أفق
شعرنة الواقع
آخر تحديث:الجمعة ,06/05/2011
محمد ولد محمد سالم
الخيال أو التخييل أو الصورة مصطلحات لمسمى نقدي واحد هو التمثيل الذي يصطنعه الشاعر لتقريب المعنى الذي يريده أو التلميح له، وهو أساس الشعر لأنه هو الذي يعطي للكلمة صفاءها وحرارتها وفاعليتها، ويفرض على الشاعر معجمه التعبيري، وهو الذي يعطي للجمل توتراتها، وللأسلوب تناسقه وانسيابيته، ومن دون الخيال يسقط الشعر في النثرية الباردة والتقريرية الفجة، لكن من أين يستقي الشاعر اليوم مادة خياله، من أين يأتي بصوره؟
لو رجعنا إلى الشعر العربي القديم نجد أن مادة الصورة الشعرية كانت تستقى من البيئة التي يعيش فيها الشاعر، وكان الشعراء يتمتعون بحس خيالي ذكي، فكل شيء قابل لأن يكون مشبها أو مشبها به، وهو الأصل الأول للصورة بما هي تمثيل، فمن التشبيه جاءت الاستعارة قديما والرمز حديثا، وقد أبدع شعراء الجاهلية في تحويل تلك البيئة إلى خيال رائع حمل بعمق ما جاشت به أنفسهم من معانٍ، وكان امرؤ القيس من أغزر الشعراء وأبدعهم صورا، وما من شاعر معدود في طبقات فحول الشعراء في الجاهلية والعصور الإسلامية إلا كانت له صوره الخاصة وخياله الخلاق، وقدرته على تحويل أشياء بيئته إلى سلسلة من الصور .
عندما بدأت النهضة العربية الحديثة انتهج الشعر الإحيائي إبداع الصورة القديمة، لكنّ تلك المدرسة وصلت إلى طريق مسدود لأن مادة الصور عند شعرائها كانت تستقى من بيئة تراثية لم يعد الشاعر يعيشها إلا من خلال ثقافته الشعرية، ولا توجد تلك الأشياء التي يصنع منها صوره في واقعه، وقد استطاعت حركة الشعر الحديث الخروج من ذلك المأزق باتخاذ الرمز الأسطوري والتاريخي مادة للصورة الشعرية، والانتقال بها من جزئية الصورة الجاهلية إلى صورة كلية ناظمة للقصيدة بكاملها، لكن بعد انقشاع الغبار ظهر أن الكثير سقطوا في الغموض باتباع رموز أسطورية غربية وإغريقية لا علاقة لها بالعرب ولا بثقافتهم، وفي كثير من الأحيان سقطوا في تقليد شعراء الحداثة الغربية، ولم يسلم من ذلك إلا قليل، وتبعت ذلك مرحلة تاه فيها الشعراء ولم يعرفوا كيف، ولا من أين يستقون مادة خيالهم فاصطنع كثير منهم اللعب بالكلمات والمتناقضات اللفظية، وركوب الغموض واللامعنى للاختفاء وراء العجز عن التفكير في تشكيلات الواقع الذي يحيونه واختراع صورة أصيلة من تلك التشكيلات .
إلى متى يظل الشاعر العربي تائهاً عن واقعه، عن تشكيل الصورة من أشياء حياته اليومية، ومن ملايين الأشكال والألوان التي تعبر أمام عينيه، وتزدحم في ذهنه؟ كيف يمد الصلة بينه وبين الواقع ومن ثم بينه وبين المتلقي باعتبار أن تجربة الواقع تجربة مشتركة بين الاثنين وصورها قادرة على حمل المعنى بينهما؟ وهل العجز هو في خيال الشاعر أم في مخزونه اللغوي الذي قد لا يجد فيه المفردة المناسبة؟
رغم كل التنظيرات حول الشعر ورغم كل التيارات التي تصطرع فيه، لا يمكنه أن يعيش في منأى عن حياة كاتبه، ولا يمكنه أن يكون عظيما ما لم يستطع شعرنة ذلك الواقع .
dah_tah@yahoo.fr
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق