الصورة ومقلوبها
أمريكا بين روايتين
آخر تحديث:السبت ,17/04/2010
محمد ولد محمد سالم
1/1
بين رواية “شيكاغو” لعلاء الأسواني ورواية “أمريكا” لربيع جابر أوجه شبه متعددة، فكلتاهما تروي أحداثا في أمريكا الشمالية وكلتاهما ترصد حياة مهاجرين عرب إلى تلك البلاد، وقد اتخذ خط الأحداث فيهما غالبا منطق التسلسل الزمني، وركزت كلتاهما على حكاية حيوات أشخاص متعددين جمعتهم الظروف الزمنية في مكان واحد، ولم تربط بينهم أحداث حكاية واحدة، ما جعل المكان والزمان رابطين رئيسيين في الروايتين، ويؤكد ذلك عنوانا الروايتين “أمريكا” و”شيكاجو”، فهما يحيلان على المكان، ويشيران إلى الدور البارز الذي يلعبه .
تدور أحداث رواية “أمريكا” في أوائل القرن العشرين، وتروي في المقام الأول حياة “مرتا حداد” تلك المرأة الشابة التي خرجت وحدها من قريتها في جبل لبنان في رحلة طويلة إلى أمريكا بحثا عن زوجها الذي انقطعت عنها أخباره منذ عام، وكانت قبل ذلك تصلها رسائله بشكل متواصل، وفي أمريكا يخيب أملها في استعادة زوجها الذي تكتشف أنه تزوج من أمريكية ثرية، فتبدأ الشابة كفاحا طويلا من أجل بناء حياتها، وكما في الروايات الرومانسية التقليدية يحالف الحظ ميرتا في كل محطات حياتها، فتتاجر وتثرى وتتزوج وترزق أطفالا، لكن الرواية لا ترصد فقط حياة مرتا، فهناك حكايات عن شخصيات كثيرة عاشت حياتها بموازاة حيوات شخصيات المهاجرين من سوريا الكبرى (لبنان وسوريا) الذين تدفقوا على أمريكا بأعداد كبيرة في تلك الفترة، وبدأوا التجارة باعة متجولين، يقطعون الأراضي الشاسعة ويتعرضون لألوان المصاعب والمصائب من جوع ومرض وتيه ونهب، ثم شيئا فشيئا بدأوا يستقرون في المدن والبلدات ويفتحون الدكاكين مؤسسين للجيل الأول من العرب المهاجرين إلى أمريكا .
أما رواية “شيكاغو” فتدور أحداثها بعد احداث 11 من سبتمبر وترصد حياة مجموعة من الطلاب المصريين الذين هاجروا للدراسات العليا في هذه المدينة، والبطولة الفردية فيها غير واضحة، فالشخصية التي تبدأ بها الأحداث وتنتهي هي الطالبة شيماء، ولكن حضورها في الرواية ليس أظهر من حضور شخصية مثل ناجي عبدالصمد أو أحمد دنانه أو غيرهما، ولا ترتبط أحداث حياة أي من هذه الشخصيات بالأخرى إلا في أحداث نادرة وبشكل ثنائي، فحياة شيماء الطالبة القادمة من جامعة طنطا التي كانت تعمل فيها أستاذة مساعدة في الطب إلى جامعة ألينوي لإكمال دراستها هناك، لا تخرج عن ارتباطها بطارق حسيب الطالب الذكي الطموح الذي سبقها إلى هذه الجامعة لإكمال دراسته في الطب، وكذلك الشأن بالنسبة لناجي عبدالصمد الطالب اليساري المعارض، فظهوره في الرواية مرتبط غالبا بكرم دوس الذي كان يخطط معه لتنظيم مظاهرة أثناء زيارة الرئيس المصري لشيكاغو، كذلك الأستاذان في جامعة إلينوي رأفت ثابت ومحمد صلاح، وجراح القلب د أكرم دوس الذين جاءوا إلى أمريكا منذ عقود طويلة، ورئيس البعثة الطلابية عضو الحزب الوطني أحمد دنانه وزوجته ورجل الأمن صفوت شاكر، كلها شخصيات تسير حياتها في خطوط متناظرة روابطها واهية، ويلعب الزمان والمكان أكبر الأثر في تحريكها .
مغامرة
ويجدر بنا قبل استبيان ملامح صورة أمريكا في رواية ربيع جابر أن نقف عند طبيعة المهاجرين من بلاد الشام والأسباب التي دفعتهم في تلك الفترة، وفي ظروف سفر قاسية تستدعي قطع آلاف الكيلومترات إلى تلك البلاد .
كان المهاجرون الأوائل مجموعة من الشباب الأقوياء المنحدرين من مناطق الحقول الزراعية، وهم في أغلبهم أميون أو شبه أميين، تدفع بهم ظروف الحياة القاسية من جفاف وفقر وجوع ومرض إلى السفر إلى تلك البلاد البعيدة، وكانت أمريكا يومئذ بلد الكسب والتمول السريع، وحلم الثراء لكل شاب في بلاد الشام .
ولا نجد في الرواية حديثا عن القهر والتوق للحرية إلا في إشارة واحدة عابرة من “علي جابر”، وعلى ذلك فلم تكن الحرية في هذه الفترة أحد مكونات صورة أمريكا في مخيلة المهاجرين، ولم يكن الكبت أوالظلم أحد دوافع السفر بقدر ما كان الفقر هو الدافع .
وترصد الرواية حكايات ناس كثر من هؤلاء المهاجرين ممن نجحوا في أعمالهم واندمجوا بسهولة في المجتمع الأمريكي، وليس أدل على هذا الاندماج من انخراطهم المبكر في الجيش الأمريكي وذهابهم الطوعي لجبهة الحرب في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، على أن هناك آخرين عادوا بسرعة إلى أرض الوطن بعد ما جمعوا أموالا يستطيعون استثمارها في بلادهم .
هي بلد العمل الجاد الواعد بالمال الوفير، بلد الإمكانات الهائلة للعيش والاندماج مع أجناس وأعراق بشرية كثيرة، هكذا تبدو صورة أمريكا في أذهان المهاجرين العرب الأوائل، ولا نجد في الرواية أي حديث عن اضطهاد ولا تمييز عنصري، وتكاد تخلو من حوادث العنف ومشاهد الإقبال على الملذات، ولعل ذلك يمكن أن يفسر بكون تلك الفترة كانت فترة بناء لأمريكا، وكان الناس ينصرفون أكثر إلى العمل وليس لديهم وقت يضيعونه، كما أن الحياة كانت لا تزال متقشفة ولم تعرف بعد ذلك الترف الفاحش الذي انحرف بالإنسان الأمريكي إلى الانغماس في الملذات والمخدرات والعنف .
تراجع
مع رواية شيكاغو يختلف نوع الشخصيات، فنحن أمام طبقة من المتعلمين تعليما عاليا، فكل الشخصيات الأساسية في الرواية هم مجموعة من طلاب الدراسات العليا وخصوصا طلاب قسم “الاستطباب” في جامعة إلينوي الذين أنفقوا فترة كبيرة من أعمارهم المهنية في التدريس في جامعات الطب في مصر ثم حصلوا على منحة لإكمال دراساتهم العليا في هذه الجامعة العريقة، ويبدو هؤلاء للوهلة الأولى مقطوعين عن المجتمع الأمريكي وحياته، بل إن ارتباطهم بمصر والحياة السياسية فيها أكثر وضوحا، ويظهر في دور الذي يلعبه رئيس البعثة الطلابية وضابط الأمن في القنصلية، وأحداث زيارة الرئيس لأمريكا، حتى الشخصيات التي استقرت في أمريكا منذ عقود “صلاح ورأفت وكرم” لا تظهر في الرواية إلا في ارتباطها بذلك الوسط الجامعي المعزول .
شرخ
إذا كان ربيع جابر قد استطاع أن يمحور صلب روايته حول حياة بطلتها، ويعززها بقصص جانبية تؤكد وجهة النظر التي يريدها، فإن علاء الأسواني جعل روايته متابعات سيرية لكل واحد من شخصياته منفرداً عن باقي الشخصيات، وتركها تعيش على هامش المجتمع، ففوت ذلك على القارئ إمكانية بناء منظور عام للرواية، يمكن أن يسعف في تقديم صورة محددة لأمريكا، ومع ذلك فقد انفرد عن ربيع جابر بميزة الدخول للأعماق النفسية للشخصيات عن طريق أسلوب التداعي الحر والحوارات الكاشفة، فسبر أغوار تلك الأنفس وأظهر ما يعتمل فيها من صراعات وتناقضات، وهو شيء غائب في رواية ربيع التي لم تستخدم التداعي النفسي والبوح الذاتي للشخصية، ولم تكثر من الحوارات الكاشفة، ويتيح لنا هذا العمق في تناول الشخصيات إمكانية أن نجمع صورة أمريكا كما تجلت من خلال سلوك تلك الشخصيات، فرأفت ثابت الذي يحمل الجنسية الأمريكية منذ عشرين سنة ويتنكر لهويته المصرية ويربطها بالتخلف الراسخ والعقلية المنغلقة، عانى بشكل مرير من استعلاء زوجته الأمريكية عليه، وازدادت معاناته بتمرد ابنته وتركها للبيت لتعيش مشردة مع مشرد، وأما كرم دوس الطبيب الجراح والقبطي، فقد جاء بحثا عن الحرية والعدل بعد أن عانى الظلم الذي لقيه من أحد رؤساء الجامعة في مصر، لكن ضاعت في العمل، وما زال وهو في قمة مجده يعاني من تلك النظرة العنصرية والاستعلائية التي ينظر بها إليه بعض الأطباء الأمريكيين، رغم أنهم يعملون تحت إمرته، والعنصرية نفسها يعاني منها الأمريكيون السود في شخص “كارول” كانت توصد أمامها أبواب العمل كلما تأكد أصحابه من أنها زنجية سوداء .
أما ناجي فإن وعيه السياسي كمناضل كان منصبا على الحديث عن مشاكل الحكم في مصر والأزمات التي يعانيها الشعب، ولم يلتفت لأمريكا، ولا يبدو أنه منبهر بها رغم أنه كان أكثر طلاب البعثة المصرية اندماجا في الحياة الأمريكية، لكن ذلك لا يعدو كونه تصيد فتيات البارات طلبا للمتعة، لكن المآل الذي آل إليه ناجي قد يلقي الضوء على بعض وجه أمريكا، فقد جاءه رجال من “الإف بي آي” وأخبروه أنه متهم بالعمل لحساب القاعدة، ولم يشك ناجي في أن ذلك كان من تدبير المخابرات المصرية التي توثق التعاون بينها وبين المخابرات الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر .
وفي مناسبة زيارة الرئيس يقدم الراوي مثالا لحساسية الحكومة حول كل ما من شأنه أن يغضب أمريكا “تعلم بخبرته أنه ما من شيء في الدنيا يقلق سيادة الرئيس مثل مشكلة مع مواطن أمريكي مهما كان منصبه، ثمة جملة مأثورة تعود سيادته أن يرددها: الذي يتحدى أمريكا كالأحمق الذي يضع رأسه في فم الأسد” .
يمكن إذاً من خلال تلك الإشارات استجماع الصورة التي تقدمها الرواية لأمريكا وهي صورة تتسم بالمفارقة أو التناقض فأمريكا بلد العلم الذي يهاجر إليه الآخرون طلبا للشهادات العليا والرواتب العالية، وهي بلد الحرية حين يضطهد المرء في وطنه فيلجأ إليها ليمارس حريته السياسية أو حرياته جميعا، لكنها في المقابل بلد العنصرية وكراهية العناصر الأجنبية الراسخة في نفس الأمريكي الأبيض، وبلد التفكك الأسري وتمرد الأولاد لأتفه الأسباب، والقلق النفسي والفردانية القاتلة، وهي أيضا بلد القوة الجبارة المتغطرسة التي تقهر حكومات الشعوب الضعيفة وتوجهها لمصلحتها .
هاتان صورتا أمريكا كما بدت في الروايتين، ويلاحظ التغير العميق الذي حدث في الصورة في نفوس المهاجرين العرب بعد مائة سنة أو أكثر من التواصل مع تلك البلاد، فقد كان انخراطهم في المجتمع وخوضهم غمار العمل سهلا وبسيطا، حين كانت في بدايات نهضتها وبناء نفسها محتاجة إلى أولئك المهاجرين، فكانت مصدر الجمال والحسن وقيم العمل المنتج، والمكان الذي يحلم كل شاب أن تطأه قدمه ويسير فيه بزهو خالعا جبة الفقر والجوع، أما حين بنت نفسها، وبذخ أهلها، وصارت يدها طويلة في العالم وأحست بعنفوان القوة، وداست الآخرين بأخفافها الغليظة، فقد انقلبت رؤية المهاجر لها إلى هذا المزيج المتناقض من الخير والشر، من العلم والعمل والحرية مقابل العنصرية والغطرسة والقلق الدائم الذي يولد في نفس الأجنبي الذي تطأ قدمه أرضها شرخا عميقا، وصراعا ذاتيا لا ينطفئ .
لقد وفق الكاتبان إلى حد بعيد في تقديم منظوريهما عن واقع المهاجرين العرب إلى أمريكا في فترتين متباعدتي الزمن، لكن أخذ رواية “أمريكا” في حيوات كثيرة جانبية وعدم تركيزها حول شخصيات محددة مشاركة ومتورطة في الأحداث نفسها بشكل جدلي متنام أغرقها بأحداث جانبية كثيرة هي في غنى عنها، وجعل تدفق أحداثها في بعض الأحيان فاترا، وكان يمكن أن تكون أعمق وأكثر حرارة لو نفضت عنها تلك الشوائب، على أن ذلك لا يسلبها سلاسة السرد وجمال الأسلوب وعمق التجربة الإنسانية، أما رواية “شيكاغو” فقد افتقرت إلى متن حكائي جامع، فيمكن إعادة ترتيبها وفصلها إلى مجموعة من الحكايات أو السير الشخصية التي تشكل كل منها قصة منفردة، ورغم ذلك فلا تخفى قدرات الكاتب الأسلوبية وبراعته في رسم شخصيات عميقة الإحساس ومقنعة فنيا .