بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 أكتوبر 2009

لمن تقرأ؟


أفق
لمن تقرأ؟
آخر تحديث:الجمعة ,02/10/2009
محمد ولد محمد سالم
في الحوارات التي تجريها وسائل الإعلام مع بعض الأدباء الشباب المبتدئين لفت انتباهي أن الكثير منهم حين يُسأل عن الأدباء الذين تأثر بهم أو قرأ لهم، يرد بأنه لم يتأثر بأي أديب، بل ولم يقرأ لأحد، فمن أين يا ترى تكونت لهذا “الأديب” الدراية والدربة اللازمتان للإبداع، أين هؤلاء الكتّاب من الأديب الكبير عباس محمود العقاد الذي جاء إلى القاهرة قادما من أسوان وهو شاب ريفي لم يأخذ من العلم سوى ما تعلمه في الكتاتيب، وقد عقد العزم على أن يثقف نفسه، فأخذ يقرأ بجهد لا يكل وعلّم نفسه اللغة الإنجليزية حتى أتقنها، وحتى صار من أبرز كتّاب ومفكري العرب في النصف الأول من القرن العشرين، وأين هم من عميد الأدب العربي طه حسين ذلك الضرير حتى كان أول من درّس الأدب والفكر اليوناني وتخصص فيهما في احدى الجامعات المصرية، وهو مجدد النقد العربي الحديث بلا منازع، وأين هم من توفيق الحكيم الذي كان يترك مقعده في كلية القانون وينصرف لمطالعة كتب الأدب، ويغوص في مكتبات باريس ملتهما ما تقع عليه عيناه من كتب لكبار الأدباء وكتاب المسرح، ورجع من ذلك بثقافة عميقة أهلته لأن يكون رائد الأدب المسرحي، والذي كتب مئات المحاولات المسرحية ومزقها قبل أن يخرج للناس أولى تجاربه مكتملة رصينة، وأين هم من نجيب محفوظ الذي كان يتبع نظاما صارما في المطالعة يجعله يقرأ مئات الصفحات يوميا من دون فتور، وحصد ذلك في إبداعا روائيا هو اليوم نبراس لكل كتاب الرواية.
قصص الأدباء مع المطالعة لا تنتهي، وفيها من مظاهر المثابرة والجد ما يستحق أن يوقف عنده، والمطلع على إبداعاتهم وما وصلوا إليه يدرك أنهم لم يصلوا إليه بالنوم والتمني، ولا بمنتديات الدردشة الالكترونية، ولم يصلوا إليه بمجرد أن كبت الواحد منهم ما يظنه شعرا أو رواية ثم طبعها ونشرها. لقد أنفقوا أجمل أيام أعمارهم في ذلك وأعطوا حرفتهم ربما أكثر مما أعطتهم، فاستحقوا بذلك ما وصلوا إليه من تجديد وسمو في تاريخ الأدب.
من سنن الإبداع أنه لا يأتي من فراغ، فتاريخ الإبداع الإنساني هو تاريخ تراكم الخبرات البشرية، يبنى اللاحق منه على السابق، فيضيف إليه أو يتجاوزه، ولذلك يحتاج كل مبتدئ في الأدب إلى أن يستوعب أسرار هذه الصنعة، ويمتلك أدواتها الفنية، ويهضم طرق الكتابة فيها، بالقراءة المستفيضة للأعلام الذين تركوا بصمات متميزة على مر العصور، وذلك قبل أن يباشر الإبداع.
dah_tah@yahoo.fr

القصة القصيرة حجزت مقعدها في الأدب الإماراتي


حجزت مقعدها في الأدب الإماراتي
القصة القصيرة تجاوزت مرحلة التأسيس إلى مرحلة الإبداع
آخر تحديث:السبت ,17/10/2009
محمد ولد محمد سالم


1/1

أصدرت وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع كتابا بعنوان “مبدعون من الإمارات القصة القصيرة” وهو مدونة للقصة القصيرة ضمت 126 نصا لواحد وسبعين قاصا من الإمارات، وتوزعت القصص على حقب زمنية مختلفة فكان منها القديم والحديث وما بينهما، كما تفاوت الكتّاب بين الجيل القديم والمتوسط والجيل الحالي، وتنوعت اتجاهاتهم الفكرية وخياراتهم الفنية، ويسمح كل ذلك بتقديم رؤية تقريبية لواقع واتجاهات القصة القصيرة في الإمارات على مدى يقارب 40 سنة من عمرها حيث بدأت بواكير هذا اللون الأدبي في الظهور منذ عام 1970 وتولى الريادة فيه مجموعة من الكتاب استظلوا بمعطف نيكولاي غوغول وحملوا على أكتافهم مهمة ترسيخ هذا الجنس في نسيج الثقافة الإماراتية بعدما كان محمود تيمور ويحيى حقي ويوسف إدريس قد رسخوه في الثقافة العربية، وجعلوه أسلوبا من أساليب القول الجميل فيها، وسيكون عقد الثمانينات عقد الازدهار الحقيقي لهذا الفن في الإمارات بما توافر فيه من نتاج كبير، وبالاهتمام المتزايد الذي أصبح المتأدبون يولونه له، وهو الاهتمام الذي مازال متواصلا إلى اليوم.
يمكن بنظرة عجلى تصنيف الاتجاهات الفنية في كتاب “مبدعون من الإمارات - القصة القصيرة” إلى أربع اتجاهات:
أولا: الاتجاه الواقعي: هذا الاتجاه يعتمد الوصف والتسلسل الزمني في تقديم الأحداث ويطابق بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي ويمثل لهذا الاتجاه بقصة أسماء الزرعوني “دهشة المطارات” حيث تلتقط الكاتبة حكاية الرجل يهرب بطفليه من بلد أمهما إلى بلده بعد أن فشل زواجهما ولم يأمن بقاءهما بعيدا عنه، وتحكي القاصة وقائع إجراءات سفر الرجل بولديه في المطار بتسلسل واضح، وفي الاتجاه نفسه ترصد أسماء الكتبي في “دود وأمي” قصص الحيوانات وعلاقة المجتمع الشرقي بها، وتلتقط في “سناكر” بتسلسل سردي متدفق يوميات شاب يستخدم جهاز سناكر ليتنصت على أحاديث العاشقين التليفونية، ورغم أنها استخدمت التداعي لجعل ذلك الشاب يلوم نفسه على ما يقوم به ويستغفر منه وليعبر عن رؤيته لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات من نزاهة وعفة، إلا أن ذلك لم يخرج بالكاتبة عن إطار السرد التقليدي التسلسي، بل شكل وظيفة إضاءة الحدث، وعلى غرارها تتناول حسنة الحوسني في قصة “إلى هذه الدرجة من الإعياء” موضوع الحب المراهق وإغواء الفتاة البريئة. وبالسردية نفسها يخرج إبراهيم مبارك في قصته “ضجر طائر الليل” من السياق الاجتماعي إلى قضية وطنية يتخذ فيها من الصقر الهائج المحلق في قاعة الفندق رمزا للوطن الذي حاصرته أطماع كثيرة وأنماط من حياة فاسدة دخيلة، ولا بد أن يأتي اليوم الذي تتلاشى فيه تلك الحياة ليعود الوطن حرا طليقا في فضائه الأصيل الواسع. ويقدم “عصفور الثلج” تداعيات حزينة لشاب مهاجر في أرض الثلج البعيدة. ويبلغ هذا الاتجاه ذروته مع ابتسام المعلا في “قرار” وبتقنية سردية تقليدية عالية مزجت بين التفاصيل الدقيقة والحركات الدالة والحوارات المشحونة مع استخدام التأثير النفسي للزمان والمكان لصياغة نص محكم حول أزمة كيف تسد الطريق في مجتمع شرقي محافظ أمام الشاب العائد من الغرب بزوجته الأوروبية فيضطر تحت ضغط الواقع إلى طلاقها حفاظا على مكانته في المجتمع. وبالتقنية السردية العالية نفسها ترصد الكاتبة أيضا في “فصول العري” شعور الزوجة الشابة المخلصة وهي تحاول أن تقاوم إغراء والدتها لها بترك زوجها الذي أعيق فأصبح مقعدا لا يقدر على شيء. والنماذج في هذا الباب كثيرة، بل يمكن القول باطمئنان إن هذا الاتجاه هو الغالب على الكتاب.
ثانيا: اتجاه التداعي الحر: يكسر هذا الاتجاه منطق الزمن ويترك للوعي الداخلي حريته في التداعي، ونجد ذلك في الحب المراهق البريء في “خمس دقائق” حيث تتداعى الذكريات إلى ذلك الشاب وهو جالس في قهوة ينتظر حبيبته التي لن تأتي، وفي “هياج” تستقصي أمينة بوشهاب بتقنية سردية عالية التداعيات النفسية لزوجة حائرة في غموض زوجها وما يشاع عنه من أن له زوجة ثانية، وعجزها هي عن مواجهته بذلك خشية أن تفقد العز الذي وضعها فيه، بعدما أخذها من حي الصيادين الفقير. وفي “مساء يحلو فيه الموت” تنقل باسمة يونس بتقنية سردية جميلة تتوسل بالحلم والذكرى والغرائبية تداعيات فتاة على وشك وضع جنين حملته من عشيقها، وفي لحظة بوح أليمة أمام قبر أمها القتيلة يعترف لها أبوها بأنها هي نفسها كانت بنت لحظة من تلك اللحظات الرومانسية القاتلة، فتتألم وتتمنى لو أن ذلك الجنين يكون سقطا ويموت في بطنها قبل أن يأتي إلى الدنيا حاملا تعاسته معه، وفي السياق نفسه يقدم خالد الجابري في “ولامست كفي النجوم” تداعيات شخصية الصديق ويعاين مأساة صديقه الذي أحاله حادث سيارة السباق التي كان يركبها إلى فاقد للعقل ورجع مخبولا يلاعب الصبيان في الطرقات. وفي الاتجاه نفسه يسير سلطان الزعابي في “بوق دمر أحلامي” وصالح كرامة في “سهرة مع الأرق”، ولا يمكن في هذا الاتجاه إغفال عمل مريم المري “كلما تسلقت السماء” حيث رسمت بشكل رمزي بعيد عن التقريرية أحلام وهواجس صبي وحيد لأبوين منشغلين عنه، وقد وجد نفسه حبيس جدران البيت الجديد الجميل ذي الأسوار العالية التي تحجب عنه العالم الخارجي فلا يجد أصدقاء يأنس بهم، فيتحول إلى الوهم ليستحضر خيال صبية جميلة يلعب معها في الحديقة في عز الظهيرة. أما فاطمة المزروعي في قصة “فن الاختباء” فقد بلغت قمة الإتقان لصنعة السرد القصصي من خلال المزج بين تداعيات الذكريات وآلام الواقع، المزج بين ذكريات لعبة الاختباء الطفولي البريء وتضييع الولد والبنت بعضهما لبعض وواقع تضييع الحبيب لحبيبته بعدما صار رجلا وآن أن يأخذها إليه، وقد استخدمت الكاتبة كل تقنيات السرد من وصف ومونولوج وحوار وحلم وغير ذلك مع اكتناز وشاعرية في اللغة ووضوح وإحكام في الحبكة.
ثالثا: الاتجاه التجربي: لا تقدم الأحداث من منظور واضح والشخصيات باهتة غير قارة الملامح والمنظور القصصي مفتوح على قراءات متعددة: وأول ما يحضرفي هذا السياق هو قصة المرحوم جمعة الفيروز “مسافة أنت العشق الأولى” التي تصف حالة حب غامرة تنسكب على تاريخ من المعاناة واليأس والخوف فتمحوه لتترك “في الجوف قرين عرس يتأهب .. أعلى وأحلى وأشهى وأجمل”، وكذلك قصته “خطاب” التي ينقل فيها عبر مرايا متعددة حالات موت تحيل العالم إلى صورة واحدة مكررة عنوانها التعاسة والخراب الذي يتربص بكل شيء. وفي الوجهة نفسها لكن بشيء من المزج بالسرد التقليدي يقدم حارب الظاهري قصة “الرجل” الذي يختفي فيتمرد أهله على تراثه، ويلعنونه ثم يظهر فجأة ليلومهم على أنه لم يكن يريد سوى صلاحهم وتهيئتهم لخوض مصاعب الحياة. وعلى هذا المنوال تقدم “أيقونة الحلم” لسارة الجروان بسردية عالية تداعيات حب غامضة وصورة محبوب ضبابي هو الأيقونة التي تحافظ بها مريضة في العناية المركزة على رمق الحياة، وعبر تقنية تجريبية بديعة تدخل عائشة الكعبي في قصة “غرفة القياس” إلى أذهان أنواع النساء المختلفة اللواتي يدخلن إلى تلك الغرفة ليجربن مطابقة الأثواب التي اخترنها لقياسهن، وتسرد في ذلك تداعيات تفكيرهن والتي تتمحور كلها حول الرؤية التي سيراهن بهن الرجال حين يرتدين تلك الأثواب، فكأن الغرفة هي المحفز للقص، أوهي البؤرة المحورية في الحكاية. ويقدم عبد العزيز جاسم في “مدية الضوء المواتي” مرايا متعددة للبوح الذاتي (اختلاج أو سرطنة، اكتناف قاس، سورة البحلقة، عثار أعمى للذبيح، مدخرات اللعنة) حين تغيم الدنيا في وجه الإنسان ولا يبقى له سوى ذاته يغوص فيها يستكنه هواجسها وأحلامها المكبوتة. وفي السياق ذاته التجريبي يتخذ سلطان العميمي في “ركض بعيدا” من قصة الرجل مع ظله الذي ينفصل عنه حين يكون وحده ويعود إليه وهو مع الناس رمزا لحوار الذات حين يتفرد الإنسان بأفكاره وهواجسه المخيفة والغريبة في بعض الأحيان تلك الهواجس والأفكار المحيرة التي لا يستطيع الإنسان التخلص منها إلا بالموت.
رابعا: اتجاه السيرة الذاتية: حيث الشخصية هي محور الأحداث والرابط بينها، ففيما يشبه السيرة الذاتية تتناول ظبية خميس روتين مشوار نهاية دوام امرأة عربية وحيدة في لندن تلتقط في طريق عودتها للبيت مشاهد الطريق ومضايقات الفضوليين، والأحداث الصغيرة في المترو. وفي “أول خطوة في الحلم” نجد أثرا للسيرة الذاتية حيث تقدم نجيبة الرفاعي ثبتا لمتاعب اليوم الأول في مشوار معلمة كانت تظن أنها تحمل رسالة وتريد تحقيقها فيفاجئها واقع اللامبالاة والفساد الأخلاقي في المدرسة التي نقلت إليها.
تلك مجرد نماذج أوردناها لإعطاء صورة أولية عن هذه المدونة القيمة التي تشكل ثبتا ومادة أوليه لقراءات أكثر تأن وتعمق، والثابت في كل هذا هو أن ذلك الكم والتنوع يؤكدان أن القصة القصيرة حجزت مقعدها في المنصة الأمامية من أجناس القول الأدبية في الإمارات، وأنها تجاوزت مرحلة التأسيس إلى مرحلة الإبداع.

نجيب محفوظ لم يقترح أحدا لنوبل


أفق
آخر تحديث:السبت ,10/10/2009
يذكر المترجم البريطاني دنيس جونسون ديفز الذي ترجم أعمال بعض من كبار الكتّاب العرب منهم نجيب محفوظ إلى الإنكليزية أنه في السنة التي اختير فيها نجيب محفوظ لجائزة نوبل للآداب، كانت قد زارت القاهرة زوجة السفير السويدي في تونس في مهمة رسمية من الأكاديمية السويدية لمعرفة المرشح العربي الأفضل لتلك الجائزة، وفي لقاء لها مع دينيس استعرضا لائحة من أربعة أشخاص هم نجيب والطيب صالح ويوسف إدريس وأدونيس، فاستبعدوا الطيب لأن إنتاجه كان قليلاً جداً في تلك الفترة، فلم يكن قد نشر سوى روايته الشهيرة “موسم الهجرة إلى الشمال” وقصته “عرس الزين” وبعض القصص الأخرى القصيرة، ولهذا لم يكن مرشحاً كمياً وإن كانت كتاباته رائعة، أما يوسف إدريس وأدونيس فلم يكن قد ترجم لهما إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية- وهما لغتا الجائزة- ما يمكن أن يدخلا به المنافسة، وبقي نجيب محفوظ الذي كان قد ترجمت له روايات كثيرة إلى لغات كثيرة منها الفرنسية والإنكليزية، وكان دنيس نفسه قد ترجم روايته “أولاد حارتنا”، وهكذا وقع الاختيار على محفوظ ليكون المرشح العربي للجائزة، وليفوز بها في السنة نفسها 1988.
هذا ما دار بين ديفز وبين مندوبة الأكاديمية السويدية، ويعني أنه إذا كان هذان الشخصان الأجنبيان قادرين في تلك الأيام وبسهولة على فرز مرشحين أربعة عرب لنوبل، فإن هناك الكثيرين ممن يصلحون للترشح لكنهم غير معروفين للغرب، والمحير أنه بعد فوز نجيب محفوظ بالجائزة وبعدما أصبح يحق له ترشيح من يراه حقيقياً بهذه الجائزة، ظل محفوظ وعلى مدى سبعة عشر عاماً يرجع أوراق الترشح فارغة من دون أن يضع فيها أي اسم عربي من الأسماء الكثيرة التي تعج بها الساحة الأدبية العربية، وظل يبرر ذلك بكونه لا يريد أن يدخل في حرج الترشيح والاتهام بالميل على أحد دون آخر، وضيّع بذلك فرصة أن تكون جهة اختيار المرشح جهة عربية، ولا يمكن أن يتهم نجيب بأنه أناني أو متكبر بحيث لا يريد لغيره من بني جلدته أن يحظى بما حظي به، فكل تاريخه الشخصي والأدبي ينبئ عن شخص متواضع ودود، حريص على أن يرتفع بالأدب العربي، وأن يسدي النصح للأجيال التي تتلمذت عليه، وتقديرنا أنه كان صادقاً في مبرراته، لكن عزوفه عن ذلك كان أيضاً خطأ كبيراً في حق الأدب العربي.
لقد نظر محفوظ للموضوع من زاوية شخصية ونسي مسؤوليته كرجل تربع من دون منازع على عمادة الرواية العربية في النصف الثاني من القرن الماضي.. تلك المسؤولية التي كانت تملي عليه أن يختار حتى لو كان في الاختيار ما يغضب البعض، لأنه كان سيرضي الكثيرين أيضاً، وسيرضي الأدب العربي الذي ربما بسبب ذلك هجرته الجائزة طويلاً.
وقد أحسن اتحاد الكتّاب المصريين بسعيه منذ رحيل نجيب محفوظ للحصول على أحقية الترشيح، ذلك السعي الذي تكلل بالنجاح أخيراً، إذ وافقت الأكاديمية السويدية على أن يكون اتحاد الكتّاب المصريين جهة ترشيح وذلك اعتباراً من عام ،2010 وهو ما يبشر بأن حبل الوصال بين نوبل وأدبنا العربي قد يمتد قريباً، وذلك ما نأمله.
محمد ولد محمد سالم
dah-tah@yahoo.fr

قصة في مستوى الإبداع


أفق
قصة في مستوى الإبداع
آخر تحديث:الأربعاء ,14/10/2009
محمد ولد محمد سالم
من جميل ما قرأت مؤخراً، وأنا أعد مراجعة لكتاب “مبدعون من الإمارات القصة القصيرة”، نص بعنوان “فن الاختباء” للكاتبة فاطمة المزروعي، وأول ما استوقفني هو بنية السرد فيها، فقد عمدت الكاتبة إلى إقامة تداخل جميل بين مستويات عدة من البناء، فعلى مستوى المتن الحكائي هناك تداخل بين حكاية “لعبة الاختباء” التي كان يلعبها بطل القصة وهو طفل صغير مع صديقته الصبية الجميلة، فكانت تختبئ عنه، فيظل يبحث عنها دون أن يجدها فيناديها: “اخرجي. لقد تعبت من البحث عنك”، وبين اختبائها حين بلغت مبلغ النساء واحتجبت خلف أستار اجتماعية كثيرة، تجعله غير قادر على العثور عليها، وعلى مستوى زمان ومكان الحكاية هناك تداخل بين أحداث الماضي وأماكنه المطاردة والاختفاء وصورة البنت وهي تعدو في الطرقات حافية القدمين، والغرفة القديمة الباردة والكرسي وستارة النافذة حيث كانت تختبئ، وبين الزمان والمكان الحاضرين: صورة الباب الخشبي البعيد الموصد وصالة بيت أهله مفتحة النوافذ تخترقها الحرارة وتعبث الريح بستائرها وأمه الجالسة على الكرسي، وفي مستوى الأسلوب هناك تداخل بين أسلوب السرد الاسترجاعي وبين سرد الحاضر، وكذلك بين حواراتهما قديماً وهما يلعبان وبين حواراته هو حديثاً مع أمه، فهو يتذكر حين قال لها:
أخرجي لقد تعبت من البحث عنك.
في الوقت الذي تقول له أمه:
لا تنفعك، والدها وضيع وأمها تدور في البيوت وسمعتها على كل لسان.
لكنني أريدها.
هذه مظاهر قليلة من مستويات تداخل البناء في قصة “فن الاختباء”، وهي كثيرة إذا تتبعناها بتأن لا يتسع له المقام، والمهم أن هذه الأبنية الظاهرة تسلم إلى بناء عميق هو التقابل بين الماضي المختفي والحاضر الظاهر، لكن الماضي الذي اختفى كان دلالة على الظهور “ضفائرها الطويلة، أصابع قدميها السمراء ثوبها الزاهي وضحكتها الجميلة”، وأما الحاضر الظاهر فهو دلالة على الاحتجاب “الباب الخشبي الضخم يلوح من بعيد، عالمها يبتعد تدريجياً، يتلون جسدها باللون الأسود، ذلك السواد الذي يتلفع بتقاسيمه”.
هنا هذه اللعبة المتقنة تأخذ الكاتبة بتلابيب القارئ ليأتي على النص في تلهف لا ينتهي بانتهاء القصة، وتتركه مبعثر النفس كما الشخصية المحورية في القصة يتساءل عن معنى هذا البناء الذي وجد نفسه متورطاً فيه، عن معنى لحاضره هو ولماضيه، هل الأمس أجمل من اليوم.
عند هذا المستوى من التساؤل الذي يرتقي بدلالة النص من مجرد حكاية “فن الاختفاء” إلى سؤال وجودي عميق يستطيع المرء أن يحكم أن هذا النص القصصي الإماراتي يدل على أن الإبداع ليس جلباً لأدوات أو أشكال حكائية خارجية، وليس ترسماً لخطى آخرين، ولكنه ارتقاء بخصوصيات المبدع وتفاصيل حياته، وأدواته الفنية إلى مستوى من الدلالة الوجودية يشاركه فيها غيره.
dah_tah@yahoo.fr

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

خلل في الذوق


أفق
خلل في الذوق
آخر تحديث:السبت ,24/10/2009
محمد ولد محمد سالم
“أحيانا أرى الكتابة مجرد وهم كبير يعيشه الكاتب كي يقفز فوق الفراغ أو الجنون، فكم هو مخجل ومثير للدوخة العدد الذي يباع من نسخ إصدار إبداعي في بلد الثلاثين مليوناً، إننا نمارس حرفة لا حاجة للمجتمع بها” “الهاوية هي ما نحياه: مجتمع في آخر سلم الحضارة، غير منتج إلا للصخب، ومستهلك لكل شيء إلا الكتاب، منذور للتآكل والموت. الهاوية ليست السقطة الأخيرة، بل هي الطريق الممتدة باتجاه السقوط”.
هذه الآراء وردت مؤخرا في حديث للكاتب المغربي حسن البقالي مع إحدى الصحف العربية الدولية، والبقالي واحد من أعمدة الكتابة القصصية في المغرب، فقد أصدر مجموعات قصصية عدة منها “أجراس لزمن البرتقال” و”المقامر” و”الإقامة في العلبة”، ونال جوائز أدبية عدة، وإذا كان كاتب ناجح وذو مسيرة طويلة مع الكتابة يشكو من معاناته هو وأمثاله في مجتمع مثل المغرب يمكن وصفه بأنه من أكثر المجتمعات العربية وعياً وانفتاحاً على الثقافات المعاصرة، إذا كان هذا هو حال البقالي وزملائه في الحرفة فكيف هو حال إخوانهم في بلدان عربية أقل وعياً وثقافة؟.. لا شك أن المعاناة هناك أكبر والسقوط أسرع، فالكتاب الأدبي هو آخر ما تفكر فيه المجتمعات العربية إن فكرت في شيء.
كثيرا ما كان الكتّاب العرب يشكون من عنت حرفتهم وقلة مردودها، وقد وقر في أذهان الناس ملازمتها للفقر والإقلال، فكان يكنى عن وصف الفقير بالقول:''فلان أدركته حرفة الأدب”، لكن شأن القدماء مع الأدباء أخف من شأن المعاصرين، فلإن لم يكن الأديب ينتظر مردود نشر كتبه، فإنه كان ينتظر أعطيات معاشات الأمراء والسلاطين وإجازاتهم، وتلك كانت كثيرة وسخية يُغدَق بها على الشعراء والأدباء لتكفيهم عن احتراف المهن الأخرى فينصرفون لشحذ أخيلتهم وتصيد معانيهم وتمحيص أشعارهم، ولهذا كان لديهم الوقت الكافي للإبداع وقد أجادوا، ويذكر جرجي زيدان في كتابه ''تاريخ آداب اللغة العربية أن بني أمية جعلوا للشعراء رواتب معلومة تجرى عليهم من بيت المال، وقصص إجازات الملوك للشعراء وخلع الحلل عليهم كثيرة ويكفي أن نتصفح سيرة أحد الأدباء القدماء فنجد أنها مملوءة بتلك القصص من لدن النابغة إلى جرير وأبي تمام وأبي الطيب والجاحظ وسهل بن هارون، وهلم جرا، فكان لهم في ذلك غنى.
لكن الوضع تغير مع أحفادهم في العصر الحديث الذي لم يعد مقبولا فيه أن يكتب الأدب للتكسب وصار ذلك معرة، واستقل الأدب لبث الوعي والجمال والمتعة في أرواح المتلقين، وتسلم دوره المتقدم في ريادة النهضة، وأصبح مردود مبيعات الكتب يكفي صاحبه الوقوف على باب الملوك وذوي السلطان والجاه، لكن النكسات المتتالية التي مني بها المجتمع وانكفاء وتيرة التقدم واستشراء الجهل والفساد تراجع بالأدب إلى الدائرة الخلفية وألقى بمبدعيه بعيداً في مجاهل النسيان والإهمال. وزاد الأمر سوءا سيادة ثقافة الصورة بما تقدمه من جاهز لا يحتاج إلى عناء القراءة على عكس الأدب الذي يحتاج لذلك، فأصبحت إدارة زر التلفزيون أو تصفح مجلات أو تدوير الفيديو أو الانترنت أيسر بكثير من قراءة كتاب في الأدب.
تلك أزمة حقيقية تضع الأديب أمام خيار أن يمتهن الجزارة كما فعل سلفه “أبوالحسن الجزار” أو أن يقف من جديد على باب ذوي الجاه إن كانوا سيعطونه وهما أمران أحلاهما مر، وهي على كل حال تدل على وجود خلل عميق في أذواق المتلقين العرب وهو ما لا يبشر بخير.
الخليج- ثقافة

الأحد، 11 أكتوبر 2009

الحارة بوصفها بنية روائية


الذكرى الثالثة لرحيل نجيب محفوظ
"الحارة" بوصفها بنية روائية
آخر تحديث:السبت ,03/10/2009
محمد ولد محمد سالم


1/1

صادف يوم الأربعاء 30 سبتمبر الذكرى الثالثة لوفاة الروائي المصري نجيب محفوظ صاحب جائزة نوبل للآداب والأب الملهم لكثير من الروائيين العرب، ويتحدث جمال الغيطاني عن ذلك قائلاً: كان قريباً من جيلي والأجيال الأخرى، لم يتعال على أحد ولم يصرح بأن هذا الجيل أو ذلك لا يساوي شيئاً، ولم يقع في ما وقع فيه آخرون ما زلنا نكن لهم بعض الاحترام على الرغم من “هيافتهم” في آخر العمر ورعونتهم وتفسيري لذلك بسيط أن نجيب محفوظ مازال قادراً على العطاء، وانه قبل ذلك كله فنان كبير والأديب العظيم الموهبة الخصب المعطاء لا يشعر بالغيرة ولا تراوده الصغائر.
هذا هو نجيب محفوظ كما رآه كل من عرفه وصحبه أو جالسه في مقهى الفيشاوي أو كازينو الأوبرا أو قهوة سيفنكس أو مقهى ريش أو مقهى عرابي.. تلك المقاهي التي شهدت جلساته إلى أصدقائه ومحبيه من ابناء الأجيال الأدبية التي جاءت بعده، وكان يطبعها هو بطبعه الميال للدعابة الذكي المنفتح المصغي للآخرين، الحريص على ألا يجرح شعور أحد، الدقيق في ملاحظته حين يتعلق الأمر بتوجيه الكتاب الشباب، شخصية نادرة تسرب شيء من ملامحها إلى شخصيات مريديه من الروائيين الذين جاءوا بعده، كما تسرب شيء من أسلوبه الروائي إلى أساليبهم، فكان مدرسة قائمة بذاتها، وكذلك يكون الكبار دائماً.
من قسم الفلسفة في الجامعة إلى الوظيفة والأدب بعدما حسم الصراع بين دراسة الفلسفة وإبداع الأدب، ليبدأ مرحلة من الاجتهاد جعلت أباه يشفق عليه وهو يراه يسهر الليالي يقرأ بنهم لا يشبع صاحبه، فكان يسأله هل تنوي أن تتقدم للماجستير فيجيب الشاب المنهمك، لا، لقد كان يسابق الزمن ليعمق معرفته بالأدب الذي استحكم حبه في نفسه، وفاته أن يتخصص فيه في الجامعة، وقد ألزم نفسه بنظام يومي صارم للقراءة والكتابة والخروج جعل فيه لكل شيء وقتاً محدداً دقيقاً.
ابتداء من سنة 1934 بدأ بنشر قصصه القصيرة في مجلة “الرسالة” وفي 1939 نشر روايته الأولى “عبث الأقدار” ثم أتبعها ب”كفاح طيبة” و”رادوبيس” وهي الروايات التي استلهم فيها التاريخ الفرعوني، وكانت رواية القاهرة الجديدة 1945 بداية الاتجاه الواقعي الذي كتب فيه نجيب أجمل رواياته واتبعها ب”خان الخليلي” و”زقاق المدق” وبلغ ذروة الإبداع في هذه المرحلة في ثلاثيته الشهيرة “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية” سنة 1956. ثم انتقل بعد هذه الفترة إلى مرحلة رمزية كتب فيها “أولاد حارتنا” “اللص والكلاب” “السمان والخريف” و”الشحاذ” و”ثرثرة فوق النيل” و”ملحمة الحرافيش”.
نقل نجيب محفوظ في أعماله حياة الحارة المصرية بما فيها من بساطة وعمق وانسجام وتناقض وظاهر وخفي وجميل وقبيح فكانت رواياته بذلك سجلاً تاريخياً لحياة مصر القاهرة في القرن العشرين.. يقول محفوظ متحدثاً عن ذلك “لقد انعكست هذه المنطقة في أعمالي حتى عندما انتقلت بعد ذلك إلى معالجة موضوعات ذات طبيعة فكرية أو رمزية عدت أيضاً إلى عالم الحارة، إن ما يحركني حقيقة هو عالم الحارة، البعض يقع اختيارهم على مكان واقعي أو خيالي أو فترة من التاريخ، لكن عالمي الأثير هو عالم الحارة، أصبحت الحارة خلفية لمعظم أعمالي، حتى أعيش في المنطقة التي أحبها، لماذا تدور الحرافيش في الحارة؟ كان من الممكن أن تجري الأحداث في منطقة أخرى، في مكان آخر له طبيعة مغايرة إنما اختيار الحارة هنا لأنه عندما تكتب عملاً روائياً طويلاً، فإنك تحرص على اختيار البيئة التي تحبها وترتاح إليها حتى تصبح “القعدة حلوة”.
وعبر هذا الحفر الدؤوب في تلك الدروب الضيقة في الأزقة الملتوية في أحياء القاهرة، والوصف المتفنن لناسها وأحداثها استطاع أن يعمق فهمنا للإنسان وإحساسنا بندوب الزمن عليه، ووعينا بصيرورة التاريخ، ويثري التجربة الإنسانية بإضافات قيمة، وقد عمل دائماً على الموازاة بين التقنية التي يكتب بها رواياته والانشغالات المجتمعية والفلسفية.
يقول في هذا الصدد “حين كنت مشغولاً بالحياة ودلالتها كان أنسب اسلوب لي هو الأسلوب الواقعي الذي قدمت به أعمالي لسنوات طويلة، كانت التفاصيل سواء في البيئة أم الاشخاص أم الأحداث على قدر كبير من الأهمية، أما حين بدأت الافكار والإحساس بها يشغلني لم تعد البيئة هنا، ولا الأشخاص ولا الأحداث مطلوبة لذاتها، الشخصية صارت أقرب إلى النموذج أو الرمز، والبيئة لم تعد تعرض بتفاصيلها، بل صارت أشبه بالديكور الحديث، والأحداث يعتمد في اختيارها على بلورة الأفكار الرئيسية”.
تعود موهبة نجيب محفوظ في الكتابة إلى المرحلة الابتدائية حيث كان معلموه يشيدون بها ويشجعونه عليها، ولكنه حين بدأ نشر قصصه القصيرة في الصحف المصرية لم ينتبه له أحد إلا بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات، ومن يومها لم تجف الأقلام من دراسة أدبه، فلقي من الاهتمام والدراسة ما لم يلقه غيره من أدباء العربية لا قديماً ولا حديثاً، وكان حصوله على جائزة نوبل سنة 1988 تتويجاً منطقياً لمسيرة نيفت يومها على خمسين سنة من العطاء المتواصل والإبداع المتجدد، والاجتهاد الذي لا يكل، مسيرة أسست للرواية العربية حيث لم يكن لها قبله وجود يذكر، اللهم إلا إذا استثنينا أعمالاً قليلة متناثرة كتبها أصحابها على هامش اهتماماتهم كما فعل توفيق الحكيم والعقاد ومحمد حسين هيكل وغيرهم، ولم يكن ذلك من باب الاحتراف، ولم يكن للأدب القصصي يومها ذلك الاهتمام الذي كان للشعر والفكر، ولم يقف عند هذه المرحلة فقط، بل تعداها إلى تعبيد الطريق وشق مسالك الرواية العربية بإنتاجه الغزير الذي شمل كل أنواع الرواية بدءاً بالتاريخية ثم الواقعية ثم النفسية والرمزية والرواية الجديدة، وتجاوز ذلك إلى حد الاتقان والإبداع، فكأنه كان مؤسسة الرواية العربية التي حفرت لها موقعاً متقدماً بين أجناس الأدب العربي وأعطتها هذه الصدارة التي ينعم بها أجيال من الروائيين العرب.