شكلتا ثورة على المفاهيم والممارسات الأدبية السائدة
الديوان" و"شعر" من التمرد إلى الأفول
آخر تحديث:السبت ,27/02/2010
محمد ولد محمد سالم
1/1
دخل الشاعر المصري عبدالرحمن شكري مدرسة المعلمين العليا بعد أن طرد من مدرسة الحقوق، بسبب أشعاره المناهضة للملك والإنجليز، والداعية إلى التحرر، وفي مدرسة المعلمين تعرف الى إبراهيم عبدالقادر المازني وارتبطا بصداقة قوية ستكون لها آثارها الأدبية العميقة عليهما وعلى الحركة الأدبية في مصر والعالم العربي، فقد كان عبدالرحمن شكري شاباً مفعماً بالإحساس والذكاء له توق جارف للقراءة وأسعفته معرفته للإنجليزية بأن فتحت عينه على عالم جديد مغاير للعالم الذي تربى فيه الكثير من أقرانه، فبدأ يقرأ ويستخلص ويبدع، وكان لبعثته غداة تخرجه في مدرسة المعلمين سنة 1909 إلى انجلترا الأثر الأعمق في مسيرته الأدبية فقد سحرته بريطانيا بطبيعتها الخلابة وأدبائها العظام، فنهل من معينهم على مدى ثلاث سنوات عاد بعدها ليصدر ديوانه الثاني ،1914 وكان قد أصدر الأول قبيل سفره بقليل، وقد ألهمت هذه الحيوية وحب الاطلاع صديقه المازني فطفق هو الآخر يعب من نفس المعين ويبادل زميله الآراء طيلة سنواتهما في مدرسة المعلمين وبعد أن تخرجا .
وصف المازني تلك العلاقة في ما بعد بقوله: “لقد صار شكري أستاذي وهو زميلي”، ودخل المازني بعد تخرجه عالم الكتابة الصحافية وهناك تعرف إلى العقاد، فنسجت بين الثلاثة خيوط صداقة قوامها حب المعرفة والاطلاع على الأدب الإنجليزي والتوق إلى التحرر ومحاربة التقليد، وصاغوا مقولاتهم الشهيرة عن الشعر الوجداني والوحدة العضوية ووصف الطبيعة، وغيرها من الآراء التي تأثروا فيها بتراث الرومانسية الغربية التي كانت آثارها لا تزال واضحة في الأدب الإنجليزي، وفي الوقت الذي كان فيه الإنتاج الشعري للعقاد والمازني باهتاً ولم يبلغ مبلغ الأفكار النظرية التي كانت الجماعة تنادي بها كان شكري يقفز عالياً في سماء الإبداع الشعري ويرسل الديوان تلو الآخر حتى كان قد أصدر سبعة دواوين خلال عشر سنوات من 1909 إلى سنة 1919 أبرزها “ضوء الفجر” و”لآلئ الأفكار” و”أناشيد الصبا” و”زهر الربيع” و”الخطرات والأفنان” و”أزهار الخريف”، ومع ذلك فقد كان العقاد والمازني فارسي حلبة التنظير ومقارعة المناوئين لهذه المدرسة .
وأصدر المازني سنة 1915 كتاباً عن شعر حافظ إبراهيم فيه مقارنة بين شعره وشعر شكري وبيّن فيه أن شعر شكري صادق في التعبير عما يدور في إحساسه وأسلوبه سلس ولغته رقيقة شفافة، أما حافظ فهو مقلد للقدماء ميت الشعور، شعره بعيد من نفسه حيث يتناول قضايا اجتماعية وسياسية لا علاقة لها بالشعور وأسلوبه خشن ولغته قديمة، يقول: “لا نجد في إظهار فضل شكري وبيان ما للمذهب الجديد على القديم من المزية والحسن من الموازنة بين شاعر مطبوع مثل شكري وآخر ممن ينظمون بالصنعة مثل حافظ بك” وختم مقاله بقوله “وبعد . . فإن حافظاً إذا قيس إلى شكري لكان كالبركة الآجنة إلى جانب البحر العميق، شكري أسمح خاطراً، وأخصب ذهناً، وأوسع خيالاً” .
هكذا اكتملت حلقة هذه الجماعة تنظيراً وتطبيقاً وإبداعاً وبدا أن هذا الانسجام الأدبي سيستمر خصوصا مع الزخم الإعلامي الذي اكتسبته، والانتصارات التي أصبحت تحققها في ساحة الأدب بمشايعة كثير من الأدباء الصاعدين لمذهبها، لكن المفاجأة تحدث من حيث لم تنتظر فقد كتب عبد الرحمن شكري في مقدمته لديوانه “الخطرات” الذي صدر سنة 1916 يقول: “ولقد لفتني أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها “الشاعر المحتضر” واتضح أنها مأخوذة من قصيدة “أدوني” للشاعر الإنجليزي “شيللي”، كما لفتني صديق آخر لقصيدة المازني التي عنوانها “قبر الشعر” وهي منقولة عن “هيني” الشاعر الألماني ولفتني آخر إلى قصيدة . . . .” . ويستمر شكري في سرد سرقات صاحبه إلى أن ختمها بقوله “ولا أظن أحدا يجهل مدحي المازني وإيثاري إياه وإهدائي الجزء الثالث من ديواني إليه، ولكن هذا لا يمنع من إظهار ما أظهرت ومعاتبته في عمله، لأن الشاعر مأخوذ إلى الأبد بكل ما صنع في ماضيه”، وكانت تلك قاصمة الظهر لهذا الحلف الثلاثي، حيث انبرى المازني يكيل أشنع التهم لصاحبه ويسلب شعره كل فضيلة وتجاوز في ذلك حدود الموضوعية حتى وصفه بتقلب المزاج والجنون، وشايع العقاد المازني في ذلك، وكان صدور كتاب “الديوان” في النقد الأدبي عام 1921 أبرز تعبير عن هذا الخلاف فقد اشترك في كتابته العقاد والمازني من دون شكري، بل إن من عجائب القدر أنه تضمن نقداً عنيفاً لشعر شكري كتبه المازني بعنوان “صنم الألاعيب” . هكذا وجد شكري نفسه طريدا عن جماعة كان له أكبر الأثر في ظهورها وفي صناعة آرائها وتطبيقها على واقع الشعر والأدب .
فضاء مغاير
أسس يوسف الخال سنة 1957 مجلة “شعر” وضم إلى تحريرها كلاً من أدونيس وإليا حاوي وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، واستأثرت باهتمام جيل الشعراء الشباب في تلك الفترة لما حملته من ثورة على المفاهيم والممارسات السائدة في الشعر العربي، فتدفق عليها الكثيرون وجمعت في بدايتها أصواتاً شعرية لها وزنها مثل السياب ونازك الملائكة والبياتي وخليل حاوي وغيرهم ممن كتبوا لهذه المجلة شعراً وتنظيراً، وأقامت المجلة استراتيجيتها على مفهوم ثوري للشعر نسف كل الأسس التقليدية التي انبنت عليها مدونة الشعر العربي، وارتكز على مبدأ الحرية المطلقة التي لا تتقيد بأي نسق قبلي، ولا تلقي بالاً لما ورائها بل تتجه إلى الأمام وترتاد المجهول في مغامرة للكشف أساسها “الرؤيا” التي يحددها الشاعر وحده .
جهدت جماعة “شعر”0 في تحديد ملامح هذه الحرية الشعرية التي تدعو إليها حتى وقع في أيديهم كتاب “قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن” للناقدة الفرنسية سوزان برنار فشكل دستورهم الذي ينطلقون منه . يقول رفعت سلامّ في تقديمه لترجمة الكتاب: كان للكتاب، وفاعلية مؤكدة في الشعرية العربية منذ صدور طبعته الأولى عام ،1958 في باريس، بل ربما كانت فاعليته عربياً أعمق وأفدح من فاعليته فرنسياً، في مجاله الحيوي الأصلي، مفارقة تضيء في بعض وجوهها آليات التفاعل الثقافي وأشكالها العربية . وطوال هذه السنين - قرابة الأربعين سنة - ظل الكتاب هاجسا أساسيا لدى شعراء الحداثة العربية، فكان غائباً حاضراً في آن، غائباً بالفعل حاضرا بالقوة، لكنه الغياب الذي لا يفضي إلى نسيان بقدر ما يفضي إلى التشبث بالغائب، ليصبح حضوراً فادحاً، بلا غفران” .
كان أدونيس وأنسي الحاج هما اللذان تكفلا بالتنظير لهذه الحركة الجديدة بالاعتماد على مجمل آراء سوزان في كتابها المذكور، وقد بلور أدونيس مفهوم “الرؤيا الشعرية” كركيزة لكتابة القصيدة الجديدة التي تسعى الجماعة لإيجادها، وحددها بقوله إنها “تجربة شخصية يفجرها الشاعر في حدوس ورؤى وصور . فالشاعر الميتافيزيقي لا يعنى بالأفكار إلا من حيث انعكاسها وانصهارها في نفسه . فالشعر هنا استبطان للعالم وجهد للقبض عليه من دون حل أو جزم أو تحديد خارج كل نسق أو نظام عقلاني منطقي” هي حدس واستبطان وسؤال وجود قلق، يأبى التأطير والخضوع للنظام، ولذلك كان منطقيا أن يكون أول شيء يضحي به أصحاب “شعر” هو كل أشكال الوزن السابقة ابتداء بالبحور الخليلية وانتهاء بقصيدة التفعيلة، فالوزن نظام مسبق يخالف مفهوم الحرية والرؤيا، يخالف الحداثة الشعرية التي هي مغامرة وإبحار في المجهول وبحث عن نسق خارج النسق، فعلى الشاعر أن يتجاوز في قصيدته كل شكل أو نسق سابق، عليه أكثر من ذلك أن يتجاوز نصه هو نفسه، واستخدم أدونيس لهذا النوع الجديد مفهوم “قصيدة النثر”، وقد عب أصحاب الحداثة من أشعار بودلير ورامبو ولوثر يامون غيرهما من شعراء الحداثة الغربيين .
لكن أصحاب مجلة شعر اشتطوا في مهاجمة الشعر العربي والتبرؤ منه جهارا ووصفه بالرجعية والجمود، بل التبرؤ من التراث العربي في كل أشكاله ومستوياته، فيذكر جهاد فاضل أن يوسف الخال حدد في بيان العدد الأول للمجلة مجموعة خطوات لا بد من اتخاذها للتحرك بالشعر العربي نحو الأمام ولارتياد آفاق جديدة له، وأولى الخطوات هي وعي التراث الروحي والعقلي العربي، وفهمه على حقيقته وإعلان هذه الحقيقة وتقييمها كما هي من دون خوف أو مسايرة أو ترد، وذلك برفض هذا التراث رفضاً مطلقاً، فهو بائس ومتدني القيمة والأهمية . إنه تراث مفلس لا يمكن أن يقدم أي فائدة في معركة التحديث . وثانيها الغوص إلى أعماق التراث الروحي - العقلي الأوروبي، وفهم كنهه، والتفاعل معه . وثالثها الاستفادة من التجارب الشعرية التي حققها أدباء العالم .
هذا الشطط في معاداة التراث العربي وفي الاحتفاء بالتراث الغربي جعل الكثيرين ممن احتفوا بالمجلة وأسهموا في انطلاقتها، يختلفون مع خطها ومن أشهر هؤلاء إليا حاوي الذي انفصل عن المجلة، بعد أن تعذر عليه قبول تلك الهجمة على التراث الثقافي العربي والتخلي التام عنه، ومنهم أيضا نازك الملائكة التي أرادت أن تضع قيوداً لتقفية قصيدة التفعيلة فاتهموها بالرجعية، فتوقفت عن الكتابة للمجلة .
أما الخلاف الذي عصف بمجلة شعر والذي توقفت بعده، فقد كان ذلك الذي نشب بين أدونيس وبين يوسف الخال، حيث كان الخال يدعو إلى كتابة الشعر باللهجات “المحكية” للأقاليم العربية بدل اللغة العربية الفصحى، فهذه اللهجات أقرب إلى الإنسان العربي وأسرع إلى لسان الشاعر وأقدر على حمل مشاعره، فلماذا لا يكتب بها ليحقق حريته القصوى متخلصاً من قيود النحو والصرف بعد أن تحرر من قيد الوزن، ولم يكن أدونيس من أنصار هذا الرأي فنشب خلاف بينه وبين الخال، كانت نتيجته أن انسحب من المجلة سنة ،1963 بعد أن كانت أصدرت ستة وعشرين عدداً، ولم تلبث بعده أن توقفت، وكتب الخال في عددها الأخير أن حركتهم لم تعد قادرة على الاستمرار لأنها اصطدمت بجدار اللغة القديمة - ويعني بها الفصحى - التي تشكل عائقاً أمام الحداثة فما لم يتهدم هذا الجدار فإن الحداثة مستحيلة .
وواضح أن التوقف كان بسبب انسحاب أغلب أعضاء المجلة بعد تلك الخلافات التي شتت شملهم، وخاصة أدونيس الذي كان المنظر الأساسي لخطها، فقد قد قرأ الواقع العربي جيدا واستنتج أن المجلة قد انتهت إلى أزمة بعد أن استنفدت القول في دعوتها التي تأسست من أجلها، وهي الدعوة إلى شعر الحداثة والذي تحدد لدى كتاب "شعر" في ما عرف بقصيدة النثر وأغلقوا الباب أمام كل شكل شعري غيرها.عرف أدونيس أن الحركة استنفدت القول في التبشير بقصيدة النثر ووضعت الأسس اللازمة، وأن عليها أن تبحث عن أفق جديد أرحب وأوسع من مجرد شكل من أشكال القول الشعري، أفق قادر على أن يستقطب، أنصار الحداثة الذين بدأ حماسهم لخط شعر يفتر وبدأوا ينفضون من حولها، وهكذا انسحب في أول فرصة سنحت له، ليؤسس بعد ذلك مجلة مواقف التي بشرت بأفق أوسع من أفق شعر، وكرست صبغة أودنيس المفكر بدل أدونيس المبشر بقصيدة النثر.
محمد بن محمد سالم
الخليج