الذكرى الثالثة لرحيل نجيب محفوظ
"الحارة" بوصفها بنية روائية
آخر تحديث:السبت ,03/10/2009
محمد ولد محمد سالم
1/1
صادف يوم الأربعاء 30 سبتمبر الذكرى الثالثة لوفاة الروائي المصري نجيب محفوظ صاحب جائزة نوبل للآداب والأب الملهم لكثير من الروائيين العرب، ويتحدث جمال الغيطاني عن ذلك قائلاً: كان قريباً من جيلي والأجيال الأخرى، لم يتعال على أحد ولم يصرح بأن هذا الجيل أو ذلك لا يساوي شيئاً، ولم يقع في ما وقع فيه آخرون ما زلنا نكن لهم بعض الاحترام على الرغم من “هيافتهم” في آخر العمر ورعونتهم وتفسيري لذلك بسيط أن نجيب محفوظ مازال قادراً على العطاء، وانه قبل ذلك كله فنان كبير والأديب العظيم الموهبة الخصب المعطاء لا يشعر بالغيرة ولا تراوده الصغائر.
هذا هو نجيب محفوظ كما رآه كل من عرفه وصحبه أو جالسه في مقهى الفيشاوي أو كازينو الأوبرا أو قهوة سيفنكس أو مقهى ريش أو مقهى عرابي.. تلك المقاهي التي شهدت جلساته إلى أصدقائه ومحبيه من ابناء الأجيال الأدبية التي جاءت بعده، وكان يطبعها هو بطبعه الميال للدعابة الذكي المنفتح المصغي للآخرين، الحريص على ألا يجرح شعور أحد، الدقيق في ملاحظته حين يتعلق الأمر بتوجيه الكتاب الشباب، شخصية نادرة تسرب شيء من ملامحها إلى شخصيات مريديه من الروائيين الذين جاءوا بعده، كما تسرب شيء من أسلوبه الروائي إلى أساليبهم، فكان مدرسة قائمة بذاتها، وكذلك يكون الكبار دائماً.
من قسم الفلسفة في الجامعة إلى الوظيفة والأدب بعدما حسم الصراع بين دراسة الفلسفة وإبداع الأدب، ليبدأ مرحلة من الاجتهاد جعلت أباه يشفق عليه وهو يراه يسهر الليالي يقرأ بنهم لا يشبع صاحبه، فكان يسأله هل تنوي أن تتقدم للماجستير فيجيب الشاب المنهمك، لا، لقد كان يسابق الزمن ليعمق معرفته بالأدب الذي استحكم حبه في نفسه، وفاته أن يتخصص فيه في الجامعة، وقد ألزم نفسه بنظام يومي صارم للقراءة والكتابة والخروج جعل فيه لكل شيء وقتاً محدداً دقيقاً.
ابتداء من سنة 1934 بدأ بنشر قصصه القصيرة في مجلة “الرسالة” وفي 1939 نشر روايته الأولى “عبث الأقدار” ثم أتبعها ب”كفاح طيبة” و”رادوبيس” وهي الروايات التي استلهم فيها التاريخ الفرعوني، وكانت رواية القاهرة الجديدة 1945 بداية الاتجاه الواقعي الذي كتب فيه نجيب أجمل رواياته واتبعها ب”خان الخليلي” و”زقاق المدق” وبلغ ذروة الإبداع في هذه المرحلة في ثلاثيته الشهيرة “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية” سنة 1956. ثم انتقل بعد هذه الفترة إلى مرحلة رمزية كتب فيها “أولاد حارتنا” “اللص والكلاب” “السمان والخريف” و”الشحاذ” و”ثرثرة فوق النيل” و”ملحمة الحرافيش”.
نقل نجيب محفوظ في أعماله حياة الحارة المصرية بما فيها من بساطة وعمق وانسجام وتناقض وظاهر وخفي وجميل وقبيح فكانت رواياته بذلك سجلاً تاريخياً لحياة مصر القاهرة في القرن العشرين.. يقول محفوظ متحدثاً عن ذلك “لقد انعكست هذه المنطقة في أعمالي حتى عندما انتقلت بعد ذلك إلى معالجة موضوعات ذات طبيعة فكرية أو رمزية عدت أيضاً إلى عالم الحارة، إن ما يحركني حقيقة هو عالم الحارة، البعض يقع اختيارهم على مكان واقعي أو خيالي أو فترة من التاريخ، لكن عالمي الأثير هو عالم الحارة، أصبحت الحارة خلفية لمعظم أعمالي، حتى أعيش في المنطقة التي أحبها، لماذا تدور الحرافيش في الحارة؟ كان من الممكن أن تجري الأحداث في منطقة أخرى، في مكان آخر له طبيعة مغايرة إنما اختيار الحارة هنا لأنه عندما تكتب عملاً روائياً طويلاً، فإنك تحرص على اختيار البيئة التي تحبها وترتاح إليها حتى تصبح “القعدة حلوة”.
وعبر هذا الحفر الدؤوب في تلك الدروب الضيقة في الأزقة الملتوية في أحياء القاهرة، والوصف المتفنن لناسها وأحداثها استطاع أن يعمق فهمنا للإنسان وإحساسنا بندوب الزمن عليه، ووعينا بصيرورة التاريخ، ويثري التجربة الإنسانية بإضافات قيمة، وقد عمل دائماً على الموازاة بين التقنية التي يكتب بها رواياته والانشغالات المجتمعية والفلسفية.
يقول في هذا الصدد “حين كنت مشغولاً بالحياة ودلالتها كان أنسب اسلوب لي هو الأسلوب الواقعي الذي قدمت به أعمالي لسنوات طويلة، كانت التفاصيل سواء في البيئة أم الاشخاص أم الأحداث على قدر كبير من الأهمية، أما حين بدأت الافكار والإحساس بها يشغلني لم تعد البيئة هنا، ولا الأشخاص ولا الأحداث مطلوبة لذاتها، الشخصية صارت أقرب إلى النموذج أو الرمز، والبيئة لم تعد تعرض بتفاصيلها، بل صارت أشبه بالديكور الحديث، والأحداث يعتمد في اختيارها على بلورة الأفكار الرئيسية”.
تعود موهبة نجيب محفوظ في الكتابة إلى المرحلة الابتدائية حيث كان معلموه يشيدون بها ويشجعونه عليها، ولكنه حين بدأ نشر قصصه القصيرة في الصحف المصرية لم ينتبه له أحد إلا بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات، ومن يومها لم تجف الأقلام من دراسة أدبه، فلقي من الاهتمام والدراسة ما لم يلقه غيره من أدباء العربية لا قديماً ولا حديثاً، وكان حصوله على جائزة نوبل سنة 1988 تتويجاً منطقياً لمسيرة نيفت يومها على خمسين سنة من العطاء المتواصل والإبداع المتجدد، والاجتهاد الذي لا يكل، مسيرة أسست للرواية العربية حيث لم يكن لها قبله وجود يذكر، اللهم إلا إذا استثنينا أعمالاً قليلة متناثرة كتبها أصحابها على هامش اهتماماتهم كما فعل توفيق الحكيم والعقاد ومحمد حسين هيكل وغيرهم، ولم يكن ذلك من باب الاحتراف، ولم يكن للأدب القصصي يومها ذلك الاهتمام الذي كان للشعر والفكر، ولم يقف عند هذه المرحلة فقط، بل تعداها إلى تعبيد الطريق وشق مسالك الرواية العربية بإنتاجه الغزير الذي شمل كل أنواع الرواية بدءاً بالتاريخية ثم الواقعية ثم النفسية والرمزية والرواية الجديدة، وتجاوز ذلك إلى حد الاتقان والإبداع، فكأنه كان مؤسسة الرواية العربية التي حفرت لها موقعاً متقدماً بين أجناس الأدب العربي وأعطتها هذه الصدارة التي ينعم بها أجيال من الروائيين العرب.