بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 يوليو 2017

زمن الرواية.. زمن انحطاط الإبداع

تاريخ النشر: 19/09/2016

محمد ولد محمد سالم
أصبحت فكرة كونِ عصرنا الحاضر «زمن الرواية» من قبيل المسلّمات التي لا مطعن فيها لدى كثير من النقاد، وهم يستشهدون بالواقع الذي يعلو فيه صوت الرواية أكثر من أي صوت آخر، حيث يقبل عليها القراء، وترصد لها الجوائز القيمة، ويهتم بها الإعلام على حساب الفنون الأدبية الأخرى، وخاصة الشعر، لكن، هل ظاهرة طغيان الرواية ظاهرة صحية فعلاً، أم أنها تخفي تحتها أزمة أدبية كبيرة؟
ظهرت مقولة «زمن الرواية» في التسعينيات على يد الناقد الدكتور جابر عصفور في أحد مقالاته الافتتاحية لمجلة فصول التي كان يرأس تحريرها، ثم عاد إليها بشكل مفصل في كتابه «زمن الرواية» الصادر سنة 1999، الهيئة العامة للكتاب في مصر، وقد بنى مقولته على عدة معطيات رصدها آنذاك واعتبرها، تؤسس لسيادة الرواية، منها أنها الجنس الأدبي الأقدر على التقاط الأنغام المتنافرة لإيقاع عصرنا العربي المتغير، والتجسيد الإبداعي لهمومه المؤرقة، ف «إذا كان الشعر - كالقصة القصيرة - ابن اللحظة الآنية التي تومض كالبرق، تقتنصها الصورة الشعرية لتديم حضورها وتبسطها أمام العين كي تتأملها، فتأسرها القصيدة كأنها تأسر بوارق الحدس ولمعة الكشف في العمق الرأسي لحضور آني، ما بين المبدع والمتلقي، فإن الرواية ابنة اللحظات المتعاقبة كالنهر، حيث الامتداد الأفقي للمنظور، والمتابعة المتعاقبة - حتى لو تقطعت وتذبذبت - للتحولات، والحركة الصاعدة مع تتابع اللحظات لا الومضة الواحدة من اللحظة، وإذا كان الشعر ابن اللحظات الحدية من التاريخ، حيث تنطوي اللحظة على شعور حدي بالأشياء والكائنات، في مواجهة حدية اللحظة الزمنية، فإن الرواية ابنة اللحظات الرمادية من التحول، حيث تتولد «حركة لا شرقية ولا غربية» تمزج النقائص وتجاور ما بين الأضداد».
ومن الأسباب أيضاً التي أدت بعصفور إلى هذا الرأي ما تبينه أرقام التوزيع في ذلك الوقت من إقبال القراء على الرواية وعزوفهم عن الشعر، وكثرة ما تصدره دور النشر منها بما لا تضاهيه إصداراتها من الدواوين، وكون الفائزين بنوبل الآداب هم في معظمهم روائيون، واتكأ عصفور أيضاً على رأي اثنين من أساطين النقد والرواية تنبآ بسيادة الرواية هما الناقد الدكتور علي الراعي الذي أطلق مقولة «الرواية ديوان العرب المحدثين»، والروائي نجيب محفوظ الذي بشر بتلك السيادة في مقال نشر عام 1945 كما يقول عصفور، يقول نجيب محفوظ: «لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج لفن جديد، يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال وقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فليس لأنه أرقى من حيث الزمن، ولكن تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائماً للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديث».
وقد شرح عصفور في كتابه المذكور أن مصطلح «زمن الرواية» لا يعني التقليل من شأن الأنواع الأدبية الأخرى، أو الاستبدال بالتراتب القديم، الذي يترأسه الشعر، تراتباً جديداً تترأسه الرواية، لأن الرؤية النقدية الحديثة تقتضي النظر إلى الأنواع الأدبية نظرة متوازية لا تعلي شأن فن على فن، ولا تعطي لأحد منهما مركزية على الآخر، وغاية ما يريده جابر عصفور من المصطلح هو إثارة الانتباه إلى متغيرات العصر ومتغيرات العلاقة بين الأنواع أعني المتغيرات التي جعلت دور الرواية بارزاً.
لم يزد مرور الوقت الدكتور جابر عصفور إلا تأكداً من صحة مقولته، فشواهد الواقع الحاضر بعد ما يقارب عشرين عاماً من إطلاقه لمقولته، تؤكدها، وتدعمها بمعطيات أوضح على مستوى القراءة والتوزيع والاهتمام العام من قبل القراء والنقاد والمبدعين، وهؤلاء الأخيرون شهد بعضهم تحولات دراماتيكية انتقل بها من الشعر إلى الرواية، ما يعني أن استقراءه كان صحيحاً بنسبة عالية، وقد عاد في واحد من أحدث كتبه هو «الرواية والاستنارة» إلى تأكيد رأيه بطريقة غير مباشرة عندما ربط بين ظهور وتطور الرواية وبين ظهور وتطور مجتمع «المدينة العربية الحديثة» أي مجتمع عصر التنوير، معتبراً أنها اللون الأدبي الأقدر على تمثل ونقل أفكار المدينة التنويرية، وبثها بين أفراد المجتمع، وعلى عكس طموحات الطبقات الوسطى والدنيا فيه، ومستدلاً على ذلك بمسيرة الرواية العربية الحديثة، حيث تطابق ظهور الرواية مع بداية تشكل تلك المدينة الحديثة منذ منتصف القرن التاسع عشر، فزمن الرواية العربية «يبدأ من حيث تكتمل الملامح الأساسية للمدينة الحديثة بكل ما تنطوي عليه من تعدد في الأجناس واللغات‏، وما تؤكده من تباين بين الطبقات التي تصعد على سلمها الطبقة الوسطى‏، ناهضة‏، واعدة‏، نتيجة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المقترنة ببدايات التصنيع واتساع أفق التعليم المدني».
بروز الرواية وطغيانها على الساحة الثقافية العربية بشكل خاص، أمر ظاهر للعيان، خلال العقود الأخيرة، ولا يمكن نكرانه، لكن ما ينبغي التوقف عنده هو عملية التفسير التي يقدمها عصفور لهذه الظاهرة، فالقول إن الرواية هي الأقدر على حمل أفكار التنوير، والتعبير عن هموم المجتمع فيه نظر، ولا يمكن أن يسلم به في ظل حقيقة كون الشعر مثلاً حامل اللواء في كل النهضات والثورات التي حدثت في العالم، وليس الشعر وحده بل المسرح أيضاً والفنون التشكيلية، لا يختص أمر التبشير بالأفكار الجديدة، والطموح للتغيير، والتعبير عن أحلام المجتمعات على عنصر إبداعي معين، بل هو مفتوح على كل أشكال التعبير الإبداعي في المجتمع الذي يسعى لذلك التغيير، هذه مسلّمة لا يماري فيها أحد، حتى الفولكلور الشعبي يسهم في ذلك، فمسألة الأقدر غير واردة في الموازنة بين شكل تعبيري وآخر، فليست الرواية أقدر من غيرها على التعبير عن هموم المجتمع، بل الصحيح أن الأشكال الإبداعية الأخرى أسرع من الرواية في التقاط نبض الشارع والتفاعل معه، لأن الرواية تحتاج إلى مساحة زمنية لكتابتها، وفي بعض الأحيان يبدو عمل الروائي توثيقاً للوعي وليس استشرافاً له.
إلى ماذا - إذاً- يمكن عزو هذا الانتشار الهائل للرواية الذي يغطي على الفنون الأدبية الأخرى؟، علينا أن نستبعد بشكل حاسم فكرة أن الرواية أقدر على الإبداع من غيرها من الفنون الأدبية، لأننا إذا قسنا مستوى الإبداع في الرواية العربية على مدى مئة سنة أو تزيد من عمرها لن نخرج إلا بعدد ضئيل مما يمكن أن يوصف بأنه روايات بديعة، بما لا يتناسب والكم الهائل الذي أنتج منها، وربما يكون النتاج الشعري أوفر حظاً منها في ذلك، ولن يبقى لنا إذاً إلا أن ننظر في جوانب أخرى، لا ترتبط بالضرورة بالإبداع الأدبي، ولا بالتعبير عن الهموم الإنسانية، ويمكن تلمس تلك الجوانب في الجاذبية التشويقية للرواية، وسهولة فهم قالبها الحكائي - على الأقل في الرواية التقليدية- ولهذا بدأت في وقت مبكر تكتسب شعبيتها لدى كافة فئات المجتمع، وليس الطبقة الوسطى وحدها - كما يرى عصفور- هذه الجماهيرية كان من الطبيعي أن تسيل لعاب الناشرين الذين كثفوا من إصداراتهم الروائية، التي توخت إشباع الميول الغريزية للقراء وليس الارتفاع بوعيهم، والارتقاء بطموحاتهم، فكان أن اجتاح سيل من الروايات المتهافتة سماء النشر العربي، وعم حتى أصبح طاغياً على غيره، ثم جاء انفتاح الفضاء الإعلامي الذي ساهم في الترويج للظاهرة وتوسيعها، وأخيراً ظاهرة الجوائز التي أصبحت ترصد لها بكثرة، مما جعلنا نعيش بالفعل زمن الرواية، لكنه ليس بالمعنى الصحي السليم الذي ينبغي أن يكون عليه ذلك الزمن.
ظاهرة التهافت في الإنتاج الأدبي لا تختص بها الرواية بل هي ظاهرة عامة، وتوجد في الشعر بشكل طاغٍ أيضاً، فأكثر ما ينتج منه اليوم غثاء، ورص لكلام ركيك، لكن الفرق هو أن تهافت الرواية اتجه إلى إشباع ميول ورغبات الجمهور بمواضيع تدغدغ العواطف، وتحفز المشاعر، بينما ركب الشعر مركب الغموض وتكسير أبنية اللغة، فأصبح طلاسم ينفر منها القارئ، ففقد اتصاله بالجمهور، والنتيجة أن كلا النوعين ضل الطريق الصحيح للإبداع، وصار عاجزاً عن أن يكون أداة وعي، ومنصة جمال تغذي الفكر والوجدان وتسمو بالعواطف والرؤى، وخلاصة الأمر هي أننا نعيش زمن الرداءة الأدبية، والتردي الثقافي، زمناً تقوده الربحية وما يريده الجمهور، ويحددان معاييره الفنية وقيمه الإنسانية، وليس من وظيفة الأدب الاستجابة لما يريده الجمهور، لكن من وظيفته الارتقاء بذوق الجمهور، وتوسيع رؤيته للإنسان وقيمه، والجمال وأنساقه.

جريدة الخليج:

- See more at: http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/d7fb9fb6-48d4-41e0-9983-f4964e7a36aa#sthash.VsifzVnF.dpuf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق