بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 يوليو 2017

درس في الرواية


محمد ولد محمد سالم

كثيراً ما يربط القراء بين الكاتب وشخصيات روايته، ويبحثون عن علاقة بينه وبين هذه الشخصية أو تلك، وعندما تتاح لهم الفرصة للقاء الكاتب فأول شيء يسألونه عنه هو علاقته بإحدى الشخصيات، وهل صور نفسه فعلا من خلالها؟، ولا يقتصر الأمر على القراء، بل إن النقاد أيضاً يفعلون ذلك، ويبحثون في تفاصيل حياة الكاتب لإيجاد تلك الصلة، ويفترضون في بعض الأحيان تطابقاً بين الكاتب وإحدى شخصياته.
لا شك أن حياة الكاتب وما يدور حوله وما يشاهده في مجرى الحياة العامة من أحداث تؤثر فيما يكتبه، وقد تكون هناك أحداث أو شخصيات مرتبطة به بشكل لصيق، بل قد تكون إحدى الشخصيات تمثله جزئياً أو كلياً، ومن المهم للناقد الذي يبحث في طرائق تكوين الإبداع وأسلوب الكاتب أن يطلع على تلك الصلات، لكن ما مدى أهميتها بالنسبة للقارئ العادي؟.
ما يهم القارئ العادي في الرواية هو العالم الإنساني الذي تبنيه الرواية، وأشكال القيم التي تتحفه بها، فعندما يقدم الكاتب عالماً بملامح إنسانية، تعكس الصراع بين الخير والشر، وجهاد الأفراد من أجل اكتساب حقوقهم في الحرية والمساواة والعدالة والعيش الكريم، ومن أجل أن ينعموا بالحب والإخاء والاحترام والسلام، وأن يقيموا علاقة مودة وسلم مع الآخرين، وعندما تدين الرواية الظلم والقهر وسلب الحرية، وتمجد صبر الإنسان وعمله وجهاده المتواصل من أجل حياته فإنها تقدم للقارئ بغيته، وتوسع مداركه، وتسهم في وعيه بإنسانيته، وتعطيه الأمل.
ففي رواية «الشيخ والبحر» لأرنست هيمنجواي، لم يستسلم ذلك الصياد الهرم لليأس رغم مرور ثمانين يوماً عليه دون أن يصطاد سمكة واحدة، لقد ظل يخرج كل يوم في رحلة صيد طويلة ليعود مساءً فارغ اليدين متعباً كئيباً، وينظر من حوله، فيجد الصيادين الآخرين عائدين بصيد وفير، لكنه ينهض في الصباح التالي نشيطاً، ليبدأ الرحلة من جديد، وبعد ثمانين يوماً يحصل على صيد كبير، إذ تعلق بشبكته سمكة كبيرة جداً أكبر من زورقه، وأقوى منه، ويحاول أن يقتلها، لكنه يعجز عن ذلك، وتجر السمكة القارب وصاحبه بعيداً عن الشاطئ، ويصارعها أياماً حتى يقتلها، ويربطها بقاربه، لكن دمها يجلب سمك القرش ويصارعه سانتياجو، لكنه يعجز عن صده، فيأكل القرش السمكة، ولا يترك منها سوى هيكل عظمي، ليعود سانتياجو إلى الشاطئ، وليس معه سوى ذلك الهيكل العظمي الذي يصبح فرجة للصيادين والسائحين، لكن سانتياجو انتصر بإرادته القوية وصبره، وسطر مجده الخاص، إنه درس في الإرادة وقوة الصبر، وتلك هي قيمة الرواية وعظمتها، ولا يهم بعد ذلك إذا كان هيمنجواي قد استقى موضوع الرواية من تجربة العيش مع الصيادين أم لا، المهم هو ذلك الدرس العميق.
dah_tah@yahoo.fr
المصدر: "الخليج"

القراءة المرئية..السياحة من منظور ثقافي ومعرفي


تاريخ النشر: 14/07/2016


محمد ولد محمد سالم

تعرض دار فكتور هوغو في (بلاس دي فوسج) في باريس تفاصيل عديدة عن الحياة الشخصية والأدبية لواحد من أكبر كتّاب فرنسا صاحب «رواية البؤساء» التي طبقت شهرتها الآفاق، وتشتمل الدار على نماذج من الأدوات المنزلية التي كانت تستعمل في القرن التاسع عشر عندما كانت أسرة هوغو تسكن في ذلك المنزل، وعلى صور شخصية نادرة لهوغو، ونماذج من أعماله، ومعلومات عن مراحل حياته، وسلوكه، وتعريفات لأعماله، وأسلوبه وعاداته في الكتابة، وأهم أفكاره، ومقولاته المشهورة، وتشتمل على قاعات للعروض كلها موجهة لإعطاء زائر ذلك المتحف الخاص صورة كاملة وسريعة عن هذا الكاتب الفذ، وعن عصره الذي عاش فيه، وتلخص له ربما عشرات الكتب، وكماً هائلاً من المعلومات التي يحتاج إليها ليكوّن وجهة نظر متكاملة عنه، ويعد هذا المتحف نموذجاً ناجحاً في مجال السياحة الثقافية التي أصبحت اليوم تجتذب أعداداً متزايدة من المهتمين بالمجال الثقافي، نظراً لتزايد الوعي الثقافي في المجتمعات، وحاجات الإنسان إلى معرفة المزيد عن الشعوب والمناطق التي يزورها.
أصبح الإقبال على السياحة الثقافية كبيراً في الدول الغربية، وأصبحت المؤسسات السياحية تدرج برامج ثقافية ومهرجانات وأماكن تاريخية ضمن البرنامج السياحي لها، تقدمه للزوار حسب الطلب، وتوظف لذلك مرشدين متخصصين في المجال الثقافي قادرين على إتحاف السائح في فترة وجيزة بكم هائل من المعلومات والمعارف في المعالم الثقافية، وما زال الإقبال على هذا المجال من طرف السائح العربي نادراً، فمفهوم السياحة لا يزال في ذهن الأغلبية قاصراً على الاستجمام والترفيه، في حين أنه يمكن للبرامج الجديدة التي تقدمها بعض المناطق السياحية والمدن في العالم أن تقدم للسائح الاستجمام والترفيه والثقافة معاً، ولن يجد طالب هذه المناطق والبرامج المرتبطة بها صعوبة في الحصول عليها.
تسمح السياحة الثقافية بزيارة المواقع الأثرية والمعالم التاريخية والمتاحف والتعرف بالمعاينة إلى تاريخ تلك المناطق، وعلى ثقافتها التي كانت سائدة، والحصول على معلومات جديدة عنها، ومعاينة أشكال التعبير الثقافي والفني التي مارسها أهل المنطقة عبر العصور، وذلك من خلال الأنشطة الفنية التي تقدم في تلك المعالم الأثرية، والمهرجانات التي تقام حولها، وتركز بعض المدن التي تدعم هذا النوع من الثقافة على الآثار الحية لماضيها، ومعالمها الثقافية المهمة، كالأماكن المرتبطة بشخصيات تاريخية وثقافية عظيمة، مثل قصور الملوك والأمراء، ومساكن الأدباء والمؤلفين الكبار، ومساقط رؤوسهم، وقد يتم التركيز على الفنون التشكيلية أو المسرح أو فنون الفولكلور كالرقص والغناء، حسب اختصاص كل منطقة، وما ميزها في سالف عصورها من ظواهر ثقافية كان لها أثر بالغ في ثقافة شعبها، ويمكن اعتبار «مهرجان أفنيون المسرحي» في فرنسا أحد تلك الأنشطة الثقافية السياحية التي تستقطب الزوار، وتستقطب مشاركين من كل العالم يقدمون خلاله نماذج متنوعة من فنون المسرح والفولكلور الشعبي المرتبط به، حيث يقدم مئات العروض المسرحية والنشاطات الفنية الأخرى، ويقام في شهر يوليو من كل سنة في مدينة أفنيون السياحية الواقعة في الجنوب الفرنسي، وهي مدينة تتميز بطابعها العمراني القوطي الفريد، بحصونها وسورها القديم، وتتوسطها كاتدرائية «قصر البابوات» التي كانت مركزاً للمسيحية في القرن الرابع عشر، وتلك المعالم وحدها تاريخ حي يستطيع من يشاهده أن يتعرف بشكل مباشر إلى جوانب مهمة من الحياة الثقافية الأوروبية في القرون الوسطى، ويساعد برنامج المهرجان على ذلك حيث تقدم أنشطته وعروضه في مختلف الأماكن، في صالات المسرح والسينما، والقاعات الحكومية، والكنائس والمدارس والشاطئ، وفي السفن البحرية الراسية على نهر الرون، وعلى جسر أفنيون التاريخي، وتعج الشوارع والدروب بنشاطات فنيّة في الهواء الطلق.

وفي سويسرا مثلا عملت مدينة «بازل» على التحول إلى مدينة للثقافة السياحية، مستفيدة من الطبيعة الساحرة لها على نهر الراين، ومستغلة وجود عدد كبير من المتاحف الفنية التي تقدم أنواعاً عديدة من الفنون التشكيلية، حيث تحتوي ثلاثة من أشهر المتاحف العالمية نظراً لتصاميمها المعمارية المتميزة، التي أبدعتها أيدي فنانين معماريين سوسريين متميزين، ويقوم «بينالي فينيسيا» بدور مماثل، حيث يقام في مدينة فينيسيا (البندقية) الإيطالية، تلك المدينة البحرية التي لعبت أدواراً تاريخية، وتلاقت فيها الحضارتان الرومانية والإسلامية، ولا تزال شواهد الحضارات التي مرت عليها ماثلة، تقدم لمن يتأملها معلومات عن تاريخها، وقد أصبحت مقراً لذلك المهرجان الفني الدولي الذي يقام كل سنتين، ويتضمن التشكيل والموسيقى والسينما والمسرح، وأصبحت المدينة بسببه ورشة فنية دائمة، لا تخلو أيامها العادية من أنشطة فنية متنوعة.

تلك نماذج قليلة من مئات بل آلاف الأماكن في العالم - وحتى في الوطن العربي- تقدم خدمات ثقافية، وغنى معرفياً لزائرها، مع توفير الراحة المطلوبة له، ولا شك أن أي فنان أو أديب أو مثقف حقيقي يسعى إلى تطوير معارفه، وقدراته الفنية والإبداعية يستطيع أن يستفيد من تلك الخدمات، ويعمق معارفه ورؤاه من خلالها في فترة وجيزة، وخلال إجازة قصيرة، فوجودها يشكل فرصة حقيقية لهذه الشريحة من الناس، بل لكل من يمتلك وعياً ثقافياً، وحباً للمعرفة ولاكتشاف الآخر وثقافته، وهي يمكن أن توفر لهم الوقت، فتغنيهم عن الكثير من الكتب والبحوث التي لا يجدون وقتاً للاطلاع عليها.
جريدة الخليج:

- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/62248f01-8483-4137-a497-de64d210c6a1#sthash.7rpfj0U1.dpuf

زمن الرواية.. زمن انحطاط الإبداع

تاريخ النشر: 19/09/2016

محمد ولد محمد سالم
أصبحت فكرة كونِ عصرنا الحاضر «زمن الرواية» من قبيل المسلّمات التي لا مطعن فيها لدى كثير من النقاد، وهم يستشهدون بالواقع الذي يعلو فيه صوت الرواية أكثر من أي صوت آخر، حيث يقبل عليها القراء، وترصد لها الجوائز القيمة، ويهتم بها الإعلام على حساب الفنون الأدبية الأخرى، وخاصة الشعر، لكن، هل ظاهرة طغيان الرواية ظاهرة صحية فعلاً، أم أنها تخفي تحتها أزمة أدبية كبيرة؟
ظهرت مقولة «زمن الرواية» في التسعينيات على يد الناقد الدكتور جابر عصفور في أحد مقالاته الافتتاحية لمجلة فصول التي كان يرأس تحريرها، ثم عاد إليها بشكل مفصل في كتابه «زمن الرواية» الصادر سنة 1999، الهيئة العامة للكتاب في مصر، وقد بنى مقولته على عدة معطيات رصدها آنذاك واعتبرها، تؤسس لسيادة الرواية، منها أنها الجنس الأدبي الأقدر على التقاط الأنغام المتنافرة لإيقاع عصرنا العربي المتغير، والتجسيد الإبداعي لهمومه المؤرقة، ف «إذا كان الشعر - كالقصة القصيرة - ابن اللحظة الآنية التي تومض كالبرق، تقتنصها الصورة الشعرية لتديم حضورها وتبسطها أمام العين كي تتأملها، فتأسرها القصيدة كأنها تأسر بوارق الحدس ولمعة الكشف في العمق الرأسي لحضور آني، ما بين المبدع والمتلقي، فإن الرواية ابنة اللحظات المتعاقبة كالنهر، حيث الامتداد الأفقي للمنظور، والمتابعة المتعاقبة - حتى لو تقطعت وتذبذبت - للتحولات، والحركة الصاعدة مع تتابع اللحظات لا الومضة الواحدة من اللحظة، وإذا كان الشعر ابن اللحظات الحدية من التاريخ، حيث تنطوي اللحظة على شعور حدي بالأشياء والكائنات، في مواجهة حدية اللحظة الزمنية، فإن الرواية ابنة اللحظات الرمادية من التحول، حيث تتولد «حركة لا شرقية ولا غربية» تمزج النقائص وتجاور ما بين الأضداد».
ومن الأسباب أيضاً التي أدت بعصفور إلى هذا الرأي ما تبينه أرقام التوزيع في ذلك الوقت من إقبال القراء على الرواية وعزوفهم عن الشعر، وكثرة ما تصدره دور النشر منها بما لا تضاهيه إصداراتها من الدواوين، وكون الفائزين بنوبل الآداب هم في معظمهم روائيون، واتكأ عصفور أيضاً على رأي اثنين من أساطين النقد والرواية تنبآ بسيادة الرواية هما الناقد الدكتور علي الراعي الذي أطلق مقولة «الرواية ديوان العرب المحدثين»، والروائي نجيب محفوظ الذي بشر بتلك السيادة في مقال نشر عام 1945 كما يقول عصفور، يقول نجيب محفوظ: «لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج لفن جديد، يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال وقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فليس لأنه أرقى من حيث الزمن، ولكن تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائماً للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديث».
وقد شرح عصفور في كتابه المذكور أن مصطلح «زمن الرواية» لا يعني التقليل من شأن الأنواع الأدبية الأخرى، أو الاستبدال بالتراتب القديم، الذي يترأسه الشعر، تراتباً جديداً تترأسه الرواية، لأن الرؤية النقدية الحديثة تقتضي النظر إلى الأنواع الأدبية نظرة متوازية لا تعلي شأن فن على فن، ولا تعطي لأحد منهما مركزية على الآخر، وغاية ما يريده جابر عصفور من المصطلح هو إثارة الانتباه إلى متغيرات العصر ومتغيرات العلاقة بين الأنواع أعني المتغيرات التي جعلت دور الرواية بارزاً.
لم يزد مرور الوقت الدكتور جابر عصفور إلا تأكداً من صحة مقولته، فشواهد الواقع الحاضر بعد ما يقارب عشرين عاماً من إطلاقه لمقولته، تؤكدها، وتدعمها بمعطيات أوضح على مستوى القراءة والتوزيع والاهتمام العام من قبل القراء والنقاد والمبدعين، وهؤلاء الأخيرون شهد بعضهم تحولات دراماتيكية انتقل بها من الشعر إلى الرواية، ما يعني أن استقراءه كان صحيحاً بنسبة عالية، وقد عاد في واحد من أحدث كتبه هو «الرواية والاستنارة» إلى تأكيد رأيه بطريقة غير مباشرة عندما ربط بين ظهور وتطور الرواية وبين ظهور وتطور مجتمع «المدينة العربية الحديثة» أي مجتمع عصر التنوير، معتبراً أنها اللون الأدبي الأقدر على تمثل ونقل أفكار المدينة التنويرية، وبثها بين أفراد المجتمع، وعلى عكس طموحات الطبقات الوسطى والدنيا فيه، ومستدلاً على ذلك بمسيرة الرواية العربية الحديثة، حيث تطابق ظهور الرواية مع بداية تشكل تلك المدينة الحديثة منذ منتصف القرن التاسع عشر، فزمن الرواية العربية «يبدأ من حيث تكتمل الملامح الأساسية للمدينة الحديثة بكل ما تنطوي عليه من تعدد في الأجناس واللغات‏، وما تؤكده من تباين بين الطبقات التي تصعد على سلمها الطبقة الوسطى‏، ناهضة‏، واعدة‏، نتيجة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المقترنة ببدايات التصنيع واتساع أفق التعليم المدني».
بروز الرواية وطغيانها على الساحة الثقافية العربية بشكل خاص، أمر ظاهر للعيان، خلال العقود الأخيرة، ولا يمكن نكرانه، لكن ما ينبغي التوقف عنده هو عملية التفسير التي يقدمها عصفور لهذه الظاهرة، فالقول إن الرواية هي الأقدر على حمل أفكار التنوير، والتعبير عن هموم المجتمع فيه نظر، ولا يمكن أن يسلم به في ظل حقيقة كون الشعر مثلاً حامل اللواء في كل النهضات والثورات التي حدثت في العالم، وليس الشعر وحده بل المسرح أيضاً والفنون التشكيلية، لا يختص أمر التبشير بالأفكار الجديدة، والطموح للتغيير، والتعبير عن أحلام المجتمعات على عنصر إبداعي معين، بل هو مفتوح على كل أشكال التعبير الإبداعي في المجتمع الذي يسعى لذلك التغيير، هذه مسلّمة لا يماري فيها أحد، حتى الفولكلور الشعبي يسهم في ذلك، فمسألة الأقدر غير واردة في الموازنة بين شكل تعبيري وآخر، فليست الرواية أقدر من غيرها على التعبير عن هموم المجتمع، بل الصحيح أن الأشكال الإبداعية الأخرى أسرع من الرواية في التقاط نبض الشارع والتفاعل معه، لأن الرواية تحتاج إلى مساحة زمنية لكتابتها، وفي بعض الأحيان يبدو عمل الروائي توثيقاً للوعي وليس استشرافاً له.
إلى ماذا - إذاً- يمكن عزو هذا الانتشار الهائل للرواية الذي يغطي على الفنون الأدبية الأخرى؟، علينا أن نستبعد بشكل حاسم فكرة أن الرواية أقدر على الإبداع من غيرها من الفنون الأدبية، لأننا إذا قسنا مستوى الإبداع في الرواية العربية على مدى مئة سنة أو تزيد من عمرها لن نخرج إلا بعدد ضئيل مما يمكن أن يوصف بأنه روايات بديعة، بما لا يتناسب والكم الهائل الذي أنتج منها، وربما يكون النتاج الشعري أوفر حظاً منها في ذلك، ولن يبقى لنا إذاً إلا أن ننظر في جوانب أخرى، لا ترتبط بالضرورة بالإبداع الأدبي، ولا بالتعبير عن الهموم الإنسانية، ويمكن تلمس تلك الجوانب في الجاذبية التشويقية للرواية، وسهولة فهم قالبها الحكائي - على الأقل في الرواية التقليدية- ولهذا بدأت في وقت مبكر تكتسب شعبيتها لدى كافة فئات المجتمع، وليس الطبقة الوسطى وحدها - كما يرى عصفور- هذه الجماهيرية كان من الطبيعي أن تسيل لعاب الناشرين الذين كثفوا من إصداراتهم الروائية، التي توخت إشباع الميول الغريزية للقراء وليس الارتفاع بوعيهم، والارتقاء بطموحاتهم، فكان أن اجتاح سيل من الروايات المتهافتة سماء النشر العربي، وعم حتى أصبح طاغياً على غيره، ثم جاء انفتاح الفضاء الإعلامي الذي ساهم في الترويج للظاهرة وتوسيعها، وأخيراً ظاهرة الجوائز التي أصبحت ترصد لها بكثرة، مما جعلنا نعيش بالفعل زمن الرواية، لكنه ليس بالمعنى الصحي السليم الذي ينبغي أن يكون عليه ذلك الزمن.
ظاهرة التهافت في الإنتاج الأدبي لا تختص بها الرواية بل هي ظاهرة عامة، وتوجد في الشعر بشكل طاغٍ أيضاً، فأكثر ما ينتج منه اليوم غثاء، ورص لكلام ركيك، لكن الفرق هو أن تهافت الرواية اتجه إلى إشباع ميول ورغبات الجمهور بمواضيع تدغدغ العواطف، وتحفز المشاعر، بينما ركب الشعر مركب الغموض وتكسير أبنية اللغة، فأصبح طلاسم ينفر منها القارئ، ففقد اتصاله بالجمهور، والنتيجة أن كلا النوعين ضل الطريق الصحيح للإبداع، وصار عاجزاً عن أن يكون أداة وعي، ومنصة جمال تغذي الفكر والوجدان وتسمو بالعواطف والرؤى، وخلاصة الأمر هي أننا نعيش زمن الرداءة الأدبية، والتردي الثقافي، زمناً تقوده الربحية وما يريده الجمهور، ويحددان معاييره الفنية وقيمه الإنسانية، وليس من وظيفة الأدب الاستجابة لما يريده الجمهور، لكن من وظيفته الارتقاء بذوق الجمهور، وتوسيع رؤيته للإنسان وقيمه، والجمال وأنساقه.

جريدة الخليج:

- See more at: http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/d7fb9fb6-48d4-41e0-9983-f4964e7a36aa#sthash.VsifzVnF.dpuf

الثلاثاء، 18 يوليو 2017

«دحّان» لولد سالم «أفضل عمل أدبي موريتاني» 2016



فازت رواية «دحّان» للزميل محمد ولد محمد سالم بلقب «أفضل عمل أدبي موريتاني» ل 2016، وذلك في الاستطلاع الذي أجرته جريدة «ش إلوح في ش» الشعبية الواسعة الانتشار، وذلك حسب بيان نشرته الجريدة يوم عيد الاستقلال الوطني لموريتانيا 28 نوفمبر الماضي، وهو الاستطلاع الذي دأبت على القيام به سنوياً، ويتضمن الإعلان عن أكثر الشخصيات السياسية والإعلامية والثقافية تأثيراً خلال العام، وأهم الكتب والأحداث التي استحوذت على اهتمام القارئ الموريتاني.
ورواية «دحّان» الصادرة عن دار روايات التابعة لمجموعة كلمات للنشر في الشارقة، هي الرابعة المنشورة للمؤلف، بعد أشياء من عالم قديم، ذاكرة الرمل، دروب عبد البركة، وقد حظيت منذ صدورها باهتمام إعلامي ونقدي موريتاني وعربي، فكتب عنها الناقد الدكتور سمر روحي الفيصل في مقال له بعنوان «النكهة الروائية الموريتانية» قائلا: «مزجتْ رواية (دحّان) مزجاً فنّيّاً ماتعاً بين شخصيّة عبد الرّحمن الملقَّب بدحّان، والشَّريحة الدُّنيا في مجتمع نواكشوط.
فدحَّان ابن هذه الشّريحة الفقيرة التي تسكن أطراف نواكشوط في بيوت قصديريّة وخشبيّة، لكنّه ابن ذكي طموح راغب في تغيير واقع الفقر الذي يعيش فيه من خلال العلم والدّراسة العليا خارج بلاده، وباختصار فقد نجح محمّد ولد محمّد سالم في إحياء المهمَّشين من خلال إبداعه شخصيّة عبد الرّحمن (دحّان)، وإحيائه طبيعة المكان الذي يعيش فيه المهمَّشون، ثمّ مزجه بين الشّخصيّة والمكان في مدوَّنة سرديّة ماتعة».
وأضاف الفيصل: «رواية (دحّان) رواية جميلة، لكنّ قدراً غير قليل من جمالها عائد إلى قدرة الكاتب على إدارة السّرد بضمير الغائب، وعلى تطعيمه ببعض السّرد الذّاتيّ بضمير المتكلِّم (كاسترو، مثلاً)، وببعض ضمير المخاطب (الهجرة، مثلاً)، دون أن يتنازل عن اللّعب الفنّيّ بالحكاية الرّوائيّة.
وكتب عنها الناقد السوري هيثم حسين في مقال بعنوان «دحّان.. توترات الموريتاني وصدمات الواقع» قائلاً: «عالجت رواية»دحّان»مفارقات من العلاقة الشائكة بين الشرق والغرب، من مقاربة محطات من الزمن الراهن في موريتانيا، وبالعودة إلى التاريخ الحديث للنبش فيه والوقوف على بعض النقاط التي ساهمت في بلورة صورة ضبابية قوامها سوء الفهم، وغلبة النظرة الأحادية وسيادة الأحكام المسبقة.
ومحمد سالم في روايته، من خلال شخصية بطله عبد الرحمن ولد الغوث الملقب بدحّان، يلمح إلى الاغتراب الذي يعانيه عدد من الشباب الموريتاني في بلدهم، وتأثير الفوضى والفساد في مختلف مناحي الحياة، وبشكل خاص في مجالات التعليم والعمل، ونتيجة لذلك يفقد عبد الرحمن حقه في منحة دراسية جرّاء هذه الظاهرة التي تغرق الجامعة ومجال التعليم، ثم يفقد حقه في العمل لأنه لا يواكب موجة الفساد ولا ينساق وراء الفاسدين».
ويضيف حسين: «من الجانب الفني، يعتمد الكاتب على صوت الراوي العليم الغائب بالموازاة مع صوت بطل الرواية الحاضر، مع التنويع في استخدام التراث الشفاهي والذاكرة الحكائية الموريتانية.

جريدة الخليج، الرابط:
http://alkhaleejread.com/%D8%AF%D8%AD%D9%91%D8%A7%D9%86-%D9%84%D9%88%D9%84%D8%AF-%D8%B3%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A3%D9%81%D8%B6%D9%84-%D8%B9%D9%85%D9%84-%D8%A3%D8%AF%D8%A8%D9%8A-%D9%85%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%AA/

رواية "دحّان": حكاية موريتانية عن علاقة العرب بأمريكا



فايز علاّم

يقدّم الكاتب الموريتاني محمد ولد محمد سالم في روايته الأخيرة "دحّان" صورة عن المجتمع الموريتاني والعادات والتقاليد التي تحكمه، وطبيعة العلاقات الاجتماعية التي تنشأ فيه، من خلال حكاية شاب يعاني ما يعانيه مجايلوه من مشاكل تتعلق بالفقر والبطالة والفساد.
فالبطل عبد الرحمن الملقّب بـ"دحّان" ينتمي إلى طبقة فقيرة من المجتمع، يحلم بالدراسة في الخارج، ولذا فإنه يتفوق في دراسته الجامعية، طامحاً بالحصول على منحة، غير أن الفساد يقف في وجه طموحاته وأحلامه، إذ يفاجأ بعد صدور النتائج النهائية بأن اثنين من زملائه حصلا على المراتب الأولى بسبب قرابتهما من أحد الأساتذة الواصلين في الجامعة.
"أصابه الغمّ، ودارت به الأرض.. كان مستوى هذين الطالبين متواضعاً في السنوات الثلاث السابقة، لكنهما منذ بداية تلك السنة أخذا يحصدان نقاطاً مرتفعة، ولم يكن خافياً على الطلاب أن أستاذ النظم وراء ذلك الصعود، فهو قريبهما، وكانت تلك أول سنة يدرّس فيها ذلك الأستاذ فصل عبد الرحمن، وعادة ما تكون الرتبتان الأولى والثانية محل منافسة شديدة في السنة الأخيرة، لأن الوزارة تمنح صاحبيهما منحة إلى الخارج لمتابعة الدراسة العليا، ولم يتوانَ لذلك الأستاذ على أن يرفع قريبيه إلى رأس اللائحة، مستعيناً ببعض أصدقائه من أساتذة المواد الأخرى".
هكذا، يصاب دحّان بأولى إحباطاته التي ستتوالى بعد أن يدخل معترك الحياة، فالحصول على عمل ليس سهلاً في بلدٍ يعاني من البطالة، وحتى إن وجد عملاً فإن الفساد المستشري في جميع مفاصل المؤسسات والشركات يجعله غير قادر على الاستمرار، ورفضه لأي تزوير أو غش يجعله يفقد أي عملٍ يتوظّف فيه.
ترصد الرواية بشكلٍ خاص المجتمع الموريتانيّ الفقير، الذي يعيش في بيوت على أطراف العاصمة "نواكشوط"، والمعاناة التي يعانيها هؤلاء الناس المهمّشون، والعادات والتقاليد التي يؤمنون بها بسبب الثقافة التقليدية التي حصلوا عليها، والتي ساهمت في تكوينهم، وفي رسم ملامح الكبرياء الذي يتمتعون به، رغم كل الانكسارات والأحلام المجهضة.
يقارب الكاتب موضوع العلاقة الشائكة بين "شعوب العالم الثالث" والشعوب المتقدمة، فيناقش موضوعات الصراع بين الشرق والغرب، والاستعمار، والإمبريالية، وغيرها من الأفكار التي تجول في ذهن بطله دحّان بعد أن يلتحق بدورة لتعلّم اللغة الإنكليزية.
يقع دحّان في علاقة مربكة وغير مفهومة مع المدرّسة هيلين، فهي من جهة تمثّل له رمز أمريكا التي بينها وبين الدول العربية تاريخ طويل من المشكلات، ومن جهة أخرى فإنه يقع في غرامها ويفسر تصرفاتها على أنها تحبه (دون أن نعرف بالمقابل حقيقة ذلك، فالسرد كله على لسان دحّان).
"هل تدرك هيلين ما يفعله قومها بقومك؟ كأن بينهم وبينكم ثأراً تليداً، وأنتم لم تعرفوا عنهم شيئاً قبل أن يأتوا إليكم ويحكموا مياهكم وأجواءكم، ويرهبوا حكّامكم، ويتدخلوا في سياساتكم. لم يكن العرش الذي حاربه جورج واشنطن عرشاً عربياً ولا إسلامياً، فلماذا يحاربكم قومها؟ هل تريدك أن تغضب منها مرة أخرى وتترك الدورة إلى غير رجعة؟ هي بالتأكيد لا تريد ذلك ولا أنت تريده، ولكن ماذا تغيّر إرادتك أو إرادتها من جبروت سلطانهم ومذلة حكامكم؟".
ترصد الرواية أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا، وكيف كانت أصداؤها في البلاد العربية، والإشاعات والأقاويل التي انتشرت بعدها، وكيف انعكست تأثيرات هذه الأحداث على سكان هذه المنطقة، ومنهم دحان الذي وعدته هيلين بمنحة دراسية في أمريكا، وأرسلت الأوراق اللازمة لذلك، وكان قريباً جداً من الحصول عليها، غير أن ما حصل جعل الحكومة الأمريكية تطلب من مواطنيها مغادرة البلدان العربية، كما أن طلبه للمنحة أصبح مهملاً، فقد التصقت صفة الإرهاب بالعرب عموماً.
يستخدم ولد سالم لغة سلسة في روايته، معتمداً على رصد انفعالات بطله وعلاقته مع محيطه، ويطعّم سرده ببعض المرويات الحكائية من التراث الشفاهي الموريتاني، لنقرأ في النهاية رواية تقرّبنا من أجواء العيش في موريتانيا خلال العقدين الأخيرين.
محمد ولد محمد سالم، روائي موريتاني من مواليد 1969. حاصل على شهادة الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة نواكشوط. وهو محرر صحفي في جريدة الخليج الإماراتية، ورئيس اللجنة الثقافية في النادي الثقافي العربي في الشارقة.
صدرت له أربع روايات: "أشياء من عالم قديم"، "ذاكرة الرمل"، "دروب عبد البركة"، و"دحّان".
الناشر: دار روايات/ الشارقة
عدد الصفحات: 260
الطبعة الأولى: 2016
يمكن شراء الرواية من موقع النيل والفرات.


موقع رصيف 22
http://raseef22.com/culture/2017/06/29/%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AF%D8%AD%D9%91%D8%A7%D9%86-%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%86-%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9/