تمزج الواقع بالخرافة
مدارات لرواية الصحراء
آخر تحديث:السبت ,18/07/2009
محمد ولد محمد سالم
1/1
“رواية الصحراء” مصطلح نقدي برز في أواخر القرن الماضي وفرض نفسه على المشتغلين بالدراسات الأدبية من خلال رصد لروايات أدبية احتفلت بالصحراء وجسدت عوالمها، في اتجاه مغاير لما درجت عليه الرواية العربية منذ تأسيسها على يد الرواد الذين أصّلوا هذا الفن في الأدب العربي، فقد ارتبطت الرواية العربية بالمدينة وعكست أجواءها وحاراتها وشوارعها ومصانعها واكتظاظها وناسها وعلاقاتها المعقدة وبامتدادها الريفي، لكن ظهور بعض الروايات التي اتخذت من فضاء الصحراء الواسع المفتوح مسرحا لأحداثها، أضاف إلى تقنيات الكتابة الروائية ملامح جديدة، أثارت انتباه الدارسين فأخذوا يتتبعون تلك الروايات وكتابها وينقبون عن ملامح هذا الجديد. ومن أهم الروايات التي عكست تلك الملامح، عبد الرحمن منيف في روايته “مدن الملح” وزيد مطيع دماج في رواية “الرهينة” وأحمد إبراهيم الفقيه في رواية “فئران بلا جحور” وإبراهيم الكوني في رواياته الكثيرة وأهمها رواية “التبر” والذي يعتبر أهم مؤسسي هذا الاتجاه، أي “رواية الصحراء”.
تتميز رواية الصحراء بميزات أهمها فضاء مكاني مفتوح والمكان الصحراوي: هي فضاء الحكاية حيث تدور الأحداث في بحور من الرمال القاحلة الممتدة بلا نهاية في كل اتجاه وتحت سماء واسعة وشمس حارقة، عالم لا نهائي يتسع فاغرا فمه كأنه يريد أن يبتلع كل شيء، وتبدو الأشياء والناس في هذا العالم ضئيلة ضعيفة تصارع لتبقى، وربما تعكس رواية “رجال تحت الشمس” لغسان كنفاني حيث يموت الرجال في تلك الصحراء الواسعة بين الكويت والعراق طرفا من هذا الفضاء، ويقول محمد عيد العريمي في روايته بين الصحراء والماء: “لا أعرف بالضبط متى ولدت فعلى تخوم صحراء لا تسكنها إلا الريح والخواء في الأرض والسماء، وفي صباح يوم صيفي فتحت عيني على غمامة حزن أطبقت على الناس والمكان وبين أصوات النحيب والعويل حزناً على وفاة أخ لم يكمل عامه الخامس ضاعت صرختي الأولى”، ليس هناك ما يذكّرك بالمدينة في هذا الجو حتى الأشياء التي يستخدمها الصحراوي ووسائل الحياة هي من طبيعة صحراوية بدوية كما في هذا المقطع من رواية الخباء للكاتبة ميرال الطحاوي: يمد مسلم دلوه فأتشعلق بحكايا سردوب، يسكب دلوه أمام مشرب “مهرية” ويمرون عليه فيخفيها كما يخفي الفراعين كنوزهم في كهوف الجبال وينحتون حولها أوثان السحرة، يمرون عليه فتصهل خيولهم مهتاجة من ثقل الأسلاب، يستظلون بنخلاته ويعبق الجو برائحة الشواء واللبن المخضخض والقهوة، ويملأون جرابهم من البئر، يخلعون ألثمتهم ويقهقهون بالحكايات”.
المجتمع العرقي: مجتمع رواية الصحراء يقوم على العلاقة العرقية وليس على العلاقة الطبقية أو الإنتاجية التي يقوم عليها مجتمع المدينة، وعلاقاته بسيطة والتراتبية الاجتماعية أبوية، مجتمع مؤسس من أعراق وبطون ومرويات أسطورية وحركة اقتصادية لا تمت بصلة إلى حركة رأس المال، والصراع وجودي مع قوى الطبيعة المجهولة والمخيفة ومن أجل كسب الرزق الشحيح، ومع القيم والأعراف التي تكبل الفرد بخرافات أسطورية لا يجد منها فكاكا، وترسم له قدره ودوره قبل أن يولد.
يقول عبد الرحمن منيف: “كان يفسر الأمر في البداية بأنه الولد البكر، وفي وقت لاحق بدا أقرب إلى رأي أخته خيرية التي كانت تؤكد أن “غزوان مثل أبيه بكل شيء فولة ومقسومة، بس واحد كبير وواحد صغير” أما خلال زيارة الحكيم الأخيرة فقد بدا غزوان رجلا قبل الأوان وكان يحب جلسات الكبار وأحاديثهم، يوجه إلى إخوته الأوامر.. حتى الجوار كما قيل للدكتور ينظرون إليه مثل رجل صغير وكان لا يتردد أن يفعل كما يفعل الكبار”، ومن أثر الفضاء الصحراوي على البنية الاجتماعية وضوح العلاقات بين الناس ومشاعية الأخبار، فلا شيء يخفى هنا، كل شيء صريح كالصحراء المكشوفة ورغم ذلك فهي علاقات صلبة يصعب اختراقها.
يقول منيف في موضع آخر: “ولأن موران في ذلك الموقع النائي المعزول، فلا أحد يصلها إلا إذا كان يقصدها، ولذلك ألف الناس بعضهم بعضا، وعرفوا القرابات والعلاقات وصارت جزءا من حياتهم، فإذا جاءهم الغريب لا يمكنه أن يخترق تلك القشرة الصلبة”، وفي بعض الأحيان يكون هذا الصراع مع المدينة التي أخذت تزحف على الصحراء، كما رصدت ذلك أيضا رواية “مدن الملح”، التي أرخت للمجتمع الصحراوي البدوي وبداية ظهور الحداثة فيه: “ولأن سكان موران من البدو حتى الذين استقروا وتحضروا فإنهم لم يتخلوا عن بداوتهم: كانت الإبل في ساحات الدور أو عند أبوابها، وكانت الخيام إلى جانب الغرف الطينية، والحطب يتجمع في جانب من الساحات الكبيرة.. إنها العاصمة ولا بد أن تتغير بسرعة وتتفوق على المدن الأخرى.. وماعدا حي السفان الذي كان في أقصى غرب المدينة وكانت بيوته تختلف عن الأحياء الأخرى إذ كانت بيوته جديدة وأكثر نظافة وعناية، فإن موران.. لم تبلغ بعد المدينة وإن تجاوزت القرية”.
فراغ
الصحراء فضاء واسع رهيب يشعر الإنسان في مواجهته بالخوف من هذا الاتساع الذي لا نهاية له، الفراغ يحاصره من كل مكان ويبعث في نفسه الإحساس بالمجهول الذي قد يباغته بمفاجأة مميتة في كل مرة، هو معزول وحيد لا يجد أنيسا لذلك يحس أن كل ما في هذا الفضاء عدو، الموت كامن في كل الأشياء.. في الريح والرعد والبرق والسحاب والحشرات والأفاعي حتى الحيوانات التي دجنها فلا يأمن فرسه أو جمله، وقد حاول إنسان الصحراء التغلب على هذا الرعب الدائم باختراع أساطير وخرافات يحمي بها نفسه من غيلة هذه الأرض اليباب، وخلع على الأشياء والحيوانات والناس قوة روحية، فشكلت هذه الأساطير جزءا كبيرا من وعيه وحدد الأطر المعرفية التي يتحرك فيها، وحين دخلت الرواية عالم الصحراء كان لزاما على الخطاب السردي أن يتمثل تلك الأساطير ويعبر من خلالها عن واقع الحياة، فهي تصوغ النسيج المعرفي، والوعاء الرمزي لحياة أبناء الصحراء وهذه الضرورة وسمت الرواية بسمات الغرائبية الحكائية، وتداخل الواقعي والأسطوري، وقد تفطنت الروائية المصرية ميرال الطحاوي إلى هذه الحقيقة في أطروحتها التي بعنوان: “جماليات التشكيل في رواية الصحراء.. المقدس وأشكاله في المخيلة الرعوية”، فاستعانت في دراستها تلك بعلم الإناسة “الانتربولوجيا” منطلقة من البحث الذي أنجزه عالم الاجتماع الفرنسي “كلود لفي شتراوس”، في هذا المجال والمتعلق بصيغ الحكاية لدى المجتمعات البدائية، والذي درس أشكال التعبير الحكائية وبنيات الفلكلور الشعبي باعتبارها دلالات لبنية اجتماعية وثقافية معينة، ولاحظت الباحثة أن كثيرا من الروائيين العرب كانوا يعودون إلى المرويات الشفهية والفلكلور الشعبي للصحراء وحتى إلى كتب الرحلات والتاريخ المتعلق بالصحراء للإحاطة بأشكال التعبير في المنطقة التي سيكتبون عنها، وقد درست في هذا الصدد ما قامت به الروائية رجاء غانم لتبين أنها عادت إلى الذاكرة الشفهية والنصوص التاريخية حتى تستطيع رسم صورة مكة القديمة بعلاقاتها الاجتماعية السائدة وأبنيتها وأنماط عيشها، وتتبعت التوجه نفسه عند إبراهيم الكوني في رصده لأساطير طوارق الصحراء وأشكال الخرافات عندهم، لتستنتج أنه اتكأ على مرويات شفهية ومصادر مكتوبة للرحالة والمؤرخين الذين عرفوا المنطقة في مختلف العصور ما جاء في كتب مثل “المسالك والممالك” و”تاريخ هيرودوت” وما جاء عن ابن خلدون وغير هؤلاء.
لغة شعرية
لغة مكثفة مشبعة بالرمز: هذه البنية الخطابية المشبعة بالأسطوري والخرافي نتج عنها اتخاذ الكائنات أبعادا روحية أو سحرية أو خرافية، ما يحفز تناسل الحكايات حول تلك الكائنات، فتعكس مزيجا من الرغبة في امتلاك المجهول أوصده والرهبة من الهجوم المباغت الذي قد يهجم به ذلك المجهول فيردي هذا الإنسان الوحيد الضعيف قتيلا، كما قتل العراف في رواية “التبر” لإبراهيم الكوني لأنه تجرأ على فك شفرة الكتابة المنقوشة على قدمي الرمز الروحاني، ومما اكتسب أبعادا روحية أيضا ذلك القبر المجهول وسط الصحراء الذي صدق الناس خرافة أنه لولي صالح فصاروا يزورونه طلبا للبركة والحماية، كما جاء في رواية أحمد ولد عبد القادر التي تحمل العنوان نفسه “القبر المجهول”، أما الكائنات السحرية، فنصادفها كثيرا في عالم الرواية عند إبراهيم الكوني.
يقول الناقد حسن المودن: (في رواية التبر نجد هذا المفعول السحري للكتابة، فلما كان التدريب على الرقص في حضرة الحسان مهمة الفرسان في الصحراء، أراد البطل أوخيّد أن يدخل بمهريّه “جمله” حلبة الرقص، فاختار له أنفس وأجمل وأندر تزيين، لكن الحسّاد من أقرانه دسّوا له سوطا نقشت عليه تمائم السحرة، فلعب ذلك دوره في التخريب وترتيب الفضيحة: “امتدت يده إلى السوط السحري كي يحث الجمل على الانطلاق، وما أن أحسّ الأبلق بوقع السوط على جسده حتى ركبه الجنون، رفس حلقة الصبية وفقد وقاره تماما. عاد يمسّد فخده بالسوط فاشتدّ جنون الحيوان. اخترق حلقة النساء، فتفرقت النسوة، وتوقّف الغناء. تعالى الهرج، استمرّ يرفس بخفيه كل شيء في طريقه ويرغي ويلوك الزمام بوحشية”).
وأما اتخاذ الكائنات أبعادا خرافية فنجده في الطريقة التي صورت بها رجاء غانم الشمس في رواية “حبي” حين أرادت أن تلهي الفتاة الصغيرة ريثما تنتهي من تصفيف شعرها: “كانت تمسد خصلات شعري وتحكي: الشمس تدور في السماء وتدور، الشمس بنت مثل كل البنات لها سبعة وجوه ثم ليل طويل تدفن فيه وجهها الأخير العجوز، تهرب وتختفي وراء جبال الغياهب، جبال الحديد والنار، بيننا وبينهم سدان وبئر من الحديد المصهور تسقط فيه الشموس”. لقد جعلت هذه الجوانب الغرائبية للكائنات البطولة الروائية تتجاوز الشخصية الإنسانية إلى الحيوان والكائنات الأخرى، فالفئران في رواية الفئران الثلاثة لأحمد إبراهيم الفقيه وجمل أوخيد في رواية الكوني والخيول في “مدن الملح” لها أدوار تفوق أدوار البشر في بعض الأحيان.
لقد كان من نتائج هذا “الخطاب المزيج” أن صارت لغة الرواية شاعرية ساحرة هي الأخرى ومكثفة بما تحمله من رموز وصور كأنها لغة الكهنة أو الكتب الروحية. يقول سعيد الغانمي في كتابه (ملحمة الحدود القصوى، المخيال الصحراوي في أدب إبراهيم الكوني): “في البداية كانت لغة الآباء والأجداد مكتوبة بلغة سماوية سرية، ذلك أنها رموز مستعارة من لغة الآلهة.. ومن هنا فقد احتكرها الثالوث المقدس: الكهنة والسحرة والعرافون”.
طرح مغاير
رواية الصحراء طرح مغاير للنظرية المدينية في الرواية الغربية وإمكانية لخلق فضاء روائي عربي خاص بعيد عن مركزية الغرب وهيمنة نموذجه، وارتياد لأرض بكر، تعيد الإنسان إلى الجذور وتجد لديه رغبة المغامرة، الرغبة في الحياة، وكما يقول حسن المودن: “رواية المدينة تمنح هذا الإحساس بحتمية الحياة داخل سجن اسمه الواقع، والكتابة عندما تتكلم لغة الأسطورة تكون لها قابلية توليد الصور الكونية البدائية التي تقول الرغبة في الحياة، كأنها لغة الفردوس المفقود...وهي صور تمنح الإحساس بإمكانية الحياة، بإمكانية استعادة الحياة الأولى”.
الخليج - الملحق الثقافي