بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 14 يونيو 2011

فن البساطة المتقنة


سرد تلقائي متدفق
البساطة والحميمية في "مريم والحظ السعيد" لمريم الساعدي
آخر تحديث:السبت ,04/06/2011
الشارقة - محمد ولد محمد سالم:


1/1

تتقن الكاتبة الإماراتية مريم الساعدي في مجموعتها القصصية “مريم والحظ السعيد” فن البساطة من خلال سرد تلقائي متدفق، لا يبحث عن عقدة درامية أو رؤية كلية، بل يريد أن يستكشف معنى جميلاً أو سعادة صغيرة بمقدار صغر تفاصيل الحياة البسيطة والعادية التي تحياها هي ويحياها الناس من حولها، لا تريد أن تفلسف الأشياء أو تعقد أبنيتها السردية بقدر ما تسعى لاقتباس لحظة ضوء بيضاء صافية من غير تلوين أو تحوير، وبلغة عادية وقريبة لكنها ممتعة ومدهشة، رغم احتوائها في بعض الأحيان على أخطاء لكنها قليلة إذا ما قيست بالكتاب كله .
في نصها “جرادة وفنجان قهوة” ترصد مسار اللحظات في تلك الساعة التي جلست فيها الكاتبة أمام أوراقها ورائحة القهوة في الفنجان تسري بعذوبة في دماغها، تتأمل النجمة المتوهجة والقمر المتلألئ فوقها وعن قصد تستشعر أنهما هناك من أجلها لكي تشعر بالحب اتجاههما لأن “الإحساس بالحب تجاه الأشياء يساعدها على احتمال العالم”، ويجعلنا نحس بأن الكون يحبنا .
ويصبح ذلك الإحساس بمنزلة عملية الإحماء الضرورية التي تحفز قلم الكاتبة، عبر أسطر متلاحقة، ولا شيء سوى أسطر الكلام التي لا تكلف نفسها عناء البحث لها عن جدوى، وهنا ترتفع التلقائية من تسطير الكلام إلى رؤية للحياة، فالكاتبة تتساءل مستنكرة