أفق
الأديب وأصالة اللغة
آخر تحديث:الاثنين ,30/05/2011
ما يميز الأديب عن جميع أنواع الكتّاب الآخرين هو امتلاك ناصية اللغة مفردة وجملة وأسلوباً، وحذق الأساليب المختلفة لصياغة المعنى، ومعرفة المفردة على أصالتها، فالكلمة تتطور عبر تاريخها إلى معان كثيرة واصطلاحات متعددة، وتنزاح في الاستعمالات اليومية إلى استخدامات جديدة قد تخفي المعنى الأصلي .
وكلما أدرك الأديب المعنى الأصلي والتصاريف الفرعية للكلمة أو العبارة، أصبحت اللغة طوع قلمه يؤلفها كيف يشاء وينفض عنها شوائب الأيام وغبار الاستخدام اليومي، فيستلها كما تستل الشعرة من العجينة نقية صافية، يقرأها القارئ فيحس فيها بروح جديدة وهواء مختلف كأنما هي وليدة توها، فهي قريبة بعيدة، قريبة لأنها المفردة نفسها لم تتغير، وهي بعيدة لأنها رجعت إلى معناها الأصلي .
ذلك المعنى الذي لم يكن غائباً لكنّ غيمة كانت تحجبه، فاحتاج إلى يد مرهفة تزيح تلك الغيمة فتبدو اللؤلؤة ناصعة، ذلك هو السر في أن من يطالع اليوم كتاباً مثل “العقد الفريد لأحمد بن عبد ربه” سيجد عذوبة وتدفقاً في أسلوبه، وسيجد أيضاً جاذبية جميلة لمواصلة القراءة بشغف، على شاكلة هذا السرد الجميل في حكاية تميم بن جميل الذي “كان تغلّب على شاطئ الفرات، ثم غُلب، وأوفى به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة، فلما مثل بين يديه، دعا بالنطع والسيف، فأحضرا، فجعل تميم ينظر إليهما ولا يقول شيئاً، وجعل المعتصم يصعد النظر فيه ويصوبه، وكان جسيماً وسيماً، ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره” .
هكذا كتب جل الشعراء والأدباء الموهوبين في التاريخ، فكانوا حرّاس اللغة والأمناء على أصالتها، وكانوا أيضاً الصاغة الذين يجلون خبث المعدن النفيس فيعيدونه لمّاعاً، ويعد طه حسين من أحسن من يمثل هذا الاتجاه بتلك اللغة النقية الأصيلة التي يكتب بها، كما نصادفها في كتابات نجيب محفوظ أياً كانت مستوياتها حتى في السرد العادي الذي لا يكون عادة مظنة تلك اللغة لاختلاطه بتفاصيل الواقع والاستخدام اليومي، يقول في بداية رواية (قصر الشوق) “وقفت تترقب قيامه لتساعده على نزع ثيابه، وهي تنظر إليه باهتمام مشوب بقلق، وتود لو تؤاتيها شجاعتها فتسأله أن يعفي نفسه من الدأب على السهر الذي لم تعد تنهض به صحته، بالاستخفاف المعهود قديماً، ولكنها لم تدر كيف تفصح عن أفكارها الأسيفة ( . . .) هناك بدا جسمه كالعهد به طولاً وعرضاً وامتلاء لولا شعيرات اغتصبها الزمن من فوديه”، كم من الكلمات والعبارات في هذا النص سنجدها مستخدمة بدقة وأصالة، لتؤدي المعنى من غير تكلف ولا زيادة .
ويعد الشعراء أكثر الأدباء حذقاً بتلك اللغة وأجنحهم إليها لأن اشتغالهم على الكلمة والإحساس بفاعليتها وقوتها المطلقة المتحررة من عوالق الزمن الصدئة، فيحيلونها دوماً ناصعة جميلة، ويضمنون لها بذلك الخلود، وأن تبقى المعدن الذي لا ينضب لإمكانات استعمالية جديدة مع حفاظه على خامته।
الرابط:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق