مواقفه درس للمتساقطين في أحضان الصهيونية العالمية
آخر تحديث:الاثنين ,25/06/2012
محمد ولد محمد سالم
أخيراً ترجل روجيه غارودي عن صهوة تاريخ حافل بالتجوال الفكري الحر، والالتزام الإنساني العميق، وبعد 99 عاماً وفي 13 يونيو/حزيران الجاري غادر إلى مثواه الأخير، وفي حلقه غصة من زيف حرية الرأي وقيم الحضارة الغربية التي تملأ دعاويها أسماع الدنيا، في الوقت الذي تتحطم فيه تلك الدعاوى على صخرة مواجهة المسكوت عنه في الفكر الغربي، ومحاولة النبش في حقائق الصهيونية العالمية .
حين نشر روجيه غارودي سنة 1996 كتاب “الأساطير المؤسسة للسياسة “الإسرائيلية”” لم يكن يبحث عن سمعة ولا جائزة ولا حظوة لدى أي كان، فقد كان ذلك الأستاذ الجامعي الثمانيني يومها يحظى بشهرة فائقة وتشهد كتبه الكثيرة إقبالاً واسعاً، ويحتفظ في بيته بأرفع الأوسمة الفرنسية عن دوره المشهود في مقاومة النازية وحكومة فيشي العميلة، لكنّ كل تلك الحظوة لم تكن لتدفعه وهو المفكر الإنساني الحر إلى خيانة ضميره والسكوت على جريمة إنسانية تحقق منها بالأدلة العلمية، وأدرك فساد دعوى مرتكبيها وبطلان حججهم، ولم يردعه أيضاً ما كان يعرف أنه ينتظره من هجوم وإرهاب فكري وتهميش، فمضى يتبع نداء ضميره وقيمه الإنسانية التي لا تقبل بالظلم والعنصرية والإبادة الجماعية للبشر، فدان الجرائم “الإسرائيلية” في فلسطين وطعن في الدعاوى التي تقدم لتبرير تلك الجرائم، وانصب جهده على مراجعة مقولات “الشعب المختار” و”الحق التاريخي” والأرقام المبالغ فيها عن “المحرقة النازية” التي غدت حقيقة مقدسة تستعطف بها “إسرائيل” الغرب، وتبرر بها احتلالها للأرض العربية وإبادتها للشعب الفلسطيني الذي يقف في وجه “الحق الإلهي” المزعوم ل”الإسرائيليين” في أرض “الميعاد”، وأراد بتلك المراجعة أن يبين بطلان تلك الدعاوى الصهيونية، ويبين حق الفلسطينيين في العيش كرماء على أرضهم وأن يرفع عنهم الظلم .
من العجيب أن ما أدركه ابن موظف الحسابات الفرنسي وفيلسوف الماركسية السابق، وسعى لدحضه بدافع من الضمير الإنساني المحض، والانحياز الفطري للمظلومين، قد أنكره أو تجاهله ثلة من المثقفين من أبناء الأرض وإخوة الدم العربي، بدافع هذه المرة من الحظوة لدى الغرب والبحث عن اعتراف ومكاسب هناك، ونتذكر الرسالة الشهيرة التي وقع عليها مثقفون عرب والتي تدين مؤتمر المؤرخين المراجعين “للمحرقة” الذي كان سيعقد في بيروت في نهاية مارس/آذار ،2001 وطالب فيها أولئك المثقفون الحكومة اللبنانية بمنع عقد ذلك المؤتمر بحجة أنه “معادٍ للسامية”، وتناسوا أن المبالغة الصهيونية بشأن المحرقة واستغلالها المفرط في الدعاية هو ما سهّل لهم احتلال فلسطين وإبادة الفلسطينيين وتشريدهم، وذلك أبشع أنواع العداوة للسامية، أليس العرب من أبناء سامٍ؟ لكن ضمائرهم تلك الثلة من المثقفين كانت مغطاة بالطمع في جوائز الغونكور ونوبل وغيرها، وبالتطلع للاعتراف الغربي بهم كمثقفين متحضرين يُدعوْن إلى المؤتمرات العالمية وتترجم كتبهم إلى اللغات الأوروبية والعبرية، وكانوا مستعدين للانسلاخ من كل شيء من أجل ذلك، ومن المؤسف أن التنكر للحق الفلسطيني والارتماء في أحضان “إسرائيل” أصبح اليوم طريقاً سهلاً للباحثين عن الحظوة لدى الغرب، وقبل أيام حظيت المخرجة التونسية نادية الفاني بزيارة ل”تل أبيب” للمشاركة في ندوة هناك تقديراً لها على عدائها للعرب والإسلام و”تسامحها” مع “إسرائيل” والصهيونية، وكانت أفلامها المجدفة قد لقيت رواجاً كبيراً في الغرب وحصلت على جوائز عدة، كذلك شأن الكاتب الفرانكفوني الجزائري بوعلام صنصال صاحب رواية قرية “الألماني أو مذكرات الأخوين شيلر” الصادرة سنة 2008 التي تحكي قصة علاقة ضابط سابق في الجيش النازي بقادة جبهة التحرير الوطني في الجزائر، وتهدف إلى النيل من سمعة الثورة الجزائرية العظيمة بربطها بالنازية، وقد احتفى اللوبي الصهيوني في الغرب بالرواية فحصلت سنة 2011 على “جائزة السلام” من جمعية أصحاب المكتبات في ألمانيا، وترجمت إلى العبرية واحتفت بها الصحف “الإسرائيلية” ودعي صنصال إلى “إسرائيل” في مايو/أيار الماضي للمشاركة في مؤتمر أدبي عالمي ترعاه الحكومة “الإسرائيلية” .
الفرق بين غارودي وبين أولئك الطالبين للسمعة الغربية والمنفعة المادية، هو أن غارودي واجه الصهيونية وهو في قمة مجده وأوج رواجه، وكان يمكنه وهو الخارج لتوه من الحزب الشيوعي الفرنسي أن يرتمي في أحضان الصهيونية، فيزداد سمعة على سمعة، ورواجاً على رواج، لكنه لم يكن طالب ماديات، بل كان طالب حق، ومناصرا بتلقائية للخير وعدوا للشر، ومسيرته الفكرية والسياسية تؤكد ذلك بشكل واضح، فقد كانت البداية من مسقط رأسه مرسيليا على شاطئ المتوسط التي بذرت فيه بذرة التعاطف الإنساني مع الضعفاء والمقهورين، وغرست في نفسه الإيمان بمبادئ العدل والمساواة حين كان يرى عمال السخرة المستجلبين من أقاليم ما وراء البحار للعمل في مصانع الإمبراطورية وهم يئنون تحت وطأة الأعمال الشاقة والسخرة لخدمة فرنسا الاستعمارية، وتأصلت تلك المبادئ أثناء الحرب العالمية الثانية حين احتُلت فرنسا فعارض بشدة الاحتلال النازي وحكومة فيشي العميلة له، واعتقل بسبب ذلك في الجزائر حيث كان يدرس، ومما أثر فيه بالغ التأثير وشد انتباهه للقيم الرفيعة للحضارة العربية الإسلامية أن المجندين المسلمين في إحدى فرق الجيش الفرنسي العميل للنازية رفضوا إطلاق النار عليه هو ومجموعة من المعتقلين بحجة أنهم أسارى وأن تقاليد المسلمين تمنعهم من قتل الأسير .
على ضوء تلك المبادئ تقلب غارودي بين النظريات الفلسفية والأطروحات السياسية بحثاً عن سند فكري لفطرته الإنسانية، وربما يكون ذلك هو الدافع وراء توجهه إلى دراسة الفلسفة التي حصل فيها على الإجازة في الفلسفة من جامعة مرسيليا سنة ،1937 والدكتوراه من جامعة السربون عن أطروحته حول النظرية المادية في المعرفة في سنة ،1953 وأصبح أستاذاً في الجامعة، وأثناء ذلك تنقل بين البروتستانتية التي اعتنقها وهو فتى ووجد فيها انفتاحاً إنسانياً يملأ عواطفه المراهقة، والشيوعية التي تنظلق من وجهة نظر شمولية تدين الظلم والقهر وكل أشكال التمييز، لكن الدوافع التي جعلته ينخرط في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي ويتبنى النظرية الماركسية ويصبح فيلسوفها المنظر، هي نفسها التي ستجعله يعترض على ممارسة الشيوعية وينتقد السياسة السوفييتية الستالينية حين انحرفت إلى الظلم وكبت الحريات ما جعله يفصل من عضوية هذا الحزب سنة ،1970 ومن الناحية الفكرية سيتجه في تلك الفترة إلى تطعيم المادية الماركسية بالروحانية الكاثولوكية للتخفيف من جفاء الفكر المادي، الذي لا يعترف إلا بالشيئية ولا يرى في المعرفة والأفكار سوى إفراز للحياة المادية للإنسان، ولا تعترف بما وراء ذلك، وقد طور نظرته تلك إلى مسعى لإقامة حوار حضاري بين الأفكار والأديان دشنه بكتابه “من أجل حوار الحضارات” 1976 الذي دان فيه التعالي الغربي على الآخر واستهزاءه بالديانات والثقافات الأخرى، ونظرة هذا الغرب للآخرين على أنهم متخلفون، وأن فكرهم وحضارتهم لا تمت للإنسانية بصلة، وابتداء من هذا الكتاب سيكثف غارودي بحوثه المتعلقة بالأديان، وخاصة الإسلام والمسيحية واليهودية، التي انتهى فيها إلى الإشادة بالإسلام انطلاقاً من نظرته التسامحية وقدرته على استيعاب الحضارات الأخرى والانفتاح عليها وتقبلها، وهو، حسب غارودي ما يثبته تاريخ الإسلام، وتعززه أطروحاته الفكرية، وفي هذا السياق وضع غارودي، كتابه “مبشرات الإسلام” ،1981 ثم أتبعه بكتبه الكثيرة عن الإسلام ومنها “الإسلام دين المستقبل”، و”المسجد مرآة الإسلام” و”الإسلام وأزمة الغرب”، و”فلسطين مهد الرسالات السماوية” .
لم يكن إذاً نقد روجيه غارودي للصهيونية ومراجعته لمسلمات الغرب حولها طفرة فكرية، ولا موقفا شاذا أو انقلاباً على مسيرته الفكرية، بل كانت تكل مؤشرات هذه المسيرة المشبعة بالإنساني والعقلاني المؤسسة تأسيساً علمياً وفكرياً راسخاً تقوده إلى ذلك الموقف، وتدعوه وهو صاحب الضمير الحي والالتزام الأخلاقي إلى أن يكتب “الأساطير المؤسسة للسياسة “الإسرائيلية””، ويتقبل راضياً حكم فرنسا الصهيونية بإدانته بمعاداة السامية وحظر كتبه والتعتيم الإعلامي عليه، مطمئناً لشعور عميق بأنه أخلص لضميره، وللحق والإنسانية، وفي ذلك درس لثلة المثقفين العرب المتساقطين في صحون الصهيونية العالمية أولاً، وللإنسانية ثانياً، وسيأتي اليوم الذي تهزم فيه الصهيونية، وتعترف فيه فرنسا بأنها أخطأت في حق أحد أعظم مفكريها في القرن العشرين
الخليج
http://www.alkhaleej.ae/portal/d454cfa4-2d0c-42c3-b7cd-10bfab0a855b.aspx
آخر تحديث:الاثنين ,25/06/2012
محمد ولد محمد سالم
أخيراً ترجل روجيه غارودي عن صهوة تاريخ حافل بالتجوال الفكري الحر، والالتزام الإنساني العميق، وبعد 99 عاماً وفي 13 يونيو/حزيران الجاري غادر إلى مثواه الأخير، وفي حلقه غصة من زيف حرية الرأي وقيم الحضارة الغربية التي تملأ دعاويها أسماع الدنيا، في الوقت الذي تتحطم فيه تلك الدعاوى على صخرة مواجهة المسكوت عنه في الفكر الغربي، ومحاولة النبش في حقائق الصهيونية العالمية .
حين نشر روجيه غارودي سنة 1996 كتاب “الأساطير المؤسسة للسياسة “الإسرائيلية”” لم يكن يبحث عن سمعة ولا جائزة ولا حظوة لدى أي كان، فقد كان ذلك الأستاذ الجامعي الثمانيني يومها يحظى بشهرة فائقة وتشهد كتبه الكثيرة إقبالاً واسعاً، ويحتفظ في بيته بأرفع الأوسمة الفرنسية عن دوره المشهود في مقاومة النازية وحكومة فيشي العميلة، لكنّ كل تلك الحظوة لم تكن لتدفعه وهو المفكر الإنساني الحر إلى خيانة ضميره والسكوت على جريمة إنسانية تحقق منها بالأدلة العلمية، وأدرك فساد دعوى مرتكبيها وبطلان حججهم، ولم يردعه أيضاً ما كان يعرف أنه ينتظره من هجوم وإرهاب فكري وتهميش، فمضى يتبع نداء ضميره وقيمه الإنسانية التي لا تقبل بالظلم والعنصرية والإبادة الجماعية للبشر، فدان الجرائم “الإسرائيلية” في فلسطين وطعن في الدعاوى التي تقدم لتبرير تلك الجرائم، وانصب جهده على مراجعة مقولات “الشعب المختار” و”الحق التاريخي” والأرقام المبالغ فيها عن “المحرقة النازية” التي غدت حقيقة مقدسة تستعطف بها “إسرائيل” الغرب، وتبرر بها احتلالها للأرض العربية وإبادتها للشعب الفلسطيني الذي يقف في وجه “الحق الإلهي” المزعوم ل”الإسرائيليين” في أرض “الميعاد”، وأراد بتلك المراجعة أن يبين بطلان تلك الدعاوى الصهيونية، ويبين حق الفلسطينيين في العيش كرماء على أرضهم وأن يرفع عنهم الظلم .
من العجيب أن ما أدركه ابن موظف الحسابات الفرنسي وفيلسوف الماركسية السابق، وسعى لدحضه بدافع من الضمير الإنساني المحض، والانحياز الفطري للمظلومين، قد أنكره أو تجاهله ثلة من المثقفين من أبناء الأرض وإخوة الدم العربي، بدافع هذه المرة من الحظوة لدى الغرب والبحث عن اعتراف ومكاسب هناك، ونتذكر الرسالة الشهيرة التي وقع عليها مثقفون عرب والتي تدين مؤتمر المؤرخين المراجعين “للمحرقة” الذي كان سيعقد في بيروت في نهاية مارس/آذار ،2001 وطالب فيها أولئك المثقفون الحكومة اللبنانية بمنع عقد ذلك المؤتمر بحجة أنه “معادٍ للسامية”، وتناسوا أن المبالغة الصهيونية بشأن المحرقة واستغلالها المفرط في الدعاية هو ما سهّل لهم احتلال فلسطين وإبادة الفلسطينيين وتشريدهم، وذلك أبشع أنواع العداوة للسامية، أليس العرب من أبناء سامٍ؟ لكن ضمائرهم تلك الثلة من المثقفين كانت مغطاة بالطمع في جوائز الغونكور ونوبل وغيرها، وبالتطلع للاعتراف الغربي بهم كمثقفين متحضرين يُدعوْن إلى المؤتمرات العالمية وتترجم كتبهم إلى اللغات الأوروبية والعبرية، وكانوا مستعدين للانسلاخ من كل شيء من أجل ذلك، ومن المؤسف أن التنكر للحق الفلسطيني والارتماء في أحضان “إسرائيل” أصبح اليوم طريقاً سهلاً للباحثين عن الحظوة لدى الغرب، وقبل أيام حظيت المخرجة التونسية نادية الفاني بزيارة ل”تل أبيب” للمشاركة في ندوة هناك تقديراً لها على عدائها للعرب والإسلام و”تسامحها” مع “إسرائيل” والصهيونية، وكانت أفلامها المجدفة قد لقيت رواجاً كبيراً في الغرب وحصلت على جوائز عدة، كذلك شأن الكاتب الفرانكفوني الجزائري بوعلام صنصال صاحب رواية قرية “الألماني أو مذكرات الأخوين شيلر” الصادرة سنة 2008 التي تحكي قصة علاقة ضابط سابق في الجيش النازي بقادة جبهة التحرير الوطني في الجزائر، وتهدف إلى النيل من سمعة الثورة الجزائرية العظيمة بربطها بالنازية، وقد احتفى اللوبي الصهيوني في الغرب بالرواية فحصلت سنة 2011 على “جائزة السلام” من جمعية أصحاب المكتبات في ألمانيا، وترجمت إلى العبرية واحتفت بها الصحف “الإسرائيلية” ودعي صنصال إلى “إسرائيل” في مايو/أيار الماضي للمشاركة في مؤتمر أدبي عالمي ترعاه الحكومة “الإسرائيلية” .
الفرق بين غارودي وبين أولئك الطالبين للسمعة الغربية والمنفعة المادية، هو أن غارودي واجه الصهيونية وهو في قمة مجده وأوج رواجه، وكان يمكنه وهو الخارج لتوه من الحزب الشيوعي الفرنسي أن يرتمي في أحضان الصهيونية، فيزداد سمعة على سمعة، ورواجاً على رواج، لكنه لم يكن طالب ماديات، بل كان طالب حق، ومناصرا بتلقائية للخير وعدوا للشر، ومسيرته الفكرية والسياسية تؤكد ذلك بشكل واضح، فقد كانت البداية من مسقط رأسه مرسيليا على شاطئ المتوسط التي بذرت فيه بذرة التعاطف الإنساني مع الضعفاء والمقهورين، وغرست في نفسه الإيمان بمبادئ العدل والمساواة حين كان يرى عمال السخرة المستجلبين من أقاليم ما وراء البحار للعمل في مصانع الإمبراطورية وهم يئنون تحت وطأة الأعمال الشاقة والسخرة لخدمة فرنسا الاستعمارية، وتأصلت تلك المبادئ أثناء الحرب العالمية الثانية حين احتُلت فرنسا فعارض بشدة الاحتلال النازي وحكومة فيشي العميلة له، واعتقل بسبب ذلك في الجزائر حيث كان يدرس، ومما أثر فيه بالغ التأثير وشد انتباهه للقيم الرفيعة للحضارة العربية الإسلامية أن المجندين المسلمين في إحدى فرق الجيش الفرنسي العميل للنازية رفضوا إطلاق النار عليه هو ومجموعة من المعتقلين بحجة أنهم أسارى وأن تقاليد المسلمين تمنعهم من قتل الأسير .
