائلهم التربوية والمادية، وبعد الشقة بين كثير من أقطارهم وبين حواضر العلم، حين يقارنه مع واقع الحياة اليوم في الوطن العربي وما توفره من وسائل ضافية ومناهج كثيرة لتعليم الأبناء يحار في ما وصل إليه الحال من تردي أحوال اللغة العربية اليوم في المدارس وتأخر مناهجها عن المناهج العالمية في تعليم اللغات، وقلة اهتمام الساسة والعامة بذلك، وسرعتهم في التسابق إلى المدارس التي تدرس اللغات الأجنبية وفتح الباب لها لتأخذ مساحة أكبر بكثير من مكانة اللغة العربية، وكأن الجميع قد نفضوا أيديهم منها ولم تعد تلزمهم في شيء، رغماً من ضجيج في أرجاء الوطن العربي حول الهوية وضرورة الحفاظ عليها وتعزيز مقوماتها، وأي هوية يمكن أن تقوم قائمتها من دون لغة أهلها، وأي أمة يمكن أن تحفظ خصوصيتها من دون حفظ لغتها؟
محمد ولد محمد سالم
dah_tah@yahoo.fr
الرابط: http://www.alkhaleej.ae/portal/960e5737-c358-457b-96dc-ce25e8ad0c92.aspx

السبت، 2 يوليو 2011

بين الحلم والوهم والواقع


أفق
بين الحلم والوهم والواقع
آخر تحديث:السبت ,02/07/2011
محمد ولد محمد سالم
في قصتها القصيرة “زوجة رجل ليس ميتاً” تلعب الكاتبة الإماراتية روضة البلوشي على بنية سردية يتداخل فيها الحلم والوهم والواقع تداخلاً ذكياً، لتقدم له حكاية غير عادية، حتى إذا لم يصدقها في الواقع فإنه قد يصدقها في الحلم أو الوهم .
في البداية تحلم البطلة بأن حبيبها قد مات، وتروي له الحكاية فيضحك من أحلامها، لكن وهم موته يسيطر عليها، فتبدأ في جمع أشيائه الصغيرة (شعيرات رأسه قُلامة أظافره أعقاب سيجارته، وعلبة شعره وقمصانه وأكثر الأشياء التصاقاً به) وتدسها في صندوق سري، كأنما تريد أن تخبئه عن الموت، ويصل الوهم إلى قمته عندما تسمع بحادث سيارته فيغمى عليها، لكنه يعود سليماً، ثم تنقلنا الكاتبة من الوهم إلى الواقع عندما نكتشف في نهاية القصة أن الزوج مات فعلاً منذ أشهر عدة، وأن البطلة أصيبت بالجنون بعد موته، وصارت تبعث له رسائل الحب، وعندما لم يصلها منه رد بعثت له طلباً بالفراق، وحاولت الانتحار .
عبر هذه العوالم الثلاثة تسرد روضة البلوشي قصة غير عادية، ولكونها غير عادية فإنها حشدت لها تلك التقنيات لكي نحلم أو نتوهم أو نتحقق من صحتها، وتكمن الغرابة في القصة في كونها تروي حكاية امرأة جاهدت لتتزوج رجلاً أحبته، وعملت ضد رغبة أهلها ورأيهم وتزوجته، لكن حكايتها لم تنته انتهاء الحكاية التقليدية، حيث يخدع الحبيب حبيته ويتخلى عنها بعد أن يحصل منها على مبتغاه، وبعد إحداث الشقاق بينها وبين أهلها، فلا تجد بعده أي ملجأ، بل كانت حكاية (زوجة رجل ليس ميتاً) حباً عظيماً، وكان حبيبها الذي تزوجته ملاكاً غير عادي في حبه، كما جاء في بداية القصة “لو تسنى لنساء العالم أن يحببن أزواجهن بالطريقة التي أحببتك بها، الطريقة التي تجعلني الآن أدور حول نفسي كما لو أنني أمارس طقساً صوفياً ( . . .) لو تسنى لهن ذلك لفقدن على الأرجح عقولهن المتألمة، وهن في الطريق إلى أرواحهن، لكن الله كان رحيماً بهن حين لم يخلق على الأرض ملاكاً سماوياً سواك” .
لا تنتهي لعبة التمويه بين العوالم عند هذا الحد، فالنهاية التي توهمنا فيها الكاتبة بأن الزوج مات فعلاً وأن زوجته أصيبت بالجنون بسبب ذلك، ليست نهاية قاطعة لأن الخبر يأت على لسان بنت صبية قد تكون الحقيقة غائبة عنها، فقد لا يكون الزوج مات فعلاً، ويكون ما وصلت إليه البطلة هو حالة من جنون الحب، وأياً كنا أمام حقيقة أو واقع فإن ما سيبقى هو أن تلك البطلة بحياتها تلك هي فعلاً “أرملة رجل ليس ميتاً” لأنه هو رجل الحلم والوهم والحقيقة، هو رجل الحب العظيم الذي استطاعت البلوشي أن ترسمه بإتقانها لأدوات الصياغة الفنية، وهو ما يؤكد أن الإبداع هو صياغة فنية متقنة ولعبة إيهام جميلة .
dah_tah@yahoo.fr





الخميس، 30 يونيو 2011

خيط أمل


أفق
خيط أمل
آخر تحديث:الأحد ,26/06/2011
محمد ولد محمد سالم
يمتلك الروائي السعودي عبده خال قدرة كبيرة على إحكام النص الروائي، فهو ينطلق في سرده من حكاية واحدة يؤسس عليها كل تفاصيل روايته، بعكس بعض الكتّاب الذين تتداخل لديهم الحكايات ويضيع القارئ في تشعبات كل حكاية على حدة، فيفقد البوصلة المؤدية إلى نهاية واحدة مقنعة، بينما يظل خال يقود قارئه نحو تلك النهاية بكثير من الإقناع وبغوص عميق في تفاصيل الحياة الاجتماعية للشخصية، ما يجعله يبني معماراً متماسكاً .
في رواية “فسوق” التي أصدرها عام ،2005 يتناول حكاية اختفاء فتاة من قبرها بعد ساعات من دفنها، فقد وجد قبرها في اليوم التالي على دفنها مفتوحاً، ويرصد الكاتب من خلال بحث ذلك اللغز الغامض تفاصيل حياة أهل الفتاة وسكان الحي الذي كانت تعيش فيه، وعلاقاتهم وأسرارهم ومعتقداتهم وخرافاتهم وغير ذلك، وما نسجوه من حكايات حول تلك الفتاة بعد اختفائها وقناعتهم بأنها هربت مع عشيق لها، وفي رصد الكاتب لكل ذلك يرسم صورة سوداوية للمجتمع، وممارساته ضد المرأة وضد الضعفاء والمنبوذين، وحجم الظلم الذي يعيشه الكثير من أفراده، حتى يبدو عالماً قاتماً ليست فيه فرجة ضوء تعطي للقارئ أملاً ولو ضئيلاً في تغير الحال والانتقال إلى حياة أفضل، وتؤكد الرواية تلك الرؤية الموغلة في السلبية لحياة المجتمع، فقد اكتشف الشرطي المحقق في القضية أن حارس المقبرة هو الذي سرق الجثة وحنطها ووضعها في غرفة خلفية حباً لصاحبتها، وحين ينصب الشرطي كميناً للإمساك بالحارس متلبساً بجرمه فإن الجماهير الغاضبة من سرقة الجثة تهجم على المكان وتسحق الشرطي البريء والحارس المجرم معاً .
وفي روايته “ترمي بشرر” الصادرة 2009 والتي فاز بها بجائزة البوكر العربية 2010 يواصل خال النظرة نفسها، فأبناء الحي الفقير على الشاطئ ينجذبون إلى القصر المنيف الذي شيّده حديثاً ذلك التاجر الكبير بجوار حيهم، ويدخلونه تباعاً بحثاً عن العمل والمال، لكنهم يجدون أنفسهم أسرى في ذلك القصر الكبير لا يستطيعون الخروج، ويتعرضون إلى كل أنواع القهر والمذلة، ويرغمون على ممارسة أبشع أنواع الرذائل، ولا يخرجون إلا موتى أو بعاهات أو متنكرين إلى الأبد، فالأفق مسدود في وجوههم ولا أمل لأي منهم في العودة إلى حياة بريئة آمنة، لأن يد ذلك الشر قادرة على أن تطالهم أينما كانوا .
مثل هذا النوع من الروايات رغم متانته وتماسكه الفني وغوصه العميق في المجتمع وتفاصيل حياته إلا أن سوداويته الطاغية وما يخيطه من جلابيب الحزن أمام عين القارئ والبشاعة التي يصور بها المجتمع تفقده الكثير من جمالياته، لأنه وسط الألم والحزن لا بد من بصيص أمل، وسط الظلم والقهر لا بد من نبراس من الخير يتعلق به الإنسان حتى لا يسقط في هاوية اليأس، وذلك هو شأن الرواية العظيمة والكتّاب العظام أن يبقوا على خيط أمل ممدود لعبور محتمل .
Dah_tah@yahoo.fr



الخميس، 23 يونيو 2011

كالنخلة تغوص عميقا لترتفع عاليا


أفق
كالنخلة تغوص عميقاً لترتفع عالياً
آخر تحديث:الجمعة ,17/06/2011
محمد ولد محمد سالم
تعيدنا بعض المشاريع الفنية والأدبية المغرقة في محاكاة النزعات الغربية الحديثة إلى السؤال القديم الجديد وهو: أين نضع الخصوصية الذاتية والاجتماعية والحضارية في العملية الإبداعية؟، وما حدود حضور البيئة بمظاهرها المادية والمعنوية والنفسية كلها في الفن والأدب؟، ذلك أن تلك المشاريع وإن كانت تفلح في محاكاة تيارات راجت في بيئاتها الغربية وتعكس أنساقها الفنية بقوة، إلا أنها تبدو مبتورة عن واقعها، وكأنها سجينة أقفاص زجاجية لا ينفذ إليها منها الواقع نفسه الذي تنتج له، ولا تتأثر به، فتبقى جامدة محاصرة في برج عدم انتمائها، واستعصائها على أدوات النظر والتأويل للمتلقين الذين تتوجه بخطابها إليهم، فلا يجد أصحابها سوى الهرب إلى الآخر لعلهم يعثرون على المتلقي المثالي الذي يبحثون عنه أو البقاء في شرنقة الذات وتكرار أسطوانة الهروب التي يكررونها دائماً، والتي تنجيهم من النقد وهي “أنا أكتب لذاتي” أو “أنا أرسم لنفسي وحدها” أو”أنا أبدع لنفسي فقط”، وبذلك يظن هؤلاء أنهم يجدون مناصاً من المحاسبة الفنية، إذ لا لوم على من يخاطب نفسه في شكل وأدوات الخطاب الذي يبعث به إليها، ولا حساب عليه في ذلك، لكن هذا الادعاء كثيراً ما يدحضه الواقع حين يطبع أحد هؤلاء كتاباً على أنه ديوان أو رواية مجموعة قصصية ويوزعه، أو حين يقيم آخر معرضاً فنياً لرسومه أو منحوتاته، لأنه بذلك الفعل ينتقل من خطاب الذات إلى خطاب المجتمع، وهنا يحتاج إلى أن يكتب أو يرسم بأدوات مشتركة متعارف عليها، أدوات يشترك هو ومتلقيه في معرفة دلالتها، ويملكان القدرة على مقاربة انزياحاتها، وتتبع مساراتها ضمن كل تشكيل فني جديد .
تبدو العملية هنا في الخطاب الفني والأدبي أشبه بما يحدث في أنساق اللغة، فاللغة يشترك متحدثوها في فهم مفرداتها وأنساقها النحوية، ويتيح لهم ذلك تفكيك دلالة الجمل التي يتداولونها بينهم، مع أن إمكانات صياغة تلك الجمل لا حصر لها، ولا يمكن لأحد أن يتنبأ بنسق الجملة التي ستوجه إليه، لكنه بمعرفته السابقة بالمفردة واختزال ذهنه للأنساق النحوية، يستطيع أن يقارب دلالة تلك الجملة أياً كان تركيبها، وهنا يأتي دور البيئة برموزها الاجتماعية والمكانية والثقافية في صناعة الإبداع، فبالانطلاق من تلك الرموز المشتركة وصياغتها في تشكيل جديد ذي نسق متكامل يكون الأديب أو الفنان قد ارتقى في سلم الإبداع، وصناعة التميز الذي هو شرط ضروري من شروط الإبداع، لا يمكن أن يوجد من دونه، وهو بالطبع ينافي التقليد .
هاهنا تبدو عملية الإبداع كالنخلة التي كلما غاص جذرها في باطن الأرض ارتفع جذعها في عنان السماء، فكلما غاص الإبداع في أعماق بيئته وتجذر فيها فإنه يرتفع نحو العالمية ويرتقي في سماء الإبداع، ولا يجد المرء عناءً كبيراً في تقديم الأمثلة على ذلك، فما من أديب كبير أوتشكيلي مبدع على مر العصور إلا ويحقق إبداعه تلك الموازنة الدقيقة .
mailto:Dah_tah@yahoo.fr


مذاق السفر مع مسرحيين


من الشارقة إلى سيبيو
رحلة إماراتية في طبيعة خضراء
آخر تحديث:السبت ,18/06/2011
محمد ولد محمد سالم


1/1


عندما خرجنا من بوخارست إلى سيبيو التي ستعرض فيها فرقة مسرح الشارقة الوطني مسرحية “الحجر الأسود” لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، قيل لنا إن الرحلة ستكون شاقة لأن الطريق يمر عبر شعاب جبلية ضيقة صعوداً وهبوطاً، وتأخذ الحافلة خلاله وقتا طويلا يقارب خمس ساعات رغم أن المسافة لا تتعدى ثلاثمئة كيلومتر، وهيأنا أنفسنا لمشاق الرحلة، لكن ما حدث كان مختلفا تماما، فرغم وعورة الطريق إلا أنه كان للرحلة متعة خاصة، جعلت المجموعة لا تحس بمشقتها وتصل إلى سيبيو في غير ملل ولا تعب، وتكرر ذلك من سيبيو إلى براشوف ثم من براشوف إلى بوخارست في طريق العودة، ذلك أنها مع مشاهد الطبيعة الخضراء المتنوعة بين السهول والجبال، وجمال الأبنية الهرمية ذات السقوف القرميدية القانية وسط تلك الطبيعة الخضراء، والجو المعتدل والمطر الذي يغسل الأرض من حين لآخر، كانت رحلة مع فنانين مسرحيين، والرحلة مع المسرحيين لا تعادلها رحلة مع أي صنف آخر من أصناف الناس، ففيها مرح وضحك ومزاح كثير، وفيها اكتشاف لمواهب متنوعة لأولئك الشبان المفعمين بالحياة والحيوية .
أحمد الجسمي رئيس الوفد أرادها أن تكون رحلة ممتعة للجميع، ولم يجد عناء في العودة إلى طبعه كممثل قادر على جلب النكتة والضحكة وتنشيط المجموعة من فترة لأخرى حتى لا تستسلم للملل والكآبة، فكان يمازح الكبير والصغير وينتقل إلى مؤخرة الحافلة لتحريك الجوقة الغنائية، أويستدعي أحد الشبان لتقديم مشاركته عبر مكرفون الحافلة، فكان والداً وصديقاً وأخاً ومنعشاً للجميع .
الدكتور محمد يوسف، الفنان التشكيلي والممثل، والرجل الوقور متعدد المواهب، لم ينس أن التمثيل هو القدرة على أداء كل الأدوار، ولبس القناع المناسب لكل المواقف، فكان يغني مع المغنين ويؤدي الرقصات الشعبية التقليدية في الإمارات، ويقلد ويبث النكتة، ويشاكس ليبعث الضحكة، ولم لا وقد كان القدماء يرون أن العبث مندوب في السفر .
الرحلة اتخذت طابعاً الأجواء الشعبية الإماراتية من خلال الإيقاع الجميل لطبول مجموعة “أبناء درجلك”، والأغاني الشعبية المصاحبة لها، أولئك الشبان الذي يشكلون فرقة إيقاعية متميزة، وغنية بألوان الإيقاعات الجميلة التي يحفظونها عن ظهر قلب ويؤدونها في انسجام تام، وقد أصبح أولئك الإخوة ظاهرة فريدة في المسرح الإماراتي تستحق الوقوف عندها، فقد أدخلوا إليه كما قال لي - علي درجلك - الطبل والغناء الشعبي حتى أصبح جزءاً لا يتجزأ منه، وأعادوا للطبل وأغاني المالد والنهام والمواويل حضورها وقيمتها بعد أن كادت تندثر أمام غزو الآلات الموسيقية والإيقاع الغربي، وهم يصنعون لكل أغنية إيقاعاً خاصاً عماده الطبل ويتدربون عليه باستمرار .
من المواهب الجميلة التي ظهرت أيضاً في هذه الرحلة الموهبة الغنائية الجميلة للممثلين الفتيين محمد الزرعوني، وحسن درويش فقد أنعشا أجواء السفرة بصوتيهما النديين وما قدماه من الأغاني الشعبية الإماراتية، كما كان للأدوار الكوميدية للممثل المخضرم حميد سمبيج دور في تنشيط الجو، وكذلك الفنان محمد غباشي في موهبته في اللعب بالكلمات وتحوير معانيها إلى موضوعات مضحكة، أما موهبة فن التصوير الفوتوغرافي فقد انفرد بها الممثل محمد حسين الذي وثقت كاميرته بحرفية فنان كل المشاهد والمواقف على طول الطريق .
فن تقليد الأصوات كان أحد المواهب التي برع فيها الممثل أحمد ناصر الزعابي الذي مثّل دور “منادي” المعز الذي يعلن المراسيم، وقد بعثت قدراته في محاكاة أصوات الرجال والنساء والصغار والكبار الكثير من الضحك في أرجاء الحافلة، وجاراه في الموهبة نفسها الممثل القدير رائد دلاتي الذي أدى دور أبي طاهر الجنابي، وبرع الدلاتي في محاكاة المتكلمين بمختلف الدارجات العربية في المشرق والمغرب بطريقة ساخرة، ولم يقتصر دوره على ذلك، بل أشاع بصوته العذب جوا من الطرب من خلال أغنيات لفيروز وبعض المطربين الشاميين، فكنا غير بعيدين من أجواء الشام والعين تسرح في تلك الخضرة اليانعة .
“الحكواتي” الذي عرفته المجتمعات العربية قديما في المقاهي والمجالس الشعبية، والذي كان الشكل المسرحي الأكثر حضورا فيها، حيث يجلس رجل في حلقة ويضع بين يديه كتاب ألف ليلة وليلة أو مقامات بديع الزمان الهمذاني أو كتب الشطار والمحتالين، أو كتب سير العظماء والأبطال ويبدأ بسرد تلك الحكايات بتفاعل تمثيلي صوتي وحركي مع مختلف تقلبات وحلقات القصة، هذا الدور لعبه الممثل أحمد يوسف الملقب ب”الحكواتي”، والذي لعب دور أحد قادة أبي طاهر الجنابي “الحجر الأسود”، ويقود أحمد يوسف فرقة “الحكواتي” التي تقدم مسرحيات في مختلف مدن الإمارات، وقد قدم خلال الرحلة بعضا من حكاياته تلك بأسلوب كوميدي تفاعل معه أعضاء الفريق .
العنصر النسائي لم يغب عن تلك الاحتفالية المتنقلة، فقد كانت في الرحلة كل من الدكتورة وهيبة راشد مسؤولة ملابس الفرقة، والممثلتين أشواق وإلهام محمد، وأعطى حضورهن توازناً اجتماعياً لجو الرحلة، وقد كن مخلصات للكرم الذي تعرف به المرأة العربية، فكان لا يمر وقت إلا وإحداهن توزع الشوكلاته أوالحلوى أو الفاكهة أوالعصير .
الحدث الأطرف خلال الرحلة في الحافلة كان “إذاعة إف إم ضيوف الشرف رومانيا” التي اخترعها الفنان عبدالله زيد، وهو ممثل مسرحي حاصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان أيام الشارقة ،2011 وكان يستخدم في إذاعته المكروفون الداخلي للحافلة والمسمّعات المبثوثة على طولها، وكشف من خلالها موهبة إعلامية متميزة ذات قدرات لغوية وحضور بديهة، وقدرة على التفاعل المسلّي مع مستمعيه، وكان يبث النكات والإهداءات الغنائية التي يخزنها في هاتفه المحمول، ويخترع الأخبار وينقل المشاهدات الخارجية، كأنه مذيع يقدم المعلومة ويرفّه عن سامعيه، وهيمنت إذاعته على معظم وقت الرحلة .
استطاع عبدالله زيد ببراعته أن ينتزع الضحكة والتصفيق الحار من الجميع، حتى من محمد عبدالله العلي ذلك الرجل الرزين الهادئ، الإعلامي المخضرم والمسرحي عضو مجلس إدارة فرقة مسرح الشارقة الوطني، الذي كشفت الرحلة عن قدراته الكتابية، خاصة في مجال كتابة المذكرات، حيث يحتفظ بمدونة ذكريات يسميها “الكتاب الأسود” تيمناً بالحجر الأسود، ولأنها أيضاً تشبه الصندوق الأسود للطائرات فقد دوّن فيها كل شيء حول مسرحية “الحجر الأسود” منذ بداية الإعداد لعرضها في مهرجان الشارقة، وحتى نهاية الرحلة إلى سيبيو، فكان يرصد الأحداث وأحوال الممثلين والطاقم الفني والإداري وغيرها بأسلوب فصيح جميل، فيه رونق البيان، وقد قرأ علينا بعض المواقف الطريفة من تلك المذكرات .
بكلمة واحدة فقد كانت رحلة الحافلة رحلة ذات مذاق شعبي إماراتي وعربي، في أعماق الطبيعة الخلابة لأراضي رومانيا

دفاعا عن المثقف


أفق
دفاعاً عن المثقف العربي
آخر تحديث:الثلاثاء ,21/06/2011
محمد ولد محمد سالم
كانت الأنظمة المتسلطة في بعض البلدان العربية حين تغضب من الفكر التنويري للمثقف العربي تتهمه بالخيانة العظمى وخدمة أعداء الوطن، ويؤول الاتهام إلى سجن وتعذيب أو قتل بحكم علني أو في ظروف غامضة، وفي أحسن الأحوال تخويفه ليخرج من وطنه خائفاً، أو منعه من الكلام والكتابة، وكانت الآلة الإعلامية لتلك الأنظمة تشن حرباً لا هوادة فيها على المثقفين وترسخ في أذهان الشعب، أنهم نبتة طفيلية لا فائدة فيها، ولا تجلب سوى أفكار هدامة، وقد أفلحت تلك الأنظمة في مسعاها، حتى وصل الحال إلى أن يكون المثقف العربي فعلاً نبتة غير مرغوب فيها، ولا تنتج شيئاً ذا قيمة للمجتمع .
لقد كانت تلك الأنظمة معذورة كل العذر في أن تقطع الطريق على المثقف، وتوقف إمكانية تأثيره في الناس لأن ما يحمله من فكر، ويروج له من أفكار تناقض تماماً ما تريده الدكتاتوريات، بل فيها بذرة ذهاب تلك الدكتاتوريات، وتدميرها، لأنها أفكار الحرية والديمقراطية، وحق الإنسان في العيش الكريم، لكن الذي لا يجد المرء له عذراً هو ما نقرأه اليوم من تقارير الإدانة والمسبة للمثقف العربي على تخاذله عن نصرة حركات الحرية وثورات الديمقراطية وحقوق الإنسان المستعرة في أجزاء من الوطن العربي، وادعاء عدم نهوضه في طليعتها، بل تذهب بعض الآراء إلى أن المثقفين العرب لم يستطيعوا أن يفهموا حركة المجتمع ويرصدوا تغير الأفكار ففاتهم القطار، واندفع الشباب وعامة الشعب البسطاء، وبقوا هم قابعين في كهف تحجرهم وسقم تفكيرهم، فلمصلحة من يدان المثقف العربي اليوم، بعد أن بدأت تلك الأنظمة التسلطية التي عاداها وعادته وكرهها وكرهته تتداعى، وبدأت ثمار جهاده على مدى قرن أو يزيد تؤتي أكلها، ثورات تحررية لا ترضى بأقل من الديمقراطية والمساواة والحرية، لمصلحة من يقال إن المثقف العربي “فاته القطار”، وهو الذي صنع القطار منذ أن كتب رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” وكتب عبدالرحمن الكواكبي “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، وبينهما وبعدهما إلى اليوم ما يملأ الأفق من الكتب والأشعار والروايات والقصص والدراسات والمقالات التي تنظر وتوجه وتطالب وتنادي وتثوِّر المجتمع، وتدربه على أفكار الديموقراطية والحرية ليستوعبها ويطبقها في حياته .
كيف بعد كل هذا التاريخ يقال إن المثقفين لم يستوعبوا اللحظة ولم يفهموها وهم الذين مهدوا لها وصنعوها، رغم العسف وتكميم الأفواه، لكن ما سطروه كان النور الذي ينير الدرب، والمشعل الذي حملته الجماهير حين تحركت، وسواء أكان المثقف واحداً من أولئك الآلاف الذين اندفعوا على الشارع وواجهوا الموت بصدور عارية أو لم يكن منهم، فإن أفكاره ودعواته وتضحياته التاريخية هي التي أوصلت الناس إلى تلك اللحظة التاريخية، وهي التي ستوجه دفة تلك الحركات وترشدها، لأنها آراء الحق والعدل المتجردة من المصلحة الذاتية الضيقة .
dah_tah@yahoo.fr

الثلاثاء، 14 يونيو 2011

تداخل الغرائبي بالواقعي في "طوق الحمام"


فازت بجائزة البوكر العربية في أبوظبي
تداخل الغرائبي بالواقعي في رواية "طوق الحمام"
آخر تحديث:السبت ,23/04/2011
محمد ولد محمد سالم


1/2

تقدم الروائية السعودية رجاء عالم في روايتها “طوق الحمام” التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر العربية” 2011 مناصفة مع “القوس والفراشة” للكاتب المغربي محمد الأشعري، عوالم متعددة وسياقات متشعبة، يتداخل فيها الغرائبي بالواقعي والراهن بالتاريخي والمكاني بالزماني والعقلي بالوهمي، عبر سرد يطول ويتشعب في كل اتجاه .
الحكاية الأساسية في الرواية هي بحث يجريه المحقق “ناصر” لمعرفة هوية تلك المرأة التي وجدت جثتها محشورة بين جدارين في أحد الأحياء وأسباب موتها، لكن هذه الحكاية، تتحلل إلى حكايات لا تنتهي وتسير في اتجاهات عدة، فحين يباشر المحقق عمله تكون المعطيات الأساسية عنده هي مقالات “يوسف” في جريدة أم القرى ورسائله إلى محبوبته “عزة” المرشحة لأن تكون هي الميتة، والرسائل الإلكترونية التي تركتها “عائشة” في سلة المهملات على سطح حاسوبها الآلي، قبل أن تختفي، وهي مرشحة أيضاً لأن تكون تلك المرأة الميتة، رسائل عائشة كتبتها لعشيقها الألماني الذي تعرفت إليه قبل أشهر في المستشفى عندما ذهبت إلى ألمانيا للعلاج بعد حادث أودى بحياة أهلها وأصابها بالشلل لتلازم كرسياً متحركاً .
من خلال تلك الكتابات والاستجوابات التي أجراها ناصر لبعض الشخصيات في الحي، ومن خلال السرد الذي يأتي بطريقة فنتازية على لسان “أبي الرؤوس” تتكشف لنا العوالم الداخلية لذلك الحي القذر المملوء بالقاذورات ومياه المجاري، والذي تعيش فيه شخصيات أمية جاهلة أو متعلمة مهزوزة البناء مجهولة النسب، فهناك يوسف المختفي والذي يشكّل الشخصية المتعلمة في الحي والذي لا يعرف من هو أبوه، وأمه حليمة صانعة الشاي التقليدي والتي ربته هو وعزة ابنة التاجر اليتيمة من الأم، وأبوها مزاحم التاجر الذي كان يهمين على التجارة في الحي ويسيطر على عمليات شراء العقارات والاستيلاء على أوقافها، قبل أن يصبح ميداناً لتنافس الشركات العملاقة، وأحمد ابن الزبال الذي أصبح يرافق الشخصيات الكبيرة المتنفذة خارج الحي والذي تزوج عائشة، وهناك العشّي وزوجته القوية وابنهما اللقيط “تيس الأغوات” والإمام الصومالي وابنه معاذ، ومسبب صاحب البستان ومهرب التحف الذي كان على علاقة بعزة، واختفى أثناء ظهور الجثة، والتركية التي تمتلك محلاً للخياطة تدير من خلاله علاقات مشبوهة برجال أعمال يسعون للاستيلاء على عقارات الحي وإغواء بناته، وناصر المحقق نفسه الذي عاش في الحي عقوداً طويلة، وحين ننتقل إلى القسم الثاني من الرواية نصادف شخصيات أخرى كثيرة .
ندرك من خلال كتابات يوسف العارف بتاريخ وجغرافية مكة المكرمة انزعاجه من زحف الأبراج العقارية والعمارات الحديثة على أحياء المدينة المقدسة، وطمسها لمعالمها وشواهد تاريخها لذلك السباق المحموم الذي يقوم به رجال الأعمال لاكتساح القطع الأرضية حول المسجد الحرام، كما نتعرف من خلالها إلى جوانب من حياة أبي الرؤوس وسكانه، ونتعرف من خلال رسائل عائشة إلى رؤيتها للحياة قبل وبعد سفرها للعلاج، وما تمثله حياتها الأولى في نظرها من كبت وانغلاق وتعتيم، وما انفتح أمامها من أفق للحرية ولطعم الحياة حين التقت عشيقها الألماني .
أما القسم الثاني من الرواية فيدور معظمه في إسبانيا حيث نلتقي بشخصيات جديدة هي “نورة” التي سنكتشف في النهاية أنها هي “عزة” وهي تسكن جناحاً في فندق فخم وتعيش في عهدة رجل الأعمال “خالد الصبيحان” الذي سوف نكتشف أنه مالك تلك الشركة القابضة العملاقة التي هجمت على أحياء مكة ومعالمها التاريخية تطمسها بأبراجها وفنادقها وأسواقها التجارية الحديثة، وكذلك رافع اللبناني الحارس الشخصي لنورة، ثم المرأة الاسبانية في الكنيسة في طليطلة، وشخصيات تاريخية كثيرة .
في هذا القسم يتركز السرد على البحث عن مفتاح ضائع، ونكتشف أن سبب وجود الصبيحان في إسبانيا هو البحث عن مفتاح ضائع تقول الأسطورة إنه قادر على فتح أبواب كل الدنيا، وأن جوزيف بن تقرلا هو من صنعه على نسق أبواب قدس الأقداس في سبأ أرض بلقيس، التي رحل إليها ليعيد نسج أساطير الحب التي تروى عنها، وعاد منها بأبواب مقدسة، جعلها في كنيسة بطليطلة، لتكون ملهمة العشاق والمبدعين، وصنع المفتاح الذي يفتح تلك الأبواب وكل الأبواب، لكنه مات على الباب الأخير قبل أن يفتحه، والحجاب الذي يضم رقوقاً عن حياة سلالة عربية يهودية سيكون من نسلها من يجلب الشر، ونكتشف أن الصبيحان هو من تلك السلالة .
الظاهر من رواية “طوق الحمام” أنها قصة اجتماعية بسبب ما تحاول أن تقدمه من تحليل للعلاقات الاجتماعية وربط لها بخلفياتها النفسية والفكرية، لكن رجاء عالم اتبعت في سردها تقنيات الرواية البوليسية خصوصاً في القسم الأول منها حيث اعتمدت في تقديم الأحداث على التحقيق الذي يجريه ناصر حول هوية الجثة، وأسباب موتها اعتماداً على المقالات والرسائل التي ذكرناها آنفاً، وعلى الاستجوابات التي امتلأ بها ذلك الجزء من الرواية، فمنذ البداية نجد أنفسنا أمام تلك الجثة التي لا تعرف صاحبتها، وتصبح كل الشخصيات متهمة بقتلها ما يذكّر بالعقد التقليدية في الروايات البولسية، لكن تقاطع الحياة الخاصة للشخصيات مع ذكريات طفولة ناصر قلب كيانه كمحقق صارم إلى شخصية حالمة تتبع سطور الرسائل بنهم بحثاً عما يشبع غرائزها الإنسانية التي انطمست لعقود تحت بدلة الشرطي، ما أضاف عنصراً درامياً إلى القصة وحولها إلى قصة اجتماعية، يضاف إلى ذلك أن وجود ثغرات كبيرة في التحقيق أضعف عناصر القصة البوليسية فيها، مثل كون المحقق لم يبدأ بنتائج تشريح الجثة لتحديد هوية صاحبتها، ولم تذكر تلك النتائج على طول الرواية، وكون جسد عائشة يحمل آثار العمليات التي أجريت لها بعد الحادثة وهي مصابة بالشلل، فمن السهل التفريق بين جثتها وجثة عزة، كذلك كون التحقيق لم يبدأ بمنزل أهل “عزة” لمعرفة ما إذا كانت مفقودة أم لا، ولم يستجوب أبوها إلا في مراحل متأخرة من التحقيق، ومثل تلك الثغرات كثيرة، ثم إن عنصر الحركية والمباغتة التي تنبني عليها الرواية البوليسية مفقود في “طوق الحمام” لأن جل اعتماد المحقق كان على الرسائل الغرامية التي لا تقدم أحداثاً أو معلومات متعلقة مباشرة بتلك الجثة، تجعل البحث يتطور ويندفع إلى الأمام، ما أفقدها عنصر الإثارة الذي هو عنصر أساسي في الرواية البوليسية .
تنوع في الخطابات:
حشدت رجاء عالم كل طاقاتها وخبراتها في هذه السردية لتقديم عمل يستفيد من كل أساليب القص الحديثة والقديمة، ويوظف كل أشكال الخطابات السردية المعروفة، ما يدل على تمكنها من تلك الأساليب التي تجلت في:
خطاب الراوي: تبدأ الأحداث براوٍ غير عادي يتحدث عن نفسه قائلاً “أنا أبو الرؤوس برؤوسه المتعددة، أنا الزقاق الصغير”، ويبدأ أبو الرؤوس بسرد خبر الجثة والتحقيق الذي بدأ حولها، لكن سرعان ما يتغير . تقوم “طوق الحمام” على سرد لراوٍ عارف بكل شيء، لكن سرعان ما ينتقل السرد إلى رواية أحداث متعلقة بطفولة المحقق في “وادي محرم بجبال السراة” في الطائف البعيدة عن “أبي الرؤوس”، فنحس بأن الراوي قد تغير، ويتأكد هذا التغير بحديث الراوي نفسه عن أبي الرؤوس بضمير الغائب في مواقع كثيرة من الرواية، وفي القسم الأخير منها يغيب أبو الرؤوس تماماً، فيقع القارئ في إشكالية عن سبب سرد الكاتبة لبعض الأحداث على لسان “زقاق جماد” في صلب رواية يفترض أنها واقعي، ومن غير تبرير واضح لذلك .
تعدد الأصوات: سمحت طريقة التحقيق البوليسي للرواية بإدخال تقنية تعدد الأصوات فكانت كل شخصية تتحدث عن نفسها وجوانب من حياتها أثناء التحقيق، غير أن إرادة الكاتبة لجعل تلك الشخصيات متهمة وتحجيم أدوارها في ذلك الجانب، وكونها تتحدث في جلسة تحقيق حد من حرية تلك الشخصيات في استبطان خلفياتها الاجتماعية وتداعياتها النفسية، وكان يمكن لحديثها أن يكون أكثر إثراء للعنصر الدرامي في الرواية لو تركت تلك الشخصيات على سجيتها وأعطيت مساحة كافية من البوح، والشخصية الوحيدة التي اقتربت من تلك المنطقة هي المحقق ناصر نفسه، لكن ذلك الاقتراب لم يستثمر حتى النهاية . وبقي شيئاً هامشياً على الأحداث وعلى صفته كمحقق .
الرسائل: لجأت رجاء عالم إلى تقنية الرسائل العادية والإلكترونية لتطوير أحداث الرواية والوقوف على أراء وطبائع شخصيتين من شخصيات الرواية، واحتلت تلك الرسائل جزءاً كبيراً جداً من الرواية، ويمكن اعتبارها أكثر الخطابات السردية حضوراً حتى إنها تضاهي في حضور الراوي، لكن الكاتبة تغالي في استخدام تلك الرسائل وتتبع بإسهاب مخل كثيراً تهويمات كاتبيها يوسف وعائشة وآرائهما حول الحب والحياة والناس وردودهما على رسائل أو استفسارات عشيقيهما، وغير ذلك من الأحاديث والحكايات المطولة التي تتخلل رسائل الحب، من غير فائدة واضحة في تطوير الحكاية طولياً أو أفقياً .
الوثيقة التاريخية: حين يفتح ناصر الحجاب الفضي في القسم الثاني من الرواية يقع على سفر من الرقائق الصغيرة القديمة، فيبدأ بقراءتها وتثبت الكاتبة بالنص ما جاء في تلك الرقاق التي تحكي حكاية اندساس سلالة يهود في قبيلة من قبائل نجد ونكتشف أن الصبيخان ينتمي لتلك السلالة حسب ما يثبته الرق، ولم يكن كل ما ورد في تلك الرقاق وارداً بهذا الحجم الكبير الذي أوقف مرات حركية الرواية، وأضفى عليها ركوداً .
الأسطورة: تستعين الكاتبة بالأسطورة من خلال ما روته اليهودية الاسبانية عن جدها جوزيف بن تقرلا، وعن الرجل اليمني “الشيبي” الذي جاء من اليمن بحثاً عن المفتاح لاستعادته، وقد استغرق معظم القسم الثاني من الرواية في تهيئة الظروف لنورة لتصل إلى تلك الكنيسة التي تحتفظ في قلبها بمعالم مسجد أندلسي، لتتلقى وحي الإلهام وتتشرب حواسها الجمال الذي سيجعل منها في النهاية رسامة تشكيلية عظيمة .
هذا إلى جانب كتب الأدب والتاريخ ومواقع الإنترنت التي ترد منها اقتباسات خصوصاً ضمن رسائل عائشة ومقالات يوسف، وتظهر كل تلك الخطابات والأساليب الجهد الكبير الذي بذلته الكاتبة في تأليف روايتها، وتمرسها بكل أنواع ومستويات الخطابات، فهناك الخطاب السردي المباشر وهناك التداعي الحر والخطاب التاريخي والديني والشاعري الرومانسي وغيرها، ترد في تدرجات بديعة وبلغة عربية فصيحة وسليمة نحواً وصرفاً، لولا بعض الأخطاء الطفيفة التي ترد في ثنايا بعض النصوص ولا يمكن لعمل بهذا الحجم أن يسلم من السهو، وكان ينبغي للعنوان أن يكون “أطواق الحمام” بدل طوق واحد أنسب للعدد .
المنظور الروائي
لكل من قصة البحث عن هوية الميتة وقصة الهجوم العمراني الحديث على المعالم التاريخية لمكة المكرمة ومحاولات يوسف للوقوف في وجهه سياقها المختلف عن الأخرى ولا ترتبطان إلا من خلال شخصية يوسف، ولو حذفت إحدى القصتين من الرواية لما أثر ذلك في الأخرى، ويمكن بشيء من التجوّز اعتبار قصة الميتة هي قصة المرأة المغيبة المكبوتة والمخفية في أقبية الصمت الغائرة، وقصة الهجمة العمرانية هي قصة النهب والسلب للهوية والذات، كما أن قصة نورة والمفتاح في القسم الثاني من الرواية يمكن أن تكون قصة مستقلة لولا النهاية التي ربطتها شكلياً بالأخرى، فجعلت نورة هي نفسها عزة المفقودة، وتقابل نورة المرأة الميتة بكونها رمزاً لانعتاق الجسد الأنثوي وما يمكن أن يبلغه ذلك الانعتاق من سمو إلى مراتب الإلهام وتلقي أسرار الحب والجمال الذي هو الشريعة الجامعة للبشرية قاطبة، وأما حكاية العرق اليهودي المندس في القبيلة العربية، وهي بدورها قصة مستقلة فترمز إلى تسلسل الشر في بقائه في كيان الإنسان، وفي الرواية أبنية قصصية أخرى كثيرة .
هذه السياقات المتعددة والاستقلالات في المتون الحكائية أرهقت رواية “طوق الحمام” بالتعرجات المختلفة، فوصلت إلى نهايتها منهكة متقطعة الخيوط، حيث إن الكثير من الشخصيات التي ظهرت في الجزء الأول من الرواية اختفت من دون أن نعرف ما هو سبب ظهورها ولماذا تختفي فجأة من غير مبرر، كما أن حجم البحث والتحقيق في الجزء الأول لا يسلم إلى نتيجة ويبقى السؤال معلقاً من دون أن نجد مواصلة له في الجزء الثاني إلى أن نصل إلى النهاية التي سنجد فيها الجواب، ورغم ذلك فإن النهاية التي وصلت إليها المتمثلة في نجاح شركة رجل الأعمال خالد الصبيحان في إقامة مشاريع إنشائية جديدة حول البيت الحرام، وظفر الصبيحان بالحجاب الذي يتضمن تاريخ السلالة اليهودية التي ستتملك مكة، وقبضه بمساعدة المحقق ناصر على يوسف الذي يحمل مفتاح الكعبة المفقود، واستئثاره بنورة “عزة” التي تلقت نور الحب والجمال وأصبحت رسامة مبدعة، في تلك النهاية ما يمكن أن يقدم صرخة في وجه الفساد المستشري، والتغوّل المادي الذي أصبح يطغى على كل شيء ولم يسلم منه أي منحى من مناحي الحياة الاجتماعية والروحية، وأصبح ينفث سمه في كل شيء، وهي نهاية أنقذت الرواية إلى حد ما، وجعلت لذلك الشتات خيطاً رابطاً مهماً بدا واهياً فإنه أعطاها شكلاً من أشكال التماسك، رغم أن القارئ عليه أن يمتلك صبراً وحافزاً خارجياً ليبلغها من خلال 566 صفحة، ولذلك يمكن أن نقول إن الجهد الروائي كان جباراً، وهو إضافة نوعية لتاريخ رجاء عالم الروائي ।

شعرية الواقع


أفق
شعرنة الواقع
آخر تحديث:الجمعة ,06/05/2011
محمد ولد محمد سالم
الخيال أو التخييل أو الصورة مصطلحات لمسمى نقدي واحد هو التمثيل الذي يصطنعه الشاعر لتقريب المعنى الذي يريده أو التلميح له، وهو أساس الشعر لأنه هو الذي يعطي للكلمة صفاءها وحرارتها وفاعليتها، ويفرض على الشاعر معجمه التعبيري، وهو الذي يعطي للجمل توتراتها، وللأسلوب تناسقه وانسيابيته، ومن دون الخيال يسقط الشعر في النثرية الباردة والتقريرية الفجة، لكن من أين يستقي الشاعر اليوم مادة خياله، من أين يأتي بصوره؟
لو رجعنا إلى الشعر العربي القديم نجد أن مادة الصورة الشعرية كانت تستقى من البيئة التي يعيش فيها الشاعر، وكان الشعراء يتمتعون بحس خيالي ذكي، فكل شيء قابل لأن يكون مشبها أو مشبها به، وهو الأصل الأول للصورة بما هي تمثيل، فمن التشبيه جاءت الاستعارة قديما والرمز حديثا، وقد أبدع شعراء الجاهلية في تحويل تلك البيئة إلى خيال رائع حمل بعمق ما جاشت به أنفسهم من معانٍ، وكان امرؤ القيس من أغزر الشعراء وأبدعهم صورا، وما من شاعر معدود في طبقات فحول الشعراء في الجاهلية والعصور الإسلامية إلا كانت له صوره الخاصة وخياله الخلاق، وقدرته على تحويل أشياء بيئته إلى سلسلة من الصور .
عندما بدأت النهضة العربية الحديثة انتهج الشعر الإحيائي إبداع الصورة القديمة، لكنّ تلك المدرسة وصلت إلى طريق مسدود لأن مادة الصور عند شعرائها كانت تستقى من بيئة تراثية لم يعد الشاعر يعيشها إلا من خلال ثقافته الشعرية، ولا توجد تلك الأشياء التي يصنع منها صوره في واقعه، وقد استطاعت حركة الشعر الحديث الخروج من ذلك المأزق باتخاذ الرمز الأسطوري والتاريخي مادة للصورة الشعرية، والانتقال بها من جزئية الصورة الجاهلية إلى صورة كلية ناظمة للقصيدة بكاملها، لكن بعد انقشاع الغبار ظهر أن الكثير سقطوا في الغموض باتباع رموز أسطورية غربية وإغريقية لا علاقة لها بالعرب ولا بثقافتهم، وفي كثير من الأحيان سقطوا في تقليد شعراء الحداثة الغربية، ولم يسلم من ذلك إلا قليل، وتبعت ذلك مرحلة تاه فيها الشعراء ولم يعرفوا كيف، ولا من أين يستقون مادة خيالهم فاصطنع كثير منهم اللعب بالكلمات والمتناقضات اللفظية، وركوب الغموض واللامعنى للاختفاء وراء العجز عن التفكير في تشكيلات الواقع الذي يحيونه واختراع صورة أصيلة من تلك التشكيلات .
إلى متى يظل الشاعر العربي تائهاً عن واقعه، عن تشكيل الصورة من أشياء حياته اليومية، ومن ملايين الأشكال والألوان التي تعبر أمام عينيه، وتزدحم في ذهنه؟ كيف يمد الصلة بينه وبين الواقع ومن ثم بينه وبين المتلقي باعتبار أن تجربة الواقع تجربة مشتركة بين الاثنين وصورها قادرة على حمل المعنى بينهما؟ وهل العجز هو في خيال الشاعر أم في مخزونه اللغوي الذي قد لا يجد فيه المفردة المناسبة؟
رغم كل التنظيرات حول الشعر ورغم كل التيارات التي تصطرع فيه، لا يمكنه أن يعيش في منأى عن حياة كاتبه، ولا يمكنه أن يكون عظيما ما لم يستطع شعرنة ذلك الواقع .
dah_tah@yahoo.fr

اللجظة الكاشفة في "الجلسة السرية"


أفق
رؤى سردية
آخر تحديث:الأحد ,15/05/2011
محمد ولد محمد سالم
تعطي قصة “الجلسة السرية” لماجدة عبدالله الهاشمي دلالة قوية على فاعلية القص عندما ينجح صاحبه في إمساكه من اللحظة المناسبة، اللحظة التي تتكشف فيها تباعاً العناصر الدرامية في الحدث، وترتسم التداعيات النفسية الناتجة عن الصراع بين تلك العناصر الدرامية، وهي ما تسمى لدى النقاد اللحظة الكاشفة، وهي في قصة ماجدة عبدالله تلك “الجلسة السرية” اليومية التي تجلسها البطلة وحدها منزوية عن جميع من حولها لتنسكب معها ذاكرتها في تدفق يستعيد دائماً التفاصيل الدقيقة لتلك “الحادثة” التي كانت حاسمة في حياتها .
من خلال الإمساك بتلك “الجلسة” تقيم الكاتبة تقابلاً بين عناصر لحظتين زمنيتين، لحظة حاضرة هي الجلسة، ولحظة ماضية هي الحادثة، فتفلح الكاتبة في استخراج أبعاد التجربة النفسية للبطلة بالتواشج مع استذكار مجريات ما حدث في ذلك اليوم البعيد، وتبدو المشاهد القديمة وكأنها حدثت الآن بهذه الذاكرة التي لا تنسى أدق التفاصيل والأحاسيس . تعود البطلة إلى لحظات انتظارها في المدرسة لأخيها الذي تأخر عن موعد مجيئه ليصحبها إلى البيت، فتضطر إلى قطع الطريق وحدها في سكون الظهيرة، وما صاحب دربها إلى البيت من شكوك وتوترات وظهور ذلك الفتى القوي يسير بسيارته خلفها ودعوته لها إلى الركوب، ثم نزوله إليها بعد أن ترك زميله يراقب الطريق، وهروبها منه في تلك الأزقة الضيقة بين الحيطان العالية التي صدّت صوتها دون أن يسمعه أحد، ثم ذلك الموقف الحاسم حين أمسك بها وأراد أن يعتدي عليها، وتلك القوة التي اندفعت في جسمها لتتلقّف حجراً حاداً وتضربه به عدة مرات على وجهه فيخر صريعاً، لتواصل طريقها إلى أهلها من دون أن يعرف أحد أن لها علاقة بموت ذلك الشاب .
تشكل قصة “الجلسة السرية” رؤية جديدة لطبيعة وقدرة الفتاة العربية تغاير تماماً تلك الرؤية التي ترسمها لها القصص بكونها “ضحية ضعيفة” لا تملك أية شجاعة على الدفاع، فهنا ترسم ماجدة عبدالله صورة فتاة امتلكت القوة والشجاعة في اللحظة المناسبة للدفاع عن شرفها ونجحت، وهو ما يعطي أملاً لكل فتاة ويعيد إليها الثقة في قدراتها الذاتية . ومع أن القارئ قد لا يتفق مع الكاتبة حين جعلت تلك الذكرى تسيطر بشكل دائم على حياة البطلة وتدمرها لشعورها بالذنب - كان يمكن ألا تشعر بالذنب لأنها دافعت عن نفسها - إلا أن ذلك لا يقلل من الرؤية الكلية وصحة وواقعية الصورة التي رسمتها للفتاة .
لقد ملكت ماجدة الهاشمي رؤية كلية نابعة من إيمانها ببنات جنسها، وأحاطت بكل جوانب اللحظة النفسية والحدثية، وحتى الإطار الزماني والمكاني كان لعبا لديها دوراً قوياً في توتير الحدث وتعميقه، ما جعل اللغة تنسكب حارة رقراقة ترصد كل عقد اللحظة وتوتراتها، ويدل كل ذلك على أن العامل الحاسم في العمل السردي هو امتلاك الكاتب رؤية متكاملة واضحة ومعبرة بصدق عن حقيقة التجربة الإنسانية، فمع تلك الرؤية تتداعى كل عناصر الفن الأخرى لرسم القصة رسماً بديعاً.
dah_tah@yahoo.fr


الذائقة العربية والإيجاز


أفق
الذائقة العربية والإيجاز
آخر تحديث:الأربعاء ,25/05/2011
محمد ولد محمد سالم
في حديث للكاتب فرحان بلبل عن تجربته في الكتابة للمسرح على هامش “ملتقى الشارقة لكتّاب المسرح” الذي نظمته دائرة الثقافة والإعلام الأسبوع الماضي، شدد بلبل على ضرورة أن يراعي الكاتب المسرحي الذائقة الجمالية العربية سواء في ما ينشئه من مسرحيات أو ما يعده عن مسرحيات عالمية، وذكر أن من أخص خصائص الذائقة العربية الميل إلى “الإيجاز” يستوي في ذلك الخطاب الفصيح والعامي، على عكس ما هو شائع من أن العرب أهل ثرثرة ومطولات خطابية .
هذا الرأي وإن كان يخالف ما هو شائع في كثير من الأوساط الثقافية والسياسية العربية اليوم إلا أنه لا يختلف عليه اثنان من علماء البلاغة العربية ودارسيها وكتاب العربية الكبار قديماً وحديثاً، وقد شاع قولهم “البلاغة الإيجاز”، وعرّفوا الإيجاز بأنه علم كثير في قول يسير، وكان أبو هلال العسكري يقول إن “الإيجاز هو قصور البلاغة على الحقيقة، وما تجاوز مقدار الحاجة فهو فضل (أي زيادة)” .
يمتلئ التراث البلاغي العربي في كل عصوره المختلفة بتعاريف من هذا القبيل وتفصيل كثير لأنواع الإيجاز وطرائقه، وبأمثلة رائعة في استخدام القليل من الكلام للدلالة على الكثير من المعاني، ويتساءل المرء من أين جاء اتهام العرب بأنهم أمة الخطب الجُوف؟ وأنهم لا ينتجون غير الثرثرة والكلام؟
لو فحصنا التاريخ الثقافي العربي الحديث لوجدنا أن هذه الوصمة لم تظهر إلا في منتصف القرن العشرين، وبالتحديد بعد النكسة، وظهور ما عرف ثقافياً بالخطاب الذي انكفأ على ذات الأمة يهجوها، ويقرعها في كل شيء، كأنه انتقام غاضب أو تفريج عن كرب الهزيمة التي كسرت الأحلام ووأدت التوق إلى النهوض والانتصار على العدو، وصاحب الأفق النفسي ذلك بتجذر أنظمة استبدادية في كثير من الأقطار العربية، اتخذت من الخطب الطوال والوعود الجُوف وسيلة لتخدير الجماهير، وصوتاً عالياً كرست له كل وسائل إعلامها وترسانات دعايتها ليطغى على كل خطاب مخالف، فتشبعت آذان الشعب بتلك المنسوجات الكلامية الفارغة المملة وسئمها حتى الغثيان، وكنتيجة لذلك ارتبطت الخطب واللغة المنمقة والكلام المزين في أذهان الناس بهذا الكذب السياسي، وانسحب في مخيلتهم على الأدب والخطاب الثقافي برمته، وزاد عليه انخراط طائفة من المثقفين والأدباء في لعبة غش الجماهير والكذب عليها .
نستطيع القول مطمئنين إن الذائقة العربية على مر الزمن والأدب العربي في تاريخه كله برئ من تهمة الثرثرة والخطاب الأجوف براءة الذئب من دم يوسف، وأنه مال دائماً إلى الاختصار والإشارة والتلميح والالتقاطة السريعة، وأن نشأة هذه التهمة لا يعدو كونه ملابسة سياسية تاريخية، نطمع أن تزول بزوال أسبابها، وربما يكون في التغيرات الجارية في بعض أقطار الوطن العربي ما يبشر بظهور خطاب صادق، يقصد ما يقوله لفظا ودلالة، ولا يكذب على جمهوره، ما يمهّد لتصالح الجمهور مع الرسالة الموجهة إليه وثقته بها، ويرفع الالتباس عن نوعية الخطاب العربي الثقافي والأدبي .
dah_tah@yahoo.fr

الأديب وأصالة اللغة


أفق
الأديب وأصالة اللغة
آخر تحديث:الاثنين ,30/05/2011
ما يميز الأديب عن جميع أنواع الكتّاب الآخرين هو امتلاك ناصية اللغة مفردة وجملة وأسلوباً، وحذق الأساليب المختلفة لصياغة المعنى، ومعرفة المفردة على أصالتها، فالكلمة تتطور عبر تاريخها إلى معان كثيرة واصطلاحات متعددة، وتنزاح في الاستعمالات اليومية إلى استخدامات جديدة قد تخفي المعنى الأصلي .
وكلما أدرك الأديب المعنى الأصلي والتصاريف الفرعية للكلمة أو العبارة، أصبحت اللغة طوع قلمه يؤلفها كيف يشاء وينفض عنها شوائب الأيام وغبار الاستخدام اليومي، فيستلها كما تستل الشعرة من العجينة نقية صافية، يقرأها القارئ فيحس فيها بروح جديدة وهواء مختلف كأنما هي وليدة توها، فهي قريبة بعيدة، قريبة لأنها المفردة نفسها لم تتغير، وهي بعيدة لأنها رجعت إلى معناها الأصلي .
ذلك المعنى الذي لم يكن غائباً لكنّ غيمة كانت تحجبه، فاحتاج إلى يد مرهفة تزيح تلك الغيمة فتبدو اللؤلؤة ناصعة، ذلك هو السر في أن من يطالع اليوم كتاباً مثل “العقد الفريد لأحمد بن عبد ربه” سيجد عذوبة وتدفقاً في أسلوبه، وسيجد أيضاً جاذبية جميلة لمواصلة القراءة بشغف، على شاكلة هذا السرد الجميل في حكاية تميم بن جميل الذي “كان تغلّب على شاطئ الفرات، ثم غُلب، وأوفى به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة، فلما مثل بين يديه، دعا بالنطع والسيف، فأحضرا، فجعل تميم ينظر إليهما ولا يقول شيئاً، وجعل المعتصم يصعد النظر فيه ويصوبه، وكان جسيماً وسيماً، ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره” .
هكذا كتب جل الشعراء والأدباء الموهوبين في التاريخ، فكانوا حرّاس اللغة والأمناء على أصالتها، وكانوا أيضاً الصاغة الذين يجلون خبث المعدن النفيس فيعيدونه لمّاعاً، ويعد طه حسين من أحسن من يمثل هذا الاتجاه بتلك اللغة النقية الأصيلة التي يكتب بها، كما نصادفها في كتابات نجيب محفوظ أياً كانت مستوياتها حتى في السرد العادي الذي لا يكون عادة مظنة تلك اللغة لاختلاطه بتفاصيل الواقع والاستخدام اليومي، يقول في بداية رواية (قصر الشوق) “وقفت تترقب قيامه لتساعده على نزع ثيابه، وهي تنظر إليه باهتمام مشوب بقلق، وتود لو تؤاتيها شجاعتها فتسأله أن يعفي نفسه من الدأب على السهر الذي لم تعد تنهض به صحته، بالاستخفاف المعهود قديماً، ولكنها لم تدر كيف تفصح عن أفكارها الأسيفة ( . . .) هناك بدا جسمه كالعهد به طولاً وعرضاً وامتلاء لولا شعيرات اغتصبها الزمن من فوديه”، كم من الكلمات والعبارات في هذا النص سنجدها مستخدمة بدقة وأصالة، لتؤدي المعنى من غير تكلف ولا زيادة .
ويعد الشعراء أكثر الأدباء حذقاً بتلك اللغة وأجنحهم إليها لأن اشتغالهم على الكلمة والإحساس بفاعليتها وقوتها المطلقة المتحررة من عوالق الزمن الصدئة، فيحيلونها دوماً ناصعة جميلة، ويضمنون لها بذلك الخلود، وأن تبقى المعدن الذي لا ينضب لإمكانات استعمالية جديدة مع حفاظه على خامته।

الرابط: