بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 26 مارس 2010

جائزة باسم الطيب صالح


أفق
جائزة باسم الطيب صالح
آخر تحديث:الاثنين ,08/03/2010
محمد ولد محمد سالم
أعلن مؤخراً في السودان وبمناسبة مرور عام على رحيل الروائي السوداني الطيب صالح الذي توفي في 18 فبراير/ شباط 2009 عن تأسيس جائزة أدبية تحمل اسم “جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي”، وقد رصدت الجهة المؤسسة لهذه الجائزة مبلغاً مالياً معتبراً وجعلتها عامة على الإبداع الأدبي ومفتوحة أمام الكتّاب من كل العالم، وكان الطيب قد حظي بجائزة باسمه بعنوان “جائزة الطيب صالح للأدب الروائي” لكنها مخصصة للأدب الروائي وخاصة بالكتاب السودانيين .
في حياته تلقى “عبقري الرواية العربية” الذي ولد عام 1929 في قرية نائمة عند منعطف النيل في إقليم مروي في شمال السودان جوائز وتكريمات عديدة على ما قدمه من أدب روائي رفيع، أعطى فيه للعالم صورة عميقة عن القرية والإنسان السودانيين في النصف الأول من القرن العشرين، ولامس برهافة الفنان الذي يلتقط ما هو جوهري وإنساني أغوار التجربة الإنسانية، بما فيها من قوة وضعف، أو سعادة ومأساة، أو حزن وفرح، أو خير وشر، وقد بوأته تلك الروايات الجميلة التي كتبها وأشهرها “موسم الهجرة إلى الشمال”، و”عرس الزين”، و”دومة ود حامد”، مكانة متقدمة بين الكتّاب العرب في القرن العشرين، وأدرجت روايته “موسم الهجرة إلى الشمال” ضمن أهم مائة رواية في العالم، وترجمت إلى لغات عديدة ونالت شهرة عالمية لجمال التصوير وجدة التكنيك الروائي وعمق التحليل وصفاء اللغة فيها .
ولا شك في أن الطيب صالح واحد من قلة من الروائيين العرب الذين أثروا بعمق في كل الذين جاءوا بعدهم، فهو حري بأن تسمى الجوائز باسمه وتقام له الاحتفاليات الدائمة ويتاح أدبه الجميل للقارئ العربي أينما كان، وأن يبقى في ذاكرة الأجيال حياً، والجائزة الجديدة التي أعلن عنها تسعى لتحقيق هذه الأهداف، فهي كما جاء في بيان الإعلان عنها “تأتي بهدف حفز النشاط الثقافي، وإعلاء قيم الفنون والآداب، وإدراكاً لحقيقة الوعي الثقافي بوصفه عاملاً حاسماً في بناء المجتمع المتحضر المتعافي، بجانب الوفاء لمبدعنا العبقري الراحل صاحب “موسم الهجرة إلى الشمال” التي خلدت اسم السودان ضمن قوميات الأمم المبدعة” .
لكن التساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو: هل من الضروري أن تكون الجائزة مفتوحة لكل الكتّاب من العالم على اختلاف أجناسهم ولغاتهم، وهل من مهمة المؤسسات الثقافية أن تضع جوائز عالمية، أليست هذه مهمة منظمات دولية كالأمم المتحدة أو الكومنولث أو منظمة الوحدة الإفريقية أو حتى الجامعة العربية باعتبارها منظمات دولية؟ فما جدوى أن تضع مؤسسة عربية خاصة جائزة عالمية للأدب، لتجعل الأجانب ينافسون العرب على هذه الجائزة وهم أولى الناس بها، و”ما في المدينة أحوج منهم” إليها، ومهمة تشجيع الداخل وتنمية الأدب العربي المهدد في لغته وقيمه أصدق في الوفاء لذكرى الطيب صالح من البحث له عن شهرة عالمية قد كفت إبداعاته الآخرين مؤونتها .
فيا حبذا لو أعادت تلك المؤسسة النظر في شروط جائزتها لجعلها قاصرة على الكتّاب العرب .
Dah_tah@yahoo .fr
جريدة الخليج

المعنى في الرواية


أفق
المعنى في الرواية
آخر تحديث:الجمعة ,12/03/2010
محمد ولد محمد سالم
يستوقف المتابع للساحة الأدبية العربية ما ورد في البيان الختامي لندوة “الرواية العربية والأيديولوجيا” التي نظمها “مركز الرواية العربية” في مدينة قابس التونسية في نهاية شهر فبراير/شباط الماضي، وناقشت جلساتها جوانب مختلفة من هذه العلاقة المتشابكة بين الروائي والأيديولوجي في النص الروائي، فقد أكد البند الأول “أهميّة الإشكاليّة التي طرحتها الندوة وهي إشكاليّة الرواية والأيديولوجيا، إذ أعادت الاعتبار للمعنى في النّصّ الروائي”، ويحيل هذا البند إلى قضيتين في الكتابة الروائية إحداهما دلالية وهي أن مفهوم الأيديولوجيا في الرواية قد يضيق حتى لا يعني سوى أن تروج الرواية لمذهب أو موقف عقدي أو سياسي أو اجتماعي خاص جدا لا تؤمن به سوى جماعة ضيقة، وهو مفهوم ضد الفن ويقتل الرواية قبل أن تولد، وقد يتسع ليدل على مجرد وجود منظور دلالي، وقابلية منطقية للتأويل، حين يبث الكاتب عبر روايته وبطريقة فنية إيحائية بؤرا أو مرتكزات للتأويل، وخلق المعنى، وهذا يعني أن له موقفا أو أيديولوجية كامنة تحت رماد السرد وفي باطن النص، لكنه لا يقدمها بصورة فجة ودعاية مكشوفة كتلك التي يقوم بها أصحاب المفهوم الضيق .
أما القضية الأخرى فهي فنية بالدرجة الأولى وتتعلق بمفهوم الرواية والجنس، فقد كثر أنصار نظرية النص الأدبي الذي تلغى فيه الحدود بين الأجناس الأدبية ويلغى فيه المعنى، ولا يبقى سوى نص واحد يترك فيه الكاتب لنفسه الحرية في التداعي الحر، ويحفر في أعماق ذاته لا ليعبر عن معنى معين، وإنما لسبر أغوار هذه الذات، وترك الكلمة تفعل فعلها في فك مغاليق تلك الذات من غير قصدية مسبقة، أو ترتيب لمعنى أو خيال، لأن من شأن القصدية والتخيل مصادرة حرية القول وأدلجة الكلمة التي هي مقدسة مصونة عن المصادرة، وهذا الموقف يؤول في النهاية إلى عبثية واضحة، ويجعل الرواية والكتابة السردية مجرد هلوسات كلامية، لا تنتظم بنظام ولا ترتبط برابط، وتدل مؤشرات كثيرة على أن الفكر الروائي الغربي الذي صدر هذا الرأي قد تجاوزه اليوم، حتى ساده في السنوات الأخيرة نوع من الواقعية أو التاريخية السردية .
وإذا تأملنا البند الأول من البيان الذي سبقت الإشارة إليه سنجد أن “عبارة أعادت الاعتبار للمعنى في النص الروائي” هي رد مباشر على ذلك النوع من الكتابة الذي يخرج من ذاتية مريضة فاقدة للوعي وغير قادرة على التأمل والتفكير، وهي كذلك دعوة للكتّاب إلى الابتعاد عن تلك العبثية، وقيمة هذه الدعوة تنبع من قيمة الأسماء التي حضرت الندوة، فهي كلها أسماء كبيرة لها وزنها في الأدب والنقد، ومنها أحمد المديني من المغرب ونبيل سليمان من سوريا وتوفيق بكار ومحمود طرشونة من تونس وغيرهم، وينم البند أيضا عن حساسية عربية ترفض تلك العبثية، وتطالب الروائي أن يكون له موقف وأن يعمق إحساسنا وفهمنا للواقع الذي نعيشه، وكما أننا إذا أخذنا الجوائز الأدبية كمعيار لتقييم المفهوم العام للرواية، فإن الروايات التي رشحت للقوائم القصيرة في جائزة البوكر للرواية العربية، والروايات الفائزة في دوراتها الثلاث “واحة الغروب” و”عزازيل” و”ترمي بشرر” تؤكد أهمية المعنى في الرواية، وأهمية أن يكون للروائي موقف من الواقع الذي يعيش فيه، فكل تلك الروايات كانت لها مواقف من الواقع، ومناظير تنظر من خلالها إلى الحياة.
الخليج

هل ثقافتنا مقنعة لنا؟


أفق
تسويق ثقافتنا لأنفسنا
آخر تحديث:الثلاثاء ,16/03/2010
محمد ولد محمد سالم
هل نجحنا في تسويق ثقافتنا لغيرنا؟ سؤال يتردد كثيراً في المنابر الثقافية العربية، وتقدم له إجابات مختلفة، تشرح كلها ضعف الأداء الثقافي العربي، وقلة فاعليته في التأثير في الآخر، وتحاول أن تقف على أسباب ذلك، وهذا السؤال يصادر سؤالا آخر أهم منه وأولى، هو هل نجحنا في تسويق ثقافتنا لأنفسنا . . هل الأداء الثقافي العربي فاعل في التأثير في العربي نفسه، وفي توجيه سلوكه نحو الاختيارات الحضارية السليمة؟
وإذا سلسلنا الأسئلة منطقياً يمكن أن نتدرج إلى سؤال آخر هو: هل أوجدنا المنتج الثقافي الجيد، لأنه في علم التجارة يعتمد التسويق الجيد على وجود المنتج الجيد؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي أن ننبه إلى أن الأمر هنا لا يتعلق بما ينتجه الأفراد، فقد قدم المثقف العربي بصفته الفردية إنتاجا ثقافيا حقيقيا وجيدا، لكن عمل الفرد ليس هو عمل الأمة، فهو يظل منفردا محدود الفاعلية في سياق البناء الحضاري، خصوصا في أوطان تقصي المثقف وتحاصره، أما عمل الأمة فهو يقوم على استراتيجية حضارية وخطة للمستقبل .
ويمكن القول من دون ما ريبة إن الثقافة العربية لم توجد إلى حد الآن المنتج الجيد الذي يفرض نفسه على السوق من دون عناء ومن دون دعاية كبيرة، ذلك أن هذه الثقافة ظلت منذ بداية ما عرف بالنهضة العربية الحديثة، تقف في موقف المتلقي من الغرب المتلقف لما يقذفه في يدها من فتات الأفكار وشتات الآراء . وهذا يعني أننا لم ننتج ثقافة سليمة، وفشلنا في تسويقها لأنفسنا أحرى أن نسوقها لغيرنا .
يعزى هذا الفشل إلى أن العرب إلى اليوم لم يضعوا الأسس اللازمة لصناعة منتج ثقافي جيد، وهذه الأسس تتلخص في إقامة مؤسسات بحثية متخصصة عربية حرة ومستقلة ماديا، وتعني الحرية هنا أن لا تكون لأية جهة القدرة على التأثير في توجهات البحث فيها أو منعها مما تقوم به من أنشطة ثقافية، أو التحكم في سياسة إدارتها بتعيين مسؤوليها، وهذه المؤسسة شبه معدومة إن لم تكن معدومة، فجل المؤسسات من جامعات ومعاهد ومراكز بحث واقعة تحت بعض سلطة الحكومات وتلك تتصرف فيها بما يخدم أهدافها الآنية، وهي أهداف في معظم الأحيان تتعارض مع قيم المعرفة العلمية، وتعني الاستقلالية المادية أن يكون لها مصدر تمويل مستقل لا يتبع لأية جهة كأن يكون مسطرا لها في ضرائب الشعب على غرار ما هو معروف في الغرب أو غيره من المصادر الأخرى التي لا ترتبط بمؤسسة سياسية، أو جهة خاصة .
إذا وجدت مثل هذه المؤسسة، فإنها ستكون قادرة على إنتاج ثقافة عربية أصيلة مقنعة لأبنائها أولا وقادرة على كسب احترام الآخر ثانيا، وتلك هي غاية التسويق للذات وللغير .
Dah_tah@yahoo .fr

حالة "جوع" إنسانية


أفق
حالة جوع
آخر تحديث:الخميس ,25/03/2010
محمد ولد محمد سالم
في روايته الجميلة “جوع” التي وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة الرواية العربية 2009 يقدم محمد البساطي “حالة” جوع فريدة لأسرة من قاع القرية المصرية، ووجه الفرادة فيها أن البساطي لم يقدم لنا شخصيات الطبقة الفقيرة في مصر، كما تقدم عادة في الروايات والأفلام المصرية، حيث تكون الشخصية عادة عدوانية يدفعها جوعها إلى السخط على الآخرين وخاصة ميسوري الحال والأغنياء، وفي أحيان كثيرة إلى السرقة والاعتداء، أو إلى المخدرات والاحتيال، هذه النماذج من الشخصيات لن نصادفها في رواية “جوع”، رغم أن الأسباب التقليدية لذلك كالجوع والبطالة والحرمان من كل شيء موجودة، إلا أن ما نصادفه هو شخصيات من نوع آخر، فقيرة جائعة لا تجد كسرة الخبز أياما متوالية، لكنها لا تسخط ولا تتذمر، بل تتضور جوعاً وتصبر حتى يخف الألم فتنام، وأول هذه الشخصيات هي شخصية الأم بطلة الرواية “سكينة” التي تراقب زوجها وهو ينام النهار كله، ويخرج في المساء ليقضي الليل كله جالساً على المقاهي، ليس له من شغل سوى الاستماع لأحاديث الناس ولا يعرف لماذا، فهو ليس ثرثاراً حتى يحتاج إلى رصيد من المعلومات يثرثر به، يمضي عليه الشهر والشهران وهو على تلك الحالة، يعود ويبيت يتضور جوعاً بجانبها هي، والأولاد في انتظار الصبح لعلها تجد عند جاراتها سلفةً رغيفاً، ورغم ذلك لا يفكر في البحث عن عمل، وإذا صادف وأن وجد عملا، فإنه يعمل لأيام ثم يتركه، ولا تدري هي لماذا هو صامت طول الوقت، فتكتفي بإجابة مقتضبة منه، ولا تكثر عليه الأسئلة خشية أن تغضبه، رغم أنه لا يغضب منها لكنها تهاب ذلك، وتمضي في خدمته صامتة غير متذمرة ولا شاكية، ويبقى عالقا في النفس من دون أن تجد له جوابا، وبدلا من ذلك تسعى في خجل إلى البيوت، لعلها تجد عند جاراتها رغيفا بانتظار أن يجد زوجها عملا لتقضي ما أخذته، وذلك أول ما تفعله حين تجد ما تخبزه، تقضي كل وقتها راضية مطمئنة، وتعود إلى بيتها بما تبقى وقد انزاح عنها حمل ثقيل كانت تجده من نظرات الجارات لها .
وحين يطول جلوس الزوج ويثقل كاهلها ما أخذته من جاراتها، تحاول أن تدخل “البيت الكبير” المجاور لها الذي لا ترى أهله إلا في سياراتهم، لعلها تجد عملا أو لعلهم يجودون عليها بشيء، لكن الباب يوصد في وجهها فتعود، بلا تسخط أو تشمت .
هذا الجوع الصامت في الرواية له أيضا مظهره لدى زوجها الذي لا يكترث بشيء في الحياة، والذي تعوّد أن يحضر كل مأتم في القرية يساعد في تنظيم الكراسي وحمل الأثاث وتوزيع الشراب، ثم يخرج من دون أن يمد إليه أحد يده بشيء، لكنه لا يشتم ولا يحقد، بل يكتفي بأنه سيلاقي الأجر من الله على فعله ذاك، وحتى الأولاد علمتهم أمهم أن لا يمدوا أيديهم إلى أحد، فأكبرهم وهو زاهر، لا يجرؤ أن يأخذ من بائعة الخضار إصبع خيار طرياً، رغم أن معدته تمغصه من الجوع، وبدلا من ذلك يختلف إلى مكبّة البقال ليلتقط تفاحة أو برتقالة مرمية فيزيل جزءها التالف ويأكل السليم، وهو لا يجرؤ أن يخبر أمه بأن صديقه عبد الله يعطيه كل يوم رغيفاً خلسةً، وحتى الولد الصغير يتلوى عند قدميها يعتصره ألم الجوع ولا يتكلم .
هنا نماذج بشرية جميلة في جوعها وصمتها ورضاها بحياتها، هنا شخصيات لا تتملكها النقمة على الآخرين لمجرد أنهم ميسورون أو أغنياء، تعيش حياتها بما قسم لها ولا تمد يدها لأحد، وهنا أيضا تجربة إنسانية عميقة، تكشف جانبا من قدرة الإنسان على السمو فوق أشد الآلام وامتلاك رصيد جميل من الكبرياء .
جريدة الخليج

السبت، 6 مارس 2010

من صداقة إلى عداوة


شكلتا ثورة على المفاهيم والممارسات الأدبية السائدة
الديوان" و"شعر" من التمرد إلى الأفول
آخر تحديث:السبت ,27/02/2010
محمد ولد محمد سالم


1/1

دخل الشاعر المصري عبدالرحمن شكري مدرسة المعلمين العليا بعد أن طرد من مدرسة الحقوق، بسبب أشعاره المناهضة للملك والإنجليز، والداعية إلى التحرر، وفي مدرسة المعلمين تعرف الى إبراهيم عبدالقادر المازني وارتبطا بصداقة قوية ستكون لها آثارها الأدبية العميقة عليهما وعلى الحركة الأدبية في مصر والعالم العربي، فقد كان عبدالرحمن شكري شاباً مفعماً بالإحساس والذكاء له توق جارف للقراءة وأسعفته معرفته للإنجليزية بأن فتحت عينه على عالم جديد مغاير للعالم الذي تربى فيه الكثير من أقرانه، فبدأ يقرأ ويستخلص ويبدع، وكان لبعثته غداة تخرجه في مدرسة المعلمين سنة 1909 إلى انجلترا الأثر الأعمق في مسيرته الأدبية فقد سحرته بريطانيا بطبيعتها الخلابة وأدبائها العظام، فنهل من معينهم على مدى ثلاث سنوات عاد بعدها ليصدر ديوانه الثاني ،1914 وكان قد أصدر الأول قبيل سفره بقليل، وقد ألهمت هذه الحيوية وحب الاطلاع صديقه المازني فطفق هو الآخر يعب من نفس المعين ويبادل زميله الآراء طيلة سنواتهما في مدرسة المعلمين وبعد أن تخرجا .
وصف المازني تلك العلاقة في ما بعد بقوله: “لقد صار شكري أستاذي وهو زميلي”، ودخل المازني بعد تخرجه عالم الكتابة الصحافية وهناك تعرف إلى العقاد، فنسجت بين الثلاثة خيوط صداقة قوامها حب المعرفة والاطلاع على الأدب الإنجليزي والتوق إلى التحرر ومحاربة التقليد، وصاغوا مقولاتهم الشهيرة عن الشعر الوجداني والوحدة العضوية ووصف الطبيعة، وغيرها من الآراء التي تأثروا فيها بتراث الرومانسية الغربية التي كانت آثارها لا تزال واضحة في الأدب الإنجليزي، وفي الوقت الذي كان فيه الإنتاج الشعري للعقاد والمازني باهتاً ولم يبلغ مبلغ الأفكار النظرية التي كانت الجماعة تنادي بها كان شكري يقفز عالياً في سماء الإبداع الشعري ويرسل الديوان تلو الآخر حتى كان قد أصدر سبعة دواوين خلال عشر سنوات من 1909 إلى سنة 1919 أبرزها “ضوء الفجر” و”لآلئ الأفكار” و”أناشيد الصبا” و”زهر الربيع” و”الخطرات والأفنان” و”أزهار الخريف”، ومع ذلك فقد كان العقاد والمازني فارسي حلبة التنظير ومقارعة المناوئين لهذه المدرسة .
وأصدر المازني سنة 1915 كتاباً عن شعر حافظ إبراهيم فيه مقارنة بين شعره وشعر شكري وبيّن فيه أن شعر شكري صادق في التعبير عما يدور في إحساسه وأسلوبه سلس ولغته رقيقة شفافة، أما حافظ فهو مقلد للقدماء ميت الشعور، شعره بعيد من نفسه حيث يتناول قضايا اجتماعية وسياسية لا علاقة لها بالشعور وأسلوبه خشن ولغته قديمة، يقول: “لا نجد في إظهار فضل شكري وبيان ما للمذهب الجديد على القديم من المزية والحسن من الموازنة بين شاعر مطبوع مثل شكري وآخر ممن ينظمون بالصنعة مثل حافظ بك” وختم مقاله بقوله “وبعد . . فإن حافظاً إذا قيس إلى شكري لكان كالبركة الآجنة إلى جانب البحر العميق، شكري أسمح خاطراً، وأخصب ذهناً، وأوسع خيالاً” .
هكذا اكتملت حلقة هذه الجماعة تنظيراً وتطبيقاً وإبداعاً وبدا أن هذا الانسجام الأدبي سيستمر خصوصا مع الزخم الإعلامي الذي اكتسبته، والانتصارات التي أصبحت تحققها في ساحة الأدب بمشايعة كثير من الأدباء الصاعدين لمذهبها، لكن المفاجأة تحدث من حيث لم تنتظر فقد كتب عبد الرحمن شكري في مقدمته لديوانه “الخطرات” الذي صدر سنة 1916 يقول: “ولقد لفتني أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها “الشاعر المحتضر” واتضح أنها مأخوذة من قصيدة “أدوني” للشاعر الإنجليزي “شيللي”، كما لفتني صديق آخر لقصيدة المازني التي عنوانها “قبر الشعر” وهي منقولة عن “هيني” الشاعر الألماني ولفتني آخر إلى قصيدة . . . .” . ويستمر شكري في سرد سرقات صاحبه إلى أن ختمها بقوله “ولا أظن أحدا يجهل مدحي المازني وإيثاري إياه وإهدائي الجزء الثالث من ديواني إليه، ولكن هذا لا يمنع من إظهار ما أظهرت ومعاتبته في عمله، لأن الشاعر مأخوذ إلى الأبد بكل ما صنع في ماضيه”، وكانت تلك قاصمة الظهر لهذا الحلف الثلاثي، حيث انبرى المازني يكيل أشنع التهم لصاحبه ويسلب شعره كل فضيلة وتجاوز في ذلك حدود الموضوعية حتى وصفه بتقلب المزاج والجنون، وشايع العقاد المازني في ذلك، وكان صدور كتاب “الديوان” في النقد الأدبي عام 1921 أبرز تعبير عن هذا الخلاف فقد اشترك في كتابته العقاد والمازني من دون شكري، بل إن من عجائب القدر أنه تضمن نقداً عنيفاً لشعر شكري كتبه المازني بعنوان “صنم الألاعيب” . هكذا وجد شكري نفسه طريدا عن جماعة كان له أكبر الأثر في ظهورها وفي صناعة آرائها وتطبيقها على واقع الشعر والأدب .
فضاء مغاير
أسس يوسف الخال سنة 1957 مجلة “شعر” وضم إلى تحريرها كلاً من أدونيس وإليا حاوي وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، واستأثرت باهتمام جيل الشعراء الشباب في تلك الفترة لما حملته من ثورة على المفاهيم والممارسات السائدة في الشعر العربي، فتدفق عليها الكثيرون وجمعت في بدايتها أصواتاً شعرية لها وزنها مثل السياب ونازك الملائكة والبياتي وخليل حاوي وغيرهم ممن كتبوا لهذه المجلة شعراً وتنظيراً، وأقامت المجلة استراتيجيتها على مفهوم ثوري للشعر نسف كل الأسس التقليدية التي انبنت عليها مدونة الشعر العربي، وارتكز على مبدأ الحرية المطلقة التي لا تتقيد بأي نسق قبلي، ولا تلقي بالاً لما ورائها بل تتجه إلى الأمام وترتاد المجهول في مغامرة للكشف أساسها “الرؤيا” التي يحددها الشاعر وحده .
جهدت جماعة “شعر”0 في تحديد ملامح هذه الحرية الشعرية التي تدعو إليها حتى وقع في أيديهم كتاب “قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن” للناقدة الفرنسية سوزان برنار فشكل دستورهم الذي ينطلقون منه . يقول رفعت سلامّ في تقديمه لترجمة الكتاب: كان للكتاب، وفاعلية مؤكدة في الشعرية العربية منذ صدور طبعته الأولى عام ،1958 في باريس، بل ربما كانت فاعليته عربياً أعمق وأفدح من فاعليته فرنسياً، في مجاله الحيوي الأصلي، مفارقة تضيء في بعض وجوهها آليات التفاعل الثقافي وأشكالها العربية . وطوال هذه السنين - قرابة الأربعين سنة - ظل الكتاب هاجسا أساسيا لدى شعراء الحداثة العربية، فكان غائباً حاضراً في آن، غائباً بالفعل حاضرا بالقوة، لكنه الغياب الذي لا يفضي إلى نسيان بقدر ما يفضي إلى التشبث بالغائب، ليصبح حضوراً فادحاً، بلا غفران” .
كان أدونيس وأنسي الحاج هما اللذان تكفلا بالتنظير لهذه الحركة الجديدة بالاعتماد على مجمل آراء سوزان في كتابها المذكور، وقد بلور أدونيس مفهوم “الرؤيا الشعرية” كركيزة لكتابة القصيدة الجديدة التي تسعى الجماعة لإيجادها، وحددها بقوله إنها “تجربة شخصية يفجرها الشاعر في حدوس ورؤى وصور . فالشاعر الميتافيزيقي لا يعنى بالأفكار إلا من حيث انعكاسها وانصهارها في نفسه . فالشعر هنا استبطان للعالم وجهد للقبض عليه من دون حل أو جزم أو تحديد خارج كل نسق أو نظام عقلاني منطقي” هي حدس واستبطان وسؤال وجود قلق، يأبى التأطير والخضوع للنظام، ولذلك كان منطقيا أن يكون أول شيء يضحي به أصحاب “شعر” هو كل أشكال الوزن السابقة ابتداء بالبحور الخليلية وانتهاء بقصيدة التفعيلة، فالوزن نظام مسبق يخالف مفهوم الحرية والرؤيا، يخالف الحداثة الشعرية التي هي مغامرة وإبحار في المجهول وبحث عن نسق خارج النسق، فعلى الشاعر أن يتجاوز في قصيدته كل شكل أو نسق سابق، عليه أكثر من ذلك أن يتجاوز نصه هو نفسه، واستخدم أدونيس لهذا النوع الجديد مفهوم “قصيدة النثر”، وقد عب أصحاب الحداثة من أشعار بودلير ورامبو ولوثر يامون غيرهما من شعراء الحداثة الغربيين .
لكن أصحاب مجلة شعر اشتطوا في مهاجمة الشعر العربي والتبرؤ منه جهارا ووصفه بالرجعية والجمود، بل التبرؤ من التراث العربي في كل أشكاله ومستوياته، فيذكر جهاد فاضل أن يوسف الخال حدد في بيان العدد الأول للمجلة مجموعة خطوات لا بد من اتخاذها للتحرك بالشعر العربي نحو الأمام ولارتياد آفاق جديدة له، وأولى الخطوات هي وعي التراث الروحي والعقلي العربي، وفهمه على حقيقته وإعلان هذه الحقيقة وتقييمها كما هي من دون خوف أو مسايرة أو ترد، وذلك برفض هذا التراث رفضاً مطلقاً، فهو بائس ومتدني القيمة والأهمية . إنه تراث مفلس لا يمكن أن يقدم أي فائدة في معركة التحديث . وثانيها الغوص إلى أعماق التراث الروحي - العقلي الأوروبي، وفهم كنهه، والتفاعل معه . وثالثها الاستفادة من التجارب الشعرية التي حققها أدباء العالم .
هذا الشطط في معاداة التراث العربي وفي الاحتفاء بالتراث الغربي جعل الكثيرين ممن احتفوا بالمجلة وأسهموا في انطلاقتها، يختلفون مع خطها ومن أشهر هؤلاء إليا حاوي الذي انفصل عن المجلة، بعد أن تعذر عليه قبول تلك الهجمة على التراث الثقافي العربي والتخلي التام عنه، ومنهم أيضا نازك الملائكة التي أرادت أن تضع قيوداً لتقفية قصيدة التفعيلة فاتهموها بالرجعية، فتوقفت عن الكتابة للمجلة .
أما الخلاف الذي عصف بمجلة شعر والذي توقفت بعده، فقد كان ذلك الذي نشب بين أدونيس وبين يوسف الخال، حيث كان الخال يدعو إلى كتابة الشعر باللهجات “المحكية” للأقاليم العربية بدل اللغة العربية الفصحى، فهذه اللهجات أقرب إلى الإنسان العربي وأسرع إلى لسان الشاعر وأقدر على حمل مشاعره، فلماذا لا يكتب بها ليحقق حريته القصوى متخلصاً من قيود النحو والصرف بعد أن تحرر من قيد الوزن، ولم يكن أدونيس من أنصار هذا الرأي فنشب خلاف بينه وبين الخال، كانت نتيجته أن انسحب من المجلة سنة ،1963 بعد أن كانت أصدرت ستة وعشرين عدداً، ولم تلبث بعده أن توقفت، وكتب الخال في عددها الأخير أن حركتهم لم تعد قادرة على الاستمرار لأنها اصطدمت بجدار اللغة القديمة - ويعني بها الفصحى - التي تشكل عائقاً أمام الحداثة فما لم يتهدم هذا الجدار فإن الحداثة مستحيلة .
وواضح أن التوقف كان بسبب انسحاب أغلب أعضاء المجلة بعد تلك الخلافات التي شتت شملهم، وخاصة أدونيس الذي كان المنظر الأساسي لخطها، فقد قد قرأ الواقع العربي جيدا واستنتج أن المجلة قد انتهت إلى أزمة بعد أن استنفدت القول في دعوتها التي تأسست من أجلها، وهي الدعوة إلى شعر الحداثة والذي تحدد لدى كتاب "شعر" في ما عرف بقصيدة النثر وأغلقوا الباب أمام كل شكل شعري غيرها.عرف أدونيس أن الحركة استنفدت القول في التبشير بقصيدة النثر ووضعت الأسس اللازمة، وأن عليها أن تبحث عن أفق جديد أرحب وأوسع من مجرد شكل من أشكال القول الشعري، أفق قادر على أن يستقطب، أنصار الحداثة الذين بدأ حماسهم لخط شعر يفتر وبدأوا ينفضون من حولها، وهكذا انسحب في أول فرصة سنحت له، ليؤسس بعد ذلك مجلة مواقف التي بشرت بأفق أوسع من أفق شعر، وكرست صبغة أودنيس المفكر بدل أدونيس المبشر بقصيدة النثر.
محمد بن محمد سالم
الخليج

الأدب التفاعلي


لايعترف بمبدع وحيد للنص
في الاحتفاء بالمتلقي . . أو الأدب التفاعلي
آخر تحديث:السبت ,13/02/2010
محمد ولد محمد سالم
كان للثورة الرقمية وظهور الإنترنت وما نجم عن ذلك من إمكانات هائلة للاتصال متعدد الوسائط تأثير كبير في النص الأدبي الذي دخل مع الكمبيوتر عالم الرقمية واستغل المشتغلون به تلك الإمكانات لتثوير هذا النص واستحداث توجهات جديدة في تشكيله، وأصبحت تروج لهذا الأدب الذي يستخدم التقنية الرقمية تسميات عديدة .
يعرف الروائي الأردني محمد سناجلة رئيس اتحاد كتاب الإنترنت هذا النوع من الأدب بأنه: “كل نص ينشر نشراً إلكترونياً سواء كان على شبكة الإنترنت أو على أقراص مدمجة أو في كتاب إلكتروني، وهو نوعان، الأول: النص الرقمي ذو النسق السلبي: وهو الذي ينشر إلكترونيا ولا يستفيد من تقنيات الثورة الرقمية التي وفرتها التقنيات الرقمية المختلفة مثل تقنية النص المتفرع أو النص متعدد الوسائط من مؤثرات صوتية وبصرية وغيرها من المؤثرات المستخدمة، وهو النص الورقي العادي إذا ما نشر إلكترونياً، والثاني: هو النص الرقمي ذو النسق الإيجابي وهو الذي ينشر نشراً رقمياً، ويستخدم التقنيات التي أتاحتها الثورة المعلوماتية من استخدام النص المتفرع “الهايبرتكست”، والمؤثرات السمعية والبصرية الأخرى وفن التغذية “الأنيميشن” و”الجرافيك” وغيرها من المؤثرات التي أتاحتها الثورة الرقمية .
يطلق على هذا الأدب أيضاً “أدب الإنترنت” نسبة إلى وسيلة الإرسال والتلقي فيه وهي الإنترنت، ومن تسمياته “الأدب التفاعلي” نسبة إلى كون النص فيه لا يبقى حكرا على كاتبه الأول وحده، بل يظل مفتوحا على إضافات وتعليقات لزواره في الموقع الذي هو منشور فيه، ولذلك سمي نصا تفاعليا ويعرف الناقد المغربي سعيد يقطين الأدب التفاعلي بأنه “مجموع النصوص الإبداعية” التي تولدت مع توظيف الحاسوب، ولم تكن موجودة قبل ذلك، أو تطورت من أشكال قديمة، ولكنها اتخذت مع الحاسوب صورا جديدة في الإنتاج والتلقي”، ويعتبر مصطلح الأدب التفاعلي أشمل هذه المصطلحات وأكثرها رواجا، لأنه يفترض أن يضم تحت رايته كل الإمكانات الأخرى .
وتحدد الباحثة الإماراتية د . فاطمة البريكي خصائص الأدب التفاعلي في كونه يقدّم نصاً مفتوحاً بلا حدود، فيمكن للكاتب أن ينشئ نصه، ويبثه على أحد المواقع تاركاً للزوار حرية إكماله على النحو الذي يرغبون فيه . كما أن هذا الأدب يمنح المتلقي “الزائر” فرصة الإحساس بأنه مالك للنص مشارك في صنعه، أي أنه يعلي من شأن المتلقي الذي أُهمل لسنين طويلة من قبل النقاد والمهتمين بالنص الأدبي، والذين اهتموا أولا بالمبدع ثم بالنص ثم التفتوا أخيراً إلى المتلقي، والأدب التفاعلي لا يعترف بمبدع “وحيد للنص”، إذ جميع المستخدمين يشاركون في صناعته، ويملكون حق الإضافة والتعديل فيه، وقد لا تكون للبدايات ولا النهايات فيه أشكال محددة، إذ يمكن للمتلقي أن يختار نقطة البدء التي يرغب في أن يبدأ منها دخول عالم النص أو التي ينهيه فيها، ويتيح الأدب التفاعلي للمتلقين المستخدمين فرصة الحوار الحي والمباشر، حول النص ومساراته سواء كان رواية أو قصيدة أو مسرحية، وحول وجهات النظر التي يرى النص كل واحد منهم من خلالها، والتي تختلف غالبا عن رؤى الآخرين . وفيه أيضاً تتعدد صور التفاعل، بسبب تعدد الوسائط التي يقدم بها النص الأدبي نفسه إلى المستخدم .
أما في ما يتعلق بتقنية تأليف النص، فإنها تنقسم إلى قسمين أولهما النص المتفرع “هايبرتكست” وهو الذي يتضمن بين ثناياه روابط نصية أو أيقونات لنصوص أخرى يمكن بضغط زر الوصول إليها، وثانيهما النص المترابط وهو الذي يستخدم إلى جانب التفريع تقنيات الوسائط المتعددة التي تعمل بنظام يسمح بالربط المباشر بين النص والصورة والصوت وأية تقنيات أخرى . على مستوى اللغة فقد لحقها هي الأخرى تغيرات كثيرة سواء على مستوى الكلمة أو الجملة، فالكلمة لم تعد سوى جزء من كل يتآلف لخلق الرؤية الكلية التي تضم أيضاً عناصر الصورة والصوت والمشهد السينمائي والحركة .
نجاح لافت
كانت رواية “الظهيرة” لمايكل جويس عام 1986 أول عمل أدبي استخدمت فيه التقنيات الرقمية وذلك في أمريكا، وبعد ذلك بعشر سنوات ظهر في فرنسا نص “الزمن القذر” لألن شيفو وآخرين و”حب بزيادة 20%” لفرانسوا كولون، وانطلقت قافلة هذا الأدب الجديد تجوب أنحاء العالم تباعاً، وقد حظيت هذه التطورات الأدبية بمواكبة نقدية تنظيرية كبيرة وسجالات في أهم الصحف الأدبية الغربية كان لها الأثر الكبير في تحديد اختيارات الأدباء الشباب وتوجيه مساراتهم .
أما في الأدب العربي، فإن أول نص عربي وظف تقنيات الحاسوب هو رواية “ظلال” لمحمد سناجلة الصادرة سنة ،2001 وأضاف إليها رواية “شات” سنة 2005 التي استفاد فيها استفادة قصوى من تقنيات الحاسوب والإنترنت فكانت تجربة روائية رقمية جديدة، ويدل العنوان نفسه على ذلك فهو “شات” يعني جلسات المحادثة بين شخصين أو أكثر عبر الإنترنت وهو أشهر وسائل التواصل بين مستخدمي الشبكة، وقد شكل هذا الشات فضاء الحكاية الذي تحركت فيه الرواية في تصاعد أحداثها، هذا إلى جانب تقنيات أخرى كثيرة وظفها الكاتب كالماسنجر والبريد الإلكتروني ولقطات الفيديو والمقاطع الموسيقية والصور واللوحات التشكيلية، واتخذت الأسماء شكلاً استعارياً كجيفارا وصدام وأبو عمار وأحمد ياسين ونزار وغيرهم، فهي ليست أسماء حقيقية، وقد أطلق سناجلة على هذا النوع من الرواية مسمى الرواية الواقعية الرقمية: “هي رواية شكلا ومضمونا، رواية تستخدم التقنيات الرقمية المختلفة، وتتحدث عن المجتمع الرقمي وإنسان هذا المجتمع، الإنسان الافتراضي” .
وإلى جانب الرواية الرقمية، هناك أيضاً القصيدة التفاعلية ويعد مشتاق عباس معن أول شاعر عربي يستخدم التقنيات الرقمية، وذلك في مجموعته “تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق” التي نشرها سنة ،2007 وقد استخدم فيها تقنيات النص المتفرع والمترابط، كالمؤثرات الصوتية والصورية “الجرافيكية” والتنقل بين النوافذ المفتوحة، وقد ضمت هذه المجموعة ستة نصوص تتفرع منها نوافذ متصلة ووصلات سمعية صوتية، فيظهر النص الأول بالضغط على الزر الرئيس الموجود في الواجهة الرئيسة، ومن هذه الواجهة يمكن من التحول إلى النص الثاني “المتفرع” عبر أيقونة “حاشية” والذي يتفرع بدوره إلى النص الثالث من خلال أيقونة “هامش”، وهكذا يتواتر الأمر في النصوص الأخرى من هذه المجموعة، وقد مزج مشتاق في نصوص مجموعته بين الأشكال الشعرية المختلفة من العمودي والتفعيلة والمنثور .
وفي ما يخص النقد الأدبي المتعلق بالأدب التفاعلي، فإن التنظير للأدب التفاعلي في الوطن العربي كان أسبق إلى الظهور من الإبداع التفاعلي العربي نفسه، ربما لاطلاع الدارسين قبل غيرهم على ظواهر هذا الأدب في الغرب، ويعد الناقد سعيد يقطين أول من نظّر لهذا اللون من الأدب من خلال كتابه “من النص إلى النص المترابط، من أجل نظرية للإبداع التفاعلي” الصادر سنة 2005 والذي انطلق من أطروحة أساسية وهي أن الوسيط الجديد “تقنيات الحاسوب والإنترنت” يخلق أشكالاً جديدة للتواصل وعلى الكتاب العرب أن يستوعبوا هذه الأشكال ويحاولوا الإبداع من خلالها .
طور يقطين أطروحته من خلال كتبه المتواصلة في هذا المجال وآخرها كان “النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية نحو كتابة عربية رقمية” الصادر سنة ،2008 وقد قال عنه “إن هذا الكتاب وهو يحاول الانخراط في عالم قيد التشكل بالنسبة إلينا نحن العرب يرمي بشكل أساس إلى الدعوة إلى التسلح بشيئين متضافرين، هما المعرفة العلمية والتكنولوجيا، والقاسم المشترك بينهما هو العلم المؤسس على قاعدة معرفية وفلسفية . ولطالما فرط مثقفونا في العلم ذي البعد الإنساني مركزين على علم خاص جدلي، لأننا نرفض الوصف والتفسير ونظل نحلم بالتغيير، ولما فشلنا في تحقيق التغيير لأننا لم نهتمّ بالعمل ها نحن نجد أنفسنا نفكر في التأويل وكأنه الذي كان ينقصنا لممارسة التغيير متغافلين عن أن كل تاريخنا الفكري الحديث تأويلات في تأويلات” .
وذهب يقطين أيضاً إلى أن الأدب التفاعلي يمكن أن يكون طريق النجاة للأدب من التردي الذي يعيشه: “لا يختلف اثنان في أن الشعر العربي المعاصر يعرف فترة ترد تام على كافة المستويات . ورغم ظهور شعراء جدد خلال العقدين الأخيرين، فإن قلة منهم استطاعت أن تستقطب الأنظار، وهي وإن نجحت في إثارة الانتباه، فإن ذلك لا يدوم طويلاً . . . ويلخص هذا التردي التام في كلمة واحدة: إنها أزمة التواصل، أمام وضع كهذا هناك نوع من التواطؤ على الصمت في انتظار أن تحل الأزمة مع الزمن، أو في انتظار “الشاعر” الذي قد لا يأتي” .
تقوم نظرية الأدب التفاعلي عند كثير من منظريها على المقابلة بينه وبين الأدب ما قبل التفاعلي الذي أصبحوا يطلقون عليه اسم الأدب الورقي، ويعتبرون أن الأدب الورقي هو كل نص كتب على طريقة الكتاب التقليدي سواء نشر في ورق أو بصورة رقمية، فلا يكون النص تفاعلياً ما لم يستفد في بنائه من التقنيات التي يوفرها الكمبيوتر، ولهذا سمى محمد سناجلة النص الذي ينشر على الإنترنت ولا يستفيد من هذه التقنيات “نصاً رقمياً سلبياً”، وقد بشر سناجلة بنهاية للنص الورقي، ودعا إلى التخلي عنه وقال “ولنقلها صراحة، لقد انتهى عصر الورق”، مثل هذه الأحكام فيها تسرع كبير ومصادرة على الواقع فسيمر بالتأكيد وقت كبير على الوطن العربي قبل أن يتخلص من الورق، وأيا تكن الوسيلة التي سيكتب بها الأدب مستقبلا ورقية أو رقمية، فهناك شيء ثابت في الأدب هو اللغة كتشكيل فني وترابط دلالي ونسق إيحائي آسر، يجبر مؤلفه على قوله، ويملك على متلقيه نفسه، هذه الخاصية الثابتة هي التي ظلت على مر الزمن حافزاً على الأدب وهي التي تضمن له بقاءه ما بقي الإنسان .
محمد ولد محمد سالم
جريدة الخليج

الجمعة، 5 مارس 2010

في النثرية الباردة


أفق
شعر الكلام اليومي
آخر تحديث:الاثنين ,01/03/2010
محمد ولد محمد سالم
مضى أزيد من نصف قرن على ظهور قصيدة النثر في الوطن العربي وما يزال الخلاف حيا بين متمسك بها جاعل إياها هي عين الشعر ولا شعر غيرها، وبين راد منكر لها، ولا تزال ملامح الشعرية فيها غير واضحة للكثيرين، وعلى الرغم من أن قصيدة النثر انتشرت في العقدين الأخيرين من القرن الماضي انتشاراً واسعاً، وطغت على الأنماط الشعرية العربية الأخرى، حتى أصبح الشعر الخليلي و شعر التفعيلة وسماً للتخلف والتقليد، إلا أن ذلك الطغيان لم يصحبه تبلور في بعض التجارب الشعرية النثرية لملامح تلك القصيدة بسبب غياب النقد الأدبي والثقافي عن صفحات الجرائد اليومية، فلم يعد الشاعر يجد ذلك الموجه الذي يأخذ بيده ويبصره بطرق الإبداع، ولم يعد القارئ يجد ذلك الكاتب الناقد البصير الذي يعينه في معرفة ما هو جيد جدير بالقراءة وما هو رديء حري بأن يحرق، وهي إشكالية كبرى تعاني منها الثقافة العربية في كثير من جوانبها، لكنها في مسألة قصيدة النثر أعظم، لأن قصيدة النثر قلبت موازين الإبداع الشعري ولم تؤسس لموازين جديدة إلا في حدود قليلة، فأصبح الشعر يهيم على وجهه لا يجد ركناً شديداً يركن إليه .
ومما لا شك فيه أن بعض كتاب قصيدة النثر قدموا نصوصاً إبداعية جميلة، تعطي حق ادعاء التميز، وحق أن يعترف بمذهبهم كجنس أدبي مستقل إلا أنه ومن غير الدخول في مشكلات التنظير ومقومات الإبداع والفروق التي يضعها النقاد بين النقد والنثر، يمكن للقارئ العادي أن يلاحظ مزلقاً من مزالق قصيدة النثر كثيراً ما يسقط فيه كتابها غير المحترفين، وحتى بعض المحترفين، تلك هي “النثرية” القولية، وتعني أن يبْسط الكاتب أفكاره بشكل مباشر ومن دون أية وسائط بلاغية، فيشرح ويفصل بشكل بارد لا يترك من الفكرة فرعاً ولا أصلاً إلا أتى عليه، ويأتي كلامه خالياً من كل ميزة شعرية، فهو شعر الكلام اليومي، وهذا ظاهر في معظم الدواوين التي تقذف بها المطابع العربية في كل يوم على أنها من شعر عربي، ولا يدع هذا التفصيل التام للفكرة والتدوير والتفريع لها واستخدام أدوات الكلام العقلي أي مجال للتلميح والتكثيف الذي هو وظيفة الشعر الأولى، وليس هذا العيب قاصراً على قصيدة النثر بل هو يعتري كل أضرب الشعر الأخرى، لكنه في قصيدة النثر يبدو أكثر وضوحاً وجلاءً لأنها لا تعود لها أية ميزة شعرية في الوقت الذي يحفظ الوزن لغيرها شيئاً من ماء الشعر .
Dah_tah@yahoo .fr
الخليج

جدل طبيعي


أفق
جدل طبيعي
آخر تحديث:الجمعة ,05/03/2010
محمد ولد محمد سالم
قالت لجنة التحكيم لجائزة البوكر للرواية العربية كلمتها واختارت رواية “ترمي بشرر” للروائي السعودي عبده خال، وهو قرار لن يسكت الضجة التي صاحبت الجائزة منذ الإعلان عن لائحة الست عشرة رواية، إلى اللائحة القصيرة التي أعلنت خلال معرض بيروت الدولي للكتاب وحتى تم إعلان الفائز الأول في الدورة الحالية من معرض أبوظبي الدولي للكتاب .
ولكن الشيء الثابت أن عبده خال المولود سنة 1962 في منطقة جازان في السعودية كاتب مميز رسخ قدميه في مجال الرواية من خلال عمل دؤوب وعلى مدى سنوات طويلة من الاجتهاد وتجويد الأسلوب كانت حصيلتها مجموعة من الأعمال القصصية والروائية الجيدة، التي تغوص في أعماق المجتمع السعودي لترصد الإنساني والحميمي والجدلي في هذا المجتمع، وتعمق التجربة الإنسانية وتزيد معرفة القارئ بواقعه ومكامن الخلل فيه، وقد أعطته أعمال مثل “مدن تأكل العشب”، و”الموت يمر من هنا”، و”ترمي بشرر” شهرة محلية وعربية، وكانت روايته “ترمي بشرر” قد أثارت ردود فعل نقدية مشيدة بها كإبداع أدبي مميز استطاع فيه الكاتب أن يرسم صورة للمعاناة الإنسانية عبر تقنية سردية جميلة .
الأمر الآخر هو أن الرواية السعودية خطت خطوات كبيرة في السنوات الأخيرة وذلك من خلال أعمال روائيين متميزين من أمثال عبده خال وعبد الحفيظ الشمري ويوسف المحيميد ورجاء عالم ومحمد حسن علوان وبدرية البشر وهاني نقشبندي وكثيرين غيرهم، أصبحت لهم شهرتهم وحضورهم على ساحة الرواية العربية، ولاشك من هذه الناحية في أنها بلغت من النضج ما يؤهلها لأن تفوز بالبوكر أو غيرها من الجوائز العربية الكبيرة، ووراءها هذا الإنتاج الضخم من الروايات الذي تفجر بشكل لافت في السنوات الأخيرة، فليس غريبا إذاً هذا الفوز .
يضاف إلى هذه الملاحظات أن جائزة البوكر تتميز باستقلالية تامة عن مصدر تمويلها، فمؤسسة الإمارات للنفع العام التي تمول الجائزة قد عهدت بتنظيمها إلى مؤسسة البوكر البريطانية، وإلى مجلس أمناء مستقلين، ولا تدخّل للمؤسسة الممولة من أية جهة في إدارة هذه الجائزة، كما أن لجان التحكيم تتغير بشكل دائم كل سنة مما يتيح التنوع في وجهات النظر والتجدد في الذوق حتى لا تبقى المعايير جامدة مرتبطة بأشخاص محددين، وهو ما أعطى للجائزة مصداقيتها، وسمعتها التي اكتسبتها منذ دورتها الأولى حيث برزت كأهم جائزة أدبية للرواية على مستوى الوطن العربي .
وأخيراً فإن هذه الضجة التي تصاحب الجائزة ليست شيئاً سيئاً بل إن البعض يراها ظاهرة طبيعية تصاحب كل جائزة أدبية كبيرة وهي ناجمة عن اختلاف أذواق الناس في تقييم الأدب، فالأدب بطبعه محل تعدد الآراء ومكمن اختلاف وجهات النظر .
وسيكون من باب دقة المعايير ومن المفيد للحفاظ على المصداقية أن تراجع اللجنة المنظمة للجائزة بعد كل دورة من دوراتها ما أثير حولها من ضجة، وما قدم لها من نقد لتحسين عملها وجعله أكثر جاذبية وإقناعا.
dah_tah@yahoo .fr
جريدة الخليج