بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 14 يوليو 2013

لا شيء خارج النسق

أفق
لا شيء خارج النسق آخر تحديث:الجمعة ,14/06/2013
محمد ولد محمد سالم
يتمرد كثير من الكتّاب الجدد على مبدأ التصنيف الأدبي الذي يؤطر نصوصهم في جنس معين، ويفضلون أن يكتبوا نصاً مفتوحاً، يأخذ من الرواية والقصة والشعر والمسرحية والخاطرة والرسالة، ويسرح كيف يشاء بحرية لا تحدها قواعد الجنس الأدبي، ولا فرضيات النقاد، معتبرين أن تلك الحرية تتيح لهم التعبير عن ذواتهم بصدق وإبداء آرائهم دون إكراهات من تقنيات أدبية، خصوصاً أن المهم عند أغلبهم هو أن يعبر عن نفسه، وأن يكتب لذاته قبل أن يكتب للقارئ، رغم أنه ينشر ويوزع ما يكتبه، ويطلب من القراء رأيهم فيه .

هذا التمرد مطلوب بالنسبة للأديب، لأن الإبداع هو في حقيقته تمرد، وإعادة بناء، لكن متى يأتي التمرد؟ . . إنه لا يأتي إلا بعد خبرة ودربة دقيقة على النسق السابق، ومعرفة بتقنياته تجعل الكاتب قادراً على النفاذ من تلك التقنيات إلى أفق جديد، يعيد به صياغة النسق لصناعة إبداعه وخصوصيته، فتطوير أي جنس أدبي لا يمكن أن يحدث إلا من داخل هذا الجنس، وبعد امتلاك ناصيته وهضم آليات اشتغاله، لأن فعل التطوير هو فعل ثوري ينبع من الداخل ويصعد إلى السطح في حركة تعيد ترتيب العناصر، وصياغة النسق بشكل مغاير لما كان عليه، أما الذي يقف خارج النسق، فلن يستطيع أن يغيّره، قد يتمكن من أن يهدمه ويقضي عليه، لكنه لن يستطيع إعادة بنائه، وهنا يفقد البوصلة والأصالة ويصبح تماماً كالغازي الذي يحارب مدينة ويقضي على جيشها وسلطتها، وإذا استطاع أن يشوه هويتها ويطمسها فعل ذلك، وإلا فلا بد أن تلفظه المدينة بعيداً عنها ولو بعد حين، هذا تماماً ما يحدث في الأدب، بل وفي كل الأنساق الفنية والمعرفية، لقد استخدم “ماركس” الديالكتيك الهيجلي ليعيد بناءه بما يقوض فلسفة هيغل، وكان أبو تمام أعلم أهل زمانه بشعر الجاهلية، ومع ذلك قاد ثورة شعرية عظيمة، وكان “جيمس جويس” أعلم أهل زمانه بالرواية وأكثرهم التزاماً بها، لكنه كتب رواية عظيمة عدت ثورة في الرواية، ولم تصل أم كلثوم إلى ما وصلت إليه من فرادة في فن الطرب العربي إلا بعد عشرات السنين من ممارسة كل أشكال الغناء التقليدية والتمرس بها، ولم يكن الشيخ عبدالباسط عبد الصمد مبدعاً في فن القراءات إلا لأنه أتقنها جميعاً . واستطاع أن يضيف إليها، ولم يبدع “بريس لي” فن القتال الحر الذي غير طريقة التعامل مع الجسد في كل فنون الأداء، إلا بعدما تعلم كل فنون القتال الصينية التقليدية، وبعد سنوات من التدرب المضني .

لا شيء يحدث خارج النسق، ولا تصنع الفوضى والتلقائية أدباً عظيماً، ولا فناً راسخاً، لكن إدمان النسق والتدرب عليه والخبرة به تفتح الباب للمنفذ الذي يأتي منه التغيير ويتهيأ الإبداع، ولا يمكن للشاعر أن يبدع في الشعر، ويتجاوز لحظته الحاضرة إلا من خلال الشعر، ولا يمكن للروائي أن يبدع رواية عظيمة، إلا من خلال فن الرواية .

رواية اللحظة الخاطفة

أفق
رواية اللحظة الفارقة آخر تحديث:الخميس ,27/06/2013
محمد ولد محمد سالم
الإمساك باللحظة الفارقة في حياة المجتمع، حين يقف على مفترق طرق بين الماضي والحاضر هو موضوع روائي أصيل، في تلك اللحظة يتداعى الماضي في شكل ذكريات تحنّ إليها الشخصيات، ويتكشف المستقبل في شكل رؤى غائمة ومحيرة، وتبدو اللحظة الحاضرة مضطربة قلقة، هكذا أمسك سرفانتس في مطلع تاريخ الرواية بحياة مجتمع على مفترق طرق تتداعى قيمه القديمة تاركة المجال لقيم جديدة، حيث صوّر في روايته “دون كيشوت” بسخرية جميلة حياة بطله “دون كيشوت” الواهم والحالم بالفروسية، وبإنجازات عظيمة في زمن تلاشت فيه الفروسية، وذهبت قيمها إلى الأبد، يتخذ ذلك الرجل المغفل هيئة الفارس الشجاع، ويذهب لقتال طواحين الهواء (رمز العالم الجديد الذي بدأ يتشكّل) متوهماً أنها كائنات شريرة تغزو الأرض وتريد القضاء على البشر، وهكذا فعل باحتراف نجيب محفوظ في ثلاثيه الرائعة التي صوّر فيها حياة المجتمع المصري في بداية القرن العشرين، حين كان على مفترق طرق بين حياة تقليدية وحياة حديثة، وشكّل الاختلاف في التصرفات والأفكار والرؤى بين الأب أحمد عبد الجواد وأبنائه، خاصة كمال أحد أوجه ذلك الاختلاف بين الحياتين، حتى التناقض في شخصية الأب بين حياة ظاهرة تنسجم مع متطلبات حياة “السيد” في البيت التقليدي، وبين حياة سرية تقبل على ما توفره الحياة الجديدة من غوايات، هو أحد أوجه ذلك المفترق الذي وضع محفوظ أقدام شخصياته عليه، والأمثلة في هذا الباب كثيرة شرقاً وغرباً .

هذا المفترق عرفته المجتمعات الخليجية، وبالأخص المجتمع الإماراتي، وشهد ذروته في فترة الثمانينات عندما بدأ التوسع الاقتصادي ودخل المجتمع دفعة واحدة إلى أساليب الحياة الحديثة بفضل الوفرة المادية، ولاشك أن ذلك كله كانت له تداعيات على الأفراد بين من لم يعرف سوى تلك الحياة، فوقف متحسراً حزيناً وهو يراها تتداعى، وبين من لم يعرف سوى الحياة الجديدة، فيتعجب كيف كان أسلافه يحيون تلك الحياة المجهدة، وبين من عايش الاثنتين وأدرك الجيلين، فأصبح قلقاً لا يدري على أي جنب يستقر، وكان حرياً بهذا التحول أن يكتب عنه، وأن يجد الكاتب الذي يضع يده على اللحظة الفارقة، ويكثفها ويرسم تداعياتها على الإنسان .

لقد عالجت القصة القصيرة الإماراتية هذه اللحظة بعمق وبما يسمح به نفسها القصير، لكنّ الرواية، وهذا ميدانها الأصيل، حامت حول لحظة المفارقة، فعالجتها في اتجاهين، إما بتصوير المجتمع التقليدي وحياته “طروس إلى مولاي السلطان” لسارة الجروان، أو تصوير تداعيات الحياة الحديثة على الإنسان “مزون” لمحمد عبيد غباش و”رائحة الزنجيبل” لصالحة غابش، ولم تجعل من اللحظة الحرجة، لحظة التحول موضوعها الأساسي، أو أنها حاولت أن تجعلها، لكن الأداة الفنية أعوزت كاتبها، فلم يوفق في تقديم رواية بالمستوى الإبداعي القادر على تصوير الأشياء بعمق، والنتيجة أنه ما زالت هناك حاجة لكتابة تستجلي بعمق ما حدث من تغيير .

"المعطف" ونموذج الإنسان

أفق
"المعطف" ونموذج الإنسان آخر تحديث:السبت ,06/07/2013
محمد ولد محمد سالم
كانت روايتا الأسطورة والفروسية تقدمان البطولة كنموذج مكتمل للخير أو الشر، لا تتغير معه طوابع الشخصية النفسية والفكرية والاجتماعية، بمعنى أن الواقع لا يؤثر في شخصية البطل، فقد تستمر الرواية على مئات السنين، ويدخل الأبطال عوالم كثيرة، ويخرجون من صراع إلى آخر دون أن يطرأ أي تغير على عواطفهم وأفكارهم، ولم يكن كتّاب هذه الروايات يلتفتون إلى المعنى العميق للإنسان القائم على صراع المتناقضات، والتجاذب بين القوة والضعف، والخير والشر، الذي تعتريه كل الاحتمالات ويطوره الواقع، وتعلمه التجارب، لكنّ قصة “المعطف” للكاتب الروسي نيكولاي غوغول في بداية القرن التاسع عشر وضعت أسس الكتابة الروائية الحديثة .

نموذج “أكاكي أكاكيفيتش” الموظف البسيط المسحوق بالروتين الكئيب، والبيروقراطية القاتلة والراتب الذي لا يغني من جوع، ورغم ذلك يعمل بصمت وإخلاص، ويجد المتعة في إتقان عمله، ويحلم بأن يكون له معطف جديد جميل، ويضع كل جهده في تحقيق حلمه، ويضاعف جهده ويحرم نفسه من المتع الصغيرة للوصول إلى المتعة الكبرى، ويشتري المعطف، فيفرح به ويزهو، لكنّ الفرحة لا تكتمل لأن اللصوص سوف يسلبون منه معطفه، فيعود إلى بيته كسيراً، هذا النموذج هو الإنسان باستسلامه وخضوعه، بأحلامه وإرادته، بتهوره وتعقله، بظروف حياته التي تناقض إرادته وتحول دون تحقيقه لمبتغاه، وهذه الطريقة في التناول هي سر نجاح هذه القصة الباهرة، الذي جعل أحد أقطاب الأدب الروسي الذين جاؤوا بعد نيكولاي غوغول “وهو ديستويفسكي” يقول: “لقد خرجنا جميعاً من معطف غوغول” .

أطلقت قصة “المعطف” أدب الواقعية الروسي من عقاله ليقدم النماذج العظيمة في تاريخ الرواية المعاصرة، لكنّ قيمة هذه القصة لا تقتصر على كونها فاتحة للأدب الواقعي، بل في كونها وضعت أدب القص عامة على طريقه الصحيح، طريق الإنسان على حقيقته، فسواء كتبنا اليوم رواية أسطورية، أو رواية فروسية، أو رواية حيوانات، فإن التجربة الإنسانية هي المثال الذي يقيس عليه الكتّاب، وينطلقون منه في تصورهم لتلك القصص، وروايتهم لها، نموذج “الإنسان” المتأثر بمؤثرات الحياة، الذي يعيش التناقض والصراع، هو الذي يسود تلك القصص، سواء كانت شخصياتها بشرية أو غير بشرية .

الأساس الآخر الذي تقدمه قصة “غوغول” تلك، هو الانطلاق من “الحكاية” عند كتابة القصة أو الرواية، فالحكاية المكتملة العناصر التي تحمل بُعدَ إدهاش هي حجر الزاوية في الكتابة السردية، وما لم تكن اللبنةَ الأولى التي ينطلق منها الكاتب، فإن ما سيكتبه سيبقى محفوفاً بخطر التشتت، وغياب الرؤية الكلية، أو وجهة النظر التي تسمح للقارئ بالتأويل والوصول إلى شيء، وسيكون أيضاً محفوفاً بخطر الإملال، وغياب التشويق الذي هو أحد عناصر الجذب المهمة في كل عمل قصصي .

تغير الأجناس الأدبية

أفق
تغيّر الأجناس الأدبية آخر تحديث:الجمعة ,12/07/2013
محمد ولد محمد سالم
هل يمكن القول: إن الذوق الأدبي العربي تغيّر بعد ظهور الإنترنت وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي؟

وهل يمكن الحديث عن أجناس أدبية جديدة؟، أو أن ما يحدث وسيحدث في المستقبل ليس سوى تغير في وعاء الرسالة، وليس الرسالة نفسها، بمعنى أننا إذا كنا قديماً نقرأ في الورقة، فإننا في الحاضر نقرأ على الشاشة، وكل منهما صفحة، أي وعاء للعمل الأدبي الذي يمتلك بالضرورة استقلاليته عن الصفحة التي يكتب فيها، ولا يتأثر بطبيعتها، لكن إطلالة على ماضي الأجناس الأدبية عند العرب قد تقول غير ذلك، فهي تفيدنا أن الجنس الأدبي ارتبط فنيّاً ومصيرياً بطبيعة الوعاء الذي يقدم فيه .

الجنس الأول الذي عرفه العرب كان الشعر، وكان في بدايته بيتاً وبيتين وثلاثة أبيات ومقطوعة قليلة، في عصر لم تكن فيه الكتابة، ففصّل الشعراء النص على هذا المقاس لكي يستطيع المتلقي حفظه ونقله، ولما بدأت الكتابة تنتشر أصبح الشعر “قصيداً” طويلاً تكلفت الرِّقاق نقله وحفظه . ثم مع ظهور الدولة الإسلامية ونشأة الدواوين واتساع مجال الكتابة ظهر فن الرسائل، ثم أدب الرحلات وفن المقامة، وغير ذلك كثير، وتطور الشعر، حتى وصلنا إلى عصر النهضة، وما جاء به من أجناس جديدة نتيجة اللقاء الحضاري بين العرب والغرب، ونتيجة تغير الذوق وظهور المطابع والجرائد والكتب التي هي أوعية فتحت الباب لأجناس جديدة كالخاطرة والقصة القصيرة والرواية، والشعر الحديث، وما صاحبه من تغيرات في تقنيات الشعر، وكيفيات التعبير عن التجربة الشعرية، حيث تأثر الشعراء بالتشكيل ومزج الألوان وبالصورة التلفزيونية وبالمونتاج السينمائي، كل ذلك مجاراة لذوق المتلقي .

مع الشاشة وطغيان الصورة أصبح القارئ أقل استعداداً لبذل الجهد في متابعة نص طويل، واحتالت الصحف عليه بإضافة الصورة الكبيرة مع النص القصير نسبياً لكي تجذب انتباهه، وكانت القصة القصيرة هي أول الأجناس الأدبية تأثراً بذلك، حيث اختفى من الصفحات الثقافية ذلك النص الطويل الذي يحتل نصف الصفحة الأسفل، ووصلنا الآن إلى مرحلة نتحدث فيها عن موت القصة القصيرة .

مع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وطبيعة النص الذي يكتب فيها، سواء من ناحية شكل هذا النص، أو من ناحية متطلبات ذوق متلقيه، هل يمكن القول إن الشعر والرواية سيختفيان ليتركا المجال لنص أدبي جديد يتبلور الآن شكله في “التويتر” و”الفيس بوك” وأشباههما؟

قد يحتج البعض بأن هذا العصر هو عصر الرواية ولا يمكن أن تختفي؟ لكن هل القارئ مستعد لقراءة مئات الصفحات بعد اليوم؟ وهل فعلاً في وقتنا الحاضر مازال هناك من يقرأ الرواية لذاتها بعيداً من الدعاية الإعلامية المرتبطة بالجوائز الأدبية، أو المرتبطة بروايات الإثارة؟