بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 29 يناير 2013

"القندس" وغياب المنظور الروائي

محمد ولد محمد سالم
يمتلك الروائي السعودي الشاب، محمد حسن علوان، قدرات سردية كبيرة، ولغة سلسة تجنح في أحيان كثيرة إلى استعارة أدوات الشعر، خصوصاً في الوصف المبني على الاستعارة والمجاز، هذا ما يتجلى في روايته “القندس” التي وصلت إلى القائمة القصيرة من الجائزة العالمية للرواية العربية لهذا العام .
تدور الرواية حول حياة “غالب” الرجل الأربعيني العاطل عن العمل الذي قضى كل عمره في حياة فارغة عابثة، معتمداً على ما يستدره من أبيه التاجر، وكذلك حياة أسرته الممزقة التي يضع كل فرد فيها سداً حول نفسه وحياته الخاصة، ويكتشف غالب أثناء فسحة صيد على شاطئ نهر في مدينة بورتلاند في أمريكا أن هناك شبهاً بين أفراد أسرته وبين حيوان “القندس” الذي يراه للمرة الأولى، ففي شكل ذلك الحيوان وسلوكه في العزلة والفردانية وبناء السدود التي تصد الآخرين عنه، شبه بينه وأسرة أبو غالب ومن يمت لهم بصلة، وهنا يبدأ البطل في استعادة سيرة حياته وعلاقته بأبيه وأمه اللذين افترقا بعيد ميلاده بقليل، وبأخته الشقيقة وإخوته لأب، ومسيرته الدراسية الفاشلة التي انتهت قبل أن يحصل على الشهادة الجامعية، وساعات السهر الطويلة الفارغة في بيته مع أصدقائه، وعزوفه عن العمل مع أبيه المتسلط، وتنتهي الرواية باستدعاء غالب من بورتلاند إلى الرياض بسبب تدهور صحة والده الذي لا يلبث أن يموت، وعند إحصاء الإرث يكتشف غالب وإخوته أن أباهم لم يكن غنياً كما يظنون، ويجد غالب نفسه في مواجهة مستقبل لم يستعد له .
يتحكّم علوان في خيوط اللعبة السردية بشكل جيد جعله قادراً على المناوبة بين مختلف لحظات السرد باحتراف، لكن الرواية لم تستطع أن تتجاوز واجهة السرد الظاهري لحياة بطلها إلى تقديم منظور إنساني أو فكري، فنحن أمام استعراض سطحي لحياة أسرة متنافرة من دون سبب عميق، رغم أن كل أسباب التواصل التي عادة تكون بين أفراد الأسرة موجودة، وشاب عاطل على مدى عشرين عاماً من دون أن يكون هناك مبرر لهذه البطالة، وصورة مكررة لأب يتحكم في أفراد أسرته . وقد ساعد على ذلك التسطيح هيمنة صوت المتكلم المفرد (غالب)، حتى في الحالات التي كانت تحتاج إلى صوت الراوي المحايد، ما جعل الرواية رهينة لرؤية غالب الضبابية، وكراهيته غير المبررة لأفراد أسرته .
قد يتمتع قارئ “القندس” بلغتها وتدفق السرد فيها، ولن يجد ما يدفعه إلى التعاطف مع شخصياتها أو النفور منها، أو إلى تكوين وجهة نظر أو موقف فكري، لن يجد ما يجعله يعيش تجربة إنسانية أو فكرية عميقة .


الأحد، 6 يناير 2013

الكتاب هو الإنسان

ذاكرة عابرة للزمان والمكان
الكتاب مدونة الإنسان آخر تحديث:الاثنين ,12/11/2012
محمد ولد محمد سالم
أحس الإنسان بالفناء يهدده من كل ناحية، الجسد يبلى ويضمحل ثم يفنى، ويتلاشى وتذهب ريحه، والذاكرة التي اعتمد عليها وأسس لاستمرارها بنقل محتواها من السابق إلى اللاحق وجد أنها مهددة بعوامل أخرى في مقدمتها النسيان الذي يجعل اللاحق غير دقيق في نقل المعلومة وإيصالها إلى من يأتي بعده، ومنها أيضا تعمّد تغيير المعلومة وتوجيه محتواها من طرف ناقلها، ولكي يتغلب الإنسان على ذلك النقصان لجأ إلى تعميم المعلومة بين أفراد المجتمع لتكوّن ذاكرة جماعية تستعصي على عوامل النسيان والتشويه، ورغم ذلك تشعبت الذاكرة الجماعية وتعددت رواياتها، ودخلها الاختلاف، والتعارض الذي هو في ذاته نوع من الاضمحلال، يعيد الإنسان إلى الصفر، إلى نقطة البداية، لأنه يجعل حقيقته التي أراد توثيقها وتخليدها مشكوكاً فيها، يجعلها غامضة متلاشية، هنا لجأ إلى الكتابة، اخترعها رسماً ثم حرفاً يحفر به هويته، طموحه، نضاله، صبره، مثابرته، مواجهته التراجيدية مع قوى الطبيعة، مغامرته لإثبات وجوده، تميزه ككائن فريد على وجه الأرض، وتفوقه على سائر المخلوقات، هكذا كانت الكتابة، عنوانا على الإنسان من حيث هو إنسان يمتلك إرادة وعقلاً يتصرف به في الكون ويعيد به ترتيب الموجودات لتلائم حياته، وتحقق مقاصده .
آلة إبقاء الهوية أو توثيق الأثر في الكون ظلت تتطور وتتعزز بفعل الاختراعات المتتالية عبر الزمن إلى أن رست على شكلها الراقي، شكلها المكتمل مضمونياً وفنياً، والذي أطلقت عليه اسم “الكتاب«، وهو أرقى سلاح رفعه الإنسان في وجه الفناء، لأنه به خلد إنسانيته، خلد روحه وعقله وإحساسه، حتى ابتلاءات جسده خلدها، فلم يشذ شيء من لحظات الوجود الإنساني عن ذلك الاختراع السحري الذي احتال به على مصيره المحتوم، ليبقى الإنسان كمفهوم مجرد إذا بليت مادة وجوده وتحللت وفنيت .
الكتاب أقوى أسلحة البقاء لأنه مستمر في الزمن، فالشعوب تتفرق وتهاجر وتتحول هوياتها، والكتاب يستعصي على الزمن، ينسخ من ورق لورق، ويتنقل من يد ليد ومن تلك إلى أيد، ثم إلى عصر فدهور .
بالقلم والمداد والورق صنع الإنسان ذاكرته، ليحافظ على سلم تطوره، ويكرس نفسه الكائن الوحيد المتفوق في هذه الحياة، ويدجن الكائنات الأخرى فيذلّلها لخدمته، لم يعرف الفيل ولا الأسد سبيلاً إلى الكتابة، ولا عرفها غيرهما من الحيوانات، كبيراً أو صغيراً، قوياً أو ضعيفاً، فظلت كلها رهينة وجودها الأول، ولم يختلف أخلافها عن أسلافها، كأنها جاءت إلى الدنيا اليوم، وكأن آخر مولود فيها هو أوله، أما الإنسان فدون كل لحظة من لحظات وجوده، وكل تجربة من تجارب حياته، وتركها لنسله، ليقرأوها وتعيها عقولهم، ويبنوا عليها حياتهم، فهو أبدا لا يبدأ من الصفر، ولا يعود إلى المربع الأول الذي بدأ منه آدم، وإنما يختزل بين دفتي كتابه، كتابِ الوجود الإنساني، تجاربَه وتاريخ فعله في الوجود، ليستفيد منها من خلفه ويضيف إليها، وتبقى دائما هناك صفحات فارغة ليأتي آخرون فيملأوها .
في الكتاب نقرأ روح الإنسان لأنه دون فيه نوازع تلك الروح ومعتقداتها، وتوقها إلى الخلود، والانعتاق من مادة الجسد، وتعلقها بما وراء الوجود الفيزيائي المتحلل الفاني المخالف لطبيعتها الروحانية الخالدة، واستجابة لهذا التوق نزلت الرسالات السماوية خطاباً قولياً، وسميت كتباً، لأنها قابلة لأن تنسخ بالقلم والمداد على الورق، وتنقل من سابق للاحق، لتبقى مع الإنسان حيث ما حل أو ارتحل، تبشره بذلك الخلود الذي تاقت روحه يوما إليه، وتشرح له طريقة الترقي والمعراج إلى ذلك الخلود .
في الكتاب عقل الإنسان، فلسفته البدائية حين رأى أن الكون خلق من العناصر الأربعة الماء والهواء والتراب والنار، ومن امتزاج بعض عناصرها وتنافر البعض الآخر نشأت كل الكائنات الأخرى، وقد دون تلك الرؤى لتبقى للخلف، ثم فسلفته المتطورة مع عقلانية سقراط وروحانية أفلاطون، ومنطق أرسطو الذي اعتبره الفكر القديم المثيل الصوري للعقل، واحتكموا إليه في كل شيء، وبنوا عليه سائر علومهم حتى المادي منها على مدى عصور طويلة إلى أن جاء فرانسيس بيكون ووضع المنهج العلمي القائم على التجربة الحسية، وأدار هو وفلاسفة العلوم من بعده ظهورهم لمنطق أرسطو والفلسفة العقلانية برمتها، ليسجل الكتاب انبثاق العلوم التجريبية الواحد تلو الآخر ويواكب تطورها وتوسعها، وتشعب كل منها إلى علوم لا حصر لها، لكن ظهور العلوم الدقيقة وضع المنهج التجريبي في مأزق، لم يستطع الخروج منه إلا بقبول مبدأ الاحتمال والظنية، لتتسرب العقلانية من جديد وينفتح الباب أمام ما عرف بالفلسفات الإنسانية، التي ستذهب بالعقل بعيدا في غمار اتجاهات الإدراك والشعور وغيرها من الظواهر التي لا يزال العقل البشري العجيب ينقلها من ذاتي صرف إلى موضوع للعلم، ويسجل براءة اختراعها في كتابه الذي لا يفارقه .
في الكتاب تاريخ المشاعر البشرية، وتقلبات الوجدان بين الفرح والحزن، والحب والبغض، والإقبال والصد، النصر والهزيمة، الوجدان والفقدان، وغيرها من انفعالات النفس البشرية التي لا تتوقف، تعيش القلق الوجودي بمعنييه، الإيجابي والسلبي، كأن الريح تحتها تحركها أينما اتجهت، على حد عبارة الشاعر الخالد أبي الطيب المتنبي، رسم الإنسان تلك المشاعر بالكلمة فكانت شعرا وبالوتر فكانت لحنا وبالريشة فكانت فناً تشكيلياً .
دواوين الشعر، عربية وأجنبية قديمة وحديثة، لا تزال تتداولها الأيدي وتذهب من قارئ لقارئ، وتقف سجلاً شاهداً على ذلك التاريخ الطويل من المشاعر، نقرأها فنهتز بها، وننفعل كأننا نحن ذلك الشاعر الذي كتبها، رغم أنه قد تكون آلاف السنين تفصلنا عنه، لكنها تجربة مدونة نجد نحن فيها عزاءً لضعفنا وسندا لقوتنا، وتعمق قيم الإنسانية فينا .
في الموسيقا والغناء يشهد كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني على ما أسداه الكتاب لهذه الصناعة من خدمة، فقد ضمن الأصفهاني كتابه كل علوم اللحن وشواهده وشرح مقاماته ومناسباته، وأنواع النصوص التي تغنى مع كل لحن، وآداب مجالسه، وغير ذلك من تقاليد الطرب، فكان كتابه دستورا باقيا ينهل منه الملحنون في كل عصر ويلجؤون إليه عند غياب المعلم واختفاء الآلة، وقد حذا حذوه كثير من الكتاب في عصور لاحقة فزادوا تراثه بما استجد في عصورهم، والظاهرة لا تقتصر على العرب، بل تعم الأمم الأخرى، وما يقال في الموسيقا يقال في الفنون التشكيلية وسائر الإبداعات البشرية حفظها ذلك الاختراع السحري الخالد .
في عصرنا الحاضر أصبح الكتاب في كل مكان، في البيت وفي المكتب وفي الحقيبة، وفي القطار، وتطور شكله ونوعه بشكل جذري، فأصبح إلكترونياً، لا يشغل حيزاً في المكان ويسهل حفظه واسترجاعه واقنتاؤه بالملايين، ولم يعد عمر المرء يكفي لقراءة كم الكتب التي يخزنها في ذاكرة جهازه، وشمل الكتاب الحديث كل الموضوعات، لم يترك مهماً ولا حقيراً منها إلا ووثقه ونشره، تشعب بتشعب الوعي البشري، وجنوحه إلى الاستفادة من كل شيء، وإخضاعه كل موضوع للدراسة والبحث . فنيا أصبح الناشرون يتفنون في إخراج الكتاب ليكون جذابا، وليعطي غنى بصريا للقارئ قبل أن يلج إلى داخله الذي يفترض أن يعطي هو الآخر غنى عقليا، وأصبح الكتاب تمثيلا للعقل البشري، يبوب ويفصل على حسب تفصيلات التفكير العقلي لكاتبه، مما ارتقى به أكثر، وعزز ارتباط القارئ به، على الأقل في ناحية الكتاب الورقي .
لو لخصنا مفهوم الكتاب اليوم لقلنا إنه باختصار هو (الإنسان) في كل تفاصيله الوجودية، وفي علاقته مع كل ما يحيط به، فمن لم يقرأ الكتاب لم يفهم الإنسان، ولم يعش تجربة الوعي الإنسانية في بعده المثالي الراقي، ومن لم يقرأ لم يخرج من إهاب الحيوانية إلى حلة الإنسانية، ولم ينخرط في مغامرة البشرية الجميلة لمواجهة الزمن