على ضوء تلك المبادئ تقلب غارودي بين النظريات الفلسفية والأطروحات السياسية بحثاً عن سند فكري لفطرته الإنسانية، وربما يكون ذلك هو الدافع وراء توجهه إلى دراسة الفلسفة التي حصل فيها على الإجازة في الفلسفة من جامعة مرسيليا سنة ،1937 والدكتوراه من جامعة السربون عن أطروحته حول النظرية المادية في المعرفة في سنة ،1953 وأصبح أستاذاً في الجامعة، وأثناء ذلك تنقل بين البروتستانتية التي اعتنقها وهو فتى ووجد فيها انفتاحاً إنسانياً يملأ عواطفه المراهقة، والشيوعية التي تنظلق من وجهة نظر شمولية تدين الظلم والقهر وكل أشكال التمييز، لكن الدوافع التي جعلته ينخرط في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي ويتبنى النظرية الماركسية ويصبح فيلسوفها المنظر، هي نفسها التي ستجعله يعترض على ممارسة الشيوعية وينتقد السياسة السوفييتية الستالينية حين انحرفت إلى الظلم وكبت الحريات ما جعله يفصل من عضوية هذا الحزب سنة ،1970 ومن الناحية الفكرية سيتجه في تلك الفترة إلى تطعيم المادية الماركسية بالروحانية الكاثولوكية للتخفيف من جفاء الفكر المادي، الذي لا يعترف إلا بالشيئية ولا يرى في المعرفة والأفكار سوى إفراز للحياة المادية للإنسان، ولا تعترف بما وراء ذلك، وقد طور نظرته تلك إلى مسعى لإقامة حوار حضاري بين الأفكار والأديان دشنه بكتابه “من أجل حوار الحضارات” 1976 الذي دان فيه التعالي الغربي على الآخر واستهزاءه بالديانات والثقافات الأخرى، ونظرة هذا الغرب للآخرين على أنهم متخلفون، وأن فكرهم وحضارتهم لا تمت للإنسانية بصلة، وابتداء من هذا الكتاب سيكثف غارودي بحوثه المتعلقة بالأديان، وخاصة الإسلام والمسيحية واليهودية، التي انتهى فيها إلى الإشادة بالإسلام انطلاقاً من نظرته التسامحية وقدرته على استيعاب الحضارات الأخرى والانفتاح عليها وتقبلها، وهو، حسب غارودي ما يثبته تاريخ الإسلام، وتعززه أطروحاته الفكرية، وفي هذا السياق وضع غارودي، كتابه “مبشرات الإسلام” ،1981 ثم أتبعه بكتبه الكثيرة عن الإسلام ومنها “الإسلام دين المستقبل”، و”المسجد مرآة الإسلام” و”الإسلام وأزمة الغرب”، و”فلسطين مهد الرسالات السماوية” .
لم يكن إذاً نقد روجيه غارودي للصهيونية ومراجعته لمسلمات الغرب حولها طفرة فكرية، ولا موقفا شاذا أو انقلاباً على مسيرته الفكرية، بل كانت تكل مؤشرات هذه المسيرة المشبعة بالإنساني والعقلاني المؤسسة تأسيساً علمياً وفكرياً راسخاً تقوده إلى ذلك الموقف، وتدعوه وهو صاحب الضمير الحي والالتزام الأخلاقي إلى أن يكتب “الأساطير المؤسسة للسياسة “الإسرائيلية””، ويتقبل راضياً حكم فرنسا الصهيونية بإدانته بمعاداة السامية وحظر كتبه والتعتيم الإعلامي عليه، مطمئناً لشعور عميق بأنه أخلص لضميره، وللحق والإنسانية، وفي ذلك درس لثلة المثقفين العرب المتساقطين في صحون الصهيونية العالمية أولاً، وللإنسانية ثانياً، وسيأتي اليوم الذي تهزم فيه الصهيونية، وتعترف فيه فرنسا بأنها أخطأت في حق أحد أعظم مفكريها في القرن العشرين
الخليج
http://www.alkhaleej.ae/portal/d454cfa4-2d0c-42c3-b7cd-10bfab0a855b.aspx