بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 30 يونيو 2011

خيط أمل


أفق
خيط أمل
آخر تحديث:الأحد ,26/06/2011
محمد ولد محمد سالم
يمتلك الروائي السعودي عبده خال قدرة كبيرة على إحكام النص الروائي، فهو ينطلق في سرده من حكاية واحدة يؤسس عليها كل تفاصيل روايته، بعكس بعض الكتّاب الذين تتداخل لديهم الحكايات ويضيع القارئ في تشعبات كل حكاية على حدة، فيفقد البوصلة المؤدية إلى نهاية واحدة مقنعة، بينما يظل خال يقود قارئه نحو تلك النهاية بكثير من الإقناع وبغوص عميق في تفاصيل الحياة الاجتماعية للشخصية، ما يجعله يبني معماراً متماسكاً .
في رواية “فسوق” التي أصدرها عام ،2005 يتناول حكاية اختفاء فتاة من قبرها بعد ساعات من دفنها، فقد وجد قبرها في اليوم التالي على دفنها مفتوحاً، ويرصد الكاتب من خلال بحث ذلك اللغز الغامض تفاصيل حياة أهل الفتاة وسكان الحي الذي كانت تعيش فيه، وعلاقاتهم وأسرارهم ومعتقداتهم وخرافاتهم وغير ذلك، وما نسجوه من حكايات حول تلك الفتاة بعد اختفائها وقناعتهم بأنها هربت مع عشيق لها، وفي رصد الكاتب لكل ذلك يرسم صورة سوداوية للمجتمع، وممارساته ضد المرأة وضد الضعفاء والمنبوذين، وحجم الظلم الذي يعيشه الكثير من أفراده، حتى يبدو عالماً قاتماً ليست فيه فرجة ضوء تعطي للقارئ أملاً ولو ضئيلاً في تغير الحال والانتقال إلى حياة أفضل، وتؤكد الرواية تلك الرؤية الموغلة في السلبية لحياة المجتمع، فقد اكتشف الشرطي المحقق في القضية أن حارس المقبرة هو الذي سرق الجثة وحنطها ووضعها في غرفة خلفية حباً لصاحبتها، وحين ينصب الشرطي كميناً للإمساك بالحارس متلبساً بجرمه فإن الجماهير الغاضبة من سرقة الجثة تهجم على المكان وتسحق الشرطي البريء والحارس المجرم معاً .
وفي روايته “ترمي بشرر” الصادرة 2009 والتي فاز بها بجائزة البوكر العربية 2010 يواصل خال النظرة نفسها، فأبناء الحي الفقير على الشاطئ ينجذبون إلى القصر المنيف الذي شيّده حديثاً ذلك التاجر الكبير بجوار حيهم، ويدخلونه تباعاً بحثاً عن العمل والمال، لكنهم يجدون أنفسهم أسرى في ذلك القصر الكبير لا يستطيعون الخروج، ويتعرضون إلى كل أنواع القهر والمذلة، ويرغمون على ممارسة أبشع أنواع الرذائل، ولا يخرجون إلا موتى أو بعاهات أو متنكرين إلى الأبد، فالأفق مسدود في وجوههم ولا أمل لأي منهم في العودة إلى حياة بريئة آمنة، لأن يد ذلك الشر قادرة على أن تطالهم أينما كانوا .
مثل هذا النوع من الروايات رغم متانته وتماسكه الفني وغوصه العميق في المجتمع وتفاصيل حياته إلا أن سوداويته الطاغية وما يخيطه من جلابيب الحزن أمام عين القارئ والبشاعة التي يصور بها المجتمع تفقده الكثير من جمالياته، لأنه وسط الألم والحزن لا بد من بصيص أمل، وسط الظلم والقهر لا بد من نبراس من الخير يتعلق به الإنسان حتى لا يسقط في هاوية اليأس، وذلك هو شأن الرواية العظيمة والكتّاب العظام أن يبقوا على خيط أمل ممدود لعبور محتمل .
Dah_tah@yahoo.fr



الخميس، 23 يونيو 2011

كالنخلة تغوص عميقا لترتفع عاليا


أفق
كالنخلة تغوص عميقاً لترتفع عالياً
آخر تحديث:الجمعة ,17/06/2011
محمد ولد محمد سالم
تعيدنا بعض المشاريع الفنية والأدبية المغرقة في محاكاة النزعات الغربية الحديثة إلى السؤال القديم الجديد وهو: أين نضع الخصوصية الذاتية والاجتماعية والحضارية في العملية الإبداعية؟، وما حدود حضور البيئة بمظاهرها المادية والمعنوية والنفسية كلها في الفن والأدب؟، ذلك أن تلك المشاريع وإن كانت تفلح في محاكاة تيارات راجت في بيئاتها الغربية وتعكس أنساقها الفنية بقوة، إلا أنها تبدو مبتورة عن واقعها، وكأنها سجينة أقفاص زجاجية لا ينفذ إليها منها الواقع نفسه الذي تنتج له، ولا تتأثر به، فتبقى جامدة محاصرة في برج عدم انتمائها، واستعصائها على أدوات النظر والتأويل للمتلقين الذين تتوجه بخطابها إليهم، فلا يجد أصحابها سوى الهرب إلى الآخر لعلهم يعثرون على المتلقي المثالي الذي يبحثون عنه أو البقاء في شرنقة الذات وتكرار أسطوانة الهروب التي يكررونها دائماً، والتي تنجيهم من النقد وهي “أنا أكتب لذاتي” أو “أنا أرسم لنفسي وحدها” أو”أنا أبدع لنفسي فقط”، وبذلك يظن هؤلاء أنهم يجدون مناصاً من المحاسبة الفنية، إذ لا لوم على من يخاطب نفسه في شكل وأدوات الخطاب الذي يبعث به إليها، ولا حساب عليه في ذلك، لكن هذا الادعاء كثيراً ما يدحضه الواقع حين يطبع أحد هؤلاء كتاباً على أنه ديوان أو رواية مجموعة قصصية ويوزعه، أو حين يقيم آخر معرضاً فنياً لرسومه أو منحوتاته، لأنه بذلك الفعل ينتقل من خطاب الذات إلى خطاب المجتمع، وهنا يحتاج إلى أن يكتب أو يرسم بأدوات مشتركة متعارف عليها، أدوات يشترك هو ومتلقيه في معرفة دلالتها، ويملكان القدرة على مقاربة انزياحاتها، وتتبع مساراتها ضمن كل تشكيل فني جديد .
تبدو العملية هنا في الخطاب الفني والأدبي أشبه بما يحدث في أنساق اللغة، فاللغة يشترك متحدثوها في فهم مفرداتها وأنساقها النحوية، ويتيح لهم ذلك تفكيك دلالة الجمل التي يتداولونها بينهم، مع أن إمكانات صياغة تلك الجمل لا حصر لها، ولا يمكن لأحد أن يتنبأ بنسق الجملة التي ستوجه إليه، لكنه بمعرفته السابقة بالمفردة واختزال ذهنه للأنساق النحوية، يستطيع أن يقارب دلالة تلك الجملة أياً كان تركيبها، وهنا يأتي دور البيئة برموزها الاجتماعية والمكانية والثقافية في صناعة الإبداع، فبالانطلاق من تلك الرموز المشتركة وصياغتها في تشكيل جديد ذي نسق متكامل يكون الأديب أو الفنان قد ارتقى في سلم الإبداع، وصناعة التميز الذي هو شرط ضروري من شروط الإبداع، لا يمكن أن يوجد من دونه، وهو بالطبع ينافي التقليد .
هاهنا تبدو عملية الإبداع كالنخلة التي كلما غاص جذرها في باطن الأرض ارتفع جذعها في عنان السماء، فكلما غاص الإبداع في أعماق بيئته وتجذر فيها فإنه يرتفع نحو العالمية ويرتقي في سماء الإبداع، ولا يجد المرء عناءً كبيراً في تقديم الأمثلة على ذلك، فما من أديب كبير أوتشكيلي مبدع على مر العصور إلا ويحقق إبداعه تلك الموازنة الدقيقة .
mailto:Dah_tah@yahoo.fr


مذاق السفر مع مسرحيين


من الشارقة إلى سيبيو
رحلة إماراتية في طبيعة خضراء
آخر تحديث:السبت ,18/06/2011
محمد ولد محمد سالم


1/1


عندما خرجنا من بوخارست إلى سيبيو التي ستعرض فيها فرقة مسرح الشارقة الوطني مسرحية “الحجر الأسود” لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، قيل لنا إن الرحلة ستكون شاقة لأن الطريق يمر عبر شعاب جبلية ضيقة صعوداً وهبوطاً، وتأخذ الحافلة خلاله وقتا طويلا يقارب خمس ساعات رغم أن المسافة لا تتعدى ثلاثمئة كيلومتر، وهيأنا أنفسنا لمشاق الرحلة، لكن ما حدث كان مختلفا تماما، فرغم وعورة الطريق إلا أنه كان للرحلة متعة خاصة، جعلت المجموعة لا تحس بمشقتها وتصل إلى سيبيو في غير ملل ولا تعب، وتكرر ذلك من سيبيو إلى براشوف ثم من براشوف إلى بوخارست في طريق العودة، ذلك أنها مع مشاهد الطبيعة الخضراء المتنوعة بين السهول والجبال، وجمال الأبنية الهرمية ذات السقوف القرميدية القانية وسط تلك الطبيعة الخضراء، والجو المعتدل والمطر الذي يغسل الأرض من حين لآخر، كانت رحلة مع فنانين مسرحيين، والرحلة مع المسرحيين لا تعادلها رحلة مع أي صنف آخر من أصناف الناس، ففيها مرح وضحك ومزاح كثير، وفيها اكتشاف لمواهب متنوعة لأولئك الشبان المفعمين بالحياة والحيوية .
أحمد الجسمي رئيس الوفد أرادها أن تكون رحلة ممتعة للجميع، ولم يجد عناء في العودة إلى طبعه كممثل قادر على جلب النكتة والضحكة وتنشيط المجموعة من فترة لأخرى حتى لا تستسلم للملل والكآبة، فكان يمازح الكبير والصغير وينتقل إلى مؤخرة الحافلة لتحريك الجوقة الغنائية، أويستدعي أحد الشبان لتقديم مشاركته عبر مكرفون الحافلة، فكان والداً وصديقاً وأخاً ومنعشاً للجميع .
الدكتور محمد يوسف، الفنان التشكيلي والممثل، والرجل الوقور متعدد المواهب، لم ينس أن التمثيل هو القدرة على أداء كل الأدوار، ولبس القناع المناسب لكل المواقف، فكان يغني مع المغنين ويؤدي الرقصات الشعبية التقليدية في الإمارات، ويقلد ويبث النكتة، ويشاكس ليبعث الضحكة، ولم لا وقد كان القدماء يرون أن العبث مندوب في السفر .
الرحلة اتخذت طابعاً الأجواء الشعبية الإماراتية من خلال الإيقاع الجميل لطبول مجموعة “أبناء درجلك”، والأغاني الشعبية المصاحبة لها، أولئك الشبان الذي يشكلون فرقة إيقاعية متميزة، وغنية بألوان الإيقاعات الجميلة التي يحفظونها عن ظهر قلب ويؤدونها في انسجام تام، وقد أصبح أولئك الإخوة ظاهرة فريدة في المسرح الإماراتي تستحق الوقوف عندها، فقد أدخلوا إليه كما قال لي - علي درجلك - الطبل والغناء الشعبي حتى أصبح جزءاً لا يتجزأ منه، وأعادوا للطبل وأغاني المالد والنهام والمواويل حضورها وقيمتها بعد أن كادت تندثر أمام غزو الآلات الموسيقية والإيقاع الغربي، وهم يصنعون لكل أغنية إيقاعاً خاصاً عماده الطبل ويتدربون عليه باستمرار .
من المواهب الجميلة التي ظهرت أيضاً في هذه الرحلة الموهبة الغنائية الجميلة للممثلين الفتيين محمد الزرعوني، وحسن درويش فقد أنعشا أجواء السفرة بصوتيهما النديين وما قدماه من الأغاني الشعبية الإماراتية، كما كان للأدوار الكوميدية للممثل المخضرم حميد سمبيج دور في تنشيط الجو، وكذلك الفنان محمد غباشي في موهبته في اللعب بالكلمات وتحوير معانيها إلى موضوعات مضحكة، أما موهبة فن التصوير الفوتوغرافي فقد انفرد بها الممثل محمد حسين الذي وثقت كاميرته بحرفية فنان كل المشاهد والمواقف على طول الطريق .
فن تقليد الأصوات كان أحد المواهب التي برع فيها الممثل أحمد ناصر الزعابي الذي مثّل دور “منادي” المعز الذي يعلن المراسيم، وقد بعثت قدراته في محاكاة أصوات الرجال والنساء والصغار والكبار الكثير من الضحك في أرجاء الحافلة، وجاراه في الموهبة نفسها الممثل القدير رائد دلاتي الذي أدى دور أبي طاهر الجنابي، وبرع الدلاتي في محاكاة المتكلمين بمختلف الدارجات العربية في المشرق والمغرب بطريقة ساخرة، ولم يقتصر دوره على ذلك، بل أشاع بصوته العذب جوا من الطرب من خلال أغنيات لفيروز وبعض المطربين الشاميين، فكنا غير بعيدين من أجواء الشام والعين تسرح في تلك الخضرة اليانعة .
“الحكواتي” الذي عرفته المجتمعات العربية قديما في المقاهي والمجالس الشعبية، والذي كان الشكل المسرحي الأكثر حضورا فيها، حيث يجلس رجل في حلقة ويضع بين يديه كتاب ألف ليلة وليلة أو مقامات بديع الزمان الهمذاني أو كتب الشطار والمحتالين، أو كتب سير العظماء والأبطال ويبدأ بسرد تلك الحكايات بتفاعل تمثيلي صوتي وحركي مع مختلف تقلبات وحلقات القصة، هذا الدور لعبه الممثل أحمد يوسف الملقب ب”الحكواتي”، والذي لعب دور أحد قادة أبي طاهر الجنابي “الحجر الأسود”، ويقود أحمد يوسف فرقة “الحكواتي” التي تقدم مسرحيات في مختلف مدن الإمارات، وقد قدم خلال الرحلة بعضا من حكاياته تلك بأسلوب كوميدي تفاعل معه أعضاء الفريق .
العنصر النسائي لم يغب عن تلك الاحتفالية المتنقلة، فقد كانت في الرحلة كل من الدكتورة وهيبة راشد مسؤولة ملابس الفرقة، والممثلتين أشواق وإلهام محمد، وأعطى حضورهن توازناً اجتماعياً لجو الرحلة، وقد كن مخلصات للكرم الذي تعرف به المرأة العربية، فكان لا يمر وقت إلا وإحداهن توزع الشوكلاته أوالحلوى أو الفاكهة أوالعصير .
الحدث الأطرف خلال الرحلة في الحافلة كان “إذاعة إف إم ضيوف الشرف رومانيا” التي اخترعها الفنان عبدالله زيد، وهو ممثل مسرحي حاصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان أيام الشارقة ،2011 وكان يستخدم في إذاعته المكروفون الداخلي للحافلة والمسمّعات المبثوثة على طولها، وكشف من خلالها موهبة إعلامية متميزة ذات قدرات لغوية وحضور بديهة، وقدرة على التفاعل المسلّي مع مستمعيه، وكان يبث النكات والإهداءات الغنائية التي يخزنها في هاتفه المحمول، ويخترع الأخبار وينقل المشاهدات الخارجية، كأنه مذيع يقدم المعلومة ويرفّه عن سامعيه، وهيمنت إذاعته على معظم وقت الرحلة .
استطاع عبدالله زيد ببراعته أن ينتزع الضحكة والتصفيق الحار من الجميع، حتى من محمد عبدالله العلي ذلك الرجل الرزين الهادئ، الإعلامي المخضرم والمسرحي عضو مجلس إدارة فرقة مسرح الشارقة الوطني، الذي كشفت الرحلة عن قدراته الكتابية، خاصة في مجال كتابة المذكرات، حيث يحتفظ بمدونة ذكريات يسميها “الكتاب الأسود” تيمناً بالحجر الأسود، ولأنها أيضاً تشبه الصندوق الأسود للطائرات فقد دوّن فيها كل شيء حول مسرحية “الحجر الأسود” منذ بداية الإعداد لعرضها في مهرجان الشارقة، وحتى نهاية الرحلة إلى سيبيو، فكان يرصد الأحداث وأحوال الممثلين والطاقم الفني والإداري وغيرها بأسلوب فصيح جميل، فيه رونق البيان، وقد قرأ علينا بعض المواقف الطريفة من تلك المذكرات .
بكلمة واحدة فقد كانت رحلة الحافلة رحلة ذات مذاق شعبي إماراتي وعربي، في أعماق الطبيعة الخلابة لأراضي رومانيا

دفاعا عن المثقف


أفق
دفاعاً عن المثقف العربي
آخر تحديث:الثلاثاء ,21/06/2011
محمد ولد محمد سالم
كانت الأنظمة المتسلطة في بعض البلدان العربية حين تغضب من الفكر التنويري للمثقف العربي تتهمه بالخيانة العظمى وخدمة أعداء الوطن، ويؤول الاتهام إلى سجن وتعذيب أو قتل بحكم علني أو في ظروف غامضة، وفي أحسن الأحوال تخويفه ليخرج من وطنه خائفاً، أو منعه من الكلام والكتابة، وكانت الآلة الإعلامية لتلك الأنظمة تشن حرباً لا هوادة فيها على المثقفين وترسخ في أذهان الشعب، أنهم نبتة طفيلية لا فائدة فيها، ولا تجلب سوى أفكار هدامة، وقد أفلحت تلك الأنظمة في مسعاها، حتى وصل الحال إلى أن يكون المثقف العربي فعلاً نبتة غير مرغوب فيها، ولا تنتج شيئاً ذا قيمة للمجتمع .
لقد كانت تلك الأنظمة معذورة كل العذر في أن تقطع الطريق على المثقف، وتوقف إمكانية تأثيره في الناس لأن ما يحمله من فكر، ويروج له من أفكار تناقض تماماً ما تريده الدكتاتوريات، بل فيها بذرة ذهاب تلك الدكتاتوريات، وتدميرها، لأنها أفكار الحرية والديمقراطية، وحق الإنسان في العيش الكريم، لكن الذي لا يجد المرء له عذراً هو ما نقرأه اليوم من تقارير الإدانة والمسبة للمثقف العربي على تخاذله عن نصرة حركات الحرية وثورات الديمقراطية وحقوق الإنسان المستعرة في أجزاء من الوطن العربي، وادعاء عدم نهوضه في طليعتها، بل تذهب بعض الآراء إلى أن المثقفين العرب لم يستطيعوا أن يفهموا حركة المجتمع ويرصدوا تغير الأفكار ففاتهم القطار، واندفع الشباب وعامة الشعب البسطاء، وبقوا هم قابعين في كهف تحجرهم وسقم تفكيرهم، فلمصلحة من يدان المثقف العربي اليوم، بعد أن بدأت تلك الأنظمة التسلطية التي عاداها وعادته وكرهها وكرهته تتداعى، وبدأت ثمار جهاده على مدى قرن أو يزيد تؤتي أكلها، ثورات تحررية لا ترضى بأقل من الديمقراطية والمساواة والحرية، لمصلحة من يقال إن المثقف العربي “فاته القطار”، وهو الذي صنع القطار منذ أن كتب رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” وكتب عبدالرحمن الكواكبي “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، وبينهما وبعدهما إلى اليوم ما يملأ الأفق من الكتب والأشعار والروايات والقصص والدراسات والمقالات التي تنظر وتوجه وتطالب وتنادي وتثوِّر المجتمع، وتدربه على أفكار الديموقراطية والحرية ليستوعبها ويطبقها في حياته .
كيف بعد كل هذا التاريخ يقال إن المثقفين لم يستوعبوا اللحظة ولم يفهموها وهم الذين مهدوا لها وصنعوها، رغم العسف وتكميم الأفواه، لكن ما سطروه كان النور الذي ينير الدرب، والمشعل الذي حملته الجماهير حين تحركت، وسواء أكان المثقف واحداً من أولئك الآلاف الذين اندفعوا على الشارع وواجهوا الموت بصدور عارية أو لم يكن منهم، فإن أفكاره ودعواته وتضحياته التاريخية هي التي أوصلت الناس إلى تلك اللحظة التاريخية، وهي التي ستوجه دفة تلك الحركات وترشدها، لأنها آراء الحق والعدل المتجردة من المصلحة الذاتية الضيقة .
dah_tah@yahoo.fr

الثلاثاء، 14 يونيو 2011

تداخل الغرائبي بالواقعي في "طوق الحمام"


فازت بجائزة البوكر العربية في أبوظبي
تداخل الغرائبي بالواقعي في رواية "طوق الحمام"
آخر تحديث:السبت ,23/04/2011
محمد ولد محمد سالم


1/2

تقدم الروائية السعودية رجاء عالم في روايتها “طوق الحمام” التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر العربية” 2011 مناصفة مع “القوس والفراشة” للكاتب المغربي محمد الأشعري، عوالم متعددة وسياقات متشعبة، يتداخل فيها الغرائبي بالواقعي والراهن بالتاريخي والمكاني بالزماني والعقلي بالوهمي، عبر سرد يطول ويتشعب في كل اتجاه .
الحكاية الأساسية في الرواية هي بحث يجريه المحقق “ناصر” لمعرفة هوية تلك المرأة التي وجدت جثتها محشورة بين جدارين في أحد الأحياء وأسباب موتها، لكن هذه الحكاية، تتحلل إلى حكايات لا تنتهي وتسير في اتجاهات عدة، فحين يباشر المحقق عمله تكون المعطيات الأساسية عنده هي مقالات “يوسف” في جريدة أم القرى ورسائله إلى محبوبته “عزة” المرشحة لأن تكون هي الميتة، والرسائل الإلكترونية التي تركتها “عائشة” في سلة المهملات على سطح حاسوبها الآلي، قبل أن تختفي، وهي مرشحة أيضاً لأن تكون تلك المرأة الميتة، رسائل عائشة كتبتها لعشيقها الألماني الذي تعرفت إليه قبل أشهر في المستشفى عندما ذهبت إلى ألمانيا للعلاج بعد حادث أودى بحياة أهلها وأصابها بالشلل لتلازم كرسياً متحركاً .
من خلال تلك الكتابات والاستجوابات التي أجراها ناصر لبعض الشخصيات في الحي، ومن خلال السرد الذي يأتي بطريقة فنتازية على لسان “أبي الرؤوس” تتكشف لنا العوالم الداخلية لذلك الحي القذر المملوء بالقاذورات ومياه المجاري، والذي تعيش فيه شخصيات أمية جاهلة أو متعلمة مهزوزة البناء مجهولة النسب، فهناك يوسف المختفي والذي يشكّل الشخصية المتعلمة في الحي والذي لا يعرف من هو أبوه، وأمه حليمة صانعة الشاي التقليدي والتي ربته هو وعزة ابنة التاجر اليتيمة من الأم، وأبوها مزاحم التاجر الذي كان يهمين على التجارة في الحي ويسيطر على عمليات شراء العقارات والاستيلاء على أوقافها، قبل أن يصبح ميداناً لتنافس الشركات العملاقة، وأحمد ابن الزبال الذي أصبح يرافق الشخصيات الكبيرة المتنفذة خارج الحي والذي تزوج عائشة، وهناك العشّي وزوجته القوية وابنهما اللقيط “تيس الأغوات” والإمام الصومالي وابنه معاذ، ومسبب صاحب البستان ومهرب التحف الذي كان على علاقة بعزة، واختفى أثناء ظهور الجثة، والتركية التي تمتلك محلاً للخياطة تدير من خلاله علاقات مشبوهة برجال أعمال يسعون للاستيلاء على عقارات الحي وإغواء بناته، وناصر المحقق نفسه الذي عاش في الحي عقوداً طويلة، وحين ننتقل إلى القسم الثاني من الرواية نصادف شخصيات أخرى كثيرة .
ندرك من خلال كتابات يوسف العارف بتاريخ وجغرافية مكة المكرمة انزعاجه من زحف الأبراج العقارية والعمارات الحديثة على أحياء المدينة المقدسة، وطمسها لمعالمها وشواهد تاريخها لذلك السباق المحموم الذي يقوم به رجال الأعمال لاكتساح القطع الأرضية حول المسجد الحرام، كما نتعرف من خلالها إلى جوانب من حياة أبي الرؤوس وسكانه، ونتعرف من خلال رسائل عائشة إلى رؤيتها للحياة قبل وبعد سفرها للعلاج، وما تمثله حياتها الأولى في نظرها من كبت وانغلاق وتعتيم، وما انفتح أمامها من أفق للحرية ولطعم الحياة حين التقت عشيقها الألماني .
أما القسم الثاني من الرواية فيدور معظمه في إسبانيا حيث نلتقي بشخصيات جديدة هي “نورة” التي سنكتشف في النهاية أنها هي “عزة” وهي تسكن جناحاً في فندق فخم وتعيش في عهدة رجل الأعمال “خالد الصبيحان” الذي سوف نكتشف أنه مالك تلك الشركة القابضة العملاقة التي هجمت على أحياء مكة ومعالمها التاريخية تطمسها بأبراجها وفنادقها وأسواقها التجارية الحديثة، وكذلك رافع اللبناني الحارس الشخصي لنورة، ثم المرأة الاسبانية في الكنيسة في طليطلة، وشخصيات تاريخية كثيرة .
في هذا القسم يتركز السرد على البحث عن مفتاح ضائع، ونكتشف أن سبب وجود الصبيحان في إسبانيا هو البحث عن مفتاح ضائع تقول الأسطورة إنه قادر على فتح أبواب كل الدنيا، وأن جوزيف بن تقرلا هو من صنعه على نسق أبواب قدس الأقداس في سبأ أرض بلقيس، التي رحل إليها ليعيد نسج أساطير الحب التي تروى عنها، وعاد منها بأبواب مقدسة، جعلها في كنيسة بطليطلة، لتكون ملهمة العشاق والمبدعين، وصنع المفتاح الذي يفتح تلك الأبواب وكل الأبواب، لكنه مات على الباب الأخير قبل أن يفتحه، والحجاب الذي يضم رقوقاً عن حياة سلالة عربية يهودية سيكون من نسلها من يجلب الشر، ونكتشف أن الصبيحان هو من تلك السلالة .
الظاهر من رواية “طوق الحمام” أنها قصة اجتماعية بسبب ما تحاول أن تقدمه من تحليل للعلاقات الاجتماعية وربط لها بخلفياتها النفسية والفكرية، لكن رجاء عالم اتبعت في سردها تقنيات الرواية البوليسية خصوصاً في القسم الأول منها حيث اعتمدت في تقديم الأحداث على التحقيق الذي يجريه ناصر حول هوية الجثة، وأسباب موتها اعتماداً على المقالات والرسائل التي ذكرناها آنفاً، وعلى الاستجوابات التي امتلأ بها ذلك الجزء من الرواية، فمنذ البداية نجد أنفسنا أمام تلك الجثة التي لا تعرف صاحبتها، وتصبح كل الشخصيات متهمة بقتلها ما يذكّر بالعقد التقليدية في الروايات البولسية، لكن تقاطع الحياة الخاصة للشخصيات مع ذكريات طفولة ناصر قلب كيانه كمحقق صارم إلى شخصية حالمة تتبع سطور الرسائل بنهم بحثاً عما يشبع غرائزها الإنسانية التي انطمست لعقود تحت بدلة الشرطي، ما أضاف عنصراً درامياً إلى القصة وحولها إلى قصة اجتماعية، يضاف إلى ذلك أن وجود ثغرات كبيرة في التحقيق أضعف عناصر القصة البوليسية فيها، مثل كون المحقق لم يبدأ بنتائج تشريح الجثة لتحديد هوية صاحبتها، ولم تذكر تلك النتائج على طول الرواية، وكون جسد عائشة يحمل آثار العمليات التي أجريت لها بعد الحادثة وهي مصابة بالشلل، فمن السهل التفريق بين جثتها وجثة عزة، كذلك كون التحقيق لم يبدأ بمنزل أهل “عزة” لمعرفة ما إذا كانت مفقودة أم لا، ولم يستجوب أبوها إلا في مراحل متأخرة من التحقيق، ومثل تلك الثغرات كثيرة، ثم إن عنصر الحركية والمباغتة التي تنبني عليها الرواية البوليسية مفقود في “طوق الحمام” لأن جل اعتماد المحقق كان على الرسائل الغرامية التي لا تقدم أحداثاً أو معلومات متعلقة مباشرة بتلك الجثة، تجعل البحث يتطور ويندفع إلى الأمام، ما أفقدها عنصر الإثارة الذي هو عنصر أساسي في الرواية البوليسية .
تنوع في الخطابات:
حشدت رجاء عالم كل طاقاتها وخبراتها في هذه السردية لتقديم عمل يستفيد من كل أساليب القص الحديثة والقديمة، ويوظف كل أشكال الخطابات السردية المعروفة، ما يدل على تمكنها من تلك الأساليب التي تجلت في:
خطاب الراوي: تبدأ الأحداث براوٍ غير عادي يتحدث عن نفسه قائلاً “أنا أبو الرؤوس برؤوسه المتعددة، أنا الزقاق الصغير”، ويبدأ أبو الرؤوس بسرد خبر الجثة والتحقيق الذي بدأ حولها، لكن سرعان ما يتغير . تقوم “طوق الحمام” على سرد لراوٍ عارف بكل شيء، لكن سرعان ما ينتقل السرد إلى رواية أحداث متعلقة بطفولة المحقق في “وادي محرم بجبال السراة” في الطائف البعيدة عن “أبي الرؤوس”، فنحس بأن الراوي قد تغير، ويتأكد هذا التغير بحديث الراوي نفسه عن أبي الرؤوس بضمير الغائب في مواقع كثيرة من الرواية، وفي القسم الأخير منها يغيب أبو الرؤوس تماماً، فيقع القارئ في إشكالية عن سبب سرد الكاتبة لبعض الأحداث على لسان “زقاق جماد” في صلب رواية يفترض أنها واقعي، ومن غير تبرير واضح لذلك .
تعدد الأصوات: سمحت طريقة التحقيق البوليسي للرواية بإدخال تقنية تعدد الأصوات فكانت كل شخصية تتحدث عن نفسها وجوانب من حياتها أثناء التحقيق، غير أن إرادة الكاتبة لجعل تلك الشخصيات متهمة وتحجيم أدوارها في ذلك الجانب، وكونها تتحدث في جلسة تحقيق حد من حرية تلك الشخصيات في استبطان خلفياتها الاجتماعية وتداعياتها النفسية، وكان يمكن لحديثها أن يكون أكثر إثراء للعنصر الدرامي في الرواية لو تركت تلك الشخصيات على سجيتها وأعطيت مساحة كافية من البوح، والشخصية الوحيدة التي اقتربت من تلك المنطقة هي المحقق ناصر نفسه، لكن ذلك الاقتراب لم يستثمر حتى النهاية . وبقي شيئاً هامشياً على الأحداث وعلى صفته كمحقق .
الرسائل: لجأت رجاء عالم إلى تقنية الرسائل العادية والإلكترونية لتطوير أحداث الرواية والوقوف على أراء وطبائع شخصيتين من شخصيات الرواية، واحتلت تلك الرسائل جزءاً كبيراً جداً من الرواية، ويمكن اعتبارها أكثر الخطابات السردية حضوراً حتى إنها تضاهي في حضور الراوي، لكن الكاتبة تغالي في استخدام تلك الرسائل وتتبع بإسهاب مخل كثيراً تهويمات كاتبيها يوسف وعائشة وآرائهما حول الحب والحياة والناس وردودهما على رسائل أو استفسارات عشيقيهما، وغير ذلك من الأحاديث والحكايات المطولة التي تتخلل رسائل الحب، من غير فائدة واضحة في تطوير الحكاية طولياً أو أفقياً .
الوثيقة التاريخية: حين يفتح ناصر الحجاب الفضي في القسم الثاني من الرواية يقع على سفر من الرقائق الصغيرة القديمة، فيبدأ بقراءتها وتثبت الكاتبة بالنص ما جاء في تلك الرقاق التي تحكي حكاية اندساس سلالة يهود في قبيلة من قبائل نجد ونكتشف أن الصبيخان ينتمي لتلك السلالة حسب ما يثبته الرق، ولم يكن كل ما ورد في تلك الرقاق وارداً بهذا الحجم الكبير الذي أوقف مرات حركية الرواية، وأضفى عليها ركوداً .
الأسطورة: تستعين الكاتبة بالأسطورة من خلال ما روته اليهودية الاسبانية عن جدها جوزيف بن تقرلا، وعن الرجل اليمني “الشيبي” الذي جاء من اليمن بحثاً عن المفتاح لاستعادته، وقد استغرق معظم القسم الثاني من الرواية في تهيئة الظروف لنورة لتصل إلى تلك الكنيسة التي تحتفظ في قلبها بمعالم مسجد أندلسي، لتتلقى وحي الإلهام وتتشرب حواسها الجمال الذي سيجعل منها في النهاية رسامة تشكيلية عظيمة .
هذا إلى جانب كتب الأدب والتاريخ ومواقع الإنترنت التي ترد منها اقتباسات خصوصاً ضمن رسائل عائشة ومقالات يوسف، وتظهر كل تلك الخطابات والأساليب الجهد الكبير الذي بذلته الكاتبة في تأليف روايتها، وتمرسها بكل أنواع ومستويات الخطابات، فهناك الخطاب السردي المباشر وهناك التداعي الحر والخطاب التاريخي والديني والشاعري الرومانسي وغيرها، ترد في تدرجات بديعة وبلغة عربية فصيحة وسليمة نحواً وصرفاً، لولا بعض الأخطاء الطفيفة التي ترد في ثنايا بعض النصوص ولا يمكن لعمل بهذا الحجم أن يسلم من السهو، وكان ينبغي للعنوان أن يكون “أطواق الحمام” بدل طوق واحد أنسب للعدد .
المنظور الروائي
لكل من قصة البحث عن هوية الميتة وقصة الهجوم العمراني الحديث على المعالم التاريخية لمكة المكرمة ومحاولات يوسف للوقوف في وجهه سياقها المختلف عن الأخرى ولا ترتبطان إلا من خلال شخصية يوسف، ولو حذفت إحدى القصتين من الرواية لما أثر ذلك في الأخرى، ويمكن بشيء من التجوّز اعتبار قصة الميتة هي قصة المرأة المغيبة المكبوتة والمخفية في أقبية الصمت الغائرة، وقصة الهجمة العمرانية هي قصة النهب والسلب للهوية والذات، كما أن قصة نورة والمفتاح في القسم الثاني من الرواية يمكن أن تكون قصة مستقلة لولا النهاية التي ربطتها شكلياً بالأخرى، فجعلت نورة هي نفسها عزة المفقودة، وتقابل نورة المرأة الميتة بكونها رمزاً لانعتاق الجسد الأنثوي وما يمكن أن يبلغه ذلك الانعتاق من سمو إلى مراتب الإلهام وتلقي أسرار الحب والجمال الذي هو الشريعة الجامعة للبشرية قاطبة، وأما حكاية العرق اليهودي المندس في القبيلة العربية، وهي بدورها قصة مستقلة فترمز إلى تسلسل الشر في بقائه في كيان الإنسان، وفي الرواية أبنية قصصية أخرى كثيرة .
هذه السياقات المتعددة والاستقلالات في المتون الحكائية أرهقت رواية “طوق الحمام” بالتعرجات المختلفة، فوصلت إلى نهايتها منهكة متقطعة الخيوط، حيث إن الكثير من الشخصيات التي ظهرت في الجزء الأول من الرواية اختفت من دون أن نعرف ما هو سبب ظهورها ولماذا تختفي فجأة من غير مبرر، كما أن حجم البحث والتحقيق في الجزء الأول لا يسلم إلى نتيجة ويبقى السؤال معلقاً من دون أن نجد مواصلة له في الجزء الثاني إلى أن نصل إلى النهاية التي سنجد فيها الجواب، ورغم ذلك فإن النهاية التي وصلت إليها المتمثلة في نجاح شركة رجل الأعمال خالد الصبيحان في إقامة مشاريع إنشائية جديدة حول البيت الحرام، وظفر الصبيحان بالحجاب الذي يتضمن تاريخ السلالة اليهودية التي ستتملك مكة، وقبضه بمساعدة المحقق ناصر على يوسف الذي يحمل مفتاح الكعبة المفقود، واستئثاره بنورة “عزة” التي تلقت نور الحب والجمال وأصبحت رسامة مبدعة، في تلك النهاية ما يمكن أن يقدم صرخة في وجه الفساد المستشري، والتغوّل المادي الذي أصبح يطغى على كل شيء ولم يسلم منه أي منحى من مناحي الحياة الاجتماعية والروحية، وأصبح ينفث سمه في كل شيء، وهي نهاية أنقذت الرواية إلى حد ما، وجعلت لذلك الشتات خيطاً رابطاً مهماً بدا واهياً فإنه أعطاها شكلاً من أشكال التماسك، رغم أن القارئ عليه أن يمتلك صبراً وحافزاً خارجياً ليبلغها من خلال 566 صفحة، ولذلك يمكن أن نقول إن الجهد الروائي كان جباراً، وهو إضافة نوعية لتاريخ رجاء عالم الروائي ।

شعرية الواقع


أفق
شعرنة الواقع
آخر تحديث:الجمعة ,06/05/2011
محمد ولد محمد سالم
الخيال أو التخييل أو الصورة مصطلحات لمسمى نقدي واحد هو التمثيل الذي يصطنعه الشاعر لتقريب المعنى الذي يريده أو التلميح له، وهو أساس الشعر لأنه هو الذي يعطي للكلمة صفاءها وحرارتها وفاعليتها، ويفرض على الشاعر معجمه التعبيري، وهو الذي يعطي للجمل توتراتها، وللأسلوب تناسقه وانسيابيته، ومن دون الخيال يسقط الشعر في النثرية الباردة والتقريرية الفجة، لكن من أين يستقي الشاعر اليوم مادة خياله، من أين يأتي بصوره؟
لو رجعنا إلى الشعر العربي القديم نجد أن مادة الصورة الشعرية كانت تستقى من البيئة التي يعيش فيها الشاعر، وكان الشعراء يتمتعون بحس خيالي ذكي، فكل شيء قابل لأن يكون مشبها أو مشبها به، وهو الأصل الأول للصورة بما هي تمثيل، فمن التشبيه جاءت الاستعارة قديما والرمز حديثا، وقد أبدع شعراء الجاهلية في تحويل تلك البيئة إلى خيال رائع حمل بعمق ما جاشت به أنفسهم من معانٍ، وكان امرؤ القيس من أغزر الشعراء وأبدعهم صورا، وما من شاعر معدود في طبقات فحول الشعراء في الجاهلية والعصور الإسلامية إلا كانت له صوره الخاصة وخياله الخلاق، وقدرته على تحويل أشياء بيئته إلى سلسلة من الصور .
عندما بدأت النهضة العربية الحديثة انتهج الشعر الإحيائي إبداع الصورة القديمة، لكنّ تلك المدرسة وصلت إلى طريق مسدود لأن مادة الصور عند شعرائها كانت تستقى من بيئة تراثية لم يعد الشاعر يعيشها إلا من خلال ثقافته الشعرية، ولا توجد تلك الأشياء التي يصنع منها صوره في واقعه، وقد استطاعت حركة الشعر الحديث الخروج من ذلك المأزق باتخاذ الرمز الأسطوري والتاريخي مادة للصورة الشعرية، والانتقال بها من جزئية الصورة الجاهلية إلى صورة كلية ناظمة للقصيدة بكاملها، لكن بعد انقشاع الغبار ظهر أن الكثير سقطوا في الغموض باتباع رموز أسطورية غربية وإغريقية لا علاقة لها بالعرب ولا بثقافتهم، وفي كثير من الأحيان سقطوا في تقليد شعراء الحداثة الغربية، ولم يسلم من ذلك إلا قليل، وتبعت ذلك مرحلة تاه فيها الشعراء ولم يعرفوا كيف، ولا من أين يستقون مادة خيالهم فاصطنع كثير منهم اللعب بالكلمات والمتناقضات اللفظية، وركوب الغموض واللامعنى للاختفاء وراء العجز عن التفكير في تشكيلات الواقع الذي يحيونه واختراع صورة أصيلة من تلك التشكيلات .
إلى متى يظل الشاعر العربي تائهاً عن واقعه، عن تشكيل الصورة من أشياء حياته اليومية، ومن ملايين الأشكال والألوان التي تعبر أمام عينيه، وتزدحم في ذهنه؟ كيف يمد الصلة بينه وبين الواقع ومن ثم بينه وبين المتلقي باعتبار أن تجربة الواقع تجربة مشتركة بين الاثنين وصورها قادرة على حمل المعنى بينهما؟ وهل العجز هو في خيال الشاعر أم في مخزونه اللغوي الذي قد لا يجد فيه المفردة المناسبة؟
رغم كل التنظيرات حول الشعر ورغم كل التيارات التي تصطرع فيه، لا يمكنه أن يعيش في منأى عن حياة كاتبه، ولا يمكنه أن يكون عظيما ما لم يستطع شعرنة ذلك الواقع .
dah_tah@yahoo.fr

اللجظة الكاشفة في "الجلسة السرية"


أفق
رؤى سردية
آخر تحديث:الأحد ,15/05/2011
محمد ولد محمد سالم
تعطي قصة “الجلسة السرية” لماجدة عبدالله الهاشمي دلالة قوية على فاعلية القص عندما ينجح صاحبه في إمساكه من اللحظة المناسبة، اللحظة التي تتكشف فيها تباعاً العناصر الدرامية في الحدث، وترتسم التداعيات النفسية الناتجة عن الصراع بين تلك العناصر الدرامية، وهي ما تسمى لدى النقاد اللحظة الكاشفة، وهي في قصة ماجدة عبدالله تلك “الجلسة السرية” اليومية التي تجلسها البطلة وحدها منزوية عن جميع من حولها لتنسكب معها ذاكرتها في تدفق يستعيد دائماً التفاصيل الدقيقة لتلك “الحادثة” التي كانت حاسمة في حياتها .
من خلال الإمساك بتلك “الجلسة” تقيم الكاتبة تقابلاً بين عناصر لحظتين زمنيتين، لحظة حاضرة هي الجلسة، ولحظة ماضية هي الحادثة، فتفلح الكاتبة في استخراج أبعاد التجربة النفسية للبطلة بالتواشج مع استذكار مجريات ما حدث في ذلك اليوم البعيد، وتبدو المشاهد القديمة وكأنها حدثت الآن بهذه الذاكرة التي لا تنسى أدق التفاصيل والأحاسيس . تعود البطلة إلى لحظات انتظارها في المدرسة لأخيها الذي تأخر عن موعد مجيئه ليصحبها إلى البيت، فتضطر إلى قطع الطريق وحدها في سكون الظهيرة، وما صاحب دربها إلى البيت من شكوك وتوترات وظهور ذلك الفتى القوي يسير بسيارته خلفها ودعوته لها إلى الركوب، ثم نزوله إليها بعد أن ترك زميله يراقب الطريق، وهروبها منه في تلك الأزقة الضيقة بين الحيطان العالية التي صدّت صوتها دون أن يسمعه أحد، ثم ذلك الموقف الحاسم حين أمسك بها وأراد أن يعتدي عليها، وتلك القوة التي اندفعت في جسمها لتتلقّف حجراً حاداً وتضربه به عدة مرات على وجهه فيخر صريعاً، لتواصل طريقها إلى أهلها من دون أن يعرف أحد أن لها علاقة بموت ذلك الشاب .
تشكل قصة “الجلسة السرية” رؤية جديدة لطبيعة وقدرة الفتاة العربية تغاير تماماً تلك الرؤية التي ترسمها لها القصص بكونها “ضحية ضعيفة” لا تملك أية شجاعة على الدفاع، فهنا ترسم ماجدة عبدالله صورة فتاة امتلكت القوة والشجاعة في اللحظة المناسبة للدفاع عن شرفها ونجحت، وهو ما يعطي أملاً لكل فتاة ويعيد إليها الثقة في قدراتها الذاتية . ومع أن القارئ قد لا يتفق مع الكاتبة حين جعلت تلك الذكرى تسيطر بشكل دائم على حياة البطلة وتدمرها لشعورها بالذنب - كان يمكن ألا تشعر بالذنب لأنها دافعت عن نفسها - إلا أن ذلك لا يقلل من الرؤية الكلية وصحة وواقعية الصورة التي رسمتها للفتاة .
لقد ملكت ماجدة الهاشمي رؤية كلية نابعة من إيمانها ببنات جنسها، وأحاطت بكل جوانب اللحظة النفسية والحدثية، وحتى الإطار الزماني والمكاني كان لعبا لديها دوراً قوياً في توتير الحدث وتعميقه، ما جعل اللغة تنسكب حارة رقراقة ترصد كل عقد اللحظة وتوتراتها، ويدل كل ذلك على أن العامل الحاسم في العمل السردي هو امتلاك الكاتب رؤية متكاملة واضحة ومعبرة بصدق عن حقيقة التجربة الإنسانية، فمع تلك الرؤية تتداعى كل عناصر الفن الأخرى لرسم القصة رسماً بديعاً.
dah_tah@yahoo.fr


الذائقة العربية والإيجاز


أفق
الذائقة العربية والإيجاز
آخر تحديث:الأربعاء ,25/05/2011
محمد ولد محمد سالم
في حديث للكاتب فرحان بلبل عن تجربته في الكتابة للمسرح على هامش “ملتقى الشارقة لكتّاب المسرح” الذي نظمته دائرة الثقافة والإعلام الأسبوع الماضي، شدد بلبل على ضرورة أن يراعي الكاتب المسرحي الذائقة الجمالية العربية سواء في ما ينشئه من مسرحيات أو ما يعده عن مسرحيات عالمية، وذكر أن من أخص خصائص الذائقة العربية الميل إلى “الإيجاز” يستوي في ذلك الخطاب الفصيح والعامي، على عكس ما هو شائع من أن العرب أهل ثرثرة ومطولات خطابية .
هذا الرأي وإن كان يخالف ما هو شائع في كثير من الأوساط الثقافية والسياسية العربية اليوم إلا أنه لا يختلف عليه اثنان من علماء البلاغة العربية ودارسيها وكتاب العربية الكبار قديماً وحديثاً، وقد شاع قولهم “البلاغة الإيجاز”، وعرّفوا الإيجاز بأنه علم كثير في قول يسير، وكان أبو هلال العسكري يقول إن “الإيجاز هو قصور البلاغة على الحقيقة، وما تجاوز مقدار الحاجة فهو فضل (أي زيادة)” .
يمتلئ التراث البلاغي العربي في كل عصوره المختلفة بتعاريف من هذا القبيل وتفصيل كثير لأنواع الإيجاز وطرائقه، وبأمثلة رائعة في استخدام القليل من الكلام للدلالة على الكثير من المعاني، ويتساءل المرء من أين جاء اتهام العرب بأنهم أمة الخطب الجُوف؟ وأنهم لا ينتجون غير الثرثرة والكلام؟
لو فحصنا التاريخ الثقافي العربي الحديث لوجدنا أن هذه الوصمة لم تظهر إلا في منتصف القرن العشرين، وبالتحديد بعد النكسة، وظهور ما عرف ثقافياً بالخطاب الذي انكفأ على ذات الأمة يهجوها، ويقرعها في كل شيء، كأنه انتقام غاضب أو تفريج عن كرب الهزيمة التي كسرت الأحلام ووأدت التوق إلى النهوض والانتصار على العدو، وصاحب الأفق النفسي ذلك بتجذر أنظمة استبدادية في كثير من الأقطار العربية، اتخذت من الخطب الطوال والوعود الجُوف وسيلة لتخدير الجماهير، وصوتاً عالياً كرست له كل وسائل إعلامها وترسانات دعايتها ليطغى على كل خطاب مخالف، فتشبعت آذان الشعب بتلك المنسوجات الكلامية الفارغة المملة وسئمها حتى الغثيان، وكنتيجة لذلك ارتبطت الخطب واللغة المنمقة والكلام المزين في أذهان الناس بهذا الكذب السياسي، وانسحب في مخيلتهم على الأدب والخطاب الثقافي برمته، وزاد عليه انخراط طائفة من المثقفين والأدباء في لعبة غش الجماهير والكذب عليها .
نستطيع القول مطمئنين إن الذائقة العربية على مر الزمن والأدب العربي في تاريخه كله برئ من تهمة الثرثرة والخطاب الأجوف براءة الذئب من دم يوسف، وأنه مال دائماً إلى الاختصار والإشارة والتلميح والالتقاطة السريعة، وأن نشأة هذه التهمة لا يعدو كونه ملابسة سياسية تاريخية، نطمع أن تزول بزوال أسبابها، وربما يكون في التغيرات الجارية في بعض أقطار الوطن العربي ما يبشر بظهور خطاب صادق، يقصد ما يقوله لفظا ودلالة، ولا يكذب على جمهوره، ما يمهّد لتصالح الجمهور مع الرسالة الموجهة إليه وثقته بها، ويرفع الالتباس عن نوعية الخطاب العربي الثقافي والأدبي .
dah_tah@yahoo.fr

الأديب وأصالة اللغة


أفق
الأديب وأصالة اللغة
آخر تحديث:الاثنين ,30/05/2011
ما يميز الأديب عن جميع أنواع الكتّاب الآخرين هو امتلاك ناصية اللغة مفردة وجملة وأسلوباً، وحذق الأساليب المختلفة لصياغة المعنى، ومعرفة المفردة على أصالتها، فالكلمة تتطور عبر تاريخها إلى معان كثيرة واصطلاحات متعددة، وتنزاح في الاستعمالات اليومية إلى استخدامات جديدة قد تخفي المعنى الأصلي .
وكلما أدرك الأديب المعنى الأصلي والتصاريف الفرعية للكلمة أو العبارة، أصبحت اللغة طوع قلمه يؤلفها كيف يشاء وينفض عنها شوائب الأيام وغبار الاستخدام اليومي، فيستلها كما تستل الشعرة من العجينة نقية صافية، يقرأها القارئ فيحس فيها بروح جديدة وهواء مختلف كأنما هي وليدة توها، فهي قريبة بعيدة، قريبة لأنها المفردة نفسها لم تتغير، وهي بعيدة لأنها رجعت إلى معناها الأصلي .
ذلك المعنى الذي لم يكن غائباً لكنّ غيمة كانت تحجبه، فاحتاج إلى يد مرهفة تزيح تلك الغيمة فتبدو اللؤلؤة ناصعة، ذلك هو السر في أن من يطالع اليوم كتاباً مثل “العقد الفريد لأحمد بن عبد ربه” سيجد عذوبة وتدفقاً في أسلوبه، وسيجد أيضاً جاذبية جميلة لمواصلة القراءة بشغف، على شاكلة هذا السرد الجميل في حكاية تميم بن جميل الذي “كان تغلّب على شاطئ الفرات، ثم غُلب، وأوفى به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة، فلما مثل بين يديه، دعا بالنطع والسيف، فأحضرا، فجعل تميم ينظر إليهما ولا يقول شيئاً، وجعل المعتصم يصعد النظر فيه ويصوبه، وكان جسيماً وسيماً، ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره” .
هكذا كتب جل الشعراء والأدباء الموهوبين في التاريخ، فكانوا حرّاس اللغة والأمناء على أصالتها، وكانوا أيضاً الصاغة الذين يجلون خبث المعدن النفيس فيعيدونه لمّاعاً، ويعد طه حسين من أحسن من يمثل هذا الاتجاه بتلك اللغة النقية الأصيلة التي يكتب بها، كما نصادفها في كتابات نجيب محفوظ أياً كانت مستوياتها حتى في السرد العادي الذي لا يكون عادة مظنة تلك اللغة لاختلاطه بتفاصيل الواقع والاستخدام اليومي، يقول في بداية رواية (قصر الشوق) “وقفت تترقب قيامه لتساعده على نزع ثيابه، وهي تنظر إليه باهتمام مشوب بقلق، وتود لو تؤاتيها شجاعتها فتسأله أن يعفي نفسه من الدأب على السهر الذي لم تعد تنهض به صحته، بالاستخفاف المعهود قديماً، ولكنها لم تدر كيف تفصح عن أفكارها الأسيفة ( . . .) هناك بدا جسمه كالعهد به طولاً وعرضاً وامتلاء لولا شعيرات اغتصبها الزمن من فوديه”، كم من الكلمات والعبارات في هذا النص سنجدها مستخدمة بدقة وأصالة، لتؤدي المعنى من غير تكلف ولا زيادة .
ويعد الشعراء أكثر الأدباء حذقاً بتلك اللغة وأجنحهم إليها لأن اشتغالهم على الكلمة والإحساس بفاعليتها وقوتها المطلقة المتحررة من عوالق الزمن الصدئة، فيحيلونها دوماً ناصعة جميلة، ويضمنون لها بذلك الخلود، وأن تبقى المعدن الذي لا ينضب لإمكانات استعمالية جديدة مع حفاظه على خامته।

الرابط:

فن البساطة المتقنة


سرد تلقائي متدفق
البساطة والحميمية في "مريم والحظ السعيد" لمريم الساعدي
آخر تحديث:السبت ,04/06/2011
الشارقة - محمد ولد محمد سالم:


1/1

تتقن الكاتبة الإماراتية مريم الساعدي في مجموعتها القصصية “مريم والحظ السعيد” فن البساطة من خلال سرد تلقائي متدفق، لا يبحث عن عقدة درامية أو رؤية كلية، بل يريد أن يستكشف معنى جميلاً أو سعادة صغيرة بمقدار صغر تفاصيل الحياة البسيطة والعادية التي تحياها هي ويحياها الناس من حولها، لا تريد أن تفلسف الأشياء أو تعقد أبنيتها السردية بقدر ما تسعى لاقتباس لحظة ضوء بيضاء صافية من غير تلوين أو تحوير، وبلغة عادية وقريبة لكنها ممتعة ومدهشة، رغم احتوائها في بعض الأحيان على أخطاء لكنها قليلة إذا ما قيست بالكتاب كله .
في نصها “جرادة وفنجان قهوة” ترصد مسار اللحظات في تلك الساعة التي جلست فيها الكاتبة أمام أوراقها ورائحة القهوة في الفنجان تسري بعذوبة في دماغها، تتأمل النجمة المتوهجة والقمر المتلألئ فوقها وعن قصد تستشعر أنهما هناك من أجلها لكي تشعر بالحب اتجاههما لأن “الإحساس بالحب تجاه الأشياء يساعدها على احتمال العالم”، ويجعلنا نحس بأن الكون يحبنا .
ويصبح ذلك الإحساس بمنزلة عملية الإحماء الضرورية التي تحفز قلم الكاتبة، عبر أسطر متلاحقة، ولا شيء سوى أسطر الكلام التي لا تكلف نفسها عناء البحث لها عن جدوى، وهنا ترتفع التلقائية من تسطير الكلام إلى رؤية للحياة، فالكاتبة تتساءل مستنكرة: ألا يجب أن نتوقف عن توقع الجدوى في كل شيء حتى تكون الحياة سهلة؟ إن السهولة كلمة السر التي تنتظم ذلك السرد، سهولة الكتابة وسهولة رؤية الحياة كشيء يحبنا ونحبه، وسهولة الضحك الصادر من أعماق تلك الخادمة التي تحوم حولها، وتضحك بسعادة من مراوغة جرادة لها رغم أنها مغتربة من سنتين بعيدة عن أهلها وبين ناس لا تفهمهم ولا يفهمونها، والسهولة هي التي تجعل الجرادة تطير وتحط قريباً من الكاتبة تلعب على أوراقها وعلى أصابعها، كأنها تبحث عن صداقة ما بين مخلوقات مهما كانت متباعدة فإن بساطة الحياة تجمعها، وحين تخطئ الجرادة وجهتها وتسقط في الفنجان تنتشلها الكاتبة بأن تسكبه فيسيل على أوراقها ماحياً كل ما كتبته لكن الجرادة تنتفض وتقف على كلمة “أحبك” كأنها تريد أن تحميها لتبقى تلك الكلمة عنواناً للحياة في أبسط معانيها ولعلاقة الناس والأشياء في أبسط تجلياتها .
وفي قصة “كوب شاي” تواصل الكاتبة الوتيرة السردية نفسها التي تركز على تفاصيل اللحظة في بساطتها وجماليتها، من دون عناء البحث لها عن حبكة قصصية، تكتفي بالوقوف عند تلك اللحظة وتأملها من خلال كوب الشاي الذي يعكس هنا شكلاً آخر من أشكال تلك البساطة، فشخصية القصة “أصيلة” اطمأنت أخيراً إلى أن مجالسة كوب الشاي ومحاورته خير من مجالسة الناس، فالإنسان قد يفكر في أشياء لا تؤدي بالضرورة إلا إلى مواقف سلبية من الآخر، أما كوب الشاي فهو صامت مصغٍ، ويمنحنا حديثاً خفياً كلما ارتشفنا منه، هو الحب الخفي الذي يصل إلى القلب وينزع القشور عن الحياة، يبدد الزيف الذي يغلف حياة وعلاقات الناس، والذي عرفته في علاقتها بصديقتها عبير وكثيرات أخريات، كوب الشاي صادق في ما يقدمه من شعور بالنشوة كأنه تلك الموسيقا التي سمعتها أول مرة منذ خمسة عشر عاماً وعرفت عمق تأثيرها من خلال البكاء الصامت لسائق التاكسي الذي أقلها من المطار إلى سكن الطالبات، وعلى مدى ثلاث ساعات وهو صامت خاشع لتلك الأغنية .
ما يؤرق أصيلة هو الإحساس بالأشياء على حقيقتها كما ينبغي، تريد أن ترى كل شيء صافياً من دون تزييف رغم انكساراتها واكتشافها للحقيقة المحبطة المتمثلة في أن الآمال الكبيرة تصغر كلما كبرنا، لكنها تصر على البحث عن ذلك الشيء الصافي الواضح رغم تخفيه وراء قشور الحياة، وتحاول أن تزيح كل الغيوم التي قد تحجبه، لذلك فهي تمتنع مراراً عن الرد على عبير التي يظهر اسمها مرات على شاشة هاتفها في اتصالات متكررة لأنها تعرف أنها مجرد شخص تافه لا يعرف للحياة عمقاً أو صفاء، وربما اختارت مريم الساعدي الاسمين “عبير وأصيلة” قصداً لأن العبير رائحة عابرة ومنتهية لكن أصيلة ثابتة وعميقة .
وفي قصة “العجوز” نحن أمام قصة قصيرة بإحكام، ولا يأتي الإحكام هنا من صرامة المبنى الحكائي، فالكاتبة لم تخالف قاعدتها في بساطة السرد وتلقائيته، لكنه يأتي من صدق اللحظة وعمق دلالتها على الخلل الكامن حيث ارتقى الرد بالحدث من كونه مجرد نهاية لعجوز أصبحت فجأة منبوذة ويترقب كل أبنائها نهايتها بأحر من الجمر إلى أن يكون مأساة حقبة زمنية بكاملها ومجتمع بكل تفاصيل حياته وقيمه وعلاقته الإنسانية، التقطت الساعدي تلك اللقطة ووظفتها بعناية واستغلت بشكل متقن الطاقة الرمزية، فالعجوز وعباءتها المرقعة وصندوقها وكسرة الخبز والحليب المجفف والحرارة الشديدة ورائحة “الشيبة” وزوجها الذي توفي، رموز ذلك الزمن الماضي المنبوذ، والأبناء ووظائفهم الكبيرة وأبناؤهم ومدارس أبنائهم وزوجاتهم ومنازلهم الكبيرة الباردة رموز الزمن الحاضر الذي يؤسس أبهته على المظاهر المادية الزائفة الخالية من أي معنى إنساني، فالابن الذي يدرس في الخارج يعود لحضور العزاء في أمه لأن “الناس ستأكل وجوهنا إن لم يأت” .
نموذج آخر لتلك التلقائية والبساطة المتقنة تقدمه في نصها “فائزة وزينات وسلوى” مدرساتها المصريات اللواتي كن نموذجاً في التفاني والبساطة والاحترام والبساطة الأنيقة، يعملن بجد من غير ضجيج ولا إثارة ويفرضن احترامهن على طالبات الفصل من غير تكلف ولا عنف، وكأنهن لم يأتين من ذلك البلد الكبير المملوء بالناس والفقر الذي تصور المسلسلات نساءه على أنهن “متسلطات مفتريات مبهرجات”، هذا النموذج من النساء المتعلمات المحترمات الشامخات دوماً، هو ما ستكتشف الكاتبة بعد تقلبات الزمن واختبار الحياة وعوالم البشر المختلفة أنه النموذج الصحيح بل هو الكنز و”نكتشف كلما طالت الرحلة وانقطع النفس من اللهاث أن الكنز كان دوماً هناك، أمام البصر، وأنه لا شيء أبداً يضاهي بريق الأيام الماضيات” .
النص الذي حملت المجموعة عنوانه “مريم والحظ السعيد” هو نص سردي لا يسعى إلى تقديم حكاية بقدر ما يلتقط لحظة حوار مقتضب بين “مريم” الطالبة المغتربة و”سارة” الفتاة البريطانية التي علقت على اسمها “مريم” بأنه يجلب السعادة، لكن مريم تشك في ذلك، وتقترح بأن يتبادلا اسميهما، في إيحاء بأن الحظ السعيد خرافة و”أن الأشياء تكون كما تريد لا كما نريد نحن” .
لا تتوقف النماذج عند هذا الحد، فكل نص من نصوص المجموعة الخمسة والعشرين هو نموذج لتلك الكتابة العامرة بالصدق والحميمية، المتخففة من زوائد الأحداث واللغة، الباحث عن الجمال العادي والقريب من دون فائض حزن أو سعادة، في ما يمكن تسميته البساطة المتقنة