بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 5 أكتوبر 2014

أيقونات فلسطينية



أفق
أيقونات فلسطينية
تاريخ النشر: 04/08/2014
كان الزعيم ياسر عرفات يسمي الفلسطينيين شعب "الجبارين"، ولم يكن يريد بذلك المعنى السلبي الذي وصف به الكنعانيون في الآية الكريمة "قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين"، لكنه يريد الجبروت الذي هو القوة، القوة الكامنة في النفس وفي إرادة مواجهة الظلم، والتصدي للمصاعب بعزم لا يلين وشجاعة لا تعرف التراجع، هذا الجبروت لا يمكن فهمه إلا حين يكون الشعب على المحك، وفي اللحظات الحرجة التي يكون فيها أمام امتحان صعب، وما يحدث اليوم في غزة هو أحد تلك اللحظات التي تصدّق قول ذلك المناضل الأبدي الذي لفظ آخر أنفاسه وهو جبار يتشبث بإرادة الصمود، وقد ضيق عليه الخناق في مكتبه، والمرض يأكل جسمه .
في هذه اللحظة التاريخية نفهم بحق معنى شعب الجبارين، فحين تقف أم فقدت سبعة من أبنائها أمام شاشات التلفزيون وتقول للعالم: "فليهدموها علينا . . فليبيدونا، لكننا لن نستسلم ولن نذل" تعرف ما هو معنى ذلك الوصف، وتعرفه في تلك الفتاة التي لم تنس في غمرة دموعها ورعبها وقد نجت من مقتلة الشاطئ التي ذهب فيها أترابها، لم تنس أن تقول: "حسبي الله فيهم . . يريدون قتلنا . . هذه أرضنا ولن نخرج منها"، ذلك هو الجبروت الجميل النابع من الانتماء للأرض والوطن والتمسك به، ذلك هو غذاء الروح الذي ترضعه تلك المرأة الجبارة لأطفالها، فتنمو القوة النفسية والروحية فيهم قبل أن تنمو أجسامهم .
في تاريخ نضالات الشعوب ضد الاحتلال، وضد أشكال الظلم، ليس غريبا أن تروى بطولات فردية وجماعية عن رجال شجعان يقودون ثورات، ويواجهون العدو ويهزمونه، وللوطن العربي نصيب كبير من ذلك، ونتذكر عبد القادر الجزائري وعمر المختار وغيرهما كثير، لكنّ ما يميز حالة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال أن زمام المبادرة في النضال ليس مقصوراً على أولئك الأبطال الشجعان، بل يتعداهم إلى الأطفال والنساء، وبالأمس القريب أبدع أطفال فلسطين ثورة الحجارة، وأصبح الفتى الفلسطيني الذي يملأ يديه بالحجارة أو يشد بهما سيور المقلاع في وجه دبابة صماء رعناء، قد حددت صدره هدفاً لقذيفتها، أصبح هذا الفتى أيقونة من أيقونات النضال في العصر الحديث .
بالأمس القريب أيضاً طافت شاشات العالم صورة تلك العجوز التي تتشبث بجذع شجرة الزيتون وقد أحاط بها جنود العدو مدججين بأسلحتهم وعرباتهم، يريدون أن يقتلعوها من أرضها، ويقتلعوا زيتوناتها القليلة لحرمانها من كل أسباب الحياة، لكنها هزمتهم "بصورتها المناضلة" التي هزت العالم، وبالأمس أيضا وفي إحدى حروب إسرائيل المتوحشة المتوالية على غزة الدامية، قالت إحدى النساء الغزاويات الجبارات، وهي تعاين أشلاء أطفال صغار قتلتهم إحدى الغارات الجوية المبيدة: "قتلوا أولادنا . . بدهم يقضوا علينا . . بس، بدنا نْضَل نخلف . . ونضل نخلف"، ما يعني أن إرادة الإنجاب أصبحت أحد أشكال النضال لدى المرأة الفلسطينية حفاظاً على "النوع" الفلسطيني من الانقراض بسبب سياسة الإبادة المستمرة التي يمارسها عليهم كيان عنصري أطلق العالم المتحضر يده فيهم .
محمد ولد محمدسالم
dah_tah@yahoo.f
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/5e75445a-0f20-4983-8a75-f902a7a27ceb#sthash.XFBWmXDO.dpuf

رواج الرواية

أفق
رواج الرواية


سيادة الرواية على الشعر في اللحظة الراهنة لا تعود إلى ميزة فنية أو معيارية تَفْضُل بها الرواية الشعر، لكنها تعود إلى ظروف تاريخية، أسهم فيها الشعراء أنفسهم بقسط وافر، فمع ضغط المدينة والحياة المادية القاهرة، كان لا بد للإنسان من فسحة من الخيال والغرائبية، لا بد له من شكل من البطولة قائم على إعلاء قيم الإنسان والدفاع عن جوهر تلك القيم، ما يمكنه أن يغذي ذلك الفراغ الروحي والتخيلي الذي خلفه تغوال المدينة وعجرفة المادة التي حجمت الإنسان في جانبه البيولوجي ومتطلبات غرائزه البشرية، وأغلقت الباب أمام توقه الأصيل إلى التحرر من إسار الجسد، وإسار اللحظة الزمنية ليصل إلى الحلم، إلى السعادة وتحقيق الذات بما هي جماع من المادة والروح، فكانت الرواية هي تلك الفسحة، والاستجابة المناسبة على تلك الحاجة بما تحتويه من التخيل والبطولة والتوق إلى عالم آخر جميل، وباعتبارها وريثة الأسطورة القديمة التي كانت تؤدي هذا الدور في المجتمعات البشرية .
قد لا تكون الرواية هي وحدها التي نهضت بذلك الدور حديثاً فأشكال السرد الراهنة من قصة ومسرحية وسيرة ذاتية وأدب خيالي، وحتى الشعر، كلها تلعب هذا الدور بدرجات متفاوتة، وأشكال مختلفة، لكنّ ما ميز الرواية راهناً هو أنها بخلاف المسرحية لا تحتاج إلى أن تحول إلى عرض تمثيلي لكي يكون تأثيرها كاملاً وفي عالم اليوم أصبح الجمهور غير متحمس كثيراً لارتياد قاعات المسرح، بسبب وجود بدائل إعلامية وإلكترونية تشغله عنه، وعلى عكس القصة القصيرة، يجد القارئ في الرواية اتساعاً في الشرح والتفصيل وغوصات في الشعور الإنساني للشخصيات، وانبساطاً في مدى الرؤية الكلية، وما يميزها عن السيرة الذاتية هو كونها قصة وليست عملاً كرونولوجيا ينبني على التتابع الزمني وحده، أما الشعر فإن رواج الرواية في مقابله جاء من تقاصر الشعر عن أداء دوره، وتنازله عن جزء أصيل في مهمته، على الأقل فيما يخص الشعر العربي، وهو الإطراب الذي يأخذ بجماع نفس السامع، ما جعله يفقد جزءاً كبيراً من جمهوره .
لقد تخلى الشعر، والعربي منه خاصة، طواعية عن دوره في الإطراب ونزل من منبر الإنشاد إلى طاولة التفكير، ومن إيقاع القصيدة الحية الحارة المحركة للنفس إلى رتابة النص الذي يستدعي التفكير الهادئ البعيد عن الصخب، فانتقل بذلك إلى دور لم يخلق له، وعالم ليس هو عالمه، فأصبح متذبذباً بين مقتضيات اللغة وإيقاعها العالي الآسر، ومقتضيات التفكير الهادئ، فخسر الاثنين، وخسر بهما جمهوره، في وقت لم تنجرف فيه الرواية وراء التيارات التي كانت ستحيد بها عن طريقها الصحيح في تأدية دورها بصورة تحافظ بها على جمهورها، بل تعززه بسبب الرواج الذي رفدتها به دور السينما، وعالم الإنترنت، وتطور عالم النشر والتوزيع .
محمد ولد محمد سالم
dah_tah@yahoo.f

 - See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/ddd1f8f5-e18c-4696-b36a-27328b622b2a#sthash.4afqNEYy.dpuf

"نهارات علول": بساطة وعمق أرهقتهما بعض المشاهد الزائدة



"نهارات علول": بساطة وعمق أرهقتهما بعض المشاهد الزائدة
محمد ولد محمدسالم
ما يميز مسرحية "نهارات علول" هو الجمع بين بساطة الفكرة وعمقها، مع قوة التمثيل، فقد كان حضور الممثلين واحترافهم هو البطل الأول في هذه المسرحية التي كتبها مرعي الحليان وأخرجها حسن رجب لفرقة مسرح المسرح الحديث في الشارقة، وعرضت مساء أمس على خشبة مسرح قصر الثقافة، وهي آخر عروض مهرجان المسرح الخليجي الثالث عشر حسن.
علول الصعلوك المتمرد الذي لا يريد أن يظل هو وزملاؤه مجرد صعاليك "حرافيش" يعيشون على هامش المدينة بين الأزبال والقاذورات، ينغص عليه ذلك الوضع حياته فيهجر النوم عينيه، ويبدأ في التذمر من وضعه، ويحتج ويثور بصوت عال يجعل رفيقه يصاب بالرعب ويحاول بكل وسيلة أن يسكته لكي لا يصل صوت احتجاجه إلى سكان المدينة من أصحاب المنازل والقصور، فينزلون بهم العقاب، وفي تلك الأثناء تأتيه حبيبته قادمة من القصر الذي تعمل خادمة فيه، تجلب له الطعام، وتبادله لحظات من البوح والحلم بأولاد ومنزل وحياة كريمة، لكنّ صوت حارس القصر الخشن يقطع عليهما لحظاتهما، آمرا الخادمة بالعودة فورا إلى القصر، ويعرف علول أن الحارس يبتز حبيبته مقابل أن يسمح لها باللقاء به، فتتملكه الحمية لعرضه وزوجته، ويتجه إلى الحارس يريد أن ينتقم منه، لكنّ الحارس يطلق عليه رصاصة، تستقر في جوفه، وبعد أن يظن أصدقاؤه "الحرافيش" أنه مات ويقيمون له مأتما، يفاجأون بأنه حي، وأن جرحه التأم ولم يعد له أثر، لكن الرصاصة أصبحت تجول في جسده، مسببة له اضطرابا في الحركة والكلام، فتركته شخصا غير سوي، وورث على إثر ذلك دهشة أصدقائه الذين اعتبروا ما حدث له كرامة، واعتبروه رجلا مباركا، يستشفون بدعائه، ويستنزلون البركة بقربه.
لكنّ علول الذي أصبح على تلك الحالة، لم يفقد عقله، وأصبح يتكلم بالحكمة، ويحرض الصعاليك قائلا: ارفعو رؤوسكم عاليا، ومدوا قاماتكم أعلى فأعلى، وتنفسوا الهواء الذي على رؤوسكم، فما ثم إلا الفراغ، وعليكم أن تملأوا هذا الفراغ"، استشعر أهل المدينة الخوف من تلك الكلمات، وما تحمله في طياتها من دلالات تشكل خطورة على حياتهم فقد تقلب الموازين، وتغير القواعد التي يسوسون بها المدينة، لذلك قبضوا عليه وحاكموه بتهمة أن جسمه سرق رصاصة الحارس التي استقرت فيه ولم تخرج، وحكموا عليه بالإعدام، لكنّ الصعاليك الذين شهدوا المحاكمة، وتنفيذ الإعدام، لم يستوعبوا ذلك الحكم، فثاروا على القاضي والمحامي والحراس وطاردوهم، ثم عادوا إلى علول ليدفنوه بالعلب الفارغة التي هي وسيلتهم لاكتساب رزقهم، وعندما يتركونه، يتحرك ويتشنج جسمه، ويبدأ من جديد في شكوى الرصاصات التي تغمزه في مناطق متعددة من جسده، لتنتهي المسرحية على ذلك.
ثار علول وحلم وانتفض لشرفه، فعاقبه الأسياد بتشويه الجسد، وكافأه أصدقاؤه بالتقديس، وأصبح روحا تبث الحلم في الآخرين، فعاقب الأسياد تلك الروح بالاستئصال (الإعدام)، وكافأها أتباعها بالثورة، تلك هي نهارات علول حلم فعذابات وحلم فعذابات فثورة، الصراع الأبدي بين إرادة الحرية وتحقيق الذات، وبين قوى التجبر والقمع، لكن الحلم لا يخبو وإرادة الانعتاق لا بد أن تنتصر، ذلك هو ما يبشر به هذا العرض الذي كما قلنا آنفا كان الأداء التمثيلي فيه بارعا، وكان بلغة فصيحة شاعرية، سهلة يفهمها الجميع وممتنعة فليست من السوقي، وقد اجتهد حسن رجب في أن يقدم لعبة إخراجية رشيقة خصوصا في اختياره لقطع الديكور التي كانت عبارة عن كراسي بعجلات ومساند متحركة، فهي في الأصل عربات يجمع فيها الصعاليك العلب، وهي أيضا كرسي للقاضي، وقفص للمتهم، وغير ذلك، كما كان الاقتصاد في الموسيقى موفقا، فقد استحضر المخرج عازفا طنبور محترفاً استطاع أن يوائم إيقاعه سرعة وبطئا مع حركة الممثلين وبهدوء مريح في الأذن، أنسانا ذلك الصخب الذي كانت تجرفنا فيه بعض الإيقاعات في العروض السابقة، ورغم أن الإضاءة وظفت في بعض المواقف توظيفا جيدا إلا أن هناك إحساسا بأن الخشبة كانت غارقة في الظلمة في أغلب الأوقات خصوصا في الحالات التي تجمع الصعاليك، وفي مشهد تعذيب صديق علول، وحالات أخرى كان يمكن أن تظل الخشبة فيها مضاءة إضاءة كاملة، خصوصا وأن قطع الديكور متحركة ويمكن سحبها بسهولة، والأصل في المسرح أن تكون الخشبة مضاءة كليا، إلا في حالات استرجاع الزمن، فيكون لإظلام الخشبة، وإسقاط الضوء في بقعة محددة مبرر.
من الناحية الدرامية فقد فهناك مشهدان يمكن الاستغناء عنهما بسهولة ودون أن يخل ذلك بالعرض، وقد أصاب وجودهما العرض بشيء من الفتور، أولهما مشهد تعذيب صديق علول، فهذا المشهد لا فائدة منه اللهم إلا إذا كان يراد به الإضحاك، لأن قسوة السلطة وتجبرها ظهرت في الخوف الأول وفي الرصاصة التي أصابت علول، وفي مشهد المحاكمة، ونفس الشيء في مشهد الإعدام ففيه الكثير من الافتعال، واستجداء الإضحاك، خصوصا أن تنفيذ الإعدام كان يمكن أن يحدث في ختام مشهد المحاكمة، ومن الناحية الدرامية فإن تنفيذ الإعدام وتحرك علول بعد موته ليسا ضرورين لأن الحكم بالإعدام مبرر جيد للثورة، والثورة فعل حياة أبلغ من حركة الميت، ومما يمكن ملاحظته أيضا أن الحلم الذي يظهر فيه علول وزوجته وقد أنجبا الكثير من الأولاد وعلول يخطط لكي يكبروا وينشروا العدل والحرية والمساواة في الأرض، هذا المشهد جاء متأخرا عن وقته، لأنه ينبغي أن يكون مشهدا استهلاليا، فعلول بعد الرصاصة ليس حقيقة أو على الأقل لا جسد له، بل هو روح هائمة تبث الإيمان والثورة في شعبها الصعاليك.

لو أن العرض تخلص من تلك الهنات لكان عرضا في قمة الإبداع والجمال، وهو على كل حال عرض ناجح فيه الكثير من الإمتاع.
نشرة مهرجان الخليج المسرحي 2014

"خلخال" عرض ناجح بأقل الخسائر

"خلخال" عرض ناجح بأقل الخسائر
محمد ولد محمدسالم
ما يميز مسرحية "خلخال" لفرقة قطر المسرحية عن عروض الأيام السابقة هو أنها انصرفت لمعالجة قضية واحدة، وحاولت أن تذهب بها عميقا غائصة في أغوار التجربة الفردية عندما تحاصرها أطر اجتماعية صارمة، فهذه المسرحية التي ألفها الكاتب الإماراتي سالم الحتاوي وأخرجها فيصل حسن رشيد من قطر، وعرضت مساء أمس على خشبة مسرح قصر الثقافة في الشارقة، في إطار عروض مهرجان المسرح الخليجي الثالث عشر، تعالج قضية الفئوية أو التأطير الذي يفرضه المجتمع على الفرد، فلا يجد منه فِكاكا، وحين يسعى للخروج منه يواجَه برفض من طرف المجتمع، ويخوض صراعا مريرا وعنيفا، طرفاه غير متكافئين.
ذات يوم رن في أذن سهيل إيقاع الخلخال الذي يأتيه صوته من خلف الجدار فعرف أن ابنة الجيران "مريم" ترقص في حوش أهلها، ثم عاد فرن في اليوم الثاني والثالث، وأصبح سماعه عادة انفتح معها قلب سهيل الفتي لتلقي نسمات الحب والحلم بعش يجمعه بذات الخلخال التي فصلها خياله، ونسق جمالها على نسق الإيقاع الفاتن لخلخالها، وألهمته لحن الشعر وكلماته، فبدأ ينسج لها منه حللا، ويأتي اليوم الذي تتوقف فيه رنة الخلخال، ولا تعود، ويعصف الوله بسهيل فيلجأ إلى الخمر ليخفف ولهه، ويكبر وهو على تلك الحالة، لا يتستطيع نسيان رنة الخلخال، وفي غمرة سكرات الإدمان تشده رنة خلخال الراقصة "غاية"، فيتعلق بها، وينشد فيها أعذب القصائد، ويهيم بها غير مبالٍ بمعارضة أهله ومجتمعه لحبه لراقصة، وهو الشاعر المبرز الذي لا يليق به إلا النساء المصونات.
تماطل غاية وتمتنع من مبادلته الحب، لكي تستوثق من قدرته على مواجهة المجتمع إن هو ارتبط بها، وتحت إلحاحه ووعوده بأن يظل مخلصا لها، وأنه سيغير حالتها تقبل بالزواج منه، وتتخلى عن مهنة الرقص، وتقصر نفسها عليه، لكنّ سهيل يواجَه بحظر من طرف المجتمع يطيح به من مكانته العالية، فلم يعد هو الشاعر الذي يتصدر المجالس ويحتفي الجميع بقصائده، وقد تخلى عنه أهله وأصدقاؤه، وأصبح منبوذا، ولا يقوى على تحمل ذلك فيعود إلى الإدمان، ويفقد الثقة في نفسه ويصبح من سكرة لأخرى، وتصاب غاية بخيبة أمل، وهي التي ظنت أنها بزواجها من سهيل ستغسل عار ماضيها الذي وجدت نفسها فيه منذ أن كانت صبية تحب الرقص، ومنذ أن تلقفتها تلك المرأة وعلمتها الرقص وأصبحت تذهب بها لترقص في المناسبات، أرادت أن تمحو نظرة المجتمع إليها وتصبح امرأة محترمة لزوج محترم تتفانى في حبه، وحلمت بعش زوجي هادئ بعيد عن صخب الرقص ودراهمه الآثمة، وأعين الرجال المفترسة، لكنّ المجتمع قسا عليها وعلى زوجها، وحرمها من تلك الفرصة، ولم تجد من حل أمام الحالة التي تردى فيها زوجها سوى أن تعود إلى الرقص من جديد.
استغل المخرج بذكاء جو المسرحية المرتبط بموضوع الرقص، ليقدم سينوغرافيا تلعب على هذه الموضوعة، فكانت قطع الديكور الثلاث الكبيرة تحاكي سطح الطبل الدائري، وقد جعلها متحركة وشفافة ليسهل نقلها واستغلالها في تعابير ديكورية مختلفة، كأن تكون طبولا أو جدرانا أو ستائر أو فضاءً خياليا للحلم، كما استغل الجوقة لتكون مجموعة طبّالين وراقصين، وأشباحَ حلمٍ وذكريات، لكنّ شكل لبس الجوقة الذي أظهرها وكأنها مجموعة بدائية تعيش في الأدغال كان غريبا على جو المسرحية، وربما كان دافع المخرج إلى ذلك هو محاولة إبراز عضلاتهم القوية المفتولة التي تناسب عمل الطبّالين، لكنه كان يمكن أن يظهرها بلباس وهيئة تليق بمجموعة رقص في مجتمع "متحضر"، أما من ناحية الإضاءة فقد كانت مقبولة عموما، وأعطت تمايزا بين حالات الواقع والحلم والاسترجاع، ومع ذلك فقد كان يمكن الاشتغال عليها أكثر حتى تكون بمستوى الديكور.
من ناحية التمثيل فقد كان أداء الممثلة غادة الزجدالي حركيا وقدمت لوحات استعراضية جميلة تلائم شخصية الراقصة، وكان أداء فيصل حسن رشيد محترفا في حالات البوح والاستبطان المرتبطة بلحظات العشق والفقد وحالة السكر، إلا أنه في اللحظة التي كان ينبغي أن يخرج فيها من تلك الحالة ويظهر كعريس مسؤول وواع وفرح بزواجه، لم يخرج، وعوضا عن ذلك واصل تقمص حالة السكران مستغلا ما تسمح به من كوميديا، وهو خلل فني ودرامي، كان ينبغي تعديله حتى ولو كان من النص، فلكي تكون معارضة المجتمع عميقة ومؤثرة ينبغي أن تكون لحظة الوعي وتحمل المسؤولية عميقة ومؤثرة، فلا يكون السقوط مدويا إلا إذا كان شاهق، ومما أضعف تلك اللحظة الفاصلة أيضا أن المخرج كان ينبغي أن يظهر المجتمع الذي يعارض هذه الزيجة على الخشبة، فتكون معارضته مجسدة في شكل شخصيات تتحرك وتعارض وتعمل على إفشال ذلك المشروع، وأن لا تظهر تلك المعارضة بشكل عارض على لسان الزوجين أثناء الحوار، ومهما يكن فإن العرض كان ناجحا، وقد أوصل وجهة نظره دون إملال وبحلول إخراجية فيها احتراف لا بأس به.

نشرة مهرجان المسرح الخليجي 2014

"من منهم هو" اجتهاد اخطأ انتقاء أمثلته




"من منهم هو" اجتهاد اخطأ انتقاء أمثلته
محمد ولد محمدسالم
لا شك في أن محاولة إعادة قراءة الشخصيات التاريخية والبحث عن ملمح درامي يربط بينها ليكون عمادا لعمل مسرحي، لا شك ذلك مسعى اجتهادي يدل على وعي مسرحي جيد، لكنّ الإشكالية في هذا المسعى تكمن في كيفية تحديد هذا (الملمح) واختيار الشخصيات التي تجسده، واللحظات التي تعبر عنه في تاريخ تلك الشخصيات، وهذه الإشكالية هي ما وقعت فيها مسرحية "من منهم هو" لفرقة المسرح الشعبي الكويتية، التي ألفها أحمد العوضي وأخرجها خالد أمين، وعرضت مساء أمس على خشبة مسرح قصر الثقافة في الشارقة وهي خامس عروض الدورة الثالثة عشرة من مهرجان المسرح الخليجي.
تجمع المسرحية بين ثلاث شخصيات أسطورية وتاريخية من مختلف العصور، الأولى هي "ميديا" بطلة المسرحية اليونانية المسماة باسمها "ميديا" التي كتبها يوريبيديس، وتحكي قصة ميديا تلك المرأة التي ضحت بكل شيء حتى بأخيها الذي قتلته من أجل حبيبها "جيسون" الذي سوف تهرب معه وتتزوجه وينجبان، لكنه يخونها بزواجه من امرأة أخرى بحثا عن المال والجاه، فتنتقم منه بقتل زوجته، وقتل أبنائه منها هي أمام عينيه، والشخصية الثانية هي الزير سالم أبو ليلى المهلهل بطل حرب البسوس بين تغلب وشيبان الذي كان يعيش حياة لهو وطرب ونساء، قبل أن يقتل جساس أخاه كليبا، فيضطر الزير إلى ترك ملذاته، والنهوض طلبا لثأر أخيه، فأصبح رمزا للبطولة والتضحية من أجل الثأر للأخ، والشخصية الثالثة هي الليدي ماكبث زوجة القائد ماكبث في مسرحية "ماكبث" لشكسبير  التي حرضت زوجها على قتل ملكه وولي نعمته غدرا ليفوز بالملك، فكانت بذلك رمزا للغدر والطمع، فعن طريق هذه الشخصيات الثلاث يحاول المؤلف أن يبني نصه المسرحي على ملمح صرح في تقديم المسرحية بأنه ملمح النفس الأمارة بالسوء، لكن إذا طرحنا جانبا شخصية "ميديا" المُشْكِلَة التي تجمع بين إرادة الخير بتضحيتها من أجل الحب، وثورتها من أجله، وإرادة الشر بقتلها لأخيها وأبنائها، إذا طرحنا هذه الشخصية جانبا فإنه لا رابط بين الزير الذي نهض ثأرا لأخيه وهو فعل خَيْرٍ محمودٌ في عصره، ولا يزال التاريخ يمجده عليه، حتى أصبح من أجله رمز البطوله وأكثر الشخصيات أسطورية في المخيلة العربية، وبين الليدي ماكبث التي تعني الإرادة الصافية للشر والغدر الدنيء، هذا الخلل في اختيار الملمح الصافي الذي لا لبس فيه، أخل برؤية المسرحية ابتداء، وانعكس على العرض الذي قدمه المخرج.
 وضع المخرج ثلاثة أقفاص مفتوحة في عمق الخشبة  على خط واحد، ووضع في كل منها إحدى الشخصيات الثلاث، وكأنه يوحي لنا بأنه يريد إلى محاكمة هذه الشخصيات، واختار أن تكون البداية مع الزير سالم من لحظة تخليه عن الخمر ورفضه لعرض الصلح الذي عرضه عليه بنوشيبان، فهو لا يريد إلا رأس جساس، ومع الليدي ماكبث من لحظة تحريضها لزوجها على القتل، ومع ميديا من لحظة شكها في زوجها الخائن، وتبدو كل الشخصيات متعطشة للدم والانتقام، ثم تظهر شخصية "هو" ذلك الشبح بهيئته البشعة، الذي يبدأ في تحريض الشخصيات الثلاث على إراقة الدم والانتقام، بادئا بميديا ثم مارا بالزير منتهيا بالليدي ماكبث ليعود إلى ميديا هذه المرة في صورة زوجها الخائن وهي تلومه وتعنفه على خيانته، ويظهر مع الزير في صورة ابنة أخيه التي تبكي بين يديه وتدعوه للأخذ لها بثأر أبيها، ثم مع الليدي في صورة زوجها وهي تحرضه على القتل، ثم يظهر هذا الهو أيضا في صورة الملك الذي يطرد ميديا عن مدينته بعد قتلها لأخيها، وفي صورة جساس وهو يتوسل إلى الزير لكي يقتله ويريحه ويريح أهله، وفي صورة ماكبث بعد أن نفذ جريمته وتسلم التاج، لتنتهي اللعبة بالشخصيات الثلاث وهي تعيش الندم وأزمة ضياع العمر في الانتقام والشر، ويظهر "هو" في القاعة أمام الجمهور مخاطبا إياه، "لقد انتهى دوري، لكنني مطمئن أن كل واحد منكم ستسلم هذا الدور".
"من منهم هو"؟ هذا السؤال يحق لنا أن نطرحه، ليس كما أراده المخرج لكن كما أثاره العرض، فمن هو هذا "الهو"، هل هو الذات الأنانية والنفس الأمارة بالسوء كما أراده المخرج، ولماذا إذاً يلعب دور شخصيات أخرى كجساس وجيسون وماكبث بنفس لباسه وهيئته التي هو عليها، أليس في ذلك إرباكا لدلالة الشخصية، أما كان يمكن أن يغير الزي والهئية لتظهر الشخصيات مغايرة لهذا الهو، ثم إذا اعتبرناه النفس الأمارة، فما الذي أضافه دخوله في المشهد الثاني وتحريضه لشخصيات بدت في المشهد الأول في ذروة تحفزها واستعدادها للانتقام، ألم يكن حريا أن تكون البداية معه، حتى يكون لتحريضه معنى.

من ناحية السينوغرافيا فإن توظيف عناصرها خدم العرض إلى حد بعيد، خاصة من ناحية الإضاءة التي عبرت بشكل جيد عن مختلف المواقف، لكن سرعة تبادل الأدوار بين الشخصيات الذي بدا على شكل مونتاج لحوارات ومونولوجات ترد هنا وهناك في حكاياتهم الثلاثة، هذه السرعة جعلت تبادل الدور بين الإضاءة والإظلام يتأخر، فتفتح الإضاءة على شخصية في وقت ما تزال إضاءة الأخرى مفتوحة، كما أنه في بعض اللحظات تبقى الأقفاص مضاءة كلها في وقت تكون شخصية واحدة هي التي تتكلم، وهو ما يخل بعامل الفرق الزمني بين الشخصيات، أما الصوت فقد شابته اختلالات ولم تكن بعض الجمل مسموعة، وهناك أخطاء فادحة في اللغة لدى الممثلين، ومن ناحية الأزياء، فقد بدا زي الممثلة فاطمة الصفي التي مثلت الليدي ماكبث مقيِّدا، وأثقل حركتها.
محمد ولد محمدسالم
نشرة مهرجان المسرح الخليجي 2014

الثلاثاء، 27 مايو 2014

"بازار" رسالة فقدت عنوان البريد

"بازار" رسالة فقدت عنوان البريد
محمد ولد محمدسالم
ضاع صك ملكية البئر فاستشرى الخلاف حولها بين عشيرتين من أبناء القبيلة الواحدة، كل تدعي ملكيتها، وتبحث عن ما يسند دعواها، ويعصف الصراع بالأفراد فتتولد منه خلافات ثانوية ونعرات لا تنتهي، وتداس أحلام كبيرة وصغيرة، وتنتعش مآرب أنانية لدى شخصيات كثيرة، فيضيع الشأن العام، وتضيع البئر وأهلها، تلك هي الخلاصة التي تنقلها إلينا مسرحية «بازار» لفرقة الدن العمانية، التي ألفها الإماراتي محمد صالح، وأخرجها العماني إدريس النبهاني
يتخذ العرض من البحث عن صك ملكية الطَّوِيّ (البئر) مولدا ومؤطرا للحدث، فمن خلال المناكفات والنقاشات حول هذه العملية تنشأ الأحداث، وقد كانت البداية باجتماع عام لرجال العشيرتين يتدارسون فيه كيفية الوصول إلى ذلك الصك الذي لا يعرفون سبب ولا كيفية اختفائه، فتقول عشيرة الزعيم سعدون إنهم سوف يأخذون برأي (سمعول)، وتقول عشيرة الزعيم حافظ إنهم سوف يأخذون برأي (بايت)، ولا يتفقون، فتقوم المرأة (نصراء) وتقول إن عليهم أن يأخذوا برأي الأسود، لأن سمعول مجنون وبايت سكير مخبول لا يفيق، لكنهم جميعا يرفضون رأيها على الرغم من إقرارهم بأن الأسود أعقل من الاثنين وأصلح لتقديم الرأي السديد.
يعمد الزعيم حافظ إلى استمالة "بايت" لكي يأتي برأي يسند دعواه في البئر، فيسعى لتزويجه "شامة" ابنة نصراء اليتيمة، لكن البنت وأمها ترفضان ذلك المخبول، ونكتشف أن حافظ هو قاتل والد البنت، وانتقاما من البنت وأمها يمنع حافظ ابنه "عذب" من أن يتزوج شامة التي يحبها وتحبه، تم تتفق العشيرتان على استقدام "سمعول" ليعرفوا منه أين ذهب الصك، لكن هذا المجنون المسلح لا يخرج لهم برأي، ويظل يشهر سلاحه في وجه كل من يترفع كلامه في اتجاهه، ولا يعرفون كيف يتصرفون معه، وأثناء نقاش بينه وبين حافظ يشهر سلاحه ليقتل حافظا فتأتي الطلقة في نصراء التي تموت، ويختفي سمعول، ليأتي دور "بايت"، لكن بايت يماطل برأيه، ويقول إنه لن يقول سر الصك إلا لشامة وبعد أخذ ورد يقنعون عم شامه بإرسالها إلى بايت، الذي يحاول الاعتداء عليها، فتصفعه وتدفعه ليسقط في البئر، ويحدث إظلام نشاهد خلاله شامه وسط دائرة من الرجال كلما اتجهت إلى جهة اعترضها أحدهم فتعود أدراجها، وهكذا حتى تسقط مغشيا عليها ويسقط الرجال حولها، وتكون النهاية.
اشتغل المخرج اشتغالا بصريا جيدا فحشد عدة عناصر سينوغرافية مهمة، فمن ناحية الإضاءة فقد كانت موفقة في عدة مواقف وعكس لونها أجواء الحدث، فتكون حمراء في لحظات المآسي والدم، ووردية  في لحظات الحب والبوح، ومفتوحة بيضاء في حالات الاجتماع والنقاش، ومن ناحية الديكور فقد عكس تكوينه وتلوينه شكل البيئة الجبلية، على الرغم من أنه يمكن المجادلة في ذلك التكوين الكبير الذي شغل نصف الخشبة الخلفية وأعاق حركة الممثلين، واضطر ثباتُه المخرجَ إلى كثير من حالات الإظلام التام وإسقاط الضوء في بقع محددة لإخفاء ذلك الديكور الهائل، وكان في غنى عن ذلك لو أنه استخدم ديكورا رشيقا قابلا للتغيير والتحريك، ومن ناحية الأزياء والأكسسوارات فقد كانت تتماشى وأجواء المجتمع التقليدي، ومن ناحية الغناء فقد كان تقليديا وبآلات تقليدية تلائم الحالة.
الملاحظة البارزة في المعالجة الدرامية في مسرحية (بازار) هي أننا لسنا أمام حكاية، لكننا أمام حالة، والحالة في المسرح الجاد هي إحدى وصفات الملل التام، إن لم تلعب على الكوميديا أو الاستبطان النفسي، وهما عنصران غائبان في هذا العرض إذا ما استثنينا مشهد بايت الأخير، ولقطة العشيقين، وعوضا عن ذلك اعتمدت المسرحية حوارا ضديا بين رأيين متصلبين، محكوم عليه بأن يظل يراوح مكانه، ويتكرر بشكل بارد وممل في جميع المشاهد، لأنه لا يأتي ضمن سياق أحداث حكاية تتنامى وتتصاعد في اتجاه نهاية ما.
ما أشبه الليلة بالبارحة، وأشبه "بازار"  ب"زوان"، لقد أراد الكاتب وتبعه المخرج في ذلك أن يعالج عدة قضايا من حالة واحدة (الصراع القبلي، قضية الفئوية "الأسود"، الآباء وتجبر الأبناء، المرأة والقهر، الغريب الذي نحكمه فينا ونسلم له قيادنا)، ونسي أن يركز على قضية واحدة عبر حكاية متنامية تشد الجمهور وتقنعه، وتجعله يتفاعل معها ويعيش تجربتها، وبذلك فقد عنوان البريد الذي يمكن أن يوصل رسالته إلينا فبقيت في الصندوق الذي وضعها فيه.

عن نشرة مهرجان الخليج المسرحي الثالث عشر

"زوّان" خلل في البينة الدرامية وغياب لدور الإضاءة

"زوّان" خلل في البينة الدرامية وغياب لدور الإضاءة
محمد ولد محمدسالم
اختار المخرج السعودي ياسر الحسن أن ينطلق من أسطورة شعبية سعودية عن عين ماء مسكونة بالجن تختطف البشر ليحولها عملا مسرحيا سماه "زوّان" وهو من إنتاج فرقة نورس المسرحية السعودية.
خلاصة العرض أن هناك قبيلتين تعيشان حول بئر وتتصارعان على مائها كل واحدة  تريدها لنفسها دون الأخرى، وتعتقد القبيلتان أن هذه البئر مسكونة بجنية تختطف البشر، لكن لا خيار لهما سوى البقاء حولها، لأنه لا يوجد بديل عنها، وقد نشأ هذا الاعتقاد عندما غرقت في البئر إحدى بنات القرية واسمها "زوان" ومن يومها، أصبح كل من يموت في ظروف غامضة من أهل القرية يعزى موته لهذه البئر الملعونة، لكنّ الوحيد الذي لا يصدق هذا الزعم هو سالم، عاشق الفتاة المختفية الذي أصيب بالخبل بعد اختفائها، وعاش حياته يناجي خيالها، ويزعم أنها محبوسة في البئر وسوف تعود إليه، ويردد على مسامع الناس أن الجنية (راعية البئر) لا تقتل بل تحرس، لكنهم لا يصدقونه.
استشرى الصراع بين القبيلتين، وتوسط بينهما رجل غريب كان قد نزل بأرضهما، فأصلح بين زعيمي القبيلتين، وطلب منهما أن يبيعاه شيئا من أرض البئر، لكنهما رفضا ذلك، ثم إن أحد الزعيمين قتل الآخر، ولجأ القاتل إلى الرجل الدخيل الذي أشاع في الناس أن الفقيد اختطفته البئر الملعونة، فاقتنعوا وهدأت الأمور، ثم إن الدخيل راود القاتل ليبعه شيئا من الأرض وهدده بإفشاء سره إن هو لم يبعها له، لكنّ الزعيم امتنع، فما كان من الدخيل إلا أن قتله، ورماه في البئر، وادعى أنها اختطفته، وعمل الدخيل على تنصيب ابن أخ الزعيم الذي قتله زعيما للقبيلتين، وحين تم له الأمر قبل الشاب أن يبيع للدخيل الأرض، وأمر بهدم البئر والرحيل بالحي عن ذلك المكان، ولم يفلح المخبول في ثنيه الزعيم الجديد عن عزمه، لتنتهي المسرحية برحيلهم تاركين الأرض للدخيل.
هذه الخلاصة بهذا التسلسل لا تعبر عن واقع العرض كما قدم على الخشبة، فقد شاب الحكاية اضطراب في التقديم والتأخير، وتوازي الأزمنة، مما لم يحكمه منطق واضح أو رؤية معينة، فقد بدأت المسرحية بحدث حاضر تخلله استرجاع عبر استحضار المخبول لذكرياته مع محبوبته وهما فَتِيَّيْنِ يلعبان الغميضة، لكنّ الإضاءة لم تلعب الدور المطلوب بحيث ظهر المخبول والفتى في نفس الإضاءة وكأنهما شخصيتان مختلفتان تعيشان في لحظة زمنية واحدة، ومثل هذا التداخل والاضطراب وقع في عدة مشاهد، وقد بدا أن المخرج لا يمتلك رؤية واضحة يوزع بها المشاهد توزيعا صحيحا وموجها، فمشهد اللقاء بين القبيلتين والاقتتال بينهما جاء متأخرا بمشاهد عن مشهد الصلح، ولا ندري لماذا فعل ذلك.
لقد عانت المسرحية من خللين عميقين أولهما أن المخرج شتت اهتماماته، بلعبه على عدة مسارات في آن واحد، فهو يريد أن يتابع قصة الحب البرئ والفتاة المختفية ويعطيها دلالة ما، ويريد ثانيا أن يتابع قصة الصراع القبلي المرير في المجتمعات التقليدية وما ينشأ عنه من قتل وتدمير لبينة الحي الواحد، ويريد ثالثا أن يعالج قضية الدخيل والمؤامرات التي يحيكها للتفرقة بين أهل الوطن الواحد من أجل أن يفوز بأرضهم وملكهم وخيراتهم، هذه المسارات مجتمعة هي التي أوقعت المخرج في هذا الاضطراب الكبير الواضح، وقد أوقعته في خطأ أعمق وهو أنه داوى الداء بالداء، فقد أظهر الزعيم القاتل حريصا على الأرض مستميتا في الدفاع عنها حتى ولو كان في ذلك موته، ولا يريد أن يبيعها بقناطير الذهب، وبذلك حول هذا القاتل إلى بطل، ولعمري فإن من يقتل لأتفه الأسباب لحري بأن يبيع من أجل أعظم أسباب الغنى وهو الذهب، أما الخلل الثاني فهو غلبة منطق السرد فالمخرج كثيرا ما يستعيد أحداثا ماضية ليفسر حدثا حاليا، وكان يمكنه أن يستغني عنها بالحوار، وباختيار مشاهد مفصلية في الحكاية، لكنّ تلك حنكة تحتاج إلى احتراف.
من الجوانب الإيجابية في هذا العرض أن المخرج اشتغل على الأداء الحركي والتشكيل الجسدي للممثلين وزيّهم الموحد فهم تارة بشر، وتارة أشباح جن وتارة أعمدة خيمة وستائرها، ومرة جثث بأكفانها، وغير ذلك، وقد أغناه هذا التشكيل البصري الجميل عن الديكور، فكانت الخشبة خالية من الديكورات ، مفتوحة للحركة الحرة للممثلين، لكن الإضاءة لم تسعفه بشيء، فقد شابتها اختلالات وكانت أوجه الممثلين معتمة أغلب الأوقات، كما أن أصوات بعض الممثلين لم تكن واضحة.

عن نشرة مهرجان المسرح الخليجي الثالث عشر

"عندما صمت عبدالله الحكواتي" حزمة ضوء تشتت في عدة اتجاهات

"عندما صمت عبدالله الحكواتي" حزمة ضوء تشتت في عدة اتجاهات
محمد ولد محمدسالم
يعود بنا عرض "عندما صمت عبدالله الحكواتي" لفرقة مسرح الصواري البحرينية إلى أجواء الراوي الشعبي في المقهى والسوق وما يرويه من قصص يتناسل بعضها من بعض وتتواصل فلا تنتهي،  وذلك من خلال الراوي عبدالله الحكواتي الذي انجذب إليه جمهور حيه وأحبوه على مدى خمسة عشر عاما من الحكايات المستمرة حول شخصية "عبدالله الصياد" الذي يمتلك قدرات خارقة تجعله قادرا على أن يرتشف البحر أو يحجب الشمس بيده، أو مادون ذلك من الخوارق، لكنّ عبدالله الحكواتي يتوقف فجأة عن سرد حكاياته، ويصاب بالصمت بسبب شخصية مبهمة زارته ذات ليلة وأنذرته بأنه سيفقد القدرة على الكلام بعد سبع وعشرين كلمة، وسيكون دواؤه في ثلاثة هدايا مبهمة لم تحددها له تلك الشخصية، ويحاول أصدقاء الحكواتي شفاءه بكل الطرق التي يتيحها الطب والرُّقْيا لكنهم لا يفلحون.
ثم ينكفئون على أنفسهم ليروي كل منهم حكايته الخاصة به، والتي تكشف عن أضرب كثيرة من المعاناة والمأساة، فواحد يكتشف كيف أنه عاش مخدوعا في صديقه الذي يظنه مخلصا له، مما دفعه إلى خدمته بكل وسيلة حتى ولو كانت خديعة البريئين من أجل صديقه، لكنه في النهاية يكتشف أن هذا الصديق كان يخونه مع زوجته، وآخر توسوس له نفسه بأن زوجته تخونه مع عشيق فيقتلها، ثم يتحقق من براءتها، فيعيش حياته نادما على فعلته الشنيعة، ورابع يروي للسلطان كذبة لم يسمعها فيستحق لذلك الجائزة، لكنه لا يأخذها، وبدلا من ذلك يُبيِّن للسلطان أنه عاش طيلة ملكه يكذب على الناس، فيقرر السلطان قتله، وتنتهي تلك الحكايات بعبدالله الحكواتي واقفا في منتصف الخشبة (المقهى) وحيدا صامتا، كما كان في آخر مرة.
أعد المخرج حسين عبد علي خليل مسرحيته من ثلاثة نصوص أدبية هي رواية "حكواتي الليل" لرفيق الشامي، ورواية "أهل البياض" لمبارك ربيع، وقصص "درويش الثالث" من ألف ليلة وليلة، واختار أن يقدم عرضها في قاعة مسرح جمعية المسرحيين الإماراتيين التي أعدت بشكل دائري يحاكي شكل المقهى أو مسرح الحلقة (أو السرادق) في المجتمعات التقليدية، وهو شكل يلائم القالب الفني للحكايات المروية بدءا بعنصر الراوي ثم الحكايات نفسها المقتبسة من قصص تقليدية، وقد كان أداء الممثلين الستة: عبدالله السعداوي ومحمد الصفار وباسل حسين ومحمود الصفار وحسين خليل ومحمد المرزوق جيدا ومتناغما، عكس الحالات المتعددة التي تمر بها الحكايات، وأغنت حركة الممثلين وأصواتهم عن الكثير من الديكور والأكسسوارات وحتى الشخوص، مما يشي بأنهم فنانون محترفون أولي تجارب عميقة، وكان تمثيلهم متناغما مع الإضاءة والسينوغرافيا عامة التي عكست تقريبا كل الأجواء التي تقلب فيها الممثلون، وهي كثيرة ومتنوعة، مما جعل الجمهور يتنقل بسلاسة بين تلك الأجواء، وسمح شكل الحلقة أيضا برفع الحواجز بين الممثلين والجمهور الذي اندمج كجمهور في المقهى أو في الحارات التقليدية وكشعب في مدينة السلطان.
كل ذلك كان اجتهادات جيدة وواعية من طرف المخرج، لكنّ التساؤل الكبير الذي ظل معلقا هو لما ذا سكت الحكواتي؟، ولماذا هذا الشتات من الحكايات، وهل استلهام الشكل التقليدي للحكاية التي يتناسل بعضها عن بعض هدف في حد ذاته؟.
لقد وضع المخرج المتلقي في متاهة لم ينقذه منها، وقد حكم على اللعبة الدرامية بالتوقف عندما أخرج الحكواتي منها، وأدخلنا في جيوب من الحكايات التي لا نهاية لها، ولا دلالة لها في سياق مأساة الحكواتي الذي لم تقدم عودته صامتا في نهاية العرض أية إضافة سوى الصمت والحيرة.

قد تكون هناك إضاءات في هذه الجيوب (قهر المرأة وكذب السلطة ونفاق المجتمع)، لكنّ المسرح هو فن الرؤية الواحدة التي تجمع الشتات، وتؤلف المتفرق لتصنع منه حزمة الضوء وتسطقها في اتجاه معين، وتلك الحزمة الضوئية الموجهة هي التي ضاعت من المخرج وسط أشعة انطلقت في عدة اتجاهات.

عن "نشرة مهرجان المسرح الخليجي الثالث عشر"

الاثنين، 21 أبريل 2014

هل يسهم ازدهار الرواية في إنعاش اللغة العربية؟



تاريخ النشر: 13/04/2014
محمد ولد محمد سالم

شهدت الرواية العربية في العقدين الأخيرين صعوداً كبيراً ورواجاً على حساب فنون الأدب الأخرى، حتى أدى ذلك ببعض الشعراء المرموقين إلى الانتقال إلى الرواية، فإبراهيم نصر الله الذي بدأ حياته شاعراً مجيداً هو اليوم روائي كبير، وقد حمل رواج الرواية معه جدلاً كبيراً، حول انعكاسه سلباً أو إيجاباً على اللغة العربية الفصحى، فهل تسهم الرواية في تدهور اللغة وانتشار أساليب غير فصيحة أم أنها أداة للارتقاء بها وتطوير لأساليبها؟
انتهى منذ زمن طويل الجدل الذي دار حول مسألة العامية في الرواية العربية، بفضل إبداعات كتاب كبار أمثال طه حسين ونجيب محفوظ والطيب صالح وعبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا وجمال الغيطاني الذين فرضوا بفضل قوة أساليبهم الفنية وفصاحة لغتهم أن تكتب الرواية بالفصحى بعد أن كانت في بداياتها الأولى حكايات تكتب بالعامية، فعاشت الرواية في الثلث الأخير من القرن الماضي قمة ارتقائها الأدبي بوصفها فرعاً من فروع الأدب الفصيح، وتراجعت العامية إلى الخلف، ولم تظهر في روايات تلك الأجيال إلا بشكل طفيف وفي الحوارات، أما في أساليب السرد والوصف والتداعي الحر والرسائل والمذكرات والخطب وغيرها من الخطابات التي تدخل في نسيج الرواية، فبقيت حكراً على الفصحى ولم تدخلها العامية على الأقل في الإبداعات التي اشتهرت وكان لها تأثير كبير، وقد أسهم هذا الارتقاء بأساليب الرواية في تلك الفترة في تطوير اللغة الفصحى نفسها، وتنقية أساليبها من التكلف والتصنع ومن المحسنات اللفظية الثقيلة الموروثة عن أساليب عصور الضعف، فقد فرضت فنون السرد ومقتضيات التنوع الأسلوبي داخل الرواية، وتفاوت الوعي لدى الشخصيات على الكتاب التخفف من الحشو والتوشية والتأنق الذي كان سائداً، والذي يظهر أثره بارزاً في المحاولات الروائية الأولى، فبين رواية مثل "حديث عيسى بن هشام" في عام 1907 لمحمد المويلحي أو "زينب" في عام 1914 لمحمد حسنين هيكل أو روايات جرجي زيدان المتوفى عام ،1914 وبين روايات مثل الثلاثية (1956 و1957) لنجيب محفوظ، أو "موسم الهجرة إلى الشمال" 1966 للطيب صالح، قطعت الرواية العربية مسيرة طويلة من التطور الأسلوبي، الذي جعل لغتها بسيطة قريبة، قادرة على الانتقال الرشيق من أعمق الأحاسيس النفسية إلى أصعب القضايا الفلسفية أو العلمية، ووصف كل ذلك بوضوح من دون أن تفقد فصاحتها، كما كان لهذا الارتقاء الأسلوبي الفضل في تعميم التعاطي مع الفصحى لدى جمهور القراء وتوسع استخدامها في مجالات أخرى .
لكن هذا المجد الذي عرفته الفصحى في عالم الرواية العربية لم يدم طويلا، فلا نكاد نصل إلى القرن الحادي والعشرين وموجة الإنترنت وما صاحبها من رواج لاستخدام العامية في مواقع التواصل الاجتماعي حتى بدأت مكانة الفصحى في الرواية تتزعزع بسبب غزو الأساليب غير الفصيحة للرواية، فقد وجد الكتاب الجدد في الإنترنت وسيلة سهلة لنشر رواياتهم وإتاحتها للقراء، وفضلوا تحت تأثير قلة الخبرة اللغوية تارة أو حب الوصول إلى أكبر جمهور ممكن تارة أخرى أن ينشروا كتاباتهم بالعاميات أو حتى بلغات تكون خليطاً من الفصحى والعامية والأجنبية، ومن النماذج الروائية التي اعتمدت هذا الخط ولقيت نجاحاً كبيراً رواية "بنات الرياض" 2005 للكاتبة السعودية رجاء عبدالله الصانع، فقد بدأت رجاء عبدالله روايتها على شكل رسائل أسبوعية تنشرها في أحد المنتديات، وكانت تكتب على سجيتها تماماً، كما يكتب أصحاب المنتديات فتخلط بين الفصحى والعامية والإنجليزية، ولقيت متابعة منقطعة النظير من طرف رواد المنتدى، ولما اكتملت الرواية نشرتها بنفس صيغتها من دون تنقيح، وظلت طباعتها تعاد وتعاد، وعدت في سنواتها الأولى من أكثر الروايات العربية مبيعاً، ولا شك أن هذا الرواج كان له أثر في أساليب الكثير من الكتاب الجدد ودفع بهم إلى محاكاة رجاء الصانع في أسلوبها الكتابي، مما كان له تأثير سلبي في نوعية الكتابات الروائية اللاحقة، ومن النماذج أيضاً رواية "عايزه أتجوز" لغادة عبدالعال المكتوبة بالعامية المصرية والتي نشرتها أولاً على شكل تدوينات يومية في مدونتها، ولقيت بدورها إقبالاً هائلاً من طرف الجمهور ثم طبعت مرات عدة وحولت إلى مسلسل، ولا شك أنها أصبحت نموذجاً للنجاح يحتذيه كثيرون .
صعود الرواية وإن كنا لا نستطيع رده فقط إلى تحوّل الكتاب الجدد الذين لا يمتلكون ناصية الفصحى، بسبب عوامل كثيرة منها رداءة التعليم، إلى الكتابة بالعامية أو بخليط لغوي، فإن من المؤكد أن هذا التحول هو أحد عناصر صعودها، ويمكن الاستدلال لهذه الفرضية بتراجع الشعر، فذلك التراجع مظهر مؤكد من مظاهر الضعف اللغوي الذي نعيشه، لأن مادة الشعر هي اللغة، بلفظتها وجملتها وصورتها وإيقاعها، ومن لا يمتلك تلك اللغة فلا سبيل له إلى الشعر .
هل يسهم صعود الرواية في تدهور اللغة الفصحى؟، لا يمكن تقديم جواب قاطع بنعم أو لا على هذا السؤال، لأن مجرد رواج كتابات بالعامية وتلقي الجمهور لها لا يعني أن الأساليب الأدبية العالية ستختفي، فسيظل هذا الأدب الجماهيري الخارج عن الرقابة الأدبية، والمعمم عبر الدعاية أو عبر الإنترنت أدباً جماهيرياً، سيبقى أدباً ثانوياً لا يعتد به عند الحديث عن النموذج الأدبي الصحيح، ومساهمة الرواية سلباً أو إيجاباً في المسألة اللغوية العربية اليوم رهينة بقرارات لجان التحكيم في الجوائز الأدبية الكبرى، لأنه في ظل غياب النقد الأدبي الذي يقدم تقييماً صحيحاً لما يكتب، أصبحت قرارات لجان التحكيم معياراً للجيد الأدبي، فإذا كانت تلك اللجان تضع في معاييرها تحقيق الرواية لمستوى معين سلامة وجودة اللغة فإن الرواية العربية ستسهم كما أسهمت من قبل في الارتقاء باللغة العربية، وإذا أغفلت اللجان ذلك المستوى فإن الرواية ستكون حينها أداة فعالة لإفساد اللغة
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/bd61d7de-21a5-488f-a8c3-ebb0511bb96e#sthash.nWWw3Vxt.dpuf

"تشريقة" لحبيبي

أفق
"تشريقة" لحبيبي
تاريخ النشر: 21/04/2014
تحكي رواية "تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية" للكاتب المغربي عبد الرحيم لحبيبي، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية ،2014 قصة "العبدي" أحد طلبة العلم بجامع القرويين بفاس والذي خرج حاجاً في أواسط القرن التاسع عشر، وقادته رحلته إلى تمبكتو في مالي، ثم رحل شرقاً، ولقي من الأهوال والمهالك في الصحراء وبلاد السودان ما قربه في مرات كثيرة من الموت، وسكن بين وثنيين ومارس الطب والشعوذة، ولقي قوماً من المسلمين فأنشأ لهم زاوية تبث العلم وتربي على الدين الصحيح، لكنهم طغوا، فتركهم، ومر بالسودان وأسوان في مصر ووصل إلى مكة .
كان من جملة دوافع العبدي إلى الحج أنه رأى ما وصلت إليه بلاد المغرب من ضعف وفساد في الدين والأخلاق، وتسلُّطٍ للدول الأوروبية عليها، فأراد أن يأتي إلى مكة لعله يعرف السر الذي خرج منها، وانتشر نوره في العالم، فينقذ به بلاده، وبعد أن حج وزار المدينة المنورة، وصحب أهل الصلاح من العلماء والمتصوفين، واطلع على حال الجزيرة العربية وسمع بحال الشام اقتنع أن أوضاع المشرق ليس بأفضل من أوضاع المغرب، فقد أصابه ما أصابه، وأشد، فيمم شطر القاهرة لعله يجد فيها النور، لكنه لم يجد في الأفكار المطروحة والممارسات الجارية ما يقنعه، وتأكد له أن السبيل الوحيد لإنقاذ الأمة هو الأخذ بعلوم الغرب، وهو ما لا يلوح في الأفق أنه سيحدث قريبا، وتملكته الخيبة، فقرر العودة إلى المغرب، وفي طريقه اجتاح المنطقة وباء، فرست بهم السفينة في جبل طارق واحتجزوا في محجر صحي إسباني أربعين يوماً خرج بعدها أصحابه، أما هو فأصيب بالحمى ومات هناك .
اتبع لحبيبي في روايته تقنية أدب الرحلات، مدعيا أنها في الأصل جزء من مخطوط مجهول الكاتب عثر عليه في سوق شعبي، وقد كان ينوي أن يحققه تحقيقاً أكاديمياً لكن ذلك تعذر عليه، فجعله رواية، وقد جاءت لغته في معظمها أصيلة جزلة، واستطاع الكاتب أن يسيطر على حكايته ويسير بها نحو النهاية من دون أن يدخل في قصص جانبية تعيق السرد، وربما يكون الاعتماد على صوت المتكلم خدمه في ذلك، كما أنه قدم رؤيته بشكل واضح، بل مباشر في بعض الأحيان، واستفاد من فنيات أدب الرحلة في الربط بين مفاصل وأجزاء روايته "رجع ، تذكير، عود إلى موضوعنا)، لكنّ الرواية عانت عدة مشاكل، أولها أن الكاتب اتبع التسلسل الزمني ما اضطره إلى الإتيان بتفاصيل كان يمكن الاستغناء عنها، وما جعل السرد مملاً وثقيلاً، كما أن الكاتب أثقل روايته بمئات الإحالات اللغوية والتاريخية التي لا تستقيم وفن الرواية، فالقارئ لا يعنيه صحة المعلومة التاريخية بقدر ما يعنيه تماسك الحكاية، وكذلك كانت المقدمة طويلة جداً ولا ضرورة لها، وقد كان الأولى أن تسمى الرواية "تشريقة" وليس "تغريبة" لأن البطل شرّق ولم يغّرب .

محمد ولد محمدسالم
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/c48fb76e-ce0d-4104-8a88-428e8d8f2c68#sthash.VX25KPw4.dpuf

الخميس، 10 أبريل 2014

"سكاكين" في جسم متفسخ


أفق
"سكاكين" في جسم متفسخ
تاريخ النشر: 09/04/2014
كثير من الهجاء المقذع للواقع وكثير من النقد الذي يأخذ شكل خطاب مباشر على لسان الراوي، وكثير من التفكك والتحلل في شخصيات الرواية يصل لحد الخرافة، تلك هي العناصر البارزة في رواية "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" لخالد خليفة التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، وقد سبق لخليفة أن وصلت روايته "مديح الكراهية" إلى هذه القائمة في سنة 2010 .
يحكي خالد خليفة في روايته الجديدة عن أسرة حلبية تعيش تداعيات الحياة في ظل نظام قمعي تسلط على الدولة منذ الستينات وقلب حياة الناس إلى رعب دائم، صنعه عن طريق أجهزته الأمنية والعسكرية التي سلبت الإنسان شرف إنسانيته، وأحالته إلى شخصية خاوية خالية من أي طموح، يعيش حياة موازية للحياة الطبيعية كأنه بهيمة .
تبدأ الرواية بحكاية الأم المدرّسة وأولادها بعد أن هجرها أبوهم الذي هاجر مع أمريكية، تبدو الأم حذرة خائفة على أبنائها، توصيهم بألا يختلطوا بغيرهم من الأطفال، وألا يجلبوا أياً منهم إلى المنزل، معتبرة أن الناس الجدد الذين بدأوا يغزون المدينة بعد انقلاب 1963 هم من أهل الريف المتخلفين الذين سيدنسون بسلوكهم وعاداتهم وجه المدينة الأصيل، في المقابل تبذل كل جهدها في تأثيث منزلها على الطراز العثماني التقليدي الذي كان سائداً في حلب، لكنّ الفساد السياسي والخوف جعل القادمين الجدد المرتبطين بالحزب والأمن يحتلون المدينة ويغيّرون طابعها، ما جعل الأم تصاب بالصدمة، وهي ترى كل ما أحبته يتداعى من حولها، ويؤول بها الأمر إلى حالة من الجنون والهذيان الدائم .
يتتبع الكاتب حياة أبناء هذه المرأة خاصة سوسن وسعيد، سوسن تعمل مخبرة للحزب وتضطرب حياتها، وتنحرف وتسافر إلى الخارج ثم تعود محبطة، لتمارس حياة الانحراف من جديد، وسعيد يعمل عازفاً في ملهى ليلي، ويضطرب هو الآخر ويلتحق بالجهاديين في العراق، ثم يعود ليعيش فترة اضطراب أخرى تسلمه إلى الانتحار، أما الابن الثالث وهو الراوي فهو كما يقول عن نفسه شخصية بلا طموح ولا مآرب يعيش موازيا للحياة التي اختطفها الزعيم وأعوانه، وتتبع الرواية أيضاً شخصيات ثانوية كخالهم نزار المنحرف، وجان المسيحي وأمه، وعمتهم ابتهال .
كانت بداية الرواية شيقة، وكان يمكن أن تؤدي إلى رؤية معينة لو أن الكاتب تتبع حالة الأم في مواجهتها للواقع، وطورها في أفق حكائي يصل إلى نهاية واضحة، لكنه فكك روايته عندما تحول إلى تتبع سير ذاتية متفرقة لكل فرد من أفراد الأسرة والأفراد المرتبطين بهم، فغاب عن الرواية في ثلثيها تقريباً نسق عام يجمع شتاتها، وتحولت إلى تداع محبط لحياة شخصيات منحرفة، يغتنم الكاتب من خلاله كل فرصة يجدها لهجاء سياسي مباشر، وبذلك فوت على نفسه فرصة أن يكتب رواية ممتعة، ومع ذلك فقد أفلح الكاتب في غرز سكاكينه في الجسم المتفسخ لنظام قمعي رهيب .
محمد ولد محمد سالم
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/558f732a-2d34-4669-ac9e-b3a8217bbf6d#sthash.LbsVy1P9.dpuf

الأربعاء، 26 مارس 2014

ذكريات وأحلام "باص القيامة"

ذكريات وأحلام روضة البلوشي في "باص القيامة"
المصدر : (محمد ولد محمد سالم)
أول ما يلفت انتباه قارئ قصص روضة البلوشي التي ضمنتها في كتابها باص القيامة، هو قدرة هذه الكاتبة على صناعة بُنى قصصية مدهشة، يحس معها القارئ أنه أمام كاتبة متمرسة وليس أمام كاتبة شابة تجمع بداياتها القصصية في كتاب وتنشره، لمجرد الإعلان عن ذاتها، وإيجاد ملصق إعلاني لصفتها ككاتبة .
منذ القصة الأولى تعذبني أشياؤه تعلن لنا الكاتبة حضورها، وهي تلتقط الحكاية الخام وتدخلها إلى مصنع الخيال لتفككها وتعيد بناءها من جديد، بما يلبي وجهة نظرها، وتعتمد في ذلك على تقنية سردية تمزج الحاضر بالماضي مكسرة خطية الأحداث، تُظاهِرُها تقنية أسلوبية قوامها التخفف من أدوات الربط والاعتماد على تتالي الأفعال ضمن الحدث، والحكاية هنا لأرملة شابة رحل زوجها فجأة تاركاً لها ثلاثة أطفال في عمر الزهور، ليملأ حياتها بحزن لا يزول، ولكي تصور البلوشي حكاية هذه المرأة، وحجم ما حل بها من ألم، فقد اختارت أن تحكيها عبر خطين متوازيين هما الماضي والحاضر، لكنها جعلتهما متداخلين بفعل الوهم الذي يسيطر على ذهن بطلتها، حيث لا يزال زوجها يمارس حضوره الطاغي وكأنه لم يخرج من الغرفة: يمسك بيدي ويسحبني برفق نحو غرفة نومنا . . يطلب مني أن أنظر إليه وهو يتحول إلى خزانة ملابسنا المشتركة، يقول لي: - ادخلي ولكن برفق يكررها مرتين، وحين أدخل في العتمة، يسألني: - والآن، بم تشعرين؟
فأجيبه: - أشعر بالدفء، بالدفء فقط، وببعض البرد، لا أكثر
هل تصور الكاتبة هنا حدثاً وقع في الماضي؟ أم تصور حالة توهم طافت بذهن بطلتها، وهي تقف أمام خزانة الملابس، وتعاين ملابس زوجها مصفوفة إلى جانب ملابسها، فتتلاشى الخزانة أمام عينيها ولا يبقى سوى صورته كبيرة بالمقدار الذي يملأ عينيها، ويحجب عنها ما سواها، قد تسعفنا عبارة يتحول إلى خزانة في تقرير أن الأمر توهم، لكن ذلك ليس أكيداً لأن التحول قد يكون بمعنى الانتقال إلى الشيء .
يأتي الحدث الثاني في القصة ليؤكد الوهم حيث: يعود إلى وضعه السابق كرجل هادئ وزوج شديد الحضور وأب لأبنائنا الثلاثة الذين يشبهونني أكثر مما يشبهونه وربما يحبونه أكثر مما يحبونني، عودة الزوج بصفاته تلك ستتكرر مرات
في القصة محدثة تكراراً له إيقاعه الأسلوبي الدال على إيقاع نفسي أعمق، فتلك الصفات عميقة مستقرة في نفس هذه الزوجة بكل تفاصيلها، وكل منها مفتاح لأشياء كثيرة لا تقولها الزوجة، وهي في إجمالها تلخص كل ما تحلم به المرأة في زوجها رجل هادئ، زوج شديد الحضور، أب لأبنائنا الثلاثة وتلح عليها عند كل حركة تأتي بها، ويتضخم الوهم عندما تذهب لتجلب له كوب العصير، وبالطبع ستعود فلا تجده، لكنها تحس به في كل شيء من حولها، وتكرار الجمل يحمل معه في كل مرة تغيراً في صفة الأطفال: الذين يتابعون مسلسلاً كرتونياً في صالة الجلوس الآن أو الذين يتعاركون حول شيء ما وأحدهم يبكي ويستنجد بي، وهذا التغير يختزل بصورة غير مباشرة واقع حياة أولئك الأطفال من وجهة نظر الأم، ففيها العذوبة والبراءة والمتاعب، وهي تقابل حياة الزوج التي اكتملت واستقرت على وصف واحد .
نلاحظ أن الكاتبة كسرت نمطية السرد المباشر، فقدمت صورة الأطفال كتعليق ثانوي على اللحظة الحاضرة، لحظة الوهم التي تعيشها البطلة حضور الزوج، وسمح لها ذلك بالاستغناء عن الاسترسال والتفصيل في حياة الأطفال، وكذلك فعلت في مواطن من القصة حيث تقود صورة الزوج البطلة إلى الحديقة لتتذكر شجرة النارنج التي جلبها وغرسها في الحديقة بيديه القويتين، لكنها ذبلت وماتت، وتتذكره أيضاً وهو شاب قوي يغازلها في الشارع ثم تتطور حكايتهما إلى الزواج، هكذا تنسج الكاتبة من تلك اللفتات السريعة الجانبية تفاصيل حياة الزوجين السابقة، برشاقة أسلوبية تظهر مهارتها الكبيرة في فتل الأحداث وتوجيهها بالطريقة التي تريدها .
رشاقة الانتقال بين أحداث الحاضر والماضي تماثلها على المستوى الأسلوبي رشاقة في استخدام لغة تغوص إلى أعماق النفس وتتخفف من أدوات الربط التي تصاحب السرد عادة، جانحة بذلك إلى الشاعرية ومركزة على تدافع الأفعال المتتالية في الزمن يمسك بيدي، يسحبني، يطلب مني ، يتحول كأداة لربط حركي يسمح بالانتقال السريع بين مختلف الوضعيات والأحداث .
مزج الحاضر بالماضي سردياً، والأفعال المتتابعة أسلوبياً، هما خاصيتان ثابتتان في كل قصص مجموعة باص القيامة وإن بدرجات متفاوتة، فالكاتبة تفتح ذهن الشخصية القصصية وتتركها تصب ما لديها من ذكريات ماضية تحفزها مشاهد الحاضر، ويعمل الخيال أو الوهم أو المشاعر النفسية على تلوين لحظتي الزمن كيف يشاء، وعلى اختيار ما يشاء منهما لروايته، ففي قصة حفيف المرآة لا شيء أجمل من هذا الانتقال بين الحاضر المملوء بصخب بنات المدرسة، وهن يتدافعن داخل الحافلة، ويرشقن سائقها الآسيوي الشاب بكلمات بريئة تارة واستفزازية أخرى، فيثير ذلك ألمه وحنقه، ويفتح ذكريات حياته بين أهله، وصور وداعه لهم، وبكاء أمه، وأحزان ابنة عمه، وكل جراحات حياته، ويقود الحافلة شارداً في صور جذوع البنات الغضة التي تعكسها له المرآة الأمامية، فلا يرى المطب أمامه، وتنتفض الحافلة وتهتز فتنتفض معها الأجساد الغضة والسّباب الوقح الذي يدمي قلبه، وهو يلوذ بصمت العاجز عن القيام بأية ردة فعل، لأنه يعرف ما يمكن أن يجلبه عليه ذلك من مآسٍ، ويعود إلى مرآته فيجدها قد تهشمت .
لقد سمحت تلك القدرة السردية للكاتبة بأن تتحرر من سطوة تسلسل أحداث الحكاية، وأن تختار البداية التي تنطلق منها كما تريد هي، لا كما حدثت في الواقع، ففي قصة مثل شاة مريضة تقفين تبدأ من لحظة وقوع الخبر السيئ مبروك ابنتك حامل، وهي التهمة التي ستلقى بسببها البنت أصناف العذاب والصدود والازدراء، وتتداعى صور الحاضر المؤلمة لتمتزج بالذكريات الجميلة والأحلام العجيبة، قبل انكشاف خطأ الطبيبة في التحليل، وتداعي أفراد الأسرة والأقارب للاعتذار لابنتهم عن الجرح الذي تركوه في نفسها .
في باص القيامة يجد القارئ نفسه أمام كاتبة تمتلك الكثير من مقومات النضج الفني، ولن تعوزها الآلة إذا استمرت في الكتابة، وأرادت أن تقدم إبداعاً أدبياً أصيلاً .

- See more at: http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/61fa4060-b2d8-4952-9643-b3750b1ef5ff#sthash.fXF4E0vJ.dpuf

الثلاثاء، 18 مارس 2014

طشّاري

أفق
ما يميز رواية "طشّاري" لإنعام كجه جي هو السلاسة السردية التي تروى بها الأحداث، وقدرة الكاتبة على التنقل بسهولة بين عوالم زمنية وجغرافية عدة، والانتقال من أسلوب الرواية إلى المذكرات إلى الحوار إلى السرد بضمير الثالث الغائب، مستفيدة من تجربتها الطويلة في الكتابة، التي أهلتها لدخول اللائحة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2014 بهذه الرواية، وهي المرة الثانية التي تدخل إنعام هذه اللائحة وكانت المرة الأولى برواية "الحفيدة الأمريكية"، ويعزز هذه المميزات امتلاك كجه جي أسلوباً لغوياً سهلاً ممتنعاً، يجد القارئ في لغته قرباً من الواقع، لكنه قرب لا يفقدها أصالتها، وقوة نسجها، فهي بعيدة عن الابتذال، وتلك ميزة أدبية نادرة في كتّاب الرواية في هذه الأيام .
كما تتميز الرواية بالانشغال بالحكي وتقديم البعد الدرامي من دون الانصراف إلى المشاهد المقحَمة التي تعمل على دغدغة مشاعر القارئ، لمجرد جذب اهتمامه، ومن دون أن يكون في ذلك ما يخدم سياق الحكاية التي تروى، مما تطفح بها الروايات الراهنة التي تحولت في أغلبها إلى مشاهد من أفلام مبتذلة، وتروي "طشّاري" - وهي كلمة عامية تعني الشتات - حكاية عجوز مسيحية عراقية اضطرتها ظروف الصراع في العراق إلى ترك الوطن الذي أعطته سنوات شبابها وكهولتها كطبيبة قابلة متفانية في خدمة أبناء وطنها، ونسجت فيه علاقات إنسانية عميقة مع نساء من شتى الفئات الاجتماعية والدينية، واحترمها ناسه معترفين لها بما قدمته من خدمات جليلة، تهاجر تلك العجوز مرغمة أسيفة بعد أن هاجر أفراد أسرتها وأقاربها، وتشتتوا بين القارات، وبعد أن بقيت وحيدة خائفة، لتجد نفسها في فرنسا، في مجتمع لا يفهمها ولا تفهمه .
لعل ما يمكن أن يلاحظ على رواية "طشّاري" أن الكاتبة لم تضع يدها على حدث رئيسي يقدم صراعاً درامياً، ويكون ناظماً للأحداث الأخرى من حوله، فقد اكتفت بسياق السيرة الذاتية للطبيبة وإن كانت لعبت في المتن الحكائي بشكل جيد، لكن غياب الصراع، وتقديم بطلة مستسلمة لسياق حياتها أفقد الأحداث الحرارة اللازمة وجعلها مجرد سيرة ذاتية لامرأة عادية، وكان يمكن أن تكون رواية جيدة لامرأة عظيمة لو أن الكاتبة وضعت يدها على مثل ذلك الحدث/ العقدة وكثفته، وهو موجود في لحظة التغير الكبير في حياتها، اللحظة التي اتخذت فيها قرار السفر، فلو أن الكاتبة كشفت الصراع الداخلي والخارجي الذي أدى بالبطلة إلى هذا القرار، والنضال الذي خاضته من أجل ألا تترك وطنها، لكانت انطلقت الانطلاقة الصحيحة، وعرفت بسهولة كيف تقسم الأحداث السابقة واللاحقة حول هذا الحدث، وكيف تستخلص منها الرؤية التي تريدها، لكنها أخطأته، فكلفها ذلك كثيراً، ومن اللافت أنها عبر كل صفحات روايتها، لم تقدم مونولوجاً لبطلتها المأزومة، وهي شخصية مونولوج قلباً وقالباً، وكان يمكن لتداعي مشاعرها أن يحدث التوتر المطلوب في الرواية، ومع ذلك فقد قدمت إنعام رواية في مستوى الجائزة التي رشحت لها .
محمد ولد محمد سالم

- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/00e19125-01db-4729-add8-798deb6ecbad#sthash.kEnhE2Q7.dpuf

الجمعة، 7 مارس 2014

فرانكشتاين في بغداد

أفق
“فرانكشتاين في بغداد”
تاريخ النشر: 26/02/2014
يجمع الكاتب العراقي أحمد السعداوي في رواية "فرانكشتاين في بغداد" المرشحة للبوكر بين السرد الواقعي المؤسس على بطولة الحارة، والسرد المستوحي للخيال العلمي، فهو يستدعي شكل رواية "فرانكنشتاين" للإنجليزية ماري شيلي، وتروي أن عالماً صنع كائناً بشرياً عملاقاً، وعند اكتماله خرج عن إرادة صانعه ودمر حياته، ويغير أحمد السعداوي هذه الحكاية بجعل رجل عادي يجمع أشلاء الضحايا الأبرياء في الاقتتالات اليومية في بغداد، ويخيط منها شكلاً بشرياً، وتتلبس هذا الكائن روح وتصير له قوة خارقة، ويخرج ليبدأ رحلة الانتقام لأولئك القتلى الذين يتكون جسده من أشلائهم، لكن جسده يصاب بالتفكك فيحتاج إلى ترميمه بأشلاء جديدة، ويلجأ أتباعه إلى ترميمه بما اتفق لهم من أشلاء من دون التمييز بين أبرياء ومجرمين، وهنا يدخل الإجرام في تكوينه فيبدأ عمليات قتل من غير مبرر أخلاقي .
في موازاة هذه القصة هناك قصص كثيرة إطارها حي "البيتاوين" في بغداد، ولئن كان بعض هذه الحكايات يرتبط بقصة الشبح وأم دانيال والدة الشاب دانيال الذي تقمصه الشبح، وحكاية الصحفي محمود السوادي، إلا أن حكاية فرج الدلال وأبو أنمار وعزيز وعلي السعيدي، وقصص أخرى كثيرة ترد داخل الرواية وهي لا ترتبط بسبب واضح بقصة الشبح التي هي عمدة الرواية، مما يشتت ذهن القارئ، فلا يعرف أي سياق قصصي ينبغي أن يركز عليه، ويكفي أن نشير إلى قصة محمود السوادي الذي بحث في حقيقة هذا الكائن وأجرى حوارات معه، واستطاع أن يحصل على تسجيل بصوت الشبح يروي فيه حكايته، والسوادي له هو الآخر حكايته التي تستحق أن تروى في رواية مستقلة، لكن الكاتب يبتسرها، فلا يبلغ بها العمق التحليلي الذي ينبغي أن تبلغه، وفي الوقت ذاته يوظفها على هامش أحداث حكاية الشبح، فالقصتان وإن تداخلتا شكلياً فهما منفصلتان تماماً، وكذلك حال قصص جانبية أخرى كثيرة .
ينجح السعداوي في إعطائنا صورة بانورامية للقتل اليومي ولتردي الحياة التي أصبح معها العيش في بغداد غير ممكن، فأصبح الكثيرون يخرجون منها نجاة بأبدانهم، لكنه يفتح نوافذ سردية كثيرة ولا يغلقها، فيشتت ذهن القارئ ولا يوصله إلى مرحلة التشبع التي ينبغي أن يصل إليها، فالقارئ مرتبط بعقد ضمني مع الكاتب يوجب على هذا الأخير أن يجيبه عن أسئلة الحكاية يتركه معلقاً، فحتى في النهايات المفتوحة، فإن الكاتب يترك لدى القارئ انطباعاً بأن مرحلة ما من مراحل حياة الشخصيات اكتملت، بكل تفاصيلها وانغلقت كل نوافذها .
في نماذج روايات "الحارة" عند نجيب محفوظ ترتبط مصائر الشخصيات جميعاً بتلك الحالة، وتتلاقى قصصهم حولها، أما في "فرانكشتاين في بغداد" فإن الشبح هو البطل أو الحكاية، فكان ينبغي أن يحذف ما لا يرتبط به .
محمد ولد محمد سالم
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/07542473-0976-44c0-9a07-140ae186f3a8#sthash.IOyqJkW2.dpuf

"طائز أزرق نادر يحلق معي"

أفق
“طائر أزرق يحلق معي”
تاريخ النشر: 22/02/2014
محمد ولد محمد سالم
لا بد لمن يقرأ رواية "طائر أزرق يحلق معي" للكاتب المغربي يوسف فاضل التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العربية للرواية "البوكر العربية" للعام الجاري، أن يتوقف عند الطريقة البديعة التي رسم بها أسلوب السجين عزيز في تزجية الوقت في حفرته التي يقبع فيها في سجن القصبة، وكيف تمر عليه الأشهر والسنوات وهو يحاول أن يتحاشى لدغة تلك العقرب التي تتجول قرب جسده المتهالك، أو كيف يصرف الساعات الطويلة والأيام والليالي في عدّ قطرات المطر التي تتساقط من سقف زنزانته في الشتاء، أو في عد نبضات أصبع قدمه المنتفخة قيحاً وألماً بسبب عضة فأر، تفاصيل دقيقة وبارعة نجحت في التعبير عن وضع سجين هيئت له أسباب الموت، وترك ليتآكل جسده، في ذلك العالم ينسى أنه كان بشراً أو أنه يمكن أن يرجع إنساناً طبيعياً في يوم ما، ويتضاءل تفكيره حتى يصبح في حدود تفكير عقرب لا تريد سوى الانتقال درجة أعلى في ثقوب جدار متهرئ .
نكتشف بعد ذلك أن عزيز كان في حياته الأولى طياراً شاباً دفعه الانبهار بشخصية قائده الكولونيل إلى المشاركة في الانقلاب الفاشل الذي قاده ذلك الكولونيل، وكانت النتيجة أن أودع الانقلابيون السجن، لكي يموتوا بتلك الطريقة التي كان ينبغي أن يموت بها عزيز، لكن الرواية بدل التركيز على الانقلاب ومعاناة أصحابه تنصرف إلى متابعة رحلة البحث التي تقوم بها زينة زوجة عزيز بعد عشرين عاماً من اختفائه، وعن طريق تقنية تعدد الأصوات يقدم لنا الكاتب تفاصيل حياة عزيز وزينة، وجانباً من واقع السجن والسجانين الذين لا همّ لهم سوى انتظار أن تنفق روح السجين كما تنفق الشاة العجفاء في صيف مجدب، بعد أن منعوا عنه الأكل والشرب، لكي يحفروا له حفرة ويرموه بين أكداس العظام الأخرى .
يبدو يوسف فاضل كاتباً متمرساً بأدوات الرواية خاصة من ناحية مستويات اللغة والقدرة على صناعة مشهدية ذات دلالة عميقة من خلال الوصف، لكنّ الرواية وقعت في مشكلة بنيوية، فهي في قالبها الزمني تبدأ برحلة زينة وتنتهي مع نهاية الرحلة، وتتخللها عمليات استرجاع لتاريخ الشخصيات والأحداث، وهذا الإطار يفرض أن تروى الأحداث من طرف زينة وبالتوازي مع مراحل بحثها، لكن الكاتب لجأ إلى تقنية تعدد الأصوات، مما يفقد القارئ الإحساس بالتقدم ويصيب النص بالسكون، كما أن أنسنة الكاتب لشخصية "الكلبة"، حيث جعلها تفكر وتقوم بعملية تنفس اصطناعي للسجين لإنقاذه، وتروي بعض الأحداث، وتحفر عن السجين بعد دفنه وتخرجه وتعيده إلى زنزانته، وكأنها إنسان عادي، من دون أن يكون هناك ما يبرر ذلك، أو يوحي بأنه خيال أو حلم أو تصور وهمي لدى إحدى الشخصيات، هذه الأنسنة أفقدت الرواية في بعض فقراتها الصدق الفني المطلوب، وأوقعتها في تداخل عوالم متناقضة من دون تبرير .
dah_tah@yahoo.fr
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/cdc9c1e0-0b72-4c3e-b5a2-33cd260b72c0#sthash.syV8d34o.dpuf