فازت بجائزة البوكر العربية
3 روايات تحمل هموماً كبيرة
آخر تحديث:السبت ,22/05/2010
محمد ولد محمد سالم
1/1
يمكن اتخاذ الروايات الفائزة بجائزة البوكر للرواية العربية في دوراتها الثلاث وهي: “واحة الغروب” لبهاء طاهر 2008 و”عزازيل” ليوسف زيدان ،2009 و”ترمي بشرر” لعبده خال 2010 معياراً لرصد اهتمامات الرواية العربية المعاصرة، وعلاقة تلك الاهتمامات بواقع المجتمع الذي أنتجت فيه وله تلك الروايات، فهي بحكم القيمة التي حظيت بها تصلح لتكون مؤشراً لمشاغل الرواية العربية في حوارها مع الواقع، وأول ملاحظة يخرج بها قارئ تلك الروايات هي أنها جميعاً تدين الظلم والاضطهاد كل واحدة بالتركيز على جانب من جوانبه، وتلقي تلك الجوانب الضوء على أهم القضايا المطروحة في المجتمع العربي أو التي تؤرق الإنسان العربي في الوقت الراهن .
تدور أحداث رواية “واحة الغروب” في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وتتناول ظاهرة “الاستعمار” في أهم جوانبها وهو القهر النفسي الذي يحدثه المستعمر في نفوس من يستعمرهم، حين تصطرع الضغائن في أنفسهم وتتوالى عليهم الضغوط المادية والمعنوية، ويحبسهم الخوف من العقاب الأليم من التعبير عن الثورة أو الرفض أو حتى إبداء وجهة نظر ولو بسيطة في واقعهم، فيعيشون مع هواجسهم ومكبوتاتهم ويلجئهم ذلك في النهاية إلى اتخاذ قرار عبثي قد يصل إلى حد الانتحار، تلك هي حال المأمور محمود عبد الغفور الذي كتب عليه أن يغادر القاهرة التي عاش فيها كل سني حياته إلى واحة “سيوه” النائية في الصحراء المصرية، ليكون مأموراً عليها مكلفاً بجباية الضرائب من سكانها الفقراء، ولم يكن محمود متحمساً لهذه المهمة، خصوصاً أن تعيينه كان عقاباً له على مساندته لثورة أحمد عرابي ضد الإنجليز وإن كان في الواقعٍ هو لم يساند عملياً تلك الانتفاضة، بل كانت تلك تهمة لم تبرئه منها شهادته ضد من قادوا تلك الانتفاضة .
لم تكن حياة محمود لتؤدي به إلى الثورة أو إلى الانتفاضة ضد الإنجليز، فهو تربى لاهياً لا هم له سوى الإقبال على الملذات وإشباع الرغبات، لكن إفلاس تجارة والده المفاجئ دفع به إلى أن ينخرط في سلك الشرطة، وتشاء الصدف أن يكون حاضراً في الميدان الكبير الذي شهد ثورة عرابي وأصحابه ومطالبتهم بعزل الخديوي والتصدي للإنجليز الذين كانوا بدأوا حملتهم لاحتلال مصر، وقد أثرت في نفسه تلك الخطب الوطنية والمواقف الشجاعة لقادة الثورة والوطنيين الذين أسهموا فيها، وستبقى تلك المواقف البطولية ماثلة في نفسه تؤرقه لتكون شاهداً على مذلته حين خان أولئك الرجال وشهد ضدهم، وتكون كذلك عامل كراهة متجذرة للإنجليز، وظلمهم يتجدد ويزداد كلما وقع عليه شيء من ظلمهم، بدءاً باتهامه بالتآمر ضد الإنجليز والتحقيق معه وإرغامه على الشهادة ضد الوطنيين ثم إرساله إلى واحة “الموت” التي إن نجا المسافر إليها من الموت في الصحراء، فقد لا ينجو من القتل على يد أهلها الذين تعودوا قتل المأمورين الذين يسومونهم الظلم، ويبتزونهم رغم ما يعانونه من بؤس مزمن، ثم رسائل الإدارة المتكررة له بأن يعجل بمحصول الضرائب، ثم رجل المخابرات الذي بعث به الإنجليز ليعمل تحت إمرته ويكون في الوقت ذاته رقيباً عليه، وما قام به ذلك الرجل من مكائد ضد المأمور، كتأليب أهل الواحة عليه وإرسال برقيات ضده إلى رؤسائه، كل تلك المسائل إلى جانب العلاقة المتوترة مع أهل الواحة الذين لا يرتاحون للمأمورين .
ومما يزيد الأمور سوءاً الزيارات المتكررة التي تقوم بها زوجته الإيرلندية التي تبحث في الآثار لمعبدهم بحثاً عن قبر الإسكندر الأكبر الذي افترضت أنه مدفون هناك، ورغم أنها تشترك مع محمود في العداء للإنجليز الذين يحتلون بلادها، فإن بحثها المضني عن قبر الإسكندر وإصرارها على وجوده هناك سيؤدي إلى تدهور العلاقة بينهما، ويستشعر فيه محمود نوعاً من البحث عن أمجاد الماضي الأوروبي واعتزاز باحتلال قديم لبلاده، وكان أهل القرية يرتابون في زيارة تلك المرأة لمعبدهم ويعتقدون أنها تعمل سحراً لهم، وأنها تبحث عن كنزهم المدفون هناك والذي سيستخرجونه يوماً ما حين يؤذن لهم بذلك، فأخذوا يتربصون بها وبالمأمور، وزاده أيضاً أن تعليمات الإدارة الاستعمارية تقضي بأن لا يتدخل في شؤون الواحة الداخلية ويكتفي بجني الضرائب فقط، فلم يستطع أن يرد الظلم عن المظلومين أو يقيم العدل بين أهلها، وألجأته كل تلك العوامل إلى أن يفجر ذلك المعبد ويموت بحجارته، انتقاماً من زوجته ومن أهل الواحة ومن رجل المخابرات رمز المستعمر، وتخلصاً لنفسه من ذلك الذل الذي أرقه .
وهذه الاستعادة التاريخية تصلح لقياسها على الواقع الذي يعيشه كثير من بلدان الوطن العربي، فالاستعمار ما زال رابضاً على أرضه، يسوم أبناءه سوء العذاب والهيمنة الغربية ما تزال تذل الكثيرين والضغوط النفسية المتولدة عنها جلية .
ويبقى أن ما قام به محمود في النهاية حتى وإن كان يبدو عملاً عبثياً إلا أنه في بعده الرمزي هو تعبير عن رفض للهيمنة والقهر، وتكفير عن خيانة قديمة قام بها حين أرغم على الشهادة ضد الوطنيين، وبذلك فإن الرواية تؤسس لمبدأ مقاومة الظلم وتجعل ما سواه غلطة سيظل صاحبها يدفع ثمنها .
أما رواية “عزازيل” فتدور أحداثها في منتصف القرن الخامس الميلادي، وتروي مشاهد من حياة راهب مصري عاش في عصر مضطرب، شهد فيه وهو فتى صغير مقتل أبيه الوثني على يد مجموعة من أتباع المسيحية التي كانت يومها آخذة في الانتشار في مصر، ثم شهد أيضاً قتل الفيلسوفة هيبتا التي كانت تحمل أفكاراً تنويرية تأثر بها وهو شاب حين كان يتابع محاضراتها في الاسكندرية، كما تأثر بها الكثير من المسيحيين وكانت تلك الأفكار تشكل رؤية مستنيرة للمسيحية أثارت غضب الكنيسة الأرثوذوكسية فنكلت بأولئك “المهرطقين”، كما عاصر مقتل الراهب نسطور الذي كان من أتباع التنوير، وكان لقي نسطور عند زيارته إلى القدس وهو يومئذ يقيم فيها .
كل تلك الأحداث والتنكيل الذي عاش الراهب مشاهده فترة طويلة من حياته، أورثه قلقاً دائماً وزعزع إيمانه، وجعل أفكاره وقناعاته الدينية مضطربة وأغرت به عزازيل “الشيطان” ليزين له الغواية والانسلاخ من الرهبنة، ليستعيد إنسانيته كبشر يعيش حياته بسيئاتها وحسناتها، ويزين له أن يدون مشاهد حياته لتكون عبرة لمن يأتي بعده، فيفعل .
إدانة
وتشكل هذه الرواية في أحد أبعادها إدانة للتشدد الديني والتضييق على المخالفين في المعتقد وتكفيرهم والتنكيل بهم، وهي دعوة صريحة إلى احترام الأديان والمعتقدات .
والتشدد هو أحد مدارات الصراعات في الوطن العربي اليوم، فهو موجود على مستوى الأديان والمذاهب والعقائد، وهو صراع عصف بالوطن العربي والعالم في العقود الأخيرة وزعزع أركانه في أماكن كثيرة، وأدى إلى مآس غائرة .
وأما رواية “ترمي بشرر . .” فتعالج الفساد الاجتماعي والسياسي في المجتمع العربي واستغلال الأغنياء للفقراء إلى حد الاستعباد، وسلب المستغَل كل قيمة إنسانية، ورميه في بحر الدناءات، تروي القصة على لسان بطلها “طارق” حكاية حي فقير قذر يسكنه الصيادون يفاجأ أهله بتشييد قصر كبير بجانبه، ويشاهد أبناء الحي كل ليلة الأنوار الباهرة المنبعثة منه والسيارات الفخمة الكثيرة التي تدخله، فتشرئب نفوسهم له ويصبح دخوله حلم كل واحد منهم، ثم يتحقق ذلك الحلم فيدخلون إليه واحداً واحداً، ليرغموا على ممارسة المهن القذرة والرذائل الخبيثة، التي لم يكونوا يتصورون أنهم سيمارسونها، ويعيشون في سجن كبير لا يستطيعون الخلاص منه لأن يد صاحبه ستصلهم أينما ذهبوا، فسلطته تتجاوز كل الأعراف والقوانين، وقد أصبح بقوة المال أحد صناع السياسة يسخرها لمصلحته الخاصة، وقد شاهد أولئك المساكين أساليب سيدهم المنكرة في التنكيل بمن يخالفه، وعاشوا جحيم ذلك السجن ودناءة تلك المهن عبيداً كأسوأ ما تكون العبودية، محطمة نفوسهم، مسلوبة إرادتهم، مستسلمين إلى مصائرهم كالبهائم، وأصبح حلم النعيم الذي حلموا به خطأ حياتهم الذي لا يغفرونه لأنفسهم، وقد أسلمهم هذا الحال إلى الجنون أو الهروب والاختفاء إلى الأبد أو الاستسلام والانخذال التام .
وبذلك تكشف رواية “ترمي بشرر” عن فساد القيم وانحلال المجتمع وتحكم المادة في نفوس الناس بشكل يفوق التصور، ويصاب القارئ بالدوار وهو يتابع صفحات الرواية لشدة غرابة ما يمكن أن تصل إليه النفس البشرية من الشر حين تمتلك القوة وتتحرر من كل قيمة، ولا يبقى لديها سوى قيمة واحدة هي حب الذات وحب إشباع الرغبات .
تلك هي صورة المجتمع التي ترسمها لنا هذه الرواية، ورغم المبالغة الكبيرة التي اتسمت بها والسوداوية التي غلفتها، فإنها عالجت مظاهر حقيقية في الواقع الذي نعيشه اليوم من تحكم المادة وهجوم الرأسمالية .
من خلال هذا الاستعراض الموجز لأجواء الروايات والمنظور العام لكل منها، يمكن القول إنها كانت مهمومة بالقضايا الكبرى التي تؤرق المجتمع العربي، وهي الاستعمار والصراع الديني والقهر الاجتماعي، فقد فككت المجتمع وأعادت تركيبه من منظورات تكشف الخلل وتنذر بالمصائر الفاجعة التي يمكن أن تكون إذا لم تتحرك أيدي الإصلاح إلى رأب ذلك الخلل وتوجيه دفة المجتمع توجيهاً مبرمجاً على مبادئ وقيم واضحة وصحيحة، وتلك هي الغاية القصوى للرواية، أن تنذر وتحرك الراكد في النفوس وتبعث الأمل، والتزام تلك الروايات الرائدة بهذه المهمة يعني أن الرواية العربية بخير، وأنها على الطريق الصحيح .
الخليج الثقافي