حان وقت التخلص من الأوهام
في ظرف تتصاعد فيه الدعوات لمظاهرات شبابية في موريتانيا على غرار ما جرى ويجري في عدد من الدول العربية، وبعد أن شهدت الجمعة الماضية أول تجسيد فعلي لتلك الدعوات، ومع توقع أن تتبعها جمعات أخرى، لا يبدو الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز مستعدا للتجاوب الدعوات الكثيرة التي تطالبه بالحوار مع القوى السياسية في البلد من أجل الوصول إلى تصور مشترك للخروج من أزمة هذا الوطن المستعصية على مدى ما يزيد على ثلاثين سنة من حكم العسكر سئم فيها الشعب من الوعود الجوفاء بتنمية وطنية قادرة على توفير مستوى من العيش الكريم للمواطن، وتضاعفت فيها أزماته وتراكم بعضها فوق بعض حتى باتت تنذر بانفراط عقد الدولة على ضعف السلك الناظم لها أصلا.
ويعتمد ولد عبد العزيز في رفضه للحوار على مقولة أنه منتخب من الشعب ومفوض منه لتنفيذ برنامجه السياسي الذي طرحه في حملته الانتخابية، وأنه لا يمكنه أن يحيد عن ذلك البرنامج لأنه هو الذي سيسأله عنه من انتخبوه، لكن وبعد قرابة سنتين من الحكم لا يبدو أن هذا البرنامج الباهت أصلا والذي لم يعرف منه المواطنون الأميون في أغلبهم سوى شعارات انتخابية، لم يستطع بعد انتخابه أن يحولها إلى عمل على الأرض أو على الأقل يقدمها في شكل خطة مدروسة ذات مفاصل محددة زمنيا بمدد عاجلة ومتوسطة وطويلة، ويعهد إلى حكومته بتنفيذها وإلى الإعلام بشرحها وتفصيلها ومناقشتها حتى يفهمها الشعب ويتجاوب معها، ويكون مستعدا لإعطاء الفرصة لتحقيقها، وهو ما يعني ضبابية الرؤية لدى الرئيس وحاشيته وعدم امتلاكهم لبرنامج واضح، ويمكن لأي مراقب للشأن الموريتاني وحتى أي مواطن عاد بحسه البسيط أن يستدل على تلك الضبابية من غير ما عناء ومن خلال مجريات الأحداث اليومية، وربما أبانت عنها بشكل واضح الإقالات التي أجراها الرئيس لبعض الوزراء الذين كانوا يمسكون بملفات أساسية في البلاد، كالصحة، والصناعة والمعادن، والطاقة والنفط، وكذلك إقالة ثلاثة أمناء عامين دفعة واحدة من وزارات الشؤون الإسلامية، والتعليم العالي، والصيد، وكل ذلك بسبب ما تردد من استشراء الفساد في دوائر الدولة، وقبل ذلك كان أحد الناشطين السياسيين في الحزب الحاكم قد عين مفتشا عاما للدولة بعد أن أقيل سلفه بسبب شكوى من متنفذين في الدولة خافوا من نشاط المفتشية وأرادوا أن يضمنوا ولاءها وصمتها على جرائمهم، ورغم أن هذا الأخير أقيل بسبب الحملة التي قامت ضد تعيينه، إلا أن رمزية الخطوة كانت دالة لأن دور هذا المنصب خطير في تسيير شؤون المال في الدولة، يضاهي منصب رئيس المحكمة العليا في القضاء، ويفترض في صاحبه أن يكون خبيرا ماليا صرفا، بعيدا عن الولاءات السياسية، وكان عفو عيد المولد النبوي الشريف عن محكوم عليهم في قضايا المخدرات أحد تلك المظاهر الدالة على ما اتجهت إليه حكومة من تَسمى ب"رئيس الفقراء"، وكل تلك المعطيات البسيطة تضرب في الصميم الشعار الأكبر لحملة ولد عبد العزيز الانتخابية وهو "مكافحة الفساد"، وقد تردد أخيرا أن الرئيس مستاء من الدرجة التي وصل إليها الفساد في أجهزة الدولة، وهو شيء غريب أن يجد رئيس نفسه وحكومته يعملان بعد ما يقارب سنتين من الحكم ضد شعار رفعه كمبدأ يسعى لتحقيقه، وتكون الحصيلة هي زيادة فساد قد فاضت أنهاره منذ زمن بعيد حتى وصل ماءه الأعناق، ويوشك أن يغرق الوطن نهائيا. قد يكون ولد عبد العزيز في رفضه المستمر للحوار يستند إلى تصورات هي أقرب إلى الأوهام منها إلى واقع الحال، وأحد تلك الأوهام أنه في سعيه للتمسك بالسلطة ظن أنه قادر على تنفيذ الإصلاح الذي يريده أيا كانت طبيعة الأشخاص المحيطين به، وقد أسقطه هذا الوهم في شرك المفسدين منذ أول يوم دخل فيه معترك السياسة ببدلته العسكرية ونجومها المذهبة التي فقد المجتمع غواية السقوط في حبها، فكان لا بد له في المرتين التين اختطف فيهما السلطة من أن يجد من هو مستعد لتمثيل دور العاشق لتلك البدلة، وبحكم أن المجتمع كان يومها معبئا بين قوى المعارضة وزمرة الفساد في حزب الرئيس الغابر معاوية ولد الطايع، لم يكن ولد عبد العزيز ليجد ليجد هذا الاستعداد إلا في فلول أولئك حزب ولد الطايع الذين جبلت نفوسهم على التلون وتغيير المواقف كلما كان ذلك يحقق مصالحهم الشخصية، فكانوا هم الركيزة الأساسية لحملته الأولى ورأس الحربة في عملية الاختطاف الأولى التي جاءت بسيد محمد ولد الشيخ عبد الله إلى الرئاسة، ثم كانوا جاهزين أيضا للدفاع عنه عندما أزاح ولد الشيخ عبد الله في عملية الاختطاف الثانية، ليتوجوه رئيسا بعد انتخابات معجلة استطاعوا يحصدوها بسبب تجربتهم الطويلة في نظام حكم ولد الطايع وما خلقوه خلالها من شبكات وتحالفات للسيطرة الاجتماعية والاقتصادية التين هما المفتاح للسيطرة السياسية، وبشعارات براقة انطلت حيلتها على فئات من هذا الشعب الذي تبلغ فيه نسبة الأمية والجهل والفقر درجات مخيفة، تجعله مستعدا لتصديق تلك الأكاذيب والتشبث بأي حبل أمل يلقى إليه خصوصا إذا كان من سلطة مسيطرة هي الوحيدة التي تمتلك أجهزة الإعلام وتصرفها تجميع الرأي حولها.كيف لولد عبد العزيز إذن أن يتخلص من الفساد وهو قد جمع حوله رموزه المعروفة، وازدانت حملاته الانتخابية بسياراتهم الفارهة ودراريعهم المزركشة الأنيقة، كما تجمل بهم برلمانه وحكومته، ولكي لا يضيع الأمر من بين أيديهم، وليجمعوا شملهم الذي تشتت منذ رحيل رئيسهم ولد الطايع، كان عليهم أن يبادروا بتأسيس حزب جديد يتبرأون به ظاهريا من الحزب البالي "الحزب الجمهوري"، ويحكمون به الطوق حول الرئيس الجديد ويعيدون فيه ترتيب أوراقهم لكي لا يشذ عن سيطرتهم شي من زمام الأمور، فكان "حزب الاتحاد من الجمهورية" هو الدثار الجديد الذي يخفي ندوب الماضي السوداء على أكتافهم، ورأينا كيف تداعوا إليه سراعا من أحزاب سياسية كانوا تفرقوا فيها بعد الهزة الكبرى سنة 2005، وهكذا وجد ولد عبد العزيز نفسه عن قصد أو بغير قصد رهينة لأولئك القوم.لم يلبث هذا "الاتحاد" أن سيطر على جميع مناحي الحكم، ورجع إلى أساليب الحزب الجمهوري في ممارسته الإرهاب السياسي ضد كل مخالفيه، وحتى ضد منتسبيه الذين طالبوا بإعادة النظر في طرق انتخابه ووسائل اتخاذ القرار فيه، كما عكسه البيان الذي أصدرته منذ أيام مجموعة أطره والذي حمل تنديدا " بما تشهده ساحته من انقلاب فاضح ومكشوف على كل القيم والمبادئ ضاربا عرض الحائط بجملة الوعود التي أطلقها صاحب المشروع (رئيس الجمهورية) علنا بأن التغيير القادم سيؤسس على قاعدة صلبة قوامها الكفاءة والنزاهة والإخلاص"، وقد رد الحزب بعنف على ذلك البيان واعتبر أصحابه يخدمون أجندات تخريبية، لكنه من حيث لا يدري دلل على ذلك "الانقلاب المكشوف والفاضح" الذي تحدث عنه بيان المجموعة حين أراد أن يعين لجنة شبابية تابعة له سعيا منه إلى مواجهة ما سمي بحركة الشباب الموريتاني تطالب بالإصلاح والتي أخذت في تنظيم سلسلة من المظاهرات، ولتكون تلك اللجنة عاملا لجذب الشباب إلى الحزب، فكان أن جعل صهر رئيس الجمهورية رئيسا لها، قبل أن يفطن الرئيس أو مستشاروه إلى مزالق تلك الخطوة التي تذكر بنفوذ عائلات رؤساء الجمهورية وشؤمه على الشعوب العربية في وقت لم يكن فيه ولد عبد العزيز بحاجة لمثل هذا التذكر، فأمر على الفور بإقالة ذلك الشاب، وهو ما تم بعد ساعات قليلة من تعيينه.الوهم الثاني الذي قد يكون رئيس الجمهورية يتوهمه هو أن الإصلاح المرجو يتمثل في مد بعض الشوارع الإسفلتية في نواكشوط وبين بعض المدن داخل البلاد، وفتح دكاكين لبيع بعض المواد الغذائية بسعر مخفض، وتحويل بعض الأحياء العشوائية في نواكشوط إلى مناطق ترحيل توزع عليهم فيها قطع أرضية في مناطق نائية من مركز المدينة تضاعف عليهم نفقات المواصلات ولا يجدون فيها أبسط مقومات الخدمات المدنية، وغير ذلك من المبادرات الآنية التي يقوم بها من حين لآخر هنا وهناك، فهذا وهم كبير وفهم خاطئ للأمور، فإن الإصلاح المطلوب كان يقتضي أولا تطهير إدارة الدولة من الفساد، وهذه الخطوة كان يمكن تستغرق أشهرا قليلة من حكم ولد عبد العزيز وتعطي ثقة في ما يسعى إليه، لأنها بمثابة ما يسميه المتصوفة التخلية التي تطهر قلب السالك وجوارحه من مآرب النفس الدنوية، فيطهر الإدارة من المفسدين حتى يتسنى له أن يتحرك إلى الأمام في اتجاه تنمية حقيقية دائمة تعود على المواطن بعيش كريم، وتلك الخطوة لم تحدث، وبدلا منها أغرق الرئيس نفسه في تلك القضايا الجانبية التي أرهقته وبددت وقته فيما كان يمكن أن يعهد به إلى أصغر الخبراء النزهاء في وزارة الإسكان و النقل و التجارة وغيرها، وفي إحدى اللحظات الكاشفة التي اتسع فيها الخرق على الرئيس ولم يعد يعرف كيف يعالج الأمر بسبب تضاعف مشكلة الأحياء العشوائية التي أراد حلها بسرعة خاطب السكان قائلا: "ساعدونا كي ننتهي من مشكلة هذه الأحياء ونتجه إلى مشكلة التعليم"، وهو ما يوحي بتلك النظرة الجزئية للتنمية وبمركزية القرار في كل التفاصيل، وهو خطر لأنه يجعل كل شيء مُرجئا ومرهونا بقرار أعلى، ويسهل انفراط عقد الأمر من يد الرئيس حين تتفاقم المشاكل ويصبح غير قادر على متابعتها كلها.الوهم الثالث هو أنه يظن أن الشعب الذي (أعطاه) نسبة 52% في انتخابات 2009 سيظل مستعدا لانتظاره حتى ينهي مأموريته بعد خمس سنوات، خصوصا وأنه رئيس حديث العهد بالرئاسة، ولا يمكن تحميله تبعات الماضي، لكن ولد عبد العزيز يغيب عنه أن البسطاء من الشعب الذين خدعوا فيه وصوتوا له قد نفضوا اليوم أيديهم منه، ولم يعودوا بعد سبعة عشر شهرا من حكم متخبط وتزايد للازمات يرون فيه مخلصا، ولم يعد له سوى تلك الزمرة التي حددنا نواياها وأدوارها سلفا، وفي هذا الواقع أصبح من حيث لا يشعر امتدادا لمعاوية وحكمه الثقيل، وهو ببدلته المعلقة في خزانة غرفة نومه، وبجيشه امتداد طبيعي لحكم عسكري طويل سام البلاد والعباد قهرا حتى سئموا منه، ولذا فليس لدى الشعب هذا النفس المفترض للانتظار بعد أن لم ير شيئا يشجعه على ذلك منذ البداية.إن هذا الواقع السياسي الذي يعيشه حكم ولد عبد العزيز يجعل المطالب السياسية للمعارضة وما يسمى بحركة الشباب مطالب حقيقية لا وهمية أو شفونية، وليست من باب المنافسة والعداء السياسي بين معارضة وموالاة، وإن كانت المنافسة واردة، لكنها ليست الوقود في التحركات الأخيرة، وهو ما يستدعي من الرئيس الموريتاني اتخاذ قرار سريع بالجلوس للحوار مع ممثلي القوى السياسية الموريتانية بكافة أطيافها، والاستعداد لتنفيذ القرارات التي يُتفق عليها خلال ذلك الحوار، حتى ولو كان فيها المطالبة بانتخابات معجلة أو بتنازله عن الحكم، لأن ذلك من شأنه أن يجنبه هو أولا سيناريوهات كتلك التي واجهها ابن علي ومبارك أو التي يواجهها القذافي، ويجنب الوطن هزات لا يعرف مستقبلها، ولن ينفعه حينئذ أن يظهر أمين حزبه ليقلل من شأن الحركة الطلابية ويتغنى بعجز المعارضة عن تحريك الشارع، وكأن تحريك الشارع هو الرهان وليس الرهان تنمية وطن، ولن ينفع كذلك فرضية أن الإنترنت ضعيف الانتشار في موريتانيا وقليلون هم الشباب الذين يرتادونه ويتواصلون عن طريقه، فالشباب الموريتاني له ميزة إضافية هي أنه شباب مسيّس خاض عدة انتخابات وآمن بشعارات وطنية، وهو واع - قبل الفيسبوك وبعده - بحقوق المواطنة ومستلزمات التنمية.
محمد ولد محمد سالم
في ظرف تتصاعد فيه الدعوات لمظاهرات شبابية في موريتانيا على غرار ما جرى ويجري في عدد من الدول العربية، وبعد أن شهدت الجمعة الماضية أول تجسيد فعلي لتلك الدعوات، ومع توقع أن تتبعها جمعات أخرى، لا يبدو الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز مستعدا للتجاوب الدعوات الكثيرة التي تطالبه بالحوار مع القوى السياسية في البلد من أجل الوصول إلى تصور مشترك للخروج من أزمة هذا الوطن المستعصية على مدى ما يزيد على ثلاثين سنة من حكم العسكر سئم فيها الشعب من الوعود الجوفاء بتنمية وطنية قادرة على توفير مستوى من العيش الكريم للمواطن، وتضاعفت فيها أزماته وتراكم بعضها فوق بعض حتى باتت تنذر بانفراط عقد الدولة على ضعف السلك الناظم لها أصلا.
ويعتمد ولد عبد العزيز في رفضه للحوار على مقولة أنه منتخب من الشعب ومفوض منه لتنفيذ برنامجه السياسي الذي طرحه في حملته الانتخابية، وأنه لا يمكنه أن يحيد عن ذلك البرنامج لأنه هو الذي سيسأله عنه من انتخبوه، لكن وبعد قرابة سنتين من الحكم لا يبدو أن هذا البرنامج الباهت أصلا والذي لم يعرف منه المواطنون الأميون في أغلبهم سوى شعارات انتخابية، لم يستطع بعد انتخابه أن يحولها إلى عمل على الأرض أو على الأقل يقدمها في شكل خطة مدروسة ذات مفاصل محددة زمنيا بمدد عاجلة ومتوسطة وطويلة، ويعهد إلى حكومته بتنفيذها وإلى الإعلام بشرحها وتفصيلها ومناقشتها حتى يفهمها الشعب ويتجاوب معها، ويكون مستعدا لإعطاء الفرصة لتحقيقها، وهو ما يعني ضبابية الرؤية لدى الرئيس وحاشيته وعدم امتلاكهم لبرنامج واضح، ويمكن لأي مراقب للشأن الموريتاني وحتى أي مواطن عاد بحسه البسيط أن يستدل على تلك الضبابية من غير ما عناء ومن خلال مجريات الأحداث اليومية، وربما أبانت عنها بشكل واضح الإقالات التي أجراها الرئيس لبعض الوزراء الذين كانوا يمسكون بملفات أساسية في البلاد، كالصحة، والصناعة والمعادن، والطاقة والنفط، وكذلك إقالة ثلاثة أمناء عامين دفعة واحدة من وزارات الشؤون الإسلامية، والتعليم العالي، والصيد، وكل ذلك بسبب ما تردد من استشراء الفساد في دوائر الدولة، وقبل ذلك كان أحد الناشطين السياسيين في الحزب الحاكم قد عين مفتشا عاما للدولة بعد أن أقيل سلفه بسبب شكوى من متنفذين في الدولة خافوا من نشاط المفتشية وأرادوا أن يضمنوا ولاءها وصمتها على جرائمهم، ورغم أن هذا الأخير أقيل بسبب الحملة التي قامت ضد تعيينه، إلا أن رمزية الخطوة كانت دالة لأن دور هذا المنصب خطير في تسيير شؤون المال في الدولة، يضاهي منصب رئيس المحكمة العليا في القضاء، ويفترض في صاحبه أن يكون خبيرا ماليا صرفا، بعيدا عن الولاءات السياسية، وكان عفو عيد المولد النبوي الشريف عن محكوم عليهم في قضايا المخدرات أحد تلك المظاهر الدالة على ما اتجهت إليه حكومة من تَسمى ب"رئيس الفقراء"، وكل تلك المعطيات البسيطة تضرب في الصميم الشعار الأكبر لحملة ولد عبد العزيز الانتخابية وهو "مكافحة الفساد"، وقد تردد أخيرا أن الرئيس مستاء من الدرجة التي وصل إليها الفساد في أجهزة الدولة، وهو شيء غريب أن يجد رئيس نفسه وحكومته يعملان بعد ما يقارب سنتين من الحكم ضد شعار رفعه كمبدأ يسعى لتحقيقه، وتكون الحصيلة هي زيادة فساد قد فاضت أنهاره منذ زمن بعيد حتى وصل ماءه الأعناق، ويوشك أن يغرق الوطن نهائيا. قد يكون ولد عبد العزيز في رفضه المستمر للحوار يستند إلى تصورات هي أقرب إلى الأوهام منها إلى واقع الحال، وأحد تلك الأوهام أنه في سعيه للتمسك بالسلطة ظن أنه قادر على تنفيذ الإصلاح الذي يريده أيا كانت طبيعة الأشخاص المحيطين به، وقد أسقطه هذا الوهم في شرك المفسدين منذ أول يوم دخل فيه معترك السياسة ببدلته العسكرية ونجومها المذهبة التي فقد المجتمع غواية السقوط في حبها، فكان لا بد له في المرتين التين اختطف فيهما السلطة من أن يجد من هو مستعد لتمثيل دور العاشق لتلك البدلة، وبحكم أن المجتمع كان يومها معبئا بين قوى المعارضة وزمرة الفساد في حزب الرئيس الغابر معاوية ولد الطايع، لم يكن ولد عبد العزيز ليجد ليجد هذا الاستعداد إلا في فلول أولئك حزب ولد الطايع الذين جبلت نفوسهم على التلون وتغيير المواقف كلما كان ذلك يحقق مصالحهم الشخصية، فكانوا هم الركيزة الأساسية لحملته الأولى ورأس الحربة في عملية الاختطاف الأولى التي جاءت بسيد محمد ولد الشيخ عبد الله إلى الرئاسة، ثم كانوا جاهزين أيضا للدفاع عنه عندما أزاح ولد الشيخ عبد الله في عملية الاختطاف الثانية، ليتوجوه رئيسا بعد انتخابات معجلة استطاعوا يحصدوها بسبب تجربتهم الطويلة في نظام حكم ولد الطايع وما خلقوه خلالها من شبكات وتحالفات للسيطرة الاجتماعية والاقتصادية التين هما المفتاح للسيطرة السياسية، وبشعارات براقة انطلت حيلتها على فئات من هذا الشعب الذي تبلغ فيه نسبة الأمية والجهل والفقر درجات مخيفة، تجعله مستعدا لتصديق تلك الأكاذيب والتشبث بأي حبل أمل يلقى إليه خصوصا إذا كان من سلطة مسيطرة هي الوحيدة التي تمتلك أجهزة الإعلام وتصرفها تجميع الرأي حولها.كيف لولد عبد العزيز إذن أن يتخلص من الفساد وهو قد جمع حوله رموزه المعروفة، وازدانت حملاته الانتخابية بسياراتهم الفارهة ودراريعهم المزركشة الأنيقة، كما تجمل بهم برلمانه وحكومته، ولكي لا يضيع الأمر من بين أيديهم، وليجمعوا شملهم الذي تشتت منذ رحيل رئيسهم ولد الطايع، كان عليهم أن يبادروا بتأسيس حزب جديد يتبرأون به ظاهريا من الحزب البالي "الحزب الجمهوري"، ويحكمون به الطوق حول الرئيس الجديد ويعيدون فيه ترتيب أوراقهم لكي لا يشذ عن سيطرتهم شي من زمام الأمور، فكان "حزب الاتحاد من الجمهورية" هو الدثار الجديد الذي يخفي ندوب الماضي السوداء على أكتافهم، ورأينا كيف تداعوا إليه سراعا من أحزاب سياسية كانوا تفرقوا فيها بعد الهزة الكبرى سنة 2005، وهكذا وجد ولد عبد العزيز نفسه عن قصد أو بغير قصد رهينة لأولئك القوم.لم يلبث هذا "الاتحاد" أن سيطر على جميع مناحي الحكم، ورجع إلى أساليب الحزب الجمهوري في ممارسته الإرهاب السياسي ضد كل مخالفيه، وحتى ضد منتسبيه الذين طالبوا بإعادة النظر في طرق انتخابه ووسائل اتخاذ القرار فيه، كما عكسه البيان الذي أصدرته منذ أيام مجموعة أطره والذي حمل تنديدا " بما تشهده ساحته من انقلاب فاضح ومكشوف على كل القيم والمبادئ ضاربا عرض الحائط بجملة الوعود التي أطلقها صاحب المشروع (رئيس الجمهورية) علنا بأن التغيير القادم سيؤسس على قاعدة صلبة قوامها الكفاءة والنزاهة والإخلاص"، وقد رد الحزب بعنف على ذلك البيان واعتبر أصحابه يخدمون أجندات تخريبية، لكنه من حيث لا يدري دلل على ذلك "الانقلاب المكشوف والفاضح" الذي تحدث عنه بيان المجموعة حين أراد أن يعين لجنة شبابية تابعة له سعيا منه إلى مواجهة ما سمي بحركة الشباب الموريتاني تطالب بالإصلاح والتي أخذت في تنظيم سلسلة من المظاهرات، ولتكون تلك اللجنة عاملا لجذب الشباب إلى الحزب، فكان أن جعل صهر رئيس الجمهورية رئيسا لها، قبل أن يفطن الرئيس أو مستشاروه إلى مزالق تلك الخطوة التي تذكر بنفوذ عائلات رؤساء الجمهورية وشؤمه على الشعوب العربية في وقت لم يكن فيه ولد عبد العزيز بحاجة لمثل هذا التذكر، فأمر على الفور بإقالة ذلك الشاب، وهو ما تم بعد ساعات قليلة من تعيينه.الوهم الثاني الذي قد يكون رئيس الجمهورية يتوهمه هو أن الإصلاح المرجو يتمثل في مد بعض الشوارع الإسفلتية في نواكشوط وبين بعض المدن داخل البلاد، وفتح دكاكين لبيع بعض المواد الغذائية بسعر مخفض، وتحويل بعض الأحياء العشوائية في نواكشوط إلى مناطق ترحيل توزع عليهم فيها قطع أرضية في مناطق نائية من مركز المدينة تضاعف عليهم نفقات المواصلات ولا يجدون فيها أبسط مقومات الخدمات المدنية، وغير ذلك من المبادرات الآنية التي يقوم بها من حين لآخر هنا وهناك، فهذا وهم كبير وفهم خاطئ للأمور، فإن الإصلاح المطلوب كان يقتضي أولا تطهير إدارة الدولة من الفساد، وهذه الخطوة كان يمكن تستغرق أشهرا قليلة من حكم ولد عبد العزيز وتعطي ثقة في ما يسعى إليه، لأنها بمثابة ما يسميه المتصوفة التخلية التي تطهر قلب السالك وجوارحه من مآرب النفس الدنوية، فيطهر الإدارة من المفسدين حتى يتسنى له أن يتحرك إلى الأمام في اتجاه تنمية حقيقية دائمة تعود على المواطن بعيش كريم، وتلك الخطوة لم تحدث، وبدلا منها أغرق الرئيس نفسه في تلك القضايا الجانبية التي أرهقته وبددت وقته فيما كان يمكن أن يعهد به إلى أصغر الخبراء النزهاء في وزارة الإسكان و النقل و التجارة وغيرها، وفي إحدى اللحظات الكاشفة التي اتسع فيها الخرق على الرئيس ولم يعد يعرف كيف يعالج الأمر بسبب تضاعف مشكلة الأحياء العشوائية التي أراد حلها بسرعة خاطب السكان قائلا: "ساعدونا كي ننتهي من مشكلة هذه الأحياء ونتجه إلى مشكلة التعليم"، وهو ما يوحي بتلك النظرة الجزئية للتنمية وبمركزية القرار في كل التفاصيل، وهو خطر لأنه يجعل كل شيء مُرجئا ومرهونا بقرار أعلى، ويسهل انفراط عقد الأمر من يد الرئيس حين تتفاقم المشاكل ويصبح غير قادر على متابعتها كلها.الوهم الثالث هو أنه يظن أن الشعب الذي (أعطاه) نسبة 52% في انتخابات 2009 سيظل مستعدا لانتظاره حتى ينهي مأموريته بعد خمس سنوات، خصوصا وأنه رئيس حديث العهد بالرئاسة، ولا يمكن تحميله تبعات الماضي، لكن ولد عبد العزيز يغيب عنه أن البسطاء من الشعب الذين خدعوا فيه وصوتوا له قد نفضوا اليوم أيديهم منه، ولم يعودوا بعد سبعة عشر شهرا من حكم متخبط وتزايد للازمات يرون فيه مخلصا، ولم يعد له سوى تلك الزمرة التي حددنا نواياها وأدوارها سلفا، وفي هذا الواقع أصبح من حيث لا يشعر امتدادا لمعاوية وحكمه الثقيل، وهو ببدلته المعلقة في خزانة غرفة نومه، وبجيشه امتداد طبيعي لحكم عسكري طويل سام البلاد والعباد قهرا حتى سئموا منه، ولذا فليس لدى الشعب هذا النفس المفترض للانتظار بعد أن لم ير شيئا يشجعه على ذلك منذ البداية.إن هذا الواقع السياسي الذي يعيشه حكم ولد عبد العزيز يجعل المطالب السياسية للمعارضة وما يسمى بحركة الشباب مطالب حقيقية لا وهمية أو شفونية، وليست من باب المنافسة والعداء السياسي بين معارضة وموالاة، وإن كانت المنافسة واردة، لكنها ليست الوقود في التحركات الأخيرة، وهو ما يستدعي من الرئيس الموريتاني اتخاذ قرار سريع بالجلوس للحوار مع ممثلي القوى السياسية الموريتانية بكافة أطيافها، والاستعداد لتنفيذ القرارات التي يُتفق عليها خلال ذلك الحوار، حتى ولو كان فيها المطالبة بانتخابات معجلة أو بتنازله عن الحكم، لأن ذلك من شأنه أن يجنبه هو أولا سيناريوهات كتلك التي واجهها ابن علي ومبارك أو التي يواجهها القذافي، ويجنب الوطن هزات لا يعرف مستقبلها، ولن ينفعه حينئذ أن يظهر أمين حزبه ليقلل من شأن الحركة الطلابية ويتغنى بعجز المعارضة عن تحريك الشارع، وكأن تحريك الشارع هو الرهان وليس الرهان تنمية وطن، ولن ينفع كذلك فرضية أن الإنترنت ضعيف الانتشار في موريتانيا وقليلون هم الشباب الذين يرتادونه ويتواصلون عن طريقه، فالشباب الموريتاني له ميزة إضافية هي أنه شباب مسيّس خاض عدة انتخابات وآمن بشعارات وطنية، وهو واع - قبل الفيسبوك وبعده - بحقوق المواطنة ومستلزمات التنمية.
محمد ولد محمد سالم
dah_tah@yahoo.fr
تاريخ الإضافة: 04-03-2011 14:17:
تاريخ الإضافة: 04-03-2011 14:17:
وكالة أخبار نواكشوط