بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 29 ديسمبر 2012

الإبداع لا شبيه له

أفق
الإبداع لا شبيه لهآخر تحديث:السبت ,29/12/2012
محمد ولد محمد سالم
كان الفتح الذي جاء به الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في الرواية العالمية أنه فتح أعين العالم على حياة كانت مجهولة له إلى ذلك الوقت، هي حياة سكان القرى في المستنقعات الكبرى في كولومبيا وما تأسست عليه من معتقدات وخرافات، جعلت الناس يعيشون تلك الخرافات كأنها حقائق ويؤثر في حياتهم اليومية بشكل مباشر، وكان ماركيز أميناً في رسم تلك المعتقدات، فلم يسع إلى دحضها أو تأويلها، أو البحث لإنسان كولومبيا أو أمريكا اللاتينية عموماً عن مبررات عقلية تغطي تلك التصورات الخرافية، ومن هنا جاءت رواياته، وخاصة “مئة عام من العزلة” تحمل حرارة الطبع الإنساني بكل مظاهره، فتقدمه كما هو من غير إضافات أو تشذيبات، وتلك هي الميزة الكبرى لهذه الرواية، فقد وفق في قنص ما يميّز مجتمعه، وما يميّز الإنسان في تلك البقعة من العالم، وأصبحت كتاباته عنواناً على اتجاه معين في الكتابة سمي “الواقعية السحرية”، وقد عبر مرات عن مدى المفاجأة التي أخذته من عظم نجاح روايته تلك، فلم يكن يتوقعه .

قد يكون أحد العوامل الحاسمة في نجاح رواية ماركيز هو أنها جاءت في فترة كان العالم، وخاصة الغرب الذي ابتكر الرواية، قد شبع حتى ملّ من الواقعية الميكانيكية التي لا تعدو أن تكون محاكاة فجة للواقع، وملّ مشاهد الحياة المكررة فيها، تحت تأثير فلسفات لا تؤمن إلا بالتجربة، ولا تقيم وزناً للخيال، وهو لايزال حديث عهد بحروب دمرته وقتلت روحه، فكان أن جاءت الواقعية السحرية لماركيز لتسدّ تلك الحاجة النفسية لتلك المجتمعات، ولتخرج الرواية من أزمتها، وتفتح لها أفقاً جديداً بإطلاقها للخيال إلى آفاق لا يحدها الواقع، ولا نهاية لها .

تجربة الرواية لدى ماركيز وغيره من الكتاب المبدعين تعلمنا أن الإبداع ليس شيئاً نستورده من غيرنا، ولا يوصل إليه بإزهاق النفس في التقليد الأعمى للمبدعين، فلن يستطيع أي كاتب أو فنان أن يبدع ما دام يفصّل عباءة أعماله على مقاييس الآخرين، ويضع نصب عينيه أن يحاكيهم في ما أنجزوه خطوة بخطوة، ليس هذا هو سبيل الإبداع، بل هو مختلف، يبدأ من الذات المبدعة، ومن واقع هذه الذات، بالبحث عن خصائصها وما يميزها وما يمكن أن تقدمه للآخرين، مما لا يعرفونه، ويكون جديداً عليهم، فتاريخ الثقافة والإبداع هو تاريخ الإضافة والاختلاف، وليس التكرار والتشابه .

إن أهم درس يتعلمه الكاتب أو الفنان هو أن يكتب عما يعرفه، وما خالطت خبرته العقلية فيه خبرته الوجدانية واندغمتا حتى صارتا سبيكة واحدة، لأن تلك المعرفة هي التي ستنجده لتقديم صيغ من الإبداع لا شبيه لها، يعلن بها عن نفسه وعن هويته كذات متميزة وكمجتمع وسياق تاريخي وحضاري له خصوصيته وفرادته
dah_tah@yahoo.fr

http://www.alkhaleej.ae/portal/57b56399-8556-441e-a5a6-8ae135a80daf.aspx

الجمعة، 31 أغسطس 2012

الفردانية وقيم الإنسانية

أفق


الفردانية وقيم الإنسانية
                        آخر تحديث:الجمعة ,31/08/2012

محمد ولد محمد سالم

من غرائب الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام خلال الفترة الماضية قصة الفتاة البريطانية التي أنفقت عشرات آلاف الجنيهات على عمليات التجميل لتبدو مثل الدمية الشهيرة “باربي”، هذا الخبر يذكّر بمجموعة من الأخبار الغريبة التي نسمع عنها بين الحين والآخر مثل مسابقة أقبح ضحكة، ومسابقة أكثر الرجال نهماً، وغيرها من الأخبار التي لا يحكمها منطق ولا ذوق، ولا تدل إلا على درجة العبثية التي يمكن أن يصل إليها الإنسان حين ينسلخ من كل معيار، ويخرج من كل سلطة، حتى سلطة العقل .
قبل سنوات طرحت على التفكير الإنساني إشكالية الاستنساخ عندما نجح علماء الوراثة في استنساخ النعجة “دولي”، فكان التساؤل: هل يحق للإنسان أن يقْدم على عملية استنساخ ذاتية؟ وجرى نقاش طويل بين مدّع أنه حق طبيعي للأفراد، وبين مبطل لهذا الحق لأسباب أخلاقية، فمن غير المعروف ما هي طبيعة هذه “النسخة” التي ستخرج، فهل ستصبح تمثيلاً نفسياً للأصل كما هي تمثيل بيولوجي مطابق تماماً له، وهل نموّها سيكون نمو إنسان بتفكيره ومشاعره، أم ستصير مجرد حيوان، وإذا رغب كل واحد من الأغنياء في العالم في طباعة آلاف النسخ منه، فماذا سيكون شكل المجتمعات؟ وما الذي سيحكم العلاقة بين الأصل والتقليد . . إلخ .
قد تبدو تلك المبادرات شخصية تتعلق بحقوق الفرد وممتلكاته الخاصة وحريته الذاتية، لكن لو أنفقت كل فتيات العالم الأموال لكي يصرن مثل باربي، أو أنفق كل فرد أمواله ليصنع لنفسه نسخاً، أو أنفقت الأموال الطائلة على مهرجانات عبثية، فما الذي سيحدث؟ أليس لهذا انعكاسات اجتماعية واقتصادية على المجتمع، فهل يصح عند ذلك أن يقال هذه حرية شخصية، ألا يحق للمجتمع عند حد معين أن يتدخل لإيقاف هذا الهدر والامتهان للحياة الإنسانية، وللحفاظ على “حقوق” الإنسانية، وليس الإنسان فقط، لقد اتخذت أمريكا منذ سنوات قراراً بمنع الاستنساخ البشري لأسباب أخلاقية ودينية، وهو من منظور الفلسفة البراغماتية والتيارات الفردانية تدخل في حقوق الفرد، لكنه من منظور جوهر الإنسانية هو شكل من أشكال الحفاظ على “النوع” حتى لا يصير عبثاً بأيدي العابثين .
في مجتمعاتنا العربية قد لا تبدو تلك الإشكاليات مطروحة اليوم، لأن مثل تلك النزعات الغريبة للأفراد غير موجودة، أو لأن سلطة المجتمع لا تزال قوية على الوقوف في وجهها، لكن استشراء الدعوة إلى الفردانية وقوة التيارات التي تقدس الخصوصية الفردية على حساب المجتمع وقيمه، ستؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى طرحها، وعلى المجتمع العربي أن يكون قادراً إذ ذاك على التعامل معها، بما يضمن حرية الفرد، ويؤدي في الوقت ذاته إلى استمرار منظومة القيم الحضارية الجميلة التي تؤلف بين أفراد المجتمع وتنظم علاقاته .
Dah_tah@yahoo.fr

الأربعاء، 29 أغسطس 2012

بين الكواكبي ويوسا

أفق


بين الكواكبي ويوسا
آخر تحديث:الثلاثاء ,14/08/2012

محمد ولد محمد سالم

لا بد لمن قرأ “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لعبدالرحمن الكواكبي، وقرأ رواية “حفلة التيس” للروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا، أن يجد وجه شبه بينهما، أو بالأحرى يتصور أن “حفلة التيس” هي التطبيق الروائي للطرح النظري الذي طرحته “الطبائع” - رغم أنه لا صلة بين الكتابين - فالكواكبي في كتابه الرشيق الجميل الذي كان فتحاً فكرياً في أيامه، يرى أن الاستبداد يدمر كل شيء؛ الإنسان والمجتمع والاقتصاد والسياسة والدولة، كل أوجه الحياة تدمر وتسوء تحت سلطة القهر، وهذا بالضبط هو ما صوّره يوسا في روايته الجميلة التي كتبها عن حياة الدكتاتور رافائيل ليونيداس تروخييو الذي كان حاكماً لجمهورية الدومنيكان واغتيل في 30 مايو/ أيار 1961 .

كتبت رواية “حفلة التيس” بشكل استرجاعي تستعيد فيه الشخصيات حياتها التي عاشتها تحت حكم ذلك الطاغية، حيث تحولت تلك الشخصيات إلى كائنات أحط قيمة من الحيوان، يطلب منها أن تقوم بأسوأ الأفعال، ضد ضمائرها، وضد كيانها البشري، فالضابط الشاب لا بد أن يقتل أخا حبيبته بيدين باردتين، ويتخلى عن حبه كي يثبت ولاءه، والوزير المحترم لا بد أن يتغاضى عن زيارات الزعيم لزوجته في وضح النهار، والنائب الجليل لا بد أن يقدّم ابنته المراهقة قرباناً للزعيم كي يثبت وفاءه ويعود له عمله وأمواله، ورجل الأعمال المحترف الذي يصنع ممتلكاته بقدراته الذاتية لا بد أن يتنازل عن مشاريعه الناجحة لأسرة الزعيم لكي يحظى برضاه، والجيران الهايتيون يحكم عليهم بالموت الجماعي بالآلاف لا لشيء سوى لأن لون بشرتهم أسود، وخزائن الدولة تستنزف لمصلحة الممتلكات الشخصية للزعيم وأسرته الذين سيطروا على كل المشاريع الحيوية، واتخذوا عامة الشعب عمال سخرة لديهم، وفي هذا الجو المحطم في كل نواحيه لا تكف أجهزة الدكتاتور وأبواقه عن رفع شعارات الوطنية والتقدمية، وحشد الجماهير اللاهجة بالتأييد والشكر لترخييو العظيم، وسرعان ما ينقلب الواقع حين يُغتال تروخييو على يد مقربين له ممن أهدر كرامتهم واستذلهم، فيبدأ نظامه في التداعي بناء بعد آخر، وخلال أشهر قليلة تعم المظاهرات كل نواحي البلاد ويتنفس الشعب الصعداء، ويخرج أفراد أسرة الدكتاتور طريدين تتبعهم لعنات الشعب، وتظهر بجلاء الكراهية المطلقة التي كانت الجماهير تكنها لذلك الطاغية، فلا أحد يأسى على ما صار إليه وصارت إليه أسرته، ويتضح أن شعارات الولاء والتعظيم التي كانوا يرددونها أمام الزعيم كانت مجرد كلمات جوفاء أرغموا على ترديدها والاقتناع بها حتى في سرهم خوفاً من المشنقة .
تلك هي نتائج الاستبداد، ونهاية كل طاغية يريد أن يتحكم في كل شيء حتى الهواء الذي يتنفسه الشعب، فمع كل لحظة يمد بها عمر حكمه، وكل لبنة يقوي بها بناء حكمه، فإنه يضيف خيطاً إلى كفنه وكفن حكمه، وباكتمال أسباب تحكمه وتجمع أسباب طغيانه يكون قد وصل إلى نهايته، فيتردى من القمة إلى القاع تردّياً ساحقاً، ومن المؤسف أن الدكتاتوريات العربية، لم تقرأ الكواكبي ولا يوسا فتتدارك نفسها، لذلك اجتاحتها الثورات فتداعت غير مأسوف عليها .
dah_tah@yahoo.fr







البطولة الجماهيرية

أفق


البطولة الجماهيرية
آخر تحديث:الجمعة ,24/08/2012

محمد ولد محمد سالم

البطل الواحد كان هو الشكل البطولي السائد في المجتمع العربي التقليدي، ويصور الأدب العربي القديم ذلك الشجاع الفرد الذي يفل الجيوش ويهزم الجحافل . ومع بداية النهضة العربية الحديثة، وتكون الوعي الاجتماعي والسياسي الحديث بدأت ممارسة البطولة تتغير، حيث أحست الجماعة أن عليها أن توجد نوعاً من الوحدة النضالية، فيشترك أبطال عدة أو شريحة اجتماعية كاملة في مواجهة مستعمر أو سلطة ظالمة، سعياً للتغلب عليها وهزيمتها، وتصحيح الوضع المختل في حياتهم .
وتعد رواية “في بيتنا رجل” لإحسان عبد القدوس أول رواية عربية رصدت بشكل واع تلك التحولات، فبطل الرواية إبراهيم حمدي يقتل رئيس الوزراء الفاسد المتعاون مع الإنجليز، ويلجأ إلى منزل أسرة صديقه الطالب الجامعي الذي لم تكن له سوابق في العمل النضالي، ويضطر الطالب تحت تأثير الصداقة الحميمة أن يؤويه في منزله رغم خطورة الموقف وما يمكن أن يعرض له هو وأسرته من مهالك، ومع تطور الأحداث تجد الأسرة نفسها في عمق العمل النضالي، ويتخذ كل فرد من أفرادها موقفاً مسانداً ومدافعاً عن الشاب المناضل الذي لجأ إليهم، فالأخت توصل الرسائل من الشاب إلى المناضلين، والأخ يسجن ويعذب ولا يعترف بإيوائه، والأب والأم يحتضنانه كأنه ابنهما، ويموهان بكل وسيلة حتى لا يكتشف، وابن العم المخبر الذي بلغ عنه يدرك حجم الجرم الذي ارتكبه، فيندم ويتراجع عن أقواله ما يعرضه للتعذيب هو الآخر، وهكذا تتحول الأسرة إلى المشاركة في النضال، وينتقل المجتمع من بطولة الفرد “إبراهيم حمدي” إلى بطولة الجماعة “أهل الطالب”، وسيكون نتيجة ذلك انخراط الأخ وأخته وابن العم في حركة النضال السرية بعد إعدام إبراهيم حمدي .
عبر الروايات العربية اللاحقة سوف يستقر هذا الشكل من بطولة الجماعة مشكلاً التعبير الواضح عن الوعي الذي أصبح سائداً في المجتمعات العربية، حيث لم يعد الهم السياسي والمعيشي للناس هماً فردياً، وصار لزاماً على الشعب أن يتكاتف ويتحد ليواجه الظلم والدكتاتورية والاستعمار، وهذا ما رصدته روايات نجيب محفوظ من جوانب عدة تتبع فيها كيفية نشوء الحركات السياسية وتخطيطها للتغيير، وفي الثلاثية نتذكر كمال أحمد عبد الجواد وأخاه اللذين انخرط كل منهما في حركة نضالية، ونطلع على جوانب من التخطيط للتظاهرات والانتفاضات الشعبية، وفي روايات الريف العربية هناك أصداء كثيرة النوع من البطولة، حيث تثور الجماعة على السيد الإقطاعي، وقد دخلت حكايات النضال الشعبي الجماعي للشعبين الفلسطيني والجزائري ساحة الرواية العربية بشكل مستفيض وجميل يعبر عن كمون روح النضال لدى الفرد وتحفزها الدائم للانصهار في ملحمة جماعية تسطر التاريخ .
هذا الوعي النضالي الجماعي انتقل اليوم وبتأثير من وسائل الاتصال الجماهيرية، ومواقع التواصل الاجتماعي من كونه وعي حركة سياسية أو فئة اجتماعية إلى يقظة جماهيرية عامة متحدة حول مبادئ عليا تجمعها، ومستعدة للتحرك الكاسح من أجلها، وهو ما ترجم في شكل الثورات العربية الراهنة، ومن المؤكد أن الأدب سوف يوثق هذا الشكل الجماهيري من البطولة ويعززه .

dah_tah@yahoo.fr

http://www.alkhaleej.ae/portal/54750c0b-08d5-4132-8336-11efa338b40a.aspx




الأربعاء، 11 يوليو 2012

الكاتبة الإماراتية وقضية المرأة

أفق
آخر تحديث:السبت ,07/07/2012
محمد ولد محمد سالم

يسكن المجتمع وقيمه وعي الكاتبة الإماراتية بشكل دائم حتى وهي في قمة سعيها لاكتساب المرأة إرادتها والتخفيف من ضغوط القيود التي تحد من حريتها، فإنها لا تنسى الحدود التي ينبغي أن تتوقف عندها، ولا تتعداها ربما احتراماً لقيم المجتمع التي تربت عليها، فيكون سعيها للتحرر ليس سوى تعديل وضع داخل منظومة القيم التي لا ترفضها جذرياً .
في رواية “شجن بنت القدر” لسارة الجروان سيكون المرض القاتل ووصول الأب والأخ إلى “شجن” الهارب، هو الجزاء الذي تجازى به على تمردها، وخروجها على المجتمع، ويكون استعطاف الأب لها وطلبه السماح منها على ما فعله معها، هو البلسم المقابل لتلك النهاية المأساوية التي وصلت إليها البطلة، فمن ناحية حكمت القصة على التمرد التام والخروج عن قيم المجتمع بالفشل وبالنهاية غير الحميدة، ومن ناحية أخرى أعطت أملاً في أن الممارسات غير السوية التي كان يمارسها الآباء على بناتهم سوف تختفي، ويظهر نوع من التوازن الذي تكتسب فيه الفتاة حريتها وخيارها بما لا يهدم قيم المجتمع .
في رواية “شارع المحاكم” لأسماء الزرعوني سيمسك الأخ والأم بالبنت الهاربة ويعيدونها إلى أرض الوطن، بعد أن كانت أحبت شاباً كان يعمل لدى أبيها وهربت معه وكان في السابق يعمل لدى أبيها، فيكون رجوعها إعلاناً من الكاتبة أن هناك قيماً وبنية اجتماعية لا ينبغي القفز فوقها، أو تهديمها دفعة واحدة، وإن كانت الكاتبة بحيلتها تلك تعبر عن رفضها للأسباب التي أدت بالفتاة إلى الهرب، أسباب الممارسة الجائرة التي تتعرض لها البنت، لكنها لا تريد أن يخرج ذلك التعبير عن إطار الاحتجاج، والمطالبة بتعديل الوضع، ولا تسعى لهدم المجتمع .
في رواية “زاوية حادة” لفاطمة المزروعي تخضع البطلة لكل أنواع الظلم الاجتماعي ابتداء من التفريق بينها وبين أخيها لمجرد أنه رجل، وهي أنثى رغم أنها كانت تتفوق عليه في أشياء كثيرة، وتحاول الكاتبة إخضاعها لكل أشكال الممارسات الاجتماعية والنفسية التي تمارس على المرأة، وإبقاءها تحت السيطرة، ورغم كل ذلك فإن المزروعي بحثت عن نفق من الضوء داخل هذا المجتمع، وأعلنت احتجاجها على أشكال من الممارسة وليس على البناء القيمي الكامل .
هذا الاتجاه في معالجة قضية المرأة، يبدو اتجاها غالباً على الكتابات الروائية الإماراتية، ويمكن فهم ذلك عند حد معين بأن الكاتبة لا ترفض كل شيء في مجتمعها، ولا تقدم منظومة قيم مغايرة له، لأنها مشبعة بمنظومته القيمة والأخلاقية، وبالمبادئ التي تأسس عليها، وهي ضمنياً قابلة بها، لكنها تدين نوعاً من الممارسات التي ربما تكون انحرفت عن المبادئ الإنسانية والأخلاقية الأصيلة للمجتمع، وجارت على ذلك العنصر الضعيف، فمسعى الكاتبة هو محاولة لاستعادة مكانة المرأة في منظومة القيم، واستعادة هويتها كإنسانة لها احترامها، وهذا الموقف يعكس انتماء أصيلاً للمجتمع وقيمه .

dah_tah@yahoo.fr
http://www.alkhaleej.ae/portal/d6e6b45a-17cf-4afd-a1d3-72b255f30bf9.aspx

السبت، 30 يونيو 2012

غارودي يكشف زيف حرية الرأي الغربية

مواقفه درس للمتساقطين في أحضان الصهيونية العالمية
آخر تحديث:الاثنين ,25/06/2012


محمد ولد محمد سالم

أخيراً ترجل روجيه غارودي عن صهوة تاريخ حافل بالتجوال الفكري الحر، والالتزام الإنساني العميق، وبعد 99 عاماً وفي 13 يونيو/حزيران الجاري غادر إلى مثواه الأخير، وفي حلقه غصة من زيف حرية الرأي وقيم الحضارة الغربية التي تملأ دعاويها أسماع الدنيا، في الوقت الذي تتحطم فيه تلك الدعاوى على صخرة مواجهة المسكوت عنه في الفكر الغربي، ومحاولة النبش في حقائق الصهيونية العالمية .
حين نشر روجيه غارودي سنة 1996 كتاب “الأساطير المؤسسة للسياسة “الإسرائيلية”” لم يكن يبحث عن سمعة ولا جائزة ولا حظوة لدى أي كان، فقد كان ذلك الأستاذ الجامعي الثمانيني يومها يحظى بشهرة فائقة وتشهد كتبه الكثيرة إقبالاً واسعاً، ويحتفظ في بيته بأرفع الأوسمة الفرنسية عن دوره المشهود في مقاومة النازية وحكومة فيشي العميلة، لكنّ كل تلك الحظوة لم تكن لتدفعه وهو المفكر الإنساني الحر إلى خيانة ضميره والسكوت على جريمة إنسانية تحقق منها بالأدلة العلمية، وأدرك فساد دعوى مرتكبيها وبطلان حججهم، ولم يردعه أيضاً ما كان يعرف أنه ينتظره من هجوم وإرهاب فكري وتهميش، فمضى يتبع نداء ضميره وقيمه الإنسانية التي لا تقبل بالظلم والعنصرية والإبادة الجماعية للبشر، فدان الجرائم “الإسرائيلية” في فلسطين وطعن في الدعاوى التي تقدم لتبرير تلك الجرائم، وانصب جهده على مراجعة مقولات “الشعب المختار” و”الحق التاريخي” والأرقام المبالغ فيها عن “المحرقة النازية” التي غدت حقيقة مقدسة تستعطف بها “إسرائيل” الغرب، وتبرر بها احتلالها للأرض العربية وإبادتها للشعب الفلسطيني الذي يقف في وجه “الحق الإلهي” المزعوم ل”الإسرائيليين” في أرض “الميعاد”، وأراد بتلك المراجعة أن يبين بطلان تلك الدعاوى الصهيونية، ويبين حق الفلسطينيين في العيش كرماء على أرضهم وأن يرفع عنهم الظلم .
من العجيب أن ما أدركه ابن موظف الحسابات الفرنسي وفيلسوف الماركسية السابق، وسعى لدحضه بدافع من الضمير الإنساني المحض، والانحياز الفطري للمظلومين، قد أنكره أو تجاهله ثلة من المثقفين من أبناء الأرض وإخوة الدم العربي، بدافع هذه المرة من الحظوة لدى الغرب والبحث عن اعتراف ومكاسب هناك، ونتذكر الرسالة الشهيرة التي وقع عليها مثقفون عرب والتي تدين مؤتمر المؤرخين المراجعين “للمحرقة” الذي كان سيعقد في بيروت في نهاية مارس/آذار ،2001 وطالب فيها أولئك المثقفون الحكومة اللبنانية بمنع عقد ذلك المؤتمر بحجة أنه “معادٍ للسامية”، وتناسوا أن المبالغة الصهيونية بشأن المحرقة واستغلالها المفرط في الدعاية هو ما سهّل لهم احتلال فلسطين وإبادة الفلسطينيين وتشريدهم، وذلك أبشع أنواع العداوة للسامية، أليس العرب من أبناء سامٍ؟ لكن ضمائرهم تلك الثلة من المثقفين كانت مغطاة بالطمع في جوائز الغونكور ونوبل وغيرها، وبالتطلع للاعتراف الغربي بهم كمثقفين متحضرين يُدعوْن إلى المؤتمرات العالمية وتترجم كتبهم إلى اللغات الأوروبية والعبرية، وكانوا مستعدين للانسلاخ من كل شيء من أجل ذلك، ومن المؤسف أن التنكر للحق الفلسطيني والارتماء في أحضان “إسرائيل” أصبح اليوم طريقاً سهلاً للباحثين عن الحظوة لدى الغرب، وقبل أيام حظيت المخرجة التونسية نادية الفاني بزيارة ل”تل أبيب” للمشاركة في ندوة هناك تقديراً لها على عدائها للعرب والإسلام و”تسامحها” مع “إسرائيل” والصهيونية، وكانت أفلامها المجدفة قد لقيت رواجاً كبيراً في الغرب وحصلت على جوائز عدة، كذلك شأن الكاتب الفرانكفوني الجزائري بوعلام صنصال صاحب رواية قرية “الألماني أو مذكرات الأخوين شيلر” الصادرة سنة 2008 التي تحكي قصة علاقة ضابط سابق في الجيش النازي بقادة جبهة التحرير الوطني في الجزائر، وتهدف إلى النيل من سمعة الثورة الجزائرية العظيمة بربطها بالنازية، وقد احتفى اللوبي الصهيوني في الغرب بالرواية فحصلت سنة 2011 على “جائزة السلام” من جمعية أصحاب المكتبات في ألمانيا، وترجمت إلى العبرية واحتفت بها الصحف “الإسرائيلية” ودعي صنصال إلى “إسرائيل” في مايو/أيار الماضي للمشاركة في مؤتمر أدبي عالمي ترعاه الحكومة “الإسرائيلية” .
الفرق بين غارودي وبين أولئك الطالبين للسمعة الغربية والمنفعة المادية، هو أن غارودي واجه الصهيونية وهو في قمة مجده وأوج رواجه، وكان يمكنه وهو الخارج لتوه من الحزب الشيوعي الفرنسي أن يرتمي في أحضان الصهيونية، فيزداد سمعة على سمعة، ورواجاً على رواج، لكنه لم يكن طالب ماديات، بل كان طالب حق، ومناصرا بتلقائية للخير وعدوا للشر، ومسيرته الفكرية والسياسية تؤكد ذلك بشكل واضح، فقد كانت البداية من مسقط رأسه مرسيليا على شاطئ المتوسط التي بذرت فيه بذرة التعاطف الإنساني مع الضعفاء والمقهورين، وغرست في نفسه الإيمان بمبادئ العدل والمساواة حين كان يرى عمال السخرة المستجلبين من أقاليم ما وراء البحار للعمل في مصانع الإمبراطورية وهم يئنون تحت وطأة الأعمال الشاقة والسخرة لخدمة فرنسا الاستعمارية، وتأصلت تلك المبادئ أثناء الحرب العالمية الثانية حين احتُلت فرنسا فعارض بشدة الاحتلال النازي وحكومة فيشي العميلة له، واعتقل بسبب ذلك في الجزائر حيث كان يدرس، ومما أثر فيه بالغ التأثير وشد انتباهه للقيم الرفيعة للحضارة العربية الإسلامية أن المجندين المسلمين في إحدى فرق الجيش الفرنسي العميل للنازية رفضوا إطلاق النار عليه هو ومجموعة من المعتقلين بحجة أنهم أسارى وأن تقاليد المسلمين تمنعهم من قتل الأسير .
على ضوء تلك المبادئ تقلب غارودي بين النظريات الفلسفية والأطروحات السياسية بحثاً عن سند فكري لفطرته الإنسانية، وربما يكون ذلك هو الدافع وراء توجهه إلى دراسة الفلسفة التي حصل فيها على الإجازة في الفلسفة من جامعة مرسيليا سنة ،1937 والدكتوراه من جامعة السربون عن أطروحته حول النظرية المادية في المعرفة في سنة ،1953 وأصبح أستاذاً في الجامعة، وأثناء ذلك تنقل بين البروتستانتية التي اعتنقها وهو فتى ووجد فيها انفتاحاً إنسانياً يملأ عواطفه المراهقة، والشيوعية التي تنظلق من وجهة نظر شمولية تدين الظلم والقهر وكل أشكال التمييز، لكن الدوافع التي جعلته ينخرط في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي ويتبنى النظرية الماركسية ويصبح فيلسوفها المنظر، هي نفسها التي ستجعله يعترض على ممارسة الشيوعية وينتقد السياسة السوفييتية الستالينية حين انحرفت إلى الظلم وكبت الحريات ما جعله يفصل من عضوية هذا الحزب سنة ،1970 ومن الناحية الفكرية سيتجه في تلك الفترة إلى تطعيم المادية الماركسية بالروحانية الكاثولوكية للتخفيف من جفاء الفكر المادي، الذي لا يعترف إلا بالشيئية ولا يرى في المعرفة والأفكار سوى إفراز للحياة المادية للإنسان، ولا تعترف بما وراء ذلك، وقد طور نظرته تلك إلى مسعى لإقامة حوار حضاري بين الأفكار والأديان دشنه بكتابه “من أجل حوار الحضارات” 1976 الذي دان فيه التعالي الغربي على الآخر واستهزاءه بالديانات والثقافات الأخرى، ونظرة هذا الغرب للآخرين على أنهم متخلفون، وأن فكرهم وحضارتهم لا تمت للإنسانية بصلة، وابتداء من هذا الكتاب سيكثف غارودي بحوثه المتعلقة بالأديان، وخاصة الإسلام والمسيحية واليهودية، التي انتهى فيها إلى الإشادة بالإسلام انطلاقاً من نظرته التسامحية وقدرته على استيعاب الحضارات الأخرى والانفتاح عليها وتقبلها، وهو، حسب غارودي ما يثبته تاريخ الإسلام، وتعززه أطروحاته الفكرية، وفي هذا السياق وضع غارودي، كتابه “مبشرات الإسلام” ،1981 ثم أتبعه بكتبه الكثيرة عن الإسلام ومنها “الإسلام دين المستقبل”، و”المسجد مرآة الإسلام” و”الإسلام وأزمة الغرب”، و”فلسطين مهد الرسالات السماوية” .
لم يكن إذاً نقد روجيه غارودي للصهيونية ومراجعته لمسلمات الغرب حولها طفرة فكرية، ولا موقفا شاذا أو انقلاباً على مسيرته الفكرية، بل كانت تكل مؤشرات هذه المسيرة المشبعة بالإنساني والعقلاني المؤسسة تأسيساً علمياً وفكرياً راسخاً تقوده إلى ذلك الموقف، وتدعوه وهو صاحب الضمير الحي والالتزام الأخلاقي إلى أن يكتب “الأساطير المؤسسة للسياسة “الإسرائيلية””، ويتقبل راضياً حكم فرنسا الصهيونية بإدانته بمعاداة السامية وحظر كتبه والتعتيم الإعلامي عليه، مطمئناً لشعور عميق بأنه أخلص لضميره، وللحق والإنسانية، وفي ذلك درس لثلة المثقفين العرب المتساقطين في صحون الصهيونية العالمية أولاً، وللإنسانية ثانياً، وسيأتي اليوم الذي تهزم فيه الصهيونية، وتعترف فيه فرنسا بأنها أخطأت في حق أحد أعظم مفكريها في القرن العشرين

الخليج
http://www.alkhaleej.ae/portal/d454cfa4-2d0c-42c3-b7cd-10bfab0a855b.aspx

صورة المدينة في الرواية

أفق
آخر تحديث:الأحد ,24/06/2012
محمد ولد محمد سالم

يضع الدكتور نبيل سليمان في كتابه “أسرار التخييل الروائي” فصلاً عن “كنائية المدينة في الرواية العربية” يستعرض فيه تمثلات المدينة في عدد من الروايات العربية، ودلالات تلك التمثلات، ويركز بوجه خاص على الروايات التي لا تعين اسم مدينة بعينها، ويسمى هذه الاستراتيجية استراتيجية (اللا تعيين) ويتوقف فيها عند كُتَّاب كثر مثل بهاء طاهر في رواية “حب في المنفى” التي تدور في مدينة أوروبية غير معينة، ويرى الدكتور نبيل أن بهاء طاهر من واقع عمله في جنيف في سويسرا أراد أن يقدم صورة لوضع المثقف العربي الذي تلفظه سلطات بلاده إلى المنفى ليعيش حياة عدمية في مدن غربية، ولارتباط الموضوع بحياة بهاء طاهر الذاتية وحياة أصدقائه، لذلك سعى إلى الكناية عن المدينة ولم يصرح بها، لكي يسمح له ذلك بدرجة من الحرية يمكن معها أن يقول ما يريده، والاستراتيجية نفسها يتبعها غازي القصيبي في رواية “العصفورية” حيث يطرح فيها نقداً للحكومات العربية وللأنظمة الدكتاتورية والفساد السياسي والاقتصادي، ويكني عن المدن بعربستان ،48 وعربستان ،49 وعربستان 50 وغيرها، وفي رواية (سلطان النوم وزرقاء اليمامة) يرسم مؤنس الرزاز ملامح لمدينة خرافية يسميها مدينة “الضاد”، وهي مدينة مفتتة الملامح غير واضحة المعالم، تحمل ضبابية ولا يمكن أن نحدد لها جغرافياً قارة، ويرى سليمان أن الرزاز أراد أن يقدم صورة رمزية لحال التشظي والتمزق التي تعيشها المدن العربية والإنسان العربي في داخلها .
مهما كانت التمثلات التي يمكن أن يستنتجها الدكتور نبيل سليمان أو غيره للمدينة العربية في الرواية، فإن صورة المدينة في الرواية العربية ترتبط بقضية كبرى، هي صورة الواقع في الرواية، أو بعبارة أخرى الحدود بين المتخيل والواقع في السرد الروائي العربي، ما حدود الخيال؟ وما حدود الواقع؟ وأين ينبغي أن يتوقف أحدهما ليبدأ الآخر؟ وهي إشكالية دار فيها كثير من المعالجات النقدية المتعلقة بالرواية، ويمكن أن نشير فقط إلى أنه ليس هناك قوانين تحدد للكاتب علامات التوقف عند أي حد من الطرفين (الواقع والخيال) والعامل الأساس في وضع أية حدود هو رؤية الكاتب أو المنظور الروائي الذي يسعى إلى بناء الأحداث منه، وما يريد أن يقوله من خلاله، فهو الذي يفرض عليه خياراته بين الاتجاهين، فمادة الواقع كمادة الخيال خامتان أوليان يعجن منهما المبدع منتجه بمقادير تزيد وتنقص بحساب ما يمكن أن تدلا عليه في السياق الذي يضعهما فيه>
من هذا المنظور فإن المهم في المدينة في الرواية ليس اسمها ولا ملامحها ولا التصريح بها أو التكنية عنها، بل المهم هو ما صورة تلك المدينة في سياق الرواية؟ وما تدعم به توجهات الكاتب في رسم الشخصيات والأحداث؟ ففي رواية “دروز بلغراد” لربيع جابر ليس المهم أن تكون الصورة التي قدمها لبيروت هي الصورة الحقيقية لبيروت في منتصف القرن التاسع عشر، بل المهم هو أن هذه الصورة خدمت وجهة نظر الكاتب وفضاء الحدث ومجال تحرك الشخصيات .
dah_tah@yahoo.fr
الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/9d213d70-b115-4cf2-b9be-94bf8d2ff612.aspx

بين الكلمة والصورة

أفق
آخر تحديث:الأربعاء ,27/06/2012
محمد ولد محمد سالم

منذ أن ظهر الاستعمار في بلاد العرب كان يتبلور نوع من الخطاب الأدبي تبدت ملامحه في رفض الاستعمار وإدانته والتصدي له، والاعتزاز بالأرض وناسها المنغرسين فيها، والوقوف في وجه كل مسعى يريد أن يشوه ملامح الوطن وقيمه الحضارية، وقد عرف هذا الاتجاه ذروته واكتماله مع مجموعة من شعراء الأرض المحتلة، أطلق عليهم النقاد “شعراء المقاومة”، ثم لم يلبث هذا اللون من الأدب أن تطور ليصبح كل أدب يقاوم الظلم والدكتاتورية، وعرفت نماذج منه في المشرق والمغرب في العقود الماضية .
واليوم يبدو هذا الاتجاه شبه معدوم أو خافت الصوت لا يكاد يسمعه أحد، رغم انفجار وسائل الاتصال، وسرعة انتشار المعلومة، فلا يكاد يصل إلى سمع المتلقي العربي صوت شعراء المقاومة - إن كان لا يزال هناك شعراء مقاومة-، والمفارقة هي أن أسباب هذا الشعر تضاعفت في السنوات الأخيرة، واستشرى الظلم والجور، بل القتل والإبادة بشكل لافت في بعض أرجاء الوطن العربي، فأين هم شعراء المقاومة أصحاب الكلمة الحرة الحارقة القادرة على التأثير في الجماهير، الكلمة التي تفعل مفعول البندقية بما تحركه من عزائم وترفعه من معنويات وإصرار في وجه الظالم؟ هل يئس الشعراء من الواقع فانصرفوا عنه أو استبدلوا المظاهرات وأشكال المقاومة الأخرى بالكلمة؟
قد تبدو صورة حية لمئات الآلاف من الجماهير المحتشدة بصخبها وشعاراتها، وصورة لدمار هائل ودخان يتصاعد من أرجاء حي شعبي، وتتناثر على شوارعه أشلاء القتلى، ويلوذ سكانه بجدران المباني بحثاً عن طريق للفرار من الرصاص والصواريخ، يتم عرضها على شاشة التلفزيون أو في اليوتيوب، أقدر على التأثير من الأدب، وأشد وقعاً من تلك القصائد المنمقة، وهو ما يجعل المتلقي ينصرف إلى تلك الأشكال التعبيرية غير الأدبية، لأنها تصل إليه بأدق تفاصيلها بشكل مباشر وصادم، وتمتلك عليه حواسه ووجدانه بشكل لا يستطيع معه التفكير في غيرها، ولهذا يبدو أن حلول تلك الأشكال التعبيرية محل الكلمة على الأقل في الوقت الراهن أمر لا مفر منه، وهو ينذر باستقالة الشعراء ونزولهم عن عروشهم .
لكنّ هناك فرقاً جوهرياً بين تأثير الصورة وتأثير الكلمة، وهو أن الصورة جامدة وذات بعد تأويلي واحد، لا تتجاوزه، وهي تخاطب العين التي يمكن أن تتعود على الأشياء وتقبل بالتعايش معها، بينما الكلمة تأتي في سياق جملة تحتمل أوجهاً تأويلية عدة، وهي تخاطب السمع والبصر والعقل والوجدان، وهي متقلبة عبر الزمن، وعبر سياق الأحداث، ولا حصر لتأويلاتها، ومن هنا فهي تظل دوماً صادمة ومحفزة، يسمعها المتلقي للمرة الألف كأنها المرة الأولى فتنتفض حواسه وتثور نفسه، لذلك فإن الشعر لا يمكنه أن يستقيل أو يقال، أو ينزوي عن ملعبه الأول، وهو ملعب المقاومة ضد القبح والظلم والقهر، فلا بد أن يعلو صوته بمقاومتها، لا بد أن يقول لها “لا” عالية مدوية في جهات الأرض الأربع .
Dah_tah@yahoo.fr

الخليج:
http://www.alkhaleej.ae/portal/85ca86c5-d607-4b3c-820c-24a7e0eed58a.aspx






الثلاثاء، 24 أبريل 2012

الأدب والمحظور من القول

أفق
 آخر تحديث:الخميس ,05/04/2012

محمد ولد محمد سالم

يعتبر كتاب “كليلة ودمنة” الذي وضع نصه الأصلي حكيم الهند بيدبا وترجم إلى الفارسية القديمة ثم نقله إلى العربية عبدالله بن المقفع أحد أهم إبداعات البشرية في فنون القول، ذلك لأن الحكيم بيدبا الذي كان يعيش في مجتمع يسوده الظلم والجبروت ويتسلط فيه القوي على الضعيف، ويحكمه سلاطين جائرون، أراد أن يقدم آراءه في العدل والأخلاق والحكمة بطريقة يصل بها إلى الناس ويبلغ بها رسالته من دون أن يجعل أولئك الظالمين يحسون بأنه يدينهم، وأن يضع في أيديهم دليلاً يمكنهم به أن يتسلطوا عليه فيعاقبوه، فلجأ إلى سرد أفكاره على ألسنة الحيوانات، وكانت تلك حيلة بديعة سلم بها من ملاحقة الظالمين، وبلغ فيها مقصوده في تثقيف الأمة وتوعيتها بقيم الحق والعدل، وقد وصفت مقدمة “كليلة ودمنة” تلك الطريقة التي اتبعها بيدبا بأنها “حيلة” من حيل الأدباء: “فلم تَزَلِ العلماءُ من كل أمة ولسان يَلتَمِسونَ أن يُعقَلَ عنهم ويحتالونَ لذلك بصُنوفِ الحِيَلِ ويَبتَغونَ إخراجَ ما عندَهُمْ مِنَ العِلَلِ في إظهارِ ما لديهِمْ مِنَ العُلومِ والحِكَمِ، حتى كانَ من تلك العِلَلِ وضعُ هذا الكتابِ على أفواهِ البَهائِمِ والطير” .
ومنذ أن ابتدع الإنسان فن القول الأدبي للتعبير عن تجاربه في الحياة فهو يواجه خطر الوقوع في المحظور، حين يتجاوز الحدود التي يضعها المجتمع في طريقه، فيضطر إلى مصارعتها، ويخيل لمن يستعرض الأدب القديم أن الشعراء إنما لجأوا إلى المجاز والاستعارة والتشبيه والكناية ومختلف أساليب البلاغة هروباً من سلطة الواقع، واحتيالاً عليها، بمستوى ثان من القول يرتفع عن المباشرة حتى لا يؤخذ عليهم دليل إدانة يؤدي بهم إلى الزنزانة أو المقصلة، لكن هذا الهروب والتعالي على الواقع هداهم إلى ضروب من الجمال الأدبي الأخاذ .
كثيرة هي محاذير الحياة التي تكبل حرية الإنسان في القول، بدءاً بحياته هو ثم حياة الناس من حوله وصولاً إلى قضايا الأخلاق والمجتمع والفكر والمعتقد والسياسة والسلطة، ومع ذلك فإن وجود تلك المحاذير كان دائماً دافعاً إلى الكتابة الرفيعة وإلى صناعة الأدب الراقي الذي يرتفع عن السفاسف، ويفتح للمخيلة آفاقاً رحبة، وقد اهتدى الأدباء إلى طرائق كان أشهرها أنسنة عالم الحيوان، واختراع مجتمع مواز للمجتمع البشري تكون الشخصيات اللاعبة فيه حيوانات تقوم بينها من العلاقات ما يشبه ما يوجد في واقع البشر، وتفكر مثلما يفكرون، وفي المجتمعات المعاصرة التي اكتسب الأديب فيها الحرية أصبح من السهل عليه أن يتجاوز تلك الحدود من دون عناء، وبشكل مباشر لا مواربة فيه، ولا رمزَ، لكن انفتاح الحدود ربما يكون فخاً أدبياً، حيث يفقد معه الأديب عنصر التحدي الذي يحفز خياله للبحث عن تشكيلات تصويرية، وسلاسل إيقاعية وأنساق رمزية بديعة لقول ما لا يمكن قوله، فيسقط في المباشرة ويظل عند مستوى الصفر من القول .

Dah_tah@yahoo.fr
الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/717580d8-743e-447d-a500-9d86148dacec.aspx

شكرا غونتر غراس

موقف شجاع          آخر تحديث:الأحد ,08/04/2012


محمد ولد محمد سالم

شكراً لغونتر غراس على شجاعته وإن أتت متأخرة بعقود عن وقتها، فقد كان هناك دائماً مبرر لرفض “إسرائيل” وجرائمها منذ تأسست تلك الدولة على بحور من دماء أهلنا الفلسطينيين الذين اغتصبت أرضهم وشردتهم، منذ النكبة كان هناك دائماً ما يبرر لأي غربي حر شجاع أن يصدع بالحق في وجه البطش الذي تجاوز الرقم القياسي في تاريخ الجرائم الإنسانية، لكنهم، وخاصة الألمان، كانوا مشغولين بالتكفير عن تاريخ هتلر، وتلاحقهم لعنته، ومحاكمات نظامه، فلم يستطيعوا أن يجهروا بآرائهم في جرائم “إسرائيل” التي لا يمكن إخفاؤها، واليوم وقد ابتعد الغرب بعقود طويلة عن التاريخ النازي، وأصبحت أجسادهم بمنجاة من محاكماته، فإنه سيكون من النبل أن يصدقوا مع أنفسهم وينسجموا مع ما يدّعون الإيمان به من عدل وحرية وحق إنساني، ويعلنوا صراحة إدانتهم ل”إسرائيل”، وقد فعلها الروائي والشاعر الألماني الحاصل على “نوبل 1999” يوم الأربعاء الماضي حين نشر نصاً أدبياً يدين فيه “إسرائيل” ويصف امتلاكها للأسلحة النووية بأنه يهدد السلام العالمي، وأطلق خلالها عبارة يجدر أن تكون عنواناً لمرحلة مقبلة، حيث قال: “لن أظل صامتاً لأنني سئمت من النفاق الغربي” .
يستدعي موقف غراس إلى الذهن مواقف بعض الشعراء والأدباء العرب الذين حَلُموا بنوبل، وبجوائز غربية أخرى كثيرة، فسوّقوا لثقافة الحوار والسلام مع “إسرائيل”، وانتسبوا إلى منتديات للحوار تضم يهوداً “إسرائيليين”، واستُغِلوا من حيث شعروا أو لم يشعروا ضد قضية أمتهم الكبرى، قضية فلسطين، حتى إن من بينهم من حاول أن يلتف على تاريخه النضالي العربي، ومواقفه ضد “إسرائيل”، فسعى إلى إسقاط أدبه القديم، ووصلنا إلى مرحلة كاد أن يكون فيها “المثقف” “الإسرائيلي” المتشبث بعنصريته ودمويته صديقاً للمثقف العربي المنخدع، ومحاوراً له من أجل السلام، ونسي هذا المثقف العربي أن “الحوار” مع “إسرائيل” (لو كان مقبولاً) فإنه يبقى شأناً سياسياً وليس ثقافياً، فليس المثقف معنياً بما يحدث في الواقع السياسي اليومي إلا بالقدر الذي يؤكد مبادئه ويحفظ هويته وأسس ثقافته، إذ هو حارس الهوية والأمة ومبادئها العليا، وحارس لقيم العدل والمساواة والحق، وعليه أن يبقى كذلك مهما تغيرت اللعبة السياسية أو تبدلت أدواتها .
لقد كانت غلطةً كبيرة من شعراء وأدباء عرب مرموقين أسالت لعابهم تلك الجوائز التي تخصص لهم من طرف منظمات ومنتديات أدبية غربية تشجيعاً لهم على “الحوار”، ونسوا أو تناسوا أن ذلك لم يكن سوى إسناد ثقافي “إسرائيلي” وغربي للحوار السياسي الذي فرض على العرب بعد أن سُلبوا كل وسائل الدفاع عن أنفسهم .
ليت إعلان غونتر غراس يوقظ ضمائر أولئك المثقفين العرب، ويعيدهم إلى رشدهم، فيكفوا عن الترويج للسلام مع “إسرائيل”، ويعرفوا أن الصدق مع الذات هو أهم حِلْية ينبغي أن يتحلى بها المثقف، هذا إذا لم تكن ثورات الربيع العربي قد أيقظت ضمائرهم ونبهتهم إلى عبثية الطريق الذي كانوا يسلكونه .

dah_tah@yahoo.fr
الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/c2b06ad3-2057-4f2e-a63a-d6dc46cb6f70.aspx

"دروز بلغراد" وإشكالية التاريخي والروائي

في مديح الحكي


"دروز بلغراد" وإشكالية التاريخي والروائي                           آخر تحديث:الاثنين ,16/04/2012

الشارقة - محمد ولد محمد سالم:
ما يميز عمل ربيع جابر في رواية (دروز بلغراد . . حكاية حنا يعقوب) التي حصل بها على الجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الخامسة 2012 هو تصويره لطابع الحياة السائد في الأقاليم التابعة للدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، ووقوفه على التفاصيل الدقيقة في تلك الحياة، ومستوياتها المختلفة خصوصا حياة السجناء والجنود وضباط الجيش العثماني، وأوضاع الأقاليم الأوروبية التابعة للدولة العثمانية، وما تشهده من اضطرابات، فقد أتى الكاتب على كل تلك التفاصيل وهو يتتبع حياة أبطال روايته بين لبنان وبلاد البلقان .
حين ننظر في قائمة المصادر والمراجع التي ذيَّل بها جابر روايته -على غير عادة الروائيين -فإننا سندرك الجهد الذي بذله هذا الكاتب الدؤوب في تأليف روايته، فقد رجع إلى العديد من المؤلفات والوثائق المتعلقة بتلك الحقبة التاريخية عامة وبالواقعة التي بنى عليها روايته خاصة، وهي واقعة نفي مجموعة من الدروز بعد حرب أهلية طاحنة، حيث يخلص جابر للنهج الذي اختطه لنفسه وهو العودة إلى التاريخ لرسم عالمه الروائي مركزاً على حقب وحوادث مفصلية في تاريخ لبنان، مستعيداً إياها في تداعياتها على الناس العاديين الذين لم يكن لهم دور في صناعة حوادثها، ولكنهم تأثروا بتداعياتها، وطحنتهم رحاها .
يكتب ربيع جابر التاريخ الاجتماعي، تاريخ الناس في تقاطعه وتوازيه مع تاريخ الخاصة الذين يصنعون التاريخ ويوجهون دفته، ويحلل التجارب النفسية للبسطاء، في تفاصيلها الدقيقة المشكلة من غلالة من الألم والحزن، ومع ذلك فهم يترصدون كل لحظة أمل أو فرح شاردة فيقتنصونها ويعيشونها بكل جوارحهم .
في “دروز بلغراد” يمثل حنا يعقوب ورفقاؤه من السجناء الدروز أولئك البسطاء، ويستند السرد على حادثة نفي 550 درزياً عقاباً لهم على ما فعلوه بالمسيحيين خلال أحداث فتنة وقعت في عام ،1860 ومن سوء حظ ذلك الشاب المسيحي المسالم المسمى حنا يعقوب الذي يبيع البيض أنه كان يتجول بسلته في الميناء في تلك الساعة التي سينقل فيها أولئك الدروز إلى السفينة التي ستأخذهم من بيروت إلى بلغراد، فالتقطه الجنود العثمانيون بأمر من ضابطهم ليكملوا به عدد السجناء الدروز قبل أن يحضر القنصل الفرنسي الذي سيعدهم، ولن يقبل ترحيلهم ما لم يكن عددهم كاملاً، وكان الضابط قد أطلق سراح أحد أبناء الشيخ غفار الخمسة بعد أن رشاه غفار بكل ما يملك من ذهب، وهكذا يجد حنا نفسه في الأغلال مرغما على أن يقبل أن اسمه سليمان بن الشيخ غفار، وأنه درزي مسجون بين عشرات الدروز المرحلين، وتبدأ تفاصيل حياة السجن التي سيعيشها على مدى اثنتي عشرة سنة متنقلا مع تلك المجموعة بين سجون بلغراد والهرسك وكوسوفو وبرشتينا والجبل الأسود، في رحلة عذاب مزقهم فيها ظلام السجون والبرد والجوع والمرض والعمل الشاق فتساقطوا أفراداً وجماعات حتى قضت هجمات البلغاريين على حصون الأتراك على آخرهم ولم ينج سوى حنا، الذي هرب لكنه يقع من جديد في أيدي الأتراك ويسجن سنوات أخرى، ثم يهرب من جديد بعد أن احترق الحصن الذي سجن فيه، وهام على وجهه في مقدونيا لتنقذه قافلة حج أوهم أهلها أنه مسلم حاج، وحين وصلوا إلى دمشق انفصل عنهم وركب مع القوافل المتجهة إلى بيروت ليجد زوجته هيلانة وابنته بربارة في انتظاره .
مما يحسب لربيع جابر في روايته هذه أنه تجاوز التشتت الحكائي الذي ساد روايته السابقة “أميركا” التي وصلت به إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية في عام ،2009 فقد أثقل تلك الرواية بتعدد الحكايات التي لا تؤدي دورا مهما في صلب الحكاية الأصلية، أما هذه الرواية فقد تمكن بنسبة كبيرة من السيطرة على مسار حكائي واحد من البداية إلى النهاية، وهي ميزة من أهم ميزات الكتابة الجيدة، كما تحسب له رشاقة اللغة وسلاسة التعبير والالتزام بالفصحى في الحوار .
نجح الكاتب في رسم التحول النفسي الذي حدث للشخصيات، حيث تقبل حنا في النهاية وبسبب واقع الحال أنه هو سليمان، وتقبل إخوة سليمان أن حنا هو أخوهم وعاملوه على ذلك الأساس، وأنقذوه مرات من الموت المحقق، كما رسم أشكال التضامن بين مجموعة السجناء في مواجهة المصير الأسود، لكن السرد بشكل خطي حسب التسلسل الزمني للأحداث من البداية إلى النهاية أدى إلى انشغال الكاتب بسرد الوقائع الخارجية وتتبع تفاصيلها على حساب العوالم الداخلية للشخصيات التي لم تلق الاهتمام الكافي، حتى الشخصية الرئيسة حنا ظل الكاتب مشغولاً برسم تفاصيل حاضره، ولم يلتفت إلى عالمه الداخلي إلا في لحظات خاطفة يتذكر فيها زوجته وابنته، ويتساءل عن ما إذا كان سيعيش ليراهما مرة ثانية، وكذلك هيلانة التي فقدت فجأة زوجها وهي ابنة سبعة عشر ربيعا وتحمل في يدها بنتا رضيعة، فبقيت نهبا للفزع والوحدة والجوع، هي نموذج لشخصية تمتلك كل مقومات التداعي الحر، والهذيان والتخيل والكوابيس والحلم، ورغم ذلك لم نشهد لها أي حضور نفسي أو تخيلي يذكر، والإخوة الدروز الأربعة ظلوا أيضا على مظاهرهم الخارجية ولم يدخل الكاتب إلى أعماقهم، ولا شك أن لا شعورهم ظل يعمل في صمت، وهم يعانون في المنفى عقابا لهم على ما جنت أيديهم، وكان يمكن للكاتب أن يفعل ذلك لأن السجن والغربة والوحدة كلها دواع لاستجلاء الكوامن النفسية للشخصية، وللحوار مع الذات، وانفتاح الوعي الداخلي على مصراعيه، والتذكار والتخيل، وتلك تقنيات مهمة عدت فتوحا في الكتابة الروائية منذ أن كتب الروائي الفرنسي مارسيل بروست (1871- 1922) روايته “البحث عن الزمن المفقود”، وكان ذلك بعد مسيرة طويلة من تاريخ السرد (الخطي) التسلسلي للأحداث استنفدت فيها طاقته وأصبح من الضروري تجاوزه بتقنيات سردية جديدة .
كان يمكن لكاتب مثابر مثل ربيع جابر أن يستفيد من تلك التقنيات السردية في “دروز بلغراد” ليكسر خطية الزمن المملة، ويقرب القارئ من شخصياته، ويعرفه بعمق على تجارب السجن والغربة والوحدة، وربما يعيد انشغاله ببناء اللحظة التاريخية بتفاصيلها السياسية والحربية والاجتماعية والاقتصادية، يعيد إلى السطح النقاش حول حدود التاريخي والروائي في الرواية، فهل الكاتب ملزم ببناء تفصيل كامل للأحداث وإعطاء صورة متكاملة عنها أم أنه ينبغي أن يستفيد من الوقائع التاريخية لبناء عالمه الروائي الذي هو عالم التجارب الإنسانية في خصوصيتها وتفردها وتقاطعها وتوازيها مع أحداث التاريخ، على أن تلك الملاحظة لا تغض من قيمة هذا العمل الروائي الذي بذل صاحبه جهداً رائعاً في صقله وتفصيله بأسلوب جميل، ولغة فصيحة قريبة، فكان جديراً بالجائزة التي حصل عليها .
الخليج : http://www.alkhaleej.ae/portal/3ca9cb3a-7220-4b6f-a5eb-13fc61534fa2.aspx

الجمعة، 9 مارس 2012

العنصر الثقافي في الثورة التونسية

محمد ولد محمد سالم
من حسنات نظام الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة أنه ركز على تكوين العنصر البشري تركيزاً قل نظيره في الوطن العربي، حتى بعد أن أكدت نظريات التنمية في أواخر القرن العشرين مركزية العنصر البشري المثقف في التنمية، واشتراط نجاحها بوجود الكفاءة البشرية المؤهلة، كان بورقيبة يعي هذه الحقيقة ويعي أن تونس بمواردها الشحيحة ينبغي أن يكون العنصر البشري أكبر مورد لها، وهكذا وضع أسس نظام تعليمي قادر على تخريج الكفاءات البشرية المطلوبة، ولم ينصرم القرن الماضي حتى انتشر الخبراء التونسيون في البلدان العربية وأوروبا، وأصبحوا من أكثر الخبراء العرب والأفارقة حضورا في المنظمات الدولية .

ومع إقبال عصر تقنية المعلومات كانت تونس جاهزة لتلقي موجة الإنترنت ودخول العصر بخطى ثابتة، وقد أظهرت مؤتمرات المعلوماتية التي أقيمت فيها في السنوات الماضية هذا التوسع السريع في استخدام المعلوماتية، حتى وصلت نسبة استخدام الإنترنت إلى 25% من السكان، وهي نسبة كبيرة بالنظر إلى الوضع في البلدان العربية الأخرى، ومع قاعدة بشرية شابة متعلمة انخرط المجتمع التونسي في الشبكات الاجتماعية وأصبح التواصل عبرها وبث المعلومة وسيلة فعالة في ظل القبضة الأمنية والانسداد الإعلامي والسياسي الذي شهدته البلاد منذ عقود، وشهدنا خلال السنوات الماضية عبر الشبكات الاجتماعية وعبر شاشات الهواتف المحمولة هذا الصراع القوي بين قوانين صارمة ضيقة الأفق تريد تكميم الحرية وقتل الوعي، وبين وسائل تواصل عابرة للفضاء لا يمكن أن تحد بحدود، ولا تستطيع أية قوانين مهما كانت قوتها أن تفرض سيطرتها عليها .

انفتح الفضاء أمام الشعب وتسربت ثقافة الحرية، ونقل إليهم هذا الفضاء المفتوح مآثرها في الجانب الآخر من العالم، وأصبحت قوانين الكبت والقبضة الأمنية شيئا لا معنى له، وإطارا متجاوزا لا يحتاج إلا إلى شرارة بسيطة لتحرقه، وكانت الشرارة .

وبعد أن فاض النهر جارفا يقتلع سدود الكبت والظلم كان وجود تلك الفئات الشابة المثقفة الواعية بأهدافها وحدود تصرفاتها عنصرا حاسما في هذه الثورة، كانوا يعون الفرق بين النظام المتهالك ورموزه وبين الدولة وأسسها ومكتسباتها التي ينبغي الحفاظ عليها، فهناك دولة ومؤسسات وطنية لا يجوز المساس بها لأنها ملك للشعب وليست للنظام، وهكذا لم نشهد عنفاً وتدميراً وتفجيراً وقتلاً، كذلك الذي يصاحب عادة الثورات الشعبية التي تفتقر إلى ثقافة وطنية واعية، وتتحرك كردة فعل عنيفة على الظلم، كانت ثورة التونسيين واعية مثقفة، تواصل بالإنترنت والرسائل النصية وتحديد لمكان التجمع، ومسيرات سلمية ورفع للافتات المُدِينة للنظام، عصيان مدني جميل وهادئ رغم الدماء التي أسالها أمن ابن علي، وحتى حين انتهز بعض المنحرفين فرصة سقوط النظام فنهبوا بعض المحالَ التجارية أو المؤسسات الخاصة، كان الرد سريعا حيث نظم الشعب دوريات حراسة في الأحياء قضت على تلك العمليات تماماً .

ذلك درس في الثورة حين ترتبط بثقافة واعية تزيح الظلم وتحفظ مكتسبات الوطن، يعلمه الشعب التونسي للعالم، وسيسطره التاريخ كبداية لنوع جديد من الثورات، فشكرا لهذا الشعب العربي الأبي .
جريدة الخليج

لغة تتطور رغم أنوفهم

أفق
لغة تتطور رغم أنوفهم
آخر تحديث:السبت ,10/03/2012
محمد ولد محمد سالم
لا تنفصل أزمة اللغة العربية عن الأزمات الهيكلية في بنية المجتمع والسياسة والثقافة العربية، فالطبيعة الاستعجالية والارتجالية لنشأة الدولة العربية الحديثة وما حف بتلك النشأة من تربص أعداء وأطماع خارجية بالكيانات العربية الحديثة، لم تدع لكثير من الدول العربية الفرصة لإنضاج دولة مستقلة قائمة على مفهوم مؤسسي الفاعلية فيه لآلية العمل المؤسسي، ومبني على خطط طويلة الآماد، وليس على ردود فعل آنية ترقع الخروق بمراهم تسكن الجروح ولا تستأصل الداء، فعاشت تلك الكيانات ما عاشته منذ الاستقلال من اضطرابات وتجاذبات سياسية وأزمات اقتصادية وثقافية لا نزال إلى اليوم نشهد نتائجها وآثارها على مستويات عدة .
ففي حال اللغة العربية أعطى الإرث الاستعماري مكانة متقدمة للغة المستعمر في الكيانات الناشئة، وترك من أتباعه من ظلوا يقفون في وجه كل دعوة لتعريب الإدارة، ولم توضع خطة مؤسسية شاملة طويلة النفس لإحلال العربية محل اللغة الأجنبية، وازداد الأمر سوءاً بنشوء اقتصاديات السوق وانخراط العرب فيها طوعا أو كرها، ومن دون خطة لحماية المجتمع من التأثيرات الثقافية لتلك الخطوة، فأدى ذلك إلى أن لغات الغرب الذي هو صاحب الهيمنة الاقتصادية والسياسية انتشرت، واكتسحت المجال العربي، وتراجعت كل المحاولات التي كانت الأقطار العربية تحاولها لاستعادة اللغة العربية مكانتها في مجتمعاتها، وراجت دعوى أننا إذا أردنا التقدم فعلينا أن ندرس العلوم البحتة والتكنولوجيا بلغتها التي أنتجت بها، ونترك اللغة العربية للتاريخ والتراث والشعر الجاهلي لمن أراد أن يتعلم تلك العلوم، وبعد عقدين من العولمة لم يزدد الأمر إلا سوءاً ولم تستطع اللغة الأجنبية أن تخرج لنا ذلك الجيل المتعلم المثقف الذي يمتلك زمام العلوم، وتدل الإحصاءات المقارنة التي تصدرها مراكز البحث العربية أن التعليم تراجع كثيرا في العشرين سنة الأخيرة، وأن خريجيه أقل معرفة وخبرة من العقود السابقة .
من المفارقات العجيبة في قضية اللغة العربية أنه رغم أنف أهلها الذين خذلوها وضعفوا عن نصرتها، وأعدائها الذين عملوا على موتها، فإن اليونسكو صنفتها كواحدة من اللغات الحية والمتطورة مع الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والصينية والروسية، وأعطتها تبعاً لذلك مكانة وصدارة بين لغات العالم، وقناعتنا أن لها من المرونة والقدرة على الاستيعاب والتوليد ما يجعلها مؤهلة للذهاب أبعد من ذلك في انتصاراتها .
dah_tah@yahoo.fr
الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/b316fda2-9681-4f2d-994d-ba8c85cc6a6d.aspx

نظرة أخرى على واقع اللغة العربية

الوسائل التكنولوجية الحديثة تعمل على إنعاشها
نظرة أخرى على واقع اللغة العربية
آخر تحديث:الاثنين ,05/03/2012
الشارقة - محمد ولد محمد سالم:


1/1

من ينظر في ما يكتب حول اللغة العربية في مناسبات الأعياد المتعلقة بها والملتقيات المقامة لها، لا بد أن يصاب بالحزن من قتامة الصورة التي يقدمها الباحثون والكتاب حول واقع هذه اللغة، سواء أ كان ذلك في المدارس والجامعات التي استبدلتها بلغات أخرى، وبلغت حدا من تركها وتجاهلها حدت ببعض تلك المؤسسات التربوية في الوطن العربي إلى تدريس ترجمات للأدب العربي باللغة الأجنبية، إمعاناً في امتهانها وسلب أبنائها من روحهم الثقافية، أو في الإدارات والمؤسسات الخاصة التي تستخدم لغة الغير ولا تطمئن لوصول رسالتها إلا حين تكتب بها، أو في وسائل الإعلام التي غلبت على كثير منها اللهجة العامية، والتي صارت الخطاب السريع والوجبة المباشرة للوصول إلى المتلقي .
هذا الواقع على عمومه وسوداويته يخفي في طياته مشهدا آخر قد يدعو للتفاؤل والنظر إلى المستقبل بشيء من الأمل، فللكأس نصف مملوء، ذلك أن اللغة العربية اكتسبت في السنوات الأخيرة مواطئ قدم لا بأس بها، خاصة على المستوى الإعلامي والاقتصادي، فعلى مستوى الإعلام كان انتشار الفضائيات في الوطن العربي خلال العقدين الأخيرين عاملا مهما في رفع مستوى التداول باللغة العربية وحضورها ومستوى فهم المتلقي العادي لها، وذلك لأن طابع الفضائيات جعلها تتخطى المحلي والمكاني والإقليم الجغرافي الضيق للدولة الواحدة وتستهدف المشاهد العربي أينما كان، ما فرض عليها أن تخاطبه بلغته المشتركة، وهي الفصحى، التي يفهمها الجميع ويتواصلون بها، فخلقت تلك الضرورة مستوى من الفصحى قابلا للتداول والانتشار، عود حتى الأميين على سماعه وفهمه وربما تسرب إلى لغة الحوار لديهم .
تظهر أهمية هذا المستوى أيضاً جلية في البرامج الموجهة إلى الأطفال وخصوصا “أفلام الكرتون” فبغض النظر عن المحتوى المعرفي والأخلاقي لتلك الأفلام فإن لبثها بالفصحى أثرا كبيرا في تعويد الطفل على لغته الأم وتهيئته لتعلمها والتحدث بها، واللغة عادة وتلقٍّ وسليقة قبل أن تكون نصوصا وقواعد تدرس .
وإذا تحولنا إلى الجانب الاقتصادي والتجاري فإننا سنجد أن بروز الوطن العربي كقوة شرائية جعل المؤسسات الصناعية والتجارية تضع اللغة العربية في الأدلة التجارية لمنتجاتها، ويبرز الأمر في الأجهزة الإلكترونية كأجهزة الكمبيوتر والتليفونات، وفي البرمجيات الإلكترونية، ورغم ما يمكن أن يقال عن تلك اللغة وغياب الرقابة عليها والأخطاء التي ترد فيها أحيانا، إلا أن الملاحظ أنها تتطور باستمرار وأن الشركات التجارية تتلافى أخطاءها بدأب، في سياق النصف المملوء من المسألة، لا يمكن إغفال ما قدمه انتشار الإنترنت للغة العربية من انتشار وحضور خاصة عند الفئات الشبابية التي أصبحت تستخدمها بشكل مكثف في مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات، وتتواصل بها مع جهات الوطن العربي الأربع .
ليس كل الواقع إذاً سيئاً، وهناك بصيص أمل، وإذا طورت المؤسسات الرسمية والتعليمية في الوطن العربي - التي تبدو متخلفة في خدمة اللغة العربية- من أدائها نحو الفصحى، وخطت خطوات تجاه فرض وجودها في الإدارة والتعليم والقطاعات الأخرى فإننا سنشهد نهضة كبيرة وتطورا هائلا على مستوى لسان العرب، وهو أمر لا يحتاج سوى إلى قرار جريء، وقليل من الجهد الجاد والقناعة بأن حماية اللغة هي حماية للهوية والقيم الحضارية للفرد والمجتمع
http://www.alkhaleej.ae/portal/a850aadb-1813-4464-b6b9-a551975299ef.aspx

طبائع الاستبداد

أفق
طبائع الاستبداد
آخر تحديث:الأحد ,12/02/2012
محمد ولد محمد سالم
عندما وضع عبدالرحمن الكواكبي كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” كان يقدم جواباً على واقع عربي إسلامي متخلف، كما شرح ذلك في مقدمته، وقد اتسم ذلك الواقع بتراجع في شتى ميادين الحياة، ونشط المفكرون والكتّاب في البحث عن جواب على أسباب ذلك التقهقر والفساد، الذي تعيشه بلادهم، وكان للقضية زخم كبير في مصر التي اتخذها الكواكبي مقاماً، فكانت الصحف تمتلئ بالكتابات التي تعالج تلك المسألة، ما حرّض الكواكبي على الإسهام بكتاباته هو الآخر في البحث عن سبب وتقديم علاج لهذه المسألة الشائكة .
خلال بحثه على مدى ثلاثين عاماً صدر بحكم قاطع وهو أن “قد تمحّض عندي أنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي، ودواؤه دفعه بالشّورى الدّستورية”، وعرف الاستبداد بأنه غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النّصيحة، أو الاستقلال في الرّأي وفي الحقوق المشتركة” .
تبعاً لحكمه ذلك تناول الكواكبي مسألة الاستبداد في مظاهرها وانعكاساتها في جميع المجالات، في الناحية السياسية وما يجره على المجتمع من ويلات حين يسلب الناس حقوقهم في العمل والممارسة السياسية، والتعبير عن الرأي ويرتّدون إلى ذواتهم مما يدمر فكرهم وطموحهم، وفي الاقتصاد حيث يدمر البنية الاقتصادية، ويحيل المجتمع إلى الفقر مهما كانت ثرواته، وقدراته الاقتصادية، وفي التعليم حيث يعمل الاستبداد على تجهيل الإنسان، ويغرس فيه ثقافة واحدة هي ثقافة الخضوع والولاء وعبادة الرمز، وفي الفن والأدب حيث تموت الأفكار الإبداعية ويصمت صوت الفن الخلاق اتقاء لشر الطاغية، وتنحسر آفاق التجديد فيه، وينعكس كل ذلك على المجتمع الذي يسير إلى الوراء ويتجه نحو هاوية التفكك وذهاب القيم ويستشري فيه الفساد .
هذه الصورة التي رسمها الكواكبي لأثر فعل كهذا، سوف تقابل بصور للمستبد في نهاية القرن الماضي، وبداية القرن العشرين تعيد البشاعة نفسها وتشكل بالكاريكاتير البائس للاستبداد الذي رسمه قلم الكواكبي، وذلك عن طريق فنان كاتب آخر هو عدنان فرزات الذي قدم أشكالاً كاريكاتيرية متعددة لصورة المستبد، يظهر فيها وجهه وشكله بوضعيات مختلفة، فيها الكثير من القبح والكراهية، تجسيداً لذلك الطابع التدميري الشامل في شخصه، الذي ينعكس أول ما ينعكس على شخص الطاغية نفسه، فينزع عنه كل أسباب الجمال ويحيل صورته إلى غاية البشاعة .
من المصادفات أن كلاً من الكواكبي وفرزات عايش الاستبداد وانكوى بناره ودفع حياته ثمناً لنضاله ضده، فمات الكواكبي مسموماً في مصر سنة ،1902 بسبب معارضته لظلم وطغيان الولاة العثمانيين في الشام وكتابته ضدهم، وضربت يد فرزات بسبب معارضته للاستبداد ومناصرته للثورة على الظلم، وتلك هي على كل حال ضريبة الفكر، والفن العظيم حين يتصدى صاحبه للتغيير وينشط في البحث لمجتمعه عن أفق حياة أجمل وأفق من الحرية أرحب .
dah_tah@yahoo।fr
الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/96d1717d-5734-480c-a021-98442e31be6e.aspx

ليس للحرب حقيقة

أفق
ليس للحرب حقيقة
آخر تحديث:الثلاثاء ,17/01/2012
محمد ولد محمد سالم
الشك أو عدم اليقينية هو الخيط الناظم لرواية “مطر حزيران” للكاتب اللبناني جبور الدويهي، حيث تروي بشكل استرجاعي حكاية مجزرة حدثت في سنة 1957 في إحدى قرى لبنان، كان سببها مواجهة بين عائلتين كبيرتين تسعى كل منهما لبسط نفوذها على المنطقة .
تأتي الأحداث في معظمها من خلال شخصية “إليا” الذي عاد للبحث عن حقيقته بعد أن أذهبت الحرب كل حقيقة، فقد قضى أبوه في المجزرة بعد سنوات من زواج لم ينجب فيها، وجاء هو متأخراً بأسبوع عن تسعة أشهر من وفاة والده ما فتح الباب أمام شكوك الناس في نسبه، يهاجر هذا الشاب بتدبير من أمه إلى أمريكا، لكن حياته الأولى في القرية وما كان يرميه به الأطفال في نسبه أثر في شخصيته، فنمى فيه حب اختراع القصص حول نسبه وعائلته، ولم يكن يستقر على حالة واحدة، كذلك هي حالة حبه وصداقاته، فما كان يأنس في علاقة حتى يقطعها بسرعة .
يقرر إليا فجأة أن يعود إلى قريته لرؤية أمه التي قضى خمساً وعشرين سنة بعيداً عنها، ونيته الحقيقية هي البحث عن حقيقة أبيه وحقيقة تلك الحرب التي طحنت قريته والقرى المجاورة له، وأثناء بحثه ينقسم الناس حول والده بين من يعتبره بطلاً شهيداً وبين من يعتبره مجرد رجل عادي مات في مواجهة لم يشارك فيها، كذلك الحال في الحرب التي فشل في تحديد بداية شرارتها الأولى، وفي النهاية لا يقف إليا على كل ذلك من شيء، ويكتشف فظاعة ما أحدثته تلك الحرب من قتل وتشريد لعشرات الأبرياء، فيقرر العودة إلى أمريكا، كأنه يريد أن يتخلص من كل شيء يمت بصلة إلى ذلك الماضي .
لم يقف إليا على حقيقته ولا حقيقة والده، ولا حقيقة الحرب، فليس للحرب حقيقة، ولا بداية مقنعة، ليس لها سوى أنها تدمر العباد والبلاد، وتترك جروحاً غائرة في الأنفس، هذا هو ما توصلنا إليه رواية “مطر حزيران” بعد مسيرة طويلة من البحث استعان فيها الكاتب بتقنيات فنية كثيرة، منها تعدد الأصوات فهو لم يقتصر على مبدأ الراوي العليم ولا على الشخصية الرئيسة وحدها، بل ظل يراوح بين شخصيات متعددة منها من شهد الحادثة ومنها من جاء بعدها، وقد أعطته تلك التقنية حرية في التحرك، كما استعان بتقارير القضاء والمؤرخين والصحافة، ما يدل على الجهد الكبير الذي بذله في عمله، لكن يؤخذ على الدويهي أنه في بعض الأحيان يستعين ببعض الأصوات التي لا يتبين القارئ علاقتها بالأحداث والتي لا تقدم أي جديد في تحريك العقدة والأحداث نحو النهاية، كما أن الرواية ستكون أكثر إحكاماً لو اقتصرت على بحث إليا عن حقيقة تلك الحرب وتوسعت فيه، دون اللجوء إلى أصوات شخصيات أخرى لأن الرواية بالفعل هي رواية عن تلك الشخصية .
Dah_tah@yahoo.fr
الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/f5ecc24b-6bdd-457a-8ecf-5679c8b953e6.aspx

مجتمع القراءة

أفق
مجتمع القراءة
آخر تحديث:السبت ,28/01/2012
محمد ولد محمد سالم
يتوقع أن يكون مجموع الإصدارات الروائية في فرنسا خلال شهري يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط من هذا العام 480 رواية، حسب ما أعلنته مؤسسات النشر الفرنسية، وهو موسم الدخول الأدبي كما تسميه الأوساط الثقافية الفرنسية، حيث يتسابق القراء إلى اقتناء أهم الكتب التي سيقرأونها خلال السنة، وتكشف هذه الكمية في جنس الرواية وحدها، وخلال تلك الفترة القصيرة أهمية ورسوخ ثقافة القراءة في المجتمع الفرنسي، فبعد عقود طويلة من ظهور التلفزيون وأخرى من ظهور الإنترنت، ما زال الفرنسيون يحرصون على اقتناء الكتاب وقراءته، وما زالت عادة القراءة أثيرة لديهم، وهي ظاهرة لا تقتصر على فرنسا وحدها، بل تعم أوروبا وأمريكا واليابان والصين وأجزاء كثيرة من العالم، لكنها تغيب في الوطن العربي، ويتساءل المرء ما الذي يجعل وطننا العربي هو الوحيد الذي لا تروج فيه عادة القراءة؟
هنالك عوامل كثيرة يمكن أن يعزى إليها فشل المجتمعات العربية في ترسيخ عادة القراءة لدى أبنائها، منها أن الحكومات التي تسلمت القيادة بعد الاستقلال ركزت على التعليم وبرامجه من دون أن تركز على العمل الثقافي العام المتعلق بالمجتمع، وهو إقامة مؤسسات ثقافية تدعم القراءة وتسعى لترسيخها لدى كل الفئات، كما أن الكتاب لم يحظ بدعم ولم يبذل أي جهد يذكر في سبيل تعميمه، وجعل سعره متاحاً في متناول القارئ البسيط، فظل الكتاب عزيز المنال، لا يصل إليه إلا من لديه الطاقة المادية لذلك، ولم تتجاوز ثقافة الفرد في الأغلب الأعم ما كان مرسوماً في المقررات المدرسية، ومع تراجع وتيرة التنمية في الوطن العربي وانكسار حلم النهضة في أكثر من بلد عربي تراجع التعليم وتراجع معه مستوى المتعلمين، ووجد التلفزيون الذي دخل الوطن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين الساحة مفتوحة أمامه ليملأ الفراغ لدى الفرد العادي، ولدى الأطفال خصوصاً ويصرفهم عن القراءة، ثم لحقت بالتلفزيون الألعاب الرقمية والإنترنت وألعاب الهاتف المحمول، وصار السباق على اقتناء تلك الأجهزة والحذق ببرامجها الترفيهية، فعمّت بسبب ذلك ثقافة الصورة، وهي ثقافة مسطّحة تتبع البصر، ومشاهدات العين، عديمة التفكير، ميكانيكية الرؤية، ليس لصاحبها مستقبل ولا ماضٍ، فأصبح التعلق بصورة مغن أو مغنية أو ممثل أو ممثلة أو لاعب وتتبع حياته الخفية ومعرفة كل شيء عنه هو قمة المعرفة، ومناط الثقافة .
في ظل هذا الانشغال بثقافة الصورة في الوطن العربي، هل يمكن أن نتحدث عن مستقبل لمجتمع القراءة، وبأي نوع من المؤسسات الثقافية والوسائل التقنية يمكن صناعة ذلك المجتمع؟
إن أي برنامج مستقبلي لتعميم ثقافة القراءة لا بد أن يعمل في اتجاهين، أولهما مواجهة التلفزيون وأجهزة التقنية أو استخدامها لمصلحته، وثانيهما إقامة مؤسسات ثقافية لا يكون همهما مجرد توفير الكتاب (الورقي أو الإلكتروني) للقارئ، بل تضع البرامج الكفيلة بجذب الناس إلى إليه أيضاً .
dah_tah@yahoo.fr
الخليج: http://www.alkhaleej.ae/portal/57c0654c-0a7a-43d5-be73-2682bc9dbfb3.aspx