بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 27 مايو 2014

"بازار" رسالة فقدت عنوان البريد

"بازار" رسالة فقدت عنوان البريد
محمد ولد محمدسالم
ضاع صك ملكية البئر فاستشرى الخلاف حولها بين عشيرتين من أبناء القبيلة الواحدة، كل تدعي ملكيتها، وتبحث عن ما يسند دعواها، ويعصف الصراع بالأفراد فتتولد منه خلافات ثانوية ونعرات لا تنتهي، وتداس أحلام كبيرة وصغيرة، وتنتعش مآرب أنانية لدى شخصيات كثيرة، فيضيع الشأن العام، وتضيع البئر وأهلها، تلك هي الخلاصة التي تنقلها إلينا مسرحية «بازار» لفرقة الدن العمانية، التي ألفها الإماراتي محمد صالح، وأخرجها العماني إدريس النبهاني
يتخذ العرض من البحث عن صك ملكية الطَّوِيّ (البئر) مولدا ومؤطرا للحدث، فمن خلال المناكفات والنقاشات حول هذه العملية تنشأ الأحداث، وقد كانت البداية باجتماع عام لرجال العشيرتين يتدارسون فيه كيفية الوصول إلى ذلك الصك الذي لا يعرفون سبب ولا كيفية اختفائه، فتقول عشيرة الزعيم سعدون إنهم سوف يأخذون برأي (سمعول)، وتقول عشيرة الزعيم حافظ إنهم سوف يأخذون برأي (بايت)، ولا يتفقون، فتقوم المرأة (نصراء) وتقول إن عليهم أن يأخذوا برأي الأسود، لأن سمعول مجنون وبايت سكير مخبول لا يفيق، لكنهم جميعا يرفضون رأيها على الرغم من إقرارهم بأن الأسود أعقل من الاثنين وأصلح لتقديم الرأي السديد.
يعمد الزعيم حافظ إلى استمالة "بايت" لكي يأتي برأي يسند دعواه في البئر، فيسعى لتزويجه "شامة" ابنة نصراء اليتيمة، لكن البنت وأمها ترفضان ذلك المخبول، ونكتشف أن حافظ هو قاتل والد البنت، وانتقاما من البنت وأمها يمنع حافظ ابنه "عذب" من أن يتزوج شامة التي يحبها وتحبه، تم تتفق العشيرتان على استقدام "سمعول" ليعرفوا منه أين ذهب الصك، لكن هذا المجنون المسلح لا يخرج لهم برأي، ويظل يشهر سلاحه في وجه كل من يترفع كلامه في اتجاهه، ولا يعرفون كيف يتصرفون معه، وأثناء نقاش بينه وبين حافظ يشهر سلاحه ليقتل حافظا فتأتي الطلقة في نصراء التي تموت، ويختفي سمعول، ليأتي دور "بايت"، لكن بايت يماطل برأيه، ويقول إنه لن يقول سر الصك إلا لشامة وبعد أخذ ورد يقنعون عم شامه بإرسالها إلى بايت، الذي يحاول الاعتداء عليها، فتصفعه وتدفعه ليسقط في البئر، ويحدث إظلام نشاهد خلاله شامه وسط دائرة من الرجال كلما اتجهت إلى جهة اعترضها أحدهم فتعود أدراجها، وهكذا حتى تسقط مغشيا عليها ويسقط الرجال حولها، وتكون النهاية.
اشتغل المخرج اشتغالا بصريا جيدا فحشد عدة عناصر سينوغرافية مهمة، فمن ناحية الإضاءة فقد كانت موفقة في عدة مواقف وعكس لونها أجواء الحدث، فتكون حمراء في لحظات المآسي والدم، ووردية  في لحظات الحب والبوح، ومفتوحة بيضاء في حالات الاجتماع والنقاش، ومن ناحية الديكور فقد عكس تكوينه وتلوينه شكل البيئة الجبلية، على الرغم من أنه يمكن المجادلة في ذلك التكوين الكبير الذي شغل نصف الخشبة الخلفية وأعاق حركة الممثلين، واضطر ثباتُه المخرجَ إلى كثير من حالات الإظلام التام وإسقاط الضوء في بقع محددة لإخفاء ذلك الديكور الهائل، وكان في غنى عن ذلك لو أنه استخدم ديكورا رشيقا قابلا للتغيير والتحريك، ومن ناحية الأزياء والأكسسوارات فقد كانت تتماشى وأجواء المجتمع التقليدي، ومن ناحية الغناء فقد كان تقليديا وبآلات تقليدية تلائم الحالة.
الملاحظة البارزة في المعالجة الدرامية في مسرحية (بازار) هي أننا لسنا أمام حكاية، لكننا أمام حالة، والحالة في المسرح الجاد هي إحدى وصفات الملل التام، إن لم تلعب على الكوميديا أو الاستبطان النفسي، وهما عنصران غائبان في هذا العرض إذا ما استثنينا مشهد بايت الأخير، ولقطة العشيقين، وعوضا عن ذلك اعتمدت المسرحية حوارا ضديا بين رأيين متصلبين، محكوم عليه بأن يظل يراوح مكانه، ويتكرر بشكل بارد وممل في جميع المشاهد، لأنه لا يأتي ضمن سياق أحداث حكاية تتنامى وتتصاعد في اتجاه نهاية ما.
ما أشبه الليلة بالبارحة، وأشبه "بازار"  ب"زوان"، لقد أراد الكاتب وتبعه المخرج في ذلك أن يعالج عدة قضايا من حالة واحدة (الصراع القبلي، قضية الفئوية "الأسود"، الآباء وتجبر الأبناء، المرأة والقهر، الغريب الذي نحكمه فينا ونسلم له قيادنا)، ونسي أن يركز على قضية واحدة عبر حكاية متنامية تشد الجمهور وتقنعه، وتجعله يتفاعل معها ويعيش تجربتها، وبذلك فقد عنوان البريد الذي يمكن أن يوصل رسالته إلينا فبقيت في الصندوق الذي وضعها فيه.

عن نشرة مهرجان الخليج المسرحي الثالث عشر

"زوّان" خلل في البينة الدرامية وغياب لدور الإضاءة

"زوّان" خلل في البينة الدرامية وغياب لدور الإضاءة
محمد ولد محمدسالم
اختار المخرج السعودي ياسر الحسن أن ينطلق من أسطورة شعبية سعودية عن عين ماء مسكونة بالجن تختطف البشر ليحولها عملا مسرحيا سماه "زوّان" وهو من إنتاج فرقة نورس المسرحية السعودية.
خلاصة العرض أن هناك قبيلتين تعيشان حول بئر وتتصارعان على مائها كل واحدة  تريدها لنفسها دون الأخرى، وتعتقد القبيلتان أن هذه البئر مسكونة بجنية تختطف البشر، لكن لا خيار لهما سوى البقاء حولها، لأنه لا يوجد بديل عنها، وقد نشأ هذا الاعتقاد عندما غرقت في البئر إحدى بنات القرية واسمها "زوان" ومن يومها، أصبح كل من يموت في ظروف غامضة من أهل القرية يعزى موته لهذه البئر الملعونة، لكنّ الوحيد الذي لا يصدق هذا الزعم هو سالم، عاشق الفتاة المختفية الذي أصيب بالخبل بعد اختفائها، وعاش حياته يناجي خيالها، ويزعم أنها محبوسة في البئر وسوف تعود إليه، ويردد على مسامع الناس أن الجنية (راعية البئر) لا تقتل بل تحرس، لكنهم لا يصدقونه.
استشرى الصراع بين القبيلتين، وتوسط بينهما رجل غريب كان قد نزل بأرضهما، فأصلح بين زعيمي القبيلتين، وطلب منهما أن يبيعاه شيئا من أرض البئر، لكنهما رفضا ذلك، ثم إن أحد الزعيمين قتل الآخر، ولجأ القاتل إلى الرجل الدخيل الذي أشاع في الناس أن الفقيد اختطفته البئر الملعونة، فاقتنعوا وهدأت الأمور، ثم إن الدخيل راود القاتل ليبعه شيئا من الأرض وهدده بإفشاء سره إن هو لم يبعها له، لكنّ الزعيم امتنع، فما كان من الدخيل إلا أن قتله، ورماه في البئر، وادعى أنها اختطفته، وعمل الدخيل على تنصيب ابن أخ الزعيم الذي قتله زعيما للقبيلتين، وحين تم له الأمر قبل الشاب أن يبيع للدخيل الأرض، وأمر بهدم البئر والرحيل بالحي عن ذلك المكان، ولم يفلح المخبول في ثنيه الزعيم الجديد عن عزمه، لتنتهي المسرحية برحيلهم تاركين الأرض للدخيل.
هذه الخلاصة بهذا التسلسل لا تعبر عن واقع العرض كما قدم على الخشبة، فقد شاب الحكاية اضطراب في التقديم والتأخير، وتوازي الأزمنة، مما لم يحكمه منطق واضح أو رؤية معينة، فقد بدأت المسرحية بحدث حاضر تخلله استرجاع عبر استحضار المخبول لذكرياته مع محبوبته وهما فَتِيَّيْنِ يلعبان الغميضة، لكنّ الإضاءة لم تلعب الدور المطلوب بحيث ظهر المخبول والفتى في نفس الإضاءة وكأنهما شخصيتان مختلفتان تعيشان في لحظة زمنية واحدة، ومثل هذا التداخل والاضطراب وقع في عدة مشاهد، وقد بدا أن المخرج لا يمتلك رؤية واضحة يوزع بها المشاهد توزيعا صحيحا وموجها، فمشهد اللقاء بين القبيلتين والاقتتال بينهما جاء متأخرا بمشاهد عن مشهد الصلح، ولا ندري لماذا فعل ذلك.
لقد عانت المسرحية من خللين عميقين أولهما أن المخرج شتت اهتماماته، بلعبه على عدة مسارات في آن واحد، فهو يريد أن يتابع قصة الحب البرئ والفتاة المختفية ويعطيها دلالة ما، ويريد ثانيا أن يتابع قصة الصراع القبلي المرير في المجتمعات التقليدية وما ينشأ عنه من قتل وتدمير لبينة الحي الواحد، ويريد ثالثا أن يعالج قضية الدخيل والمؤامرات التي يحيكها للتفرقة بين أهل الوطن الواحد من أجل أن يفوز بأرضهم وملكهم وخيراتهم، هذه المسارات مجتمعة هي التي أوقعت المخرج في هذا الاضطراب الكبير الواضح، وقد أوقعته في خطأ أعمق وهو أنه داوى الداء بالداء، فقد أظهر الزعيم القاتل حريصا على الأرض مستميتا في الدفاع عنها حتى ولو كان في ذلك موته، ولا يريد أن يبيعها بقناطير الذهب، وبذلك حول هذا القاتل إلى بطل، ولعمري فإن من يقتل لأتفه الأسباب لحري بأن يبيع من أجل أعظم أسباب الغنى وهو الذهب، أما الخلل الثاني فهو غلبة منطق السرد فالمخرج كثيرا ما يستعيد أحداثا ماضية ليفسر حدثا حاليا، وكان يمكنه أن يستغني عنها بالحوار، وباختيار مشاهد مفصلية في الحكاية، لكنّ تلك حنكة تحتاج إلى احتراف.
من الجوانب الإيجابية في هذا العرض أن المخرج اشتغل على الأداء الحركي والتشكيل الجسدي للممثلين وزيّهم الموحد فهم تارة بشر، وتارة أشباح جن وتارة أعمدة خيمة وستائرها، ومرة جثث بأكفانها، وغير ذلك، وقد أغناه هذا التشكيل البصري الجميل عن الديكور، فكانت الخشبة خالية من الديكورات ، مفتوحة للحركة الحرة للممثلين، لكن الإضاءة لم تسعفه بشيء، فقد شابتها اختلالات وكانت أوجه الممثلين معتمة أغلب الأوقات، كما أن أصوات بعض الممثلين لم تكن واضحة.

عن نشرة مهرجان المسرح الخليجي الثالث عشر

"عندما صمت عبدالله الحكواتي" حزمة ضوء تشتت في عدة اتجاهات

"عندما صمت عبدالله الحكواتي" حزمة ضوء تشتت في عدة اتجاهات
محمد ولد محمدسالم
يعود بنا عرض "عندما صمت عبدالله الحكواتي" لفرقة مسرح الصواري البحرينية إلى أجواء الراوي الشعبي في المقهى والسوق وما يرويه من قصص يتناسل بعضها من بعض وتتواصل فلا تنتهي،  وذلك من خلال الراوي عبدالله الحكواتي الذي انجذب إليه جمهور حيه وأحبوه على مدى خمسة عشر عاما من الحكايات المستمرة حول شخصية "عبدالله الصياد" الذي يمتلك قدرات خارقة تجعله قادرا على أن يرتشف البحر أو يحجب الشمس بيده، أو مادون ذلك من الخوارق، لكنّ عبدالله الحكواتي يتوقف فجأة عن سرد حكاياته، ويصاب بالصمت بسبب شخصية مبهمة زارته ذات ليلة وأنذرته بأنه سيفقد القدرة على الكلام بعد سبع وعشرين كلمة، وسيكون دواؤه في ثلاثة هدايا مبهمة لم تحددها له تلك الشخصية، ويحاول أصدقاء الحكواتي شفاءه بكل الطرق التي يتيحها الطب والرُّقْيا لكنهم لا يفلحون.
ثم ينكفئون على أنفسهم ليروي كل منهم حكايته الخاصة به، والتي تكشف عن أضرب كثيرة من المعاناة والمأساة، فواحد يكتشف كيف أنه عاش مخدوعا في صديقه الذي يظنه مخلصا له، مما دفعه إلى خدمته بكل وسيلة حتى ولو كانت خديعة البريئين من أجل صديقه، لكنه في النهاية يكتشف أن هذا الصديق كان يخونه مع زوجته، وآخر توسوس له نفسه بأن زوجته تخونه مع عشيق فيقتلها، ثم يتحقق من براءتها، فيعيش حياته نادما على فعلته الشنيعة، ورابع يروي للسلطان كذبة لم يسمعها فيستحق لذلك الجائزة، لكنه لا يأخذها، وبدلا من ذلك يُبيِّن للسلطان أنه عاش طيلة ملكه يكذب على الناس، فيقرر السلطان قتله، وتنتهي تلك الحكايات بعبدالله الحكواتي واقفا في منتصف الخشبة (المقهى) وحيدا صامتا، كما كان في آخر مرة.
أعد المخرج حسين عبد علي خليل مسرحيته من ثلاثة نصوص أدبية هي رواية "حكواتي الليل" لرفيق الشامي، ورواية "أهل البياض" لمبارك ربيع، وقصص "درويش الثالث" من ألف ليلة وليلة، واختار أن يقدم عرضها في قاعة مسرح جمعية المسرحيين الإماراتيين التي أعدت بشكل دائري يحاكي شكل المقهى أو مسرح الحلقة (أو السرادق) في المجتمعات التقليدية، وهو شكل يلائم القالب الفني للحكايات المروية بدءا بعنصر الراوي ثم الحكايات نفسها المقتبسة من قصص تقليدية، وقد كان أداء الممثلين الستة: عبدالله السعداوي ومحمد الصفار وباسل حسين ومحمود الصفار وحسين خليل ومحمد المرزوق جيدا ومتناغما، عكس الحالات المتعددة التي تمر بها الحكايات، وأغنت حركة الممثلين وأصواتهم عن الكثير من الديكور والأكسسوارات وحتى الشخوص، مما يشي بأنهم فنانون محترفون أولي تجارب عميقة، وكان تمثيلهم متناغما مع الإضاءة والسينوغرافيا عامة التي عكست تقريبا كل الأجواء التي تقلب فيها الممثلون، وهي كثيرة ومتنوعة، مما جعل الجمهور يتنقل بسلاسة بين تلك الأجواء، وسمح شكل الحلقة أيضا برفع الحواجز بين الممثلين والجمهور الذي اندمج كجمهور في المقهى أو في الحارات التقليدية وكشعب في مدينة السلطان.
كل ذلك كان اجتهادات جيدة وواعية من طرف المخرج، لكنّ التساؤل الكبير الذي ظل معلقا هو لما ذا سكت الحكواتي؟، ولماذا هذا الشتات من الحكايات، وهل استلهام الشكل التقليدي للحكاية التي يتناسل بعضها عن بعض هدف في حد ذاته؟.
لقد وضع المخرج المتلقي في متاهة لم ينقذه منها، وقد حكم على اللعبة الدرامية بالتوقف عندما أخرج الحكواتي منها، وأدخلنا في جيوب من الحكايات التي لا نهاية لها، ولا دلالة لها في سياق مأساة الحكواتي الذي لم تقدم عودته صامتا في نهاية العرض أية إضافة سوى الصمت والحيرة.

قد تكون هناك إضاءات في هذه الجيوب (قهر المرأة وكذب السلطة ونفاق المجتمع)، لكنّ المسرح هو فن الرؤية الواحدة التي تجمع الشتات، وتؤلف المتفرق لتصنع منه حزمة الضوء وتسطقها في اتجاه معين، وتلك الحزمة الضوئية الموجهة هي التي ضاعت من المخرج وسط أشعة انطلقت في عدة اتجاهات.

عن "نشرة مهرجان المسرح الخليجي الثالث عشر"