"بازار" رسالة فقدت عنوان البريد
محمد ولد محمدسالم
ضاع صك ملكية البئر فاستشرى الخلاف
حولها بين عشيرتين من أبناء القبيلة الواحدة، كل تدعي ملكيتها، وتبحث عن ما يسند
دعواها، ويعصف الصراع بالأفراد فتتولد منه خلافات ثانوية ونعرات لا تنتهي، وتداس
أحلام كبيرة وصغيرة، وتنتعش مآرب أنانية لدى شخصيات كثيرة، فيضيع الشأن العام،
وتضيع البئر وأهلها، تلك هي الخلاصة التي تنقلها إلينا مسرحية «بازار» لفرقة الدن
العمانية، التي ألفها الإماراتي محمد صالح، وأخرجها العماني إدريس النبهاني
يتخذ العرض من البحث عن صك ملكية
الطَّوِيّ (البئر) مولدا ومؤطرا للحدث،
فمن خلال المناكفات والنقاشات حول هذه العملية تنشأ الأحداث، وقد كانت البداية
باجتماع عام لرجال العشيرتين يتدارسون فيه كيفية الوصول إلى ذلك الصك الذي لا
يعرفون سبب ولا كيفية اختفائه، فتقول عشيرة الزعيم سعدون إنهم سوف يأخذون برأي (سمعول)،
وتقول عشيرة الزعيم حافظ إنهم سوف يأخذون برأي (بايت)، ولا يتفقون، فتقوم المرأة
(نصراء) وتقول إن عليهم أن يأخذوا برأي الأسود، لأن سمعول مجنون وبايت سكير مخبول لا
يفيق، لكنهم جميعا يرفضون رأيها على الرغم من إقرارهم بأن الأسود أعقل من الاثنين
وأصلح لتقديم الرأي السديد.
يعمد الزعيم حافظ إلى استمالة "بايت" لكي يأتي برأي يسند
دعواه في البئر، فيسعى لتزويجه "شامة" ابنة نصراء اليتيمة، لكن البنت
وأمها ترفضان ذلك المخبول، ونكتشف أن حافظ هو قاتل والد البنت، وانتقاما من البنت
وأمها يمنع حافظ ابنه "عذب" من أن يتزوج شامة التي يحبها وتحبه، تم تتفق
العشيرتان على استقدام "سمعول" ليعرفوا منه أين ذهب الصك، لكن هذا
المجنون المسلح لا يخرج لهم برأي، ويظل يشهر سلاحه في وجه كل من يترفع كلامه في
اتجاهه، ولا يعرفون كيف يتصرفون معه، وأثناء نقاش بينه وبين حافظ يشهر سلاحه ليقتل
حافظا فتأتي الطلقة في نصراء التي تموت، ويختفي سمعول، ليأتي دور "بايت"،
لكن بايت يماطل برأيه، ويقول إنه لن يقول سر الصك إلا لشامة وبعد أخذ ورد يقنعون
عم شامه بإرسالها إلى بايت، الذي يحاول الاعتداء عليها، فتصفعه وتدفعه ليسقط في البئر، ويحدث إظلام نشاهد خلاله
شامه وسط دائرة من الرجال كلما اتجهت إلى جهة اعترضها أحدهم فتعود أدراجها، وهكذا
حتى تسقط مغشيا عليها ويسقط الرجال حولها، وتكون النهاية.
اشتغل المخرج اشتغالا بصريا جيدا فحشد عدة عناصر سينوغرافية مهمة، فمن
ناحية الإضاءة فقد كانت موفقة في عدة مواقف وعكس لونها أجواء الحدث، فتكون حمراء
في لحظات المآسي والدم، ووردية في لحظات
الحب والبوح، ومفتوحة بيضاء في حالات الاجتماع والنقاش، ومن ناحية الديكور فقد عكس
تكوينه وتلوينه شكل البيئة الجبلية، على الرغم من أنه يمكن المجادلة في ذلك
التكوين الكبير الذي شغل نصف الخشبة الخلفية وأعاق حركة الممثلين، واضطر ثباتُه
المخرجَ إلى كثير من حالات الإظلام التام وإسقاط الضوء في بقع محددة لإخفاء ذلك
الديكور الهائل، وكان في غنى عن ذلك لو أنه استخدم ديكورا رشيقا قابلا للتغيير
والتحريك، ومن ناحية الأزياء والأكسسوارات فقد كانت تتماشى وأجواء المجتمع
التقليدي، ومن ناحية الغناء فقد كان تقليديا وبآلات تقليدية تلائم الحالة.
الملاحظة البارزة في المعالجة الدرامية في مسرحية (بازار) هي أننا لسنا
أمام حكاية، لكننا أمام حالة، والحالة في المسرح الجاد هي إحدى وصفات الملل التام،
إن لم تلعب على الكوميديا أو الاستبطان النفسي، وهما عنصران غائبان في هذا العرض
إذا ما استثنينا مشهد بايت الأخير، ولقطة العشيقين، وعوضا عن ذلك اعتمدت المسرحية
حوارا ضديا بين رأيين متصلبين، محكوم عليه بأن يظل يراوح مكانه، ويتكرر بشكل بارد
وممل في جميع المشاهد، لأنه لا يأتي ضمن سياق أحداث حكاية تتنامى وتتصاعد في اتجاه
نهاية ما.
ما أشبه الليلة بالبارحة، وأشبه "بازار" ب"زوان"، لقد أراد الكاتب وتبعه
المخرج في ذلك أن يعالج عدة قضايا من حالة واحدة (الصراع القبلي، قضية الفئوية "الأسود"،
الآباء وتجبر الأبناء، المرأة والقهر، الغريب الذي نحكمه فينا ونسلم له قيادنا)،
ونسي أن يركز على قضية واحدة عبر حكاية متنامية تشد الجمهور وتقنعه، وتجعله يتفاعل
معها ويعيش تجربتها، وبذلك فقد عنوان البريد الذي يمكن أن يوصل رسالته إلينا فبقيت
في الصندوق الذي وضعها فيه.
عن نشرة مهرجان الخليج المسرحي الثالث عشر