في كتابها "بنت نارنج الترنج"
سارة الجروان تدوّن حكايات التراث من أجل المستقبل
آخر تحديث:السبت ,25/12/2010
محمد ولد محمد سالم
1/1
تقدم سارة الجروان في كتابها “بنت نارنج الترنج” الصادر عن دار الآداب2010 اثنتي عشرة حكاية شعبية إماراتية أو “حزاية” كما تسمى شعبيا استقتها شفاها من الرواة، وصاغتها بطريقتين الأولى بالعامية على طريقة الرواة مع تصرف كما صرحت بذلك، والثانية بالفصحى فكأن الثانية ترجمة للأولى .
تدور كل هذه الحكايات في بيئة تشابه البيئة الإماراتية التقليدية من حيث بنية المجتمع وطبيعة المكان، ففي ما يتعلق ببنية المجتمع تتواتر في النص أوصاف “الشيخ، والشيوخ، ولد الشيخ، والجماعة” فهناك من جهة الشيخ وهناك من جهة أخرى الجماعة ويدل هذا على أن البنية الهرمية للمجتمع كانت تتألف من الشيخ والجماعة وهي “القبيلة”، وهي البنية التقليدية للمجتمع الخليجي، وهناك فئة ثالثة تعيش على هامش هذه البنية الثنائية ويتردد ذكرها في الحكايات وهي “الخادمة، البشكارة، الخادم” وهم الخدام الذين كانوا يتولون العمل اليدوي في المجتمع التقليدي .
على مستوى طبيعة المكان نصادف كلمات، مثل: وادي، وشريعة، ونخيل، وبحر، وأرض خلاء، حارة لا إنس ولا أنيس فيها، وكلها تمثل ملامح البيئة الإماراتية المقسمة بين البحر والصحراء، ويسود فيها اقتصاد الصيد والرعي وزراعة النخيل والتجارة .
هذه البنية التقليدية والمعروفة واقعياً لمجتمع الحكاية تخترقها وتتشابك معها بنية أسطورية أخرى تقدم شخوصاً وأماكن مفارقة وخارقة، لا مثيل لها في الواقع، ولا تكاد تخلو أي من تلك الحكايات من ذلك، فكل حكاية تحمل بعدين أحدهما واقعي يحكي عن بشر يعيشون حياتهم العادية ثم لا يلبث أن تقتحم عليهم حياتهم شخصيات وعوالم أسطورية نتيجة لاستماعهم لحكايات كثيرة .
في حكاية جزائر “واق واق” تبدأ الحكاية بشاب ابن لتاجر له مزرعة تحيطها ترعة ويعيش حياة عادية مع أمه التي تحبه وتدلّله، ثم ما يلبث أن يتحول السرد بدخول عنصر خارق تمثل في الجنيات الطائرات اللواتي حططن عند الترعة وخلعن أجنحتهن وريشهن، واغتسلن في ماء الترعة، وهنا يدخل السرد في باب الأسطورة وعوالمها، ففي كل مرة يأتين كان الشاب يكمن لهن عند الترعة يراقبهن وقد شغف بالصغرى حتى استحكم حبها في نفسه، فدبر حيلة للإمساك بها، وبحث عن ثوبها الذي تطير به فاختطفه، ولما خرجت الجنيات لم تجد الصغيرة ثوبها وباغتها الشاب فأمسك بها وفرت أختاها، وعاد بها إلى بيته ليتزوجها، لكنها بعد مدة تحتال على أمه لتعطيها ثوب الريش فتطير به، ويدخل الشاب في رحلة إلى جزر “الواق واق” الأسطورية بعوالمها وشخوصها الغريبين، وبعد كثير من المغامرات يخلص فتاته من الجن الذين كانوا يحبسونها ليخرجوا منها طبائع الإنس التي تركها فيها سكناه معه .
وهناك حكاية العجوز التي ألقاها ابنها في الخلاء بعد أن ادعت زوجته عليها الخرف وأغرته بذلك، حيث يمر عليها ثلاثة من الملائكة ويدعون لها أن ترزق قصراً ومالاً وحشماً، وتعود بنت عشرين وتتزوج، فيحدث ذلك في الحال، وحتى في الحالة الوحيدة التي لم تخرج منها الحكاية عن عالم الإنس “مؤنس العذارى” فإنها عمدت إلى أسطرة الواقع فالفتاة التي تركها أبوها في واد خلاء عند سدرة كبيرة وغدير ماء بعد مكيدة من زوجته، ستعيش سنين طويلة في ذلك المكان تشرب من الغدير وتأكل من نبق السدرة، وتنام على فروع السدرة من دون أن يصيبها مكروه إلى أن يأتيها فارس الأحلام فجأة متمثلاً في الأمير الذي أخذها معه مكرمة وتزوجها، فهذه القصة وإن كانت عناصرها واقعية إلا أن بنيتها الحدثية أسطورية، فليس من المعقول أن تعيش فتاة صغيرة في أرض قفر ليس فيها غير الوحوش الكاسرة كل هذه السنين من دون أن تتأثر بشيء أو تمرض، وتطرح هذه المواشجة بين الواقع والأسطورة في الحكايات الشعبية الواردة في الكتاب سؤالاً عن دلالتها، وما هي الغايات من ورائها؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال علينا أن ننظر في أهداف الحكاية الشعبية نفسها، فهل تحمل تلك القصص أهدافاً تختلف عن الأهداف العامة للحكاية والتي تتمثل في التسلية عن طريق التشويق والإثارة من خلال الغرائب، الجواب عن ذلك يأتي قطعياً من المؤلفة نفسها في مقدمتها للحكايات بقولها: “حكايات السرد الشفاهي في كل حضارة تشكل ركيزة مهمة إذ تضطلع بإرساء مفاهيم من شأنها أن تشكل البنية التأسيسية للفرد الذي ينخرط في مجتمعه بوتيرة سوية ذات نسق معرفي جماعي”، ونتيجة لذلك نجد الحكايات التي تقدمها الجروان هنا موظفة معرفياً لإرساء أسس أخلاقية للمجتمع الإماراتي أو الخليجي عموماً .
إن البنت يتيمة الأم في الحكاية الأولى “مونس العذارى” التي تكيد لها زوجة أبيها تنتهي حكايتها بانتصارها على من خانوها بدءاً بزوجة أبيها وانتهاء بالوزير الذي قتل أولادها أمام عينيها لترضخ لرغبته فيها، وذلك لتقول إن الشرف لا بد أن ينتصر على المكيدة والخيانة، والمنظور نفسه نجده في حكاية “وادي كيدا” و”محيريق” و”البديحة” و”عصا الوالدة” و”بيض الحمري” وغيرها .
وتأسيساً لمبدأ أخلاقي آخر تأتي حكاية “ولد حميد البادي” الذي تعلقت نفسه ببنت الشيخ وعزم أن يتزوجها واجتهد لذلك حتى كان له ما أراد، حكاية الطموح والإنسان الذي يفعل من دون كلام كثير، في مقابل الرجل الذي يتكلم ويدعي وهو غير قادر على الفعل ويمثله “ابن عم” بنت الشيخ، دعوة إلى الطموح والفعل في الحياة، وفي السياق نفسه تصب قصة “جزر الواق واق” “بنت نارنج الترنج” التي اتخذت المجموعة اسمها، وهناك أمثلة كثيرة لمبادئ أخلاقية يضيق المقام عن تتبعها، والجامع لكل ذلك هو سعي السرد إلى تأصيل فكرة انتصار الخير على الشر .
تقدم الحكايات النماذج الخيرية في صورة أشخاص ضعفاء لا سند لهم، كالنساء اليتيمات والأطفال المدللين الذين لا تجربة لهم في الحياة والأشخاص الوحيدين الذين لا ظهر لهم، ولكي تنتصر هذه الشخصيات العزّل فإنها تحتاج إلى قوة خارقة، أسطورة من خارج الواقع، ومن قوى الطبيعة، كامتلاك الأجنحة أو وجود سند من الملائكة أو الجن أو الغيلان أو غيرها، وهذا هو ما استدعى البعد الأسطوري في النص، ففي مجتمع تقليدي، تلعب القوة الدور الأكبر في حل المشكلات، ولأن الأشرار إذا امتلكوا تلك القوة فسيطغون على الضعفاء فقد كان لا بد على المجتمع أن يبتدع تلك الحكايات القائمة على هذا البعد الخارق لقوة الخير والتي تصوره على أنه سينتصر لا محالة وعلى أن الظالم لا بد أن ينال عقابه يوماً ما، فالشاب الذي رمى أمه العجوز في قفار لتموت وحيدة ولم يكن لها من الأبناء غيره، سيلقى ذلك الشاب بعد أن يشيب ويضعف المصير نفسه على يد ولده، ومن المؤكد أن أي صبي صغير في ذلك المجتمع البدوي يسمع هذه القصة لا بد أن يرتعد قلبه، ويظل يتذكرها لتشكل ميزانا في علاقته مع أبويه ورادعاً له عن الإقدام على سوء في معاملتهما .
من هنا تبرز أهمية تدوين تلك الحكايات وإبرازها للناس في كتاب لكي تتمكن الأجيال اللاحقة من قراءتها، ولعل جدات المستقبل يعدن إلى روايتها، أو لعلها تحول إلى قصص كرتونية نابعة من حاجات وتراث مجتمعها لتحل محل القصص الكرتونية الغربية التي تملأ فضاءنا
الخليج