بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 5 أكتوبر 2014

أيقونات فلسطينية



أفق
أيقونات فلسطينية
تاريخ النشر: 04/08/2014
كان الزعيم ياسر عرفات يسمي الفلسطينيين شعب "الجبارين"، ولم يكن يريد بذلك المعنى السلبي الذي وصف به الكنعانيون في الآية الكريمة "قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين"، لكنه يريد الجبروت الذي هو القوة، القوة الكامنة في النفس وفي إرادة مواجهة الظلم، والتصدي للمصاعب بعزم لا يلين وشجاعة لا تعرف التراجع، هذا الجبروت لا يمكن فهمه إلا حين يكون الشعب على المحك، وفي اللحظات الحرجة التي يكون فيها أمام امتحان صعب، وما يحدث اليوم في غزة هو أحد تلك اللحظات التي تصدّق قول ذلك المناضل الأبدي الذي لفظ آخر أنفاسه وهو جبار يتشبث بإرادة الصمود، وقد ضيق عليه الخناق في مكتبه، والمرض يأكل جسمه .
في هذه اللحظة التاريخية نفهم بحق معنى شعب الجبارين، فحين تقف أم فقدت سبعة من أبنائها أمام شاشات التلفزيون وتقول للعالم: "فليهدموها علينا . . فليبيدونا، لكننا لن نستسلم ولن نذل" تعرف ما هو معنى ذلك الوصف، وتعرفه في تلك الفتاة التي لم تنس في غمرة دموعها ورعبها وقد نجت من مقتلة الشاطئ التي ذهب فيها أترابها، لم تنس أن تقول: "حسبي الله فيهم . . يريدون قتلنا . . هذه أرضنا ولن نخرج منها"، ذلك هو الجبروت الجميل النابع من الانتماء للأرض والوطن والتمسك به، ذلك هو غذاء الروح الذي ترضعه تلك المرأة الجبارة لأطفالها، فتنمو القوة النفسية والروحية فيهم قبل أن تنمو أجسامهم .
في تاريخ نضالات الشعوب ضد الاحتلال، وضد أشكال الظلم، ليس غريبا أن تروى بطولات فردية وجماعية عن رجال شجعان يقودون ثورات، ويواجهون العدو ويهزمونه، وللوطن العربي نصيب كبير من ذلك، ونتذكر عبد القادر الجزائري وعمر المختار وغيرهما كثير، لكنّ ما يميز حالة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال أن زمام المبادرة في النضال ليس مقصوراً على أولئك الأبطال الشجعان، بل يتعداهم إلى الأطفال والنساء، وبالأمس القريب أبدع أطفال فلسطين ثورة الحجارة، وأصبح الفتى الفلسطيني الذي يملأ يديه بالحجارة أو يشد بهما سيور المقلاع في وجه دبابة صماء رعناء، قد حددت صدره هدفاً لقذيفتها، أصبح هذا الفتى أيقونة من أيقونات النضال في العصر الحديث .
بالأمس القريب أيضاً طافت شاشات العالم صورة تلك العجوز التي تتشبث بجذع شجرة الزيتون وقد أحاط بها جنود العدو مدججين بأسلحتهم وعرباتهم، يريدون أن يقتلعوها من أرضها، ويقتلعوا زيتوناتها القليلة لحرمانها من كل أسباب الحياة، لكنها هزمتهم "بصورتها المناضلة" التي هزت العالم، وبالأمس أيضا وفي إحدى حروب إسرائيل المتوحشة المتوالية على غزة الدامية، قالت إحدى النساء الغزاويات الجبارات، وهي تعاين أشلاء أطفال صغار قتلتهم إحدى الغارات الجوية المبيدة: "قتلوا أولادنا . . بدهم يقضوا علينا . . بس، بدنا نْضَل نخلف . . ونضل نخلف"، ما يعني أن إرادة الإنجاب أصبحت أحد أشكال النضال لدى المرأة الفلسطينية حفاظاً على "النوع" الفلسطيني من الانقراض بسبب سياسة الإبادة المستمرة التي يمارسها عليهم كيان عنصري أطلق العالم المتحضر يده فيهم .
محمد ولد محمدسالم
dah_tah@yahoo.f
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/5e75445a-0f20-4983-8a75-f902a7a27ceb#sthash.XFBWmXDO.dpuf

رواج الرواية

أفق
رواج الرواية


سيادة الرواية على الشعر في اللحظة الراهنة لا تعود إلى ميزة فنية أو معيارية تَفْضُل بها الرواية الشعر، لكنها تعود إلى ظروف تاريخية، أسهم فيها الشعراء أنفسهم بقسط وافر، فمع ضغط المدينة والحياة المادية القاهرة، كان لا بد للإنسان من فسحة من الخيال والغرائبية، لا بد له من شكل من البطولة قائم على إعلاء قيم الإنسان والدفاع عن جوهر تلك القيم، ما يمكنه أن يغذي ذلك الفراغ الروحي والتخيلي الذي خلفه تغوال المدينة وعجرفة المادة التي حجمت الإنسان في جانبه البيولوجي ومتطلبات غرائزه البشرية، وأغلقت الباب أمام توقه الأصيل إلى التحرر من إسار الجسد، وإسار اللحظة الزمنية ليصل إلى الحلم، إلى السعادة وتحقيق الذات بما هي جماع من المادة والروح، فكانت الرواية هي تلك الفسحة، والاستجابة المناسبة على تلك الحاجة بما تحتويه من التخيل والبطولة والتوق إلى عالم آخر جميل، وباعتبارها وريثة الأسطورة القديمة التي كانت تؤدي هذا الدور في المجتمعات البشرية .
قد لا تكون الرواية هي وحدها التي نهضت بذلك الدور حديثاً فأشكال السرد الراهنة من قصة ومسرحية وسيرة ذاتية وأدب خيالي، وحتى الشعر، كلها تلعب هذا الدور بدرجات متفاوتة، وأشكال مختلفة، لكنّ ما ميز الرواية راهناً هو أنها بخلاف المسرحية لا تحتاج إلى أن تحول إلى عرض تمثيلي لكي يكون تأثيرها كاملاً وفي عالم اليوم أصبح الجمهور غير متحمس كثيراً لارتياد قاعات المسرح، بسبب وجود بدائل إعلامية وإلكترونية تشغله عنه، وعلى عكس القصة القصيرة، يجد القارئ في الرواية اتساعاً في الشرح والتفصيل وغوصات في الشعور الإنساني للشخصيات، وانبساطاً في مدى الرؤية الكلية، وما يميزها عن السيرة الذاتية هو كونها قصة وليست عملاً كرونولوجيا ينبني على التتابع الزمني وحده، أما الشعر فإن رواج الرواية في مقابله جاء من تقاصر الشعر عن أداء دوره، وتنازله عن جزء أصيل في مهمته، على الأقل فيما يخص الشعر العربي، وهو الإطراب الذي يأخذ بجماع نفس السامع، ما جعله يفقد جزءاً كبيراً من جمهوره .
لقد تخلى الشعر، والعربي منه خاصة، طواعية عن دوره في الإطراب ونزل من منبر الإنشاد إلى طاولة التفكير، ومن إيقاع القصيدة الحية الحارة المحركة للنفس إلى رتابة النص الذي يستدعي التفكير الهادئ البعيد عن الصخب، فانتقل بذلك إلى دور لم يخلق له، وعالم ليس هو عالمه، فأصبح متذبذباً بين مقتضيات اللغة وإيقاعها العالي الآسر، ومقتضيات التفكير الهادئ، فخسر الاثنين، وخسر بهما جمهوره، في وقت لم تنجرف فيه الرواية وراء التيارات التي كانت ستحيد بها عن طريقها الصحيح في تأدية دورها بصورة تحافظ بها على جمهورها، بل تعززه بسبب الرواج الذي رفدتها به دور السينما، وعالم الإنترنت، وتطور عالم النشر والتوزيع .
محمد ولد محمد سالم
dah_tah@yahoo.f

 - See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/ddd1f8f5-e18c-4696-b36a-27328b622b2a#sthash.4afqNEYy.dpuf

"نهارات علول": بساطة وعمق أرهقتهما بعض المشاهد الزائدة



"نهارات علول": بساطة وعمق أرهقتهما بعض المشاهد الزائدة
محمد ولد محمدسالم
ما يميز مسرحية "نهارات علول" هو الجمع بين بساطة الفكرة وعمقها، مع قوة التمثيل، فقد كان حضور الممثلين واحترافهم هو البطل الأول في هذه المسرحية التي كتبها مرعي الحليان وأخرجها حسن رجب لفرقة مسرح المسرح الحديث في الشارقة، وعرضت مساء أمس على خشبة مسرح قصر الثقافة، وهي آخر عروض مهرجان المسرح الخليجي الثالث عشر حسن.
علول الصعلوك المتمرد الذي لا يريد أن يظل هو وزملاؤه مجرد صعاليك "حرافيش" يعيشون على هامش المدينة بين الأزبال والقاذورات، ينغص عليه ذلك الوضع حياته فيهجر النوم عينيه، ويبدأ في التذمر من وضعه، ويحتج ويثور بصوت عال يجعل رفيقه يصاب بالرعب ويحاول بكل وسيلة أن يسكته لكي لا يصل صوت احتجاجه إلى سكان المدينة من أصحاب المنازل والقصور، فينزلون بهم العقاب، وفي تلك الأثناء تأتيه حبيبته قادمة من القصر الذي تعمل خادمة فيه، تجلب له الطعام، وتبادله لحظات من البوح والحلم بأولاد ومنزل وحياة كريمة، لكنّ صوت حارس القصر الخشن يقطع عليهما لحظاتهما، آمرا الخادمة بالعودة فورا إلى القصر، ويعرف علول أن الحارس يبتز حبيبته مقابل أن يسمح لها باللقاء به، فتتملكه الحمية لعرضه وزوجته، ويتجه إلى الحارس يريد أن ينتقم منه، لكنّ الحارس يطلق عليه رصاصة، تستقر في جوفه، وبعد أن يظن أصدقاؤه "الحرافيش" أنه مات ويقيمون له مأتما، يفاجأون بأنه حي، وأن جرحه التأم ولم يعد له أثر، لكن الرصاصة أصبحت تجول في جسده، مسببة له اضطرابا في الحركة والكلام، فتركته شخصا غير سوي، وورث على إثر ذلك دهشة أصدقائه الذين اعتبروا ما حدث له كرامة، واعتبروه رجلا مباركا، يستشفون بدعائه، ويستنزلون البركة بقربه.
لكنّ علول الذي أصبح على تلك الحالة، لم يفقد عقله، وأصبح يتكلم بالحكمة، ويحرض الصعاليك قائلا: ارفعو رؤوسكم عاليا، ومدوا قاماتكم أعلى فأعلى، وتنفسوا الهواء الذي على رؤوسكم، فما ثم إلا الفراغ، وعليكم أن تملأوا هذا الفراغ"، استشعر أهل المدينة الخوف من تلك الكلمات، وما تحمله في طياتها من دلالات تشكل خطورة على حياتهم فقد تقلب الموازين، وتغير القواعد التي يسوسون بها المدينة، لذلك قبضوا عليه وحاكموه بتهمة أن جسمه سرق رصاصة الحارس التي استقرت فيه ولم تخرج، وحكموا عليه بالإعدام، لكنّ الصعاليك الذين شهدوا المحاكمة، وتنفيذ الإعدام، لم يستوعبوا ذلك الحكم، فثاروا على القاضي والمحامي والحراس وطاردوهم، ثم عادوا إلى علول ليدفنوه بالعلب الفارغة التي هي وسيلتهم لاكتساب رزقهم، وعندما يتركونه، يتحرك ويتشنج جسمه، ويبدأ من جديد في شكوى الرصاصات التي تغمزه في مناطق متعددة من جسده، لتنتهي المسرحية على ذلك.
ثار علول وحلم وانتفض لشرفه، فعاقبه الأسياد بتشويه الجسد، وكافأه أصدقاؤه بالتقديس، وأصبح روحا تبث الحلم في الآخرين، فعاقب الأسياد تلك الروح بالاستئصال (الإعدام)، وكافأها أتباعها بالثورة، تلك هي نهارات علول حلم فعذابات وحلم فعذابات فثورة، الصراع الأبدي بين إرادة الحرية وتحقيق الذات، وبين قوى التجبر والقمع، لكن الحلم لا يخبو وإرادة الانعتاق لا بد أن تنتصر، ذلك هو ما يبشر به هذا العرض الذي كما قلنا آنفا كان الأداء التمثيلي فيه بارعا، وكان بلغة فصيحة شاعرية، سهلة يفهمها الجميع وممتنعة فليست من السوقي، وقد اجتهد حسن رجب في أن يقدم لعبة إخراجية رشيقة خصوصا في اختياره لقطع الديكور التي كانت عبارة عن كراسي بعجلات ومساند متحركة، فهي في الأصل عربات يجمع فيها الصعاليك العلب، وهي أيضا كرسي للقاضي، وقفص للمتهم، وغير ذلك، كما كان الاقتصاد في الموسيقى موفقا، فقد استحضر المخرج عازفا طنبور محترفاً استطاع أن يوائم إيقاعه سرعة وبطئا مع حركة الممثلين وبهدوء مريح في الأذن، أنسانا ذلك الصخب الذي كانت تجرفنا فيه بعض الإيقاعات في العروض السابقة، ورغم أن الإضاءة وظفت في بعض المواقف توظيفا جيدا إلا أن هناك إحساسا بأن الخشبة كانت غارقة في الظلمة في أغلب الأوقات خصوصا في الحالات التي تجمع الصعاليك، وفي مشهد تعذيب صديق علول، وحالات أخرى كان يمكن أن تظل الخشبة فيها مضاءة إضاءة كاملة، خصوصا وأن قطع الديكور متحركة ويمكن سحبها بسهولة، والأصل في المسرح أن تكون الخشبة مضاءة كليا، إلا في حالات استرجاع الزمن، فيكون لإظلام الخشبة، وإسقاط الضوء في بقعة محددة مبرر.
من الناحية الدرامية فقد فهناك مشهدان يمكن الاستغناء عنهما بسهولة ودون أن يخل ذلك بالعرض، وقد أصاب وجودهما العرض بشيء من الفتور، أولهما مشهد تعذيب صديق علول، فهذا المشهد لا فائدة منه اللهم إلا إذا كان يراد به الإضحاك، لأن قسوة السلطة وتجبرها ظهرت في الخوف الأول وفي الرصاصة التي أصابت علول، وفي مشهد المحاكمة، ونفس الشيء في مشهد الإعدام ففيه الكثير من الافتعال، واستجداء الإضحاك، خصوصا أن تنفيذ الإعدام كان يمكن أن يحدث في ختام مشهد المحاكمة، ومن الناحية الدرامية فإن تنفيذ الإعدام وتحرك علول بعد موته ليسا ضرورين لأن الحكم بالإعدام مبرر جيد للثورة، والثورة فعل حياة أبلغ من حركة الميت، ومما يمكن ملاحظته أيضا أن الحلم الذي يظهر فيه علول وزوجته وقد أنجبا الكثير من الأولاد وعلول يخطط لكي يكبروا وينشروا العدل والحرية والمساواة في الأرض، هذا المشهد جاء متأخرا عن وقته، لأنه ينبغي أن يكون مشهدا استهلاليا، فعلول بعد الرصاصة ليس حقيقة أو على الأقل لا جسد له، بل هو روح هائمة تبث الإيمان والثورة في شعبها الصعاليك.

لو أن العرض تخلص من تلك الهنات لكان عرضا في قمة الإبداع والجمال، وهو على كل حال عرض ناجح فيه الكثير من الإمتاع.
نشرة مهرجان الخليج المسرحي 2014

"خلخال" عرض ناجح بأقل الخسائر

"خلخال" عرض ناجح بأقل الخسائر
محمد ولد محمدسالم
ما يميز مسرحية "خلخال" لفرقة قطر المسرحية عن عروض الأيام السابقة هو أنها انصرفت لمعالجة قضية واحدة، وحاولت أن تذهب بها عميقا غائصة في أغوار التجربة الفردية عندما تحاصرها أطر اجتماعية صارمة، فهذه المسرحية التي ألفها الكاتب الإماراتي سالم الحتاوي وأخرجها فيصل حسن رشيد من قطر، وعرضت مساء أمس على خشبة مسرح قصر الثقافة في الشارقة، في إطار عروض مهرجان المسرح الخليجي الثالث عشر، تعالج قضية الفئوية أو التأطير الذي يفرضه المجتمع على الفرد، فلا يجد منه فِكاكا، وحين يسعى للخروج منه يواجَه برفض من طرف المجتمع، ويخوض صراعا مريرا وعنيفا، طرفاه غير متكافئين.
ذات يوم رن في أذن سهيل إيقاع الخلخال الذي يأتيه صوته من خلف الجدار فعرف أن ابنة الجيران "مريم" ترقص في حوش أهلها، ثم عاد فرن في اليوم الثاني والثالث، وأصبح سماعه عادة انفتح معها قلب سهيل الفتي لتلقي نسمات الحب والحلم بعش يجمعه بذات الخلخال التي فصلها خياله، ونسق جمالها على نسق الإيقاع الفاتن لخلخالها، وألهمته لحن الشعر وكلماته، فبدأ ينسج لها منه حللا، ويأتي اليوم الذي تتوقف فيه رنة الخلخال، ولا تعود، ويعصف الوله بسهيل فيلجأ إلى الخمر ليخفف ولهه، ويكبر وهو على تلك الحالة، لا يتستطيع نسيان رنة الخلخال، وفي غمرة سكرات الإدمان تشده رنة خلخال الراقصة "غاية"، فيتعلق بها، وينشد فيها أعذب القصائد، ويهيم بها غير مبالٍ بمعارضة أهله ومجتمعه لحبه لراقصة، وهو الشاعر المبرز الذي لا يليق به إلا النساء المصونات.
تماطل غاية وتمتنع من مبادلته الحب، لكي تستوثق من قدرته على مواجهة المجتمع إن هو ارتبط بها، وتحت إلحاحه ووعوده بأن يظل مخلصا لها، وأنه سيغير حالتها تقبل بالزواج منه، وتتخلى عن مهنة الرقص، وتقصر نفسها عليه، لكنّ سهيل يواجَه بحظر من طرف المجتمع يطيح به من مكانته العالية، فلم يعد هو الشاعر الذي يتصدر المجالس ويحتفي الجميع بقصائده، وقد تخلى عنه أهله وأصدقاؤه، وأصبح منبوذا، ولا يقوى على تحمل ذلك فيعود إلى الإدمان، ويفقد الثقة في نفسه ويصبح من سكرة لأخرى، وتصاب غاية بخيبة أمل، وهي التي ظنت أنها بزواجها من سهيل ستغسل عار ماضيها الذي وجدت نفسها فيه منذ أن كانت صبية تحب الرقص، ومنذ أن تلقفتها تلك المرأة وعلمتها الرقص وأصبحت تذهب بها لترقص في المناسبات، أرادت أن تمحو نظرة المجتمع إليها وتصبح امرأة محترمة لزوج محترم تتفانى في حبه، وحلمت بعش زوجي هادئ بعيد عن صخب الرقص ودراهمه الآثمة، وأعين الرجال المفترسة، لكنّ المجتمع قسا عليها وعلى زوجها، وحرمها من تلك الفرصة، ولم تجد من حل أمام الحالة التي تردى فيها زوجها سوى أن تعود إلى الرقص من جديد.
استغل المخرج بذكاء جو المسرحية المرتبط بموضوع الرقص، ليقدم سينوغرافيا تلعب على هذه الموضوعة، فكانت قطع الديكور الثلاث الكبيرة تحاكي سطح الطبل الدائري، وقد جعلها متحركة وشفافة ليسهل نقلها واستغلالها في تعابير ديكورية مختلفة، كأن تكون طبولا أو جدرانا أو ستائر أو فضاءً خياليا للحلم، كما استغل الجوقة لتكون مجموعة طبّالين وراقصين، وأشباحَ حلمٍ وذكريات، لكنّ شكل لبس الجوقة الذي أظهرها وكأنها مجموعة بدائية تعيش في الأدغال كان غريبا على جو المسرحية، وربما كان دافع المخرج إلى ذلك هو محاولة إبراز عضلاتهم القوية المفتولة التي تناسب عمل الطبّالين، لكنه كان يمكن أن يظهرها بلباس وهيئة تليق بمجموعة رقص في مجتمع "متحضر"، أما من ناحية الإضاءة فقد كانت مقبولة عموما، وأعطت تمايزا بين حالات الواقع والحلم والاسترجاع، ومع ذلك فقد كان يمكن الاشتغال عليها أكثر حتى تكون بمستوى الديكور.
من ناحية التمثيل فقد كان أداء الممثلة غادة الزجدالي حركيا وقدمت لوحات استعراضية جميلة تلائم شخصية الراقصة، وكان أداء فيصل حسن رشيد محترفا في حالات البوح والاستبطان المرتبطة بلحظات العشق والفقد وحالة السكر، إلا أنه في اللحظة التي كان ينبغي أن يخرج فيها من تلك الحالة ويظهر كعريس مسؤول وواع وفرح بزواجه، لم يخرج، وعوضا عن ذلك واصل تقمص حالة السكران مستغلا ما تسمح به من كوميديا، وهو خلل فني ودرامي، كان ينبغي تعديله حتى ولو كان من النص، فلكي تكون معارضة المجتمع عميقة ومؤثرة ينبغي أن تكون لحظة الوعي وتحمل المسؤولية عميقة ومؤثرة، فلا يكون السقوط مدويا إلا إذا كان شاهق، ومما أضعف تلك اللحظة الفاصلة أيضا أن المخرج كان ينبغي أن يظهر المجتمع الذي يعارض هذه الزيجة على الخشبة، فتكون معارضته مجسدة في شكل شخصيات تتحرك وتعارض وتعمل على إفشال ذلك المشروع، وأن لا تظهر تلك المعارضة بشكل عارض على لسان الزوجين أثناء الحوار، ومهما يكن فإن العرض كان ناجحا، وقد أوصل وجهة نظره دون إملال وبحلول إخراجية فيها احتراف لا بأس به.

نشرة مهرجان المسرح الخليجي 2014

"من منهم هو" اجتهاد اخطأ انتقاء أمثلته




"من منهم هو" اجتهاد اخطأ انتقاء أمثلته
محمد ولد محمدسالم
لا شك في أن محاولة إعادة قراءة الشخصيات التاريخية والبحث عن ملمح درامي يربط بينها ليكون عمادا لعمل مسرحي، لا شك ذلك مسعى اجتهادي يدل على وعي مسرحي جيد، لكنّ الإشكالية في هذا المسعى تكمن في كيفية تحديد هذا (الملمح) واختيار الشخصيات التي تجسده، واللحظات التي تعبر عنه في تاريخ تلك الشخصيات، وهذه الإشكالية هي ما وقعت فيها مسرحية "من منهم هو" لفرقة المسرح الشعبي الكويتية، التي ألفها أحمد العوضي وأخرجها خالد أمين، وعرضت مساء أمس على خشبة مسرح قصر الثقافة في الشارقة وهي خامس عروض الدورة الثالثة عشرة من مهرجان المسرح الخليجي.
تجمع المسرحية بين ثلاث شخصيات أسطورية وتاريخية من مختلف العصور، الأولى هي "ميديا" بطلة المسرحية اليونانية المسماة باسمها "ميديا" التي كتبها يوريبيديس، وتحكي قصة ميديا تلك المرأة التي ضحت بكل شيء حتى بأخيها الذي قتلته من أجل حبيبها "جيسون" الذي سوف تهرب معه وتتزوجه وينجبان، لكنه يخونها بزواجه من امرأة أخرى بحثا عن المال والجاه، فتنتقم منه بقتل زوجته، وقتل أبنائه منها هي أمام عينيه، والشخصية الثانية هي الزير سالم أبو ليلى المهلهل بطل حرب البسوس بين تغلب وشيبان الذي كان يعيش حياة لهو وطرب ونساء، قبل أن يقتل جساس أخاه كليبا، فيضطر الزير إلى ترك ملذاته، والنهوض طلبا لثأر أخيه، فأصبح رمزا للبطولة والتضحية من أجل الثأر للأخ، والشخصية الثالثة هي الليدي ماكبث زوجة القائد ماكبث في مسرحية "ماكبث" لشكسبير  التي حرضت زوجها على قتل ملكه وولي نعمته غدرا ليفوز بالملك، فكانت بذلك رمزا للغدر والطمع، فعن طريق هذه الشخصيات الثلاث يحاول المؤلف أن يبني نصه المسرحي على ملمح صرح في تقديم المسرحية بأنه ملمح النفس الأمارة بالسوء، لكن إذا طرحنا جانبا شخصية "ميديا" المُشْكِلَة التي تجمع بين إرادة الخير بتضحيتها من أجل الحب، وثورتها من أجله، وإرادة الشر بقتلها لأخيها وأبنائها، إذا طرحنا هذه الشخصية جانبا فإنه لا رابط بين الزير الذي نهض ثأرا لأخيه وهو فعل خَيْرٍ محمودٌ في عصره، ولا يزال التاريخ يمجده عليه، حتى أصبح من أجله رمز البطوله وأكثر الشخصيات أسطورية في المخيلة العربية، وبين الليدي ماكبث التي تعني الإرادة الصافية للشر والغدر الدنيء، هذا الخلل في اختيار الملمح الصافي الذي لا لبس فيه، أخل برؤية المسرحية ابتداء، وانعكس على العرض الذي قدمه المخرج.
 وضع المخرج ثلاثة أقفاص مفتوحة في عمق الخشبة  على خط واحد، ووضع في كل منها إحدى الشخصيات الثلاث، وكأنه يوحي لنا بأنه يريد إلى محاكمة هذه الشخصيات، واختار أن تكون البداية مع الزير سالم من لحظة تخليه عن الخمر ورفضه لعرض الصلح الذي عرضه عليه بنوشيبان، فهو لا يريد إلا رأس جساس، ومع الليدي ماكبث من لحظة تحريضها لزوجها على القتل، ومع ميديا من لحظة شكها في زوجها الخائن، وتبدو كل الشخصيات متعطشة للدم والانتقام، ثم تظهر شخصية "هو" ذلك الشبح بهيئته البشعة، الذي يبدأ في تحريض الشخصيات الثلاث على إراقة الدم والانتقام، بادئا بميديا ثم مارا بالزير منتهيا بالليدي ماكبث ليعود إلى ميديا هذه المرة في صورة زوجها الخائن وهي تلومه وتعنفه على خيانته، ويظهر مع الزير في صورة ابنة أخيه التي تبكي بين يديه وتدعوه للأخذ لها بثأر أبيها، ثم مع الليدي في صورة زوجها وهي تحرضه على القتل، ثم يظهر هذا الهو أيضا في صورة الملك الذي يطرد ميديا عن مدينته بعد قتلها لأخيها، وفي صورة جساس وهو يتوسل إلى الزير لكي يقتله ويريحه ويريح أهله، وفي صورة ماكبث بعد أن نفذ جريمته وتسلم التاج، لتنتهي اللعبة بالشخصيات الثلاث وهي تعيش الندم وأزمة ضياع العمر في الانتقام والشر، ويظهر "هو" في القاعة أمام الجمهور مخاطبا إياه، "لقد انتهى دوري، لكنني مطمئن أن كل واحد منكم ستسلم هذا الدور".
"من منهم هو"؟ هذا السؤال يحق لنا أن نطرحه، ليس كما أراده المخرج لكن كما أثاره العرض، فمن هو هذا "الهو"، هل هو الذات الأنانية والنفس الأمارة بالسوء كما أراده المخرج، ولماذا إذاً يلعب دور شخصيات أخرى كجساس وجيسون وماكبث بنفس لباسه وهيئته التي هو عليها، أليس في ذلك إرباكا لدلالة الشخصية، أما كان يمكن أن يغير الزي والهئية لتظهر الشخصيات مغايرة لهذا الهو، ثم إذا اعتبرناه النفس الأمارة، فما الذي أضافه دخوله في المشهد الثاني وتحريضه لشخصيات بدت في المشهد الأول في ذروة تحفزها واستعدادها للانتقام، ألم يكن حريا أن تكون البداية معه، حتى يكون لتحريضه معنى.

من ناحية السينوغرافيا فإن توظيف عناصرها خدم العرض إلى حد بعيد، خاصة من ناحية الإضاءة التي عبرت بشكل جيد عن مختلف المواقف، لكن سرعة تبادل الأدوار بين الشخصيات الذي بدا على شكل مونتاج لحوارات ومونولوجات ترد هنا وهناك في حكاياتهم الثلاثة، هذه السرعة جعلت تبادل الدور بين الإضاءة والإظلام يتأخر، فتفتح الإضاءة على شخصية في وقت ما تزال إضاءة الأخرى مفتوحة، كما أنه في بعض اللحظات تبقى الأقفاص مضاءة كلها في وقت تكون شخصية واحدة هي التي تتكلم، وهو ما يخل بعامل الفرق الزمني بين الشخصيات، أما الصوت فقد شابته اختلالات ولم تكن بعض الجمل مسموعة، وهناك أخطاء فادحة في اللغة لدى الممثلين، ومن ناحية الأزياء، فقد بدا زي الممثلة فاطمة الصفي التي مثلت الليدي ماكبث مقيِّدا، وأثقل حركتها.
محمد ولد محمدسالم
نشرة مهرجان المسرح الخليجي 2014