أفق
الفردانية وقيم الإنسانية
آخر تحديث:الجمعة ,31/08/2012
محمد ولد محمد سالم
من غرائب الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام خلال الفترة الماضية قصة الفتاة البريطانية التي أنفقت عشرات آلاف الجنيهات على عمليات التجميل لتبدو مثل الدمية الشهيرة “باربي”، هذا الخبر يذكّر بمجموعة من الأخبار الغريبة التي نسمع عنها بين الحين والآخر مثل مسابقة أقبح ضحكة، ومسابقة أكثر الرجال نهماً، وغيرها من الأخبار التي لا يحكمها منطق ولا ذوق، ولا تدل إلا على درجة العبثية التي يمكن أن يصل إليها الإنسان حين ينسلخ من كل معيار، ويخرج من كل سلطة، حتى سلطة العقل .
قبل سنوات طرحت على التفكير الإنساني إشكالية الاستنساخ عندما نجح علماء الوراثة في استنساخ النعجة “دولي”، فكان التساؤل: هل يحق للإنسان أن يقْدم على عملية استنساخ ذاتية؟ وجرى نقاش طويل بين مدّع أنه حق طبيعي للأفراد، وبين مبطل لهذا الحق لأسباب أخلاقية، فمن غير المعروف ما هي طبيعة هذه “النسخة” التي ستخرج، فهل ستصبح تمثيلاً نفسياً للأصل كما هي تمثيل بيولوجي مطابق تماماً له، وهل نموّها سيكون نمو إنسان بتفكيره ومشاعره، أم ستصير مجرد حيوان، وإذا رغب كل واحد من الأغنياء في العالم في طباعة آلاف النسخ منه، فماذا سيكون شكل المجتمعات؟ وما الذي سيحكم العلاقة بين الأصل والتقليد . . إلخ .
قد تبدو تلك المبادرات شخصية تتعلق بحقوق الفرد وممتلكاته الخاصة وحريته الذاتية، لكن لو أنفقت كل فتيات العالم الأموال لكي يصرن مثل باربي، أو أنفق كل فرد أمواله ليصنع لنفسه نسخاً، أو أنفقت الأموال الطائلة على مهرجانات عبثية، فما الذي سيحدث؟ أليس لهذا انعكاسات اجتماعية واقتصادية على المجتمع، فهل يصح عند ذلك أن يقال هذه حرية شخصية، ألا يحق للمجتمع عند حد معين أن يتدخل لإيقاف هذا الهدر والامتهان للحياة الإنسانية، وللحفاظ على “حقوق” الإنسانية، وليس الإنسان فقط، لقد اتخذت أمريكا منذ سنوات قراراً بمنع الاستنساخ البشري لأسباب أخلاقية ودينية، وهو من منظور الفلسفة البراغماتية والتيارات الفردانية تدخل في حقوق الفرد، لكنه من منظور جوهر الإنسانية هو شكل من أشكال الحفاظ على “النوع” حتى لا يصير عبثاً بأيدي العابثين .
في مجتمعاتنا العربية قد لا تبدو تلك الإشكاليات مطروحة اليوم، لأن مثل تلك النزعات الغريبة للأفراد غير موجودة، أو لأن سلطة المجتمع لا تزال قوية على الوقوف في وجهها، لكن استشراء الدعوة إلى الفردانية وقوة التيارات التي تقدس الخصوصية الفردية على حساب المجتمع وقيمه، ستؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى طرحها، وعلى المجتمع العربي أن يكون قادراً إذ ذاك على التعامل معها، بما يضمن حرية الفرد، ويؤدي في الوقت ذاته إلى استمرار منظومة القيم الحضارية الجميلة التي تؤلف بين أفراد المجتمع وتنظم علاقاته .
Dah_tah@yahoo.fr
الفردانية وقيم الإنسانية
آخر تحديث:الجمعة ,31/08/2012
محمد ولد محمد سالم
من غرائب الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام خلال الفترة الماضية قصة الفتاة البريطانية التي أنفقت عشرات آلاف الجنيهات على عمليات التجميل لتبدو مثل الدمية الشهيرة “باربي”، هذا الخبر يذكّر بمجموعة من الأخبار الغريبة التي نسمع عنها بين الحين والآخر مثل مسابقة أقبح ضحكة، ومسابقة أكثر الرجال نهماً، وغيرها من الأخبار التي لا يحكمها منطق ولا ذوق، ولا تدل إلا على درجة العبثية التي يمكن أن يصل إليها الإنسان حين ينسلخ من كل معيار، ويخرج من كل سلطة، حتى سلطة العقل .
قبل سنوات طرحت على التفكير الإنساني إشكالية الاستنساخ عندما نجح علماء الوراثة في استنساخ النعجة “دولي”، فكان التساؤل: هل يحق للإنسان أن يقْدم على عملية استنساخ ذاتية؟ وجرى نقاش طويل بين مدّع أنه حق طبيعي للأفراد، وبين مبطل لهذا الحق لأسباب أخلاقية، فمن غير المعروف ما هي طبيعة هذه “النسخة” التي ستخرج، فهل ستصبح تمثيلاً نفسياً للأصل كما هي تمثيل بيولوجي مطابق تماماً له، وهل نموّها سيكون نمو إنسان بتفكيره ومشاعره، أم ستصير مجرد حيوان، وإذا رغب كل واحد من الأغنياء في العالم في طباعة آلاف النسخ منه، فماذا سيكون شكل المجتمعات؟ وما الذي سيحكم العلاقة بين الأصل والتقليد . . إلخ .
قد تبدو تلك المبادرات شخصية تتعلق بحقوق الفرد وممتلكاته الخاصة وحريته الذاتية، لكن لو أنفقت كل فتيات العالم الأموال لكي يصرن مثل باربي، أو أنفق كل فرد أمواله ليصنع لنفسه نسخاً، أو أنفقت الأموال الطائلة على مهرجانات عبثية، فما الذي سيحدث؟ أليس لهذا انعكاسات اجتماعية واقتصادية على المجتمع، فهل يصح عند ذلك أن يقال هذه حرية شخصية، ألا يحق للمجتمع عند حد معين أن يتدخل لإيقاف هذا الهدر والامتهان للحياة الإنسانية، وللحفاظ على “حقوق” الإنسانية، وليس الإنسان فقط، لقد اتخذت أمريكا منذ سنوات قراراً بمنع الاستنساخ البشري لأسباب أخلاقية ودينية، وهو من منظور الفلسفة البراغماتية والتيارات الفردانية تدخل في حقوق الفرد، لكنه من منظور جوهر الإنسانية هو شكل من أشكال الحفاظ على “النوع” حتى لا يصير عبثاً بأيدي العابثين .
في مجتمعاتنا العربية قد لا تبدو تلك الإشكاليات مطروحة اليوم، لأن مثل تلك النزعات الغريبة للأفراد غير موجودة، أو لأن سلطة المجتمع لا تزال قوية على الوقوف في وجهها، لكن استشراء الدعوة إلى الفردانية وقوة التيارات التي تقدس الخصوصية الفردية على حساب المجتمع وقيمه، ستؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى طرحها، وعلى المجتمع العربي أن يكون قادراً إذ ذاك على التعامل معها، بما يضمن حرية الفرد، ويؤدي في الوقت ذاته إلى استمرار منظومة القيم الحضارية الجميلة التي تؤلف بين أفراد المجتمع وتنظم علاقاته .
Dah_tah@yahoo.fr