بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 14 يونيو 2011

الذائقة العربية والإيجاز


أفق
الذائقة العربية والإيجاز
آخر تحديث:الأربعاء ,25/05/2011
محمد ولد محمد سالم
في حديث للكاتب فرحان بلبل عن تجربته في الكتابة للمسرح على هامش “ملتقى الشارقة لكتّاب المسرح” الذي نظمته دائرة الثقافة والإعلام الأسبوع الماضي، شدد بلبل على ضرورة أن يراعي الكاتب المسرحي الذائقة الجمالية العربية سواء في ما ينشئه من مسرحيات أو ما يعده عن مسرحيات عالمية، وذكر أن من أخص خصائص الذائقة العربية الميل إلى “الإيجاز” يستوي في ذلك الخطاب الفصيح والعامي، على عكس ما هو شائع من أن العرب أهل ثرثرة ومطولات خطابية .
هذا الرأي وإن كان يخالف ما هو شائع في كثير من الأوساط الثقافية والسياسية العربية اليوم إلا أنه لا يختلف عليه اثنان من علماء البلاغة العربية ودارسيها وكتاب العربية الكبار قديماً وحديثاً، وقد شاع قولهم “البلاغة الإيجاز”، وعرّفوا الإيجاز بأنه علم كثير في قول يسير، وكان أبو هلال العسكري يقول إن “الإيجاز هو قصور البلاغة على الحقيقة، وما تجاوز مقدار الحاجة فهو فضل (أي زيادة)” .
يمتلئ التراث البلاغي العربي في كل عصوره المختلفة بتعاريف من هذا القبيل وتفصيل كثير لأنواع الإيجاز وطرائقه، وبأمثلة رائعة في استخدام القليل من الكلام للدلالة على الكثير من المعاني، ويتساءل المرء من أين جاء اتهام العرب بأنهم أمة الخطب الجُوف؟ وأنهم لا ينتجون غير الثرثرة والكلام؟
لو فحصنا التاريخ الثقافي العربي الحديث لوجدنا أن هذه الوصمة لم تظهر إلا في منتصف القرن العشرين، وبالتحديد بعد النكسة، وظهور ما عرف ثقافياً بالخطاب الذي انكفأ على ذات الأمة يهجوها، ويقرعها في كل شيء، كأنه انتقام غاضب أو تفريج عن كرب الهزيمة التي كسرت الأحلام ووأدت التوق إلى النهوض والانتصار على العدو، وصاحب الأفق النفسي ذلك بتجذر أنظمة استبدادية في كثير من الأقطار العربية، اتخذت من الخطب الطوال والوعود الجُوف وسيلة لتخدير الجماهير، وصوتاً عالياً كرست له كل وسائل إعلامها وترسانات دعايتها ليطغى على كل خطاب مخالف، فتشبعت آذان الشعب بتلك المنسوجات الكلامية الفارغة المملة وسئمها حتى الغثيان، وكنتيجة لذلك ارتبطت الخطب واللغة المنمقة والكلام المزين في أذهان الناس بهذا الكذب السياسي، وانسحب في مخيلتهم على الأدب والخطاب الثقافي برمته، وزاد عليه انخراط طائفة من المثقفين والأدباء في لعبة غش الجماهير والكذب عليها .
نستطيع القول مطمئنين إن الذائقة العربية على مر الزمن والأدب العربي في تاريخه كله برئ من تهمة الثرثرة والخطاب الأجوف براءة الذئب من دم يوسف، وأنه مال دائماً إلى الاختصار والإشارة والتلميح والالتقاطة السريعة، وأن نشأة هذه التهمة لا يعدو كونه ملابسة سياسية تاريخية، نطمع أن تزول بزوال أسبابها، وربما يكون في التغيرات الجارية في بعض أقطار الوطن العربي ما يبشر بظهور خطاب صادق، يقصد ما يقوله لفظا ودلالة، ولا يكذب على جمهوره، ما يمهّد لتصالح الجمهور مع الرسالة الموجهة إليه وثقته بها، ويرفع الالتباس عن نوعية الخطاب العربي الثقافي والأدبي .
dah_tah@yahoo.fr

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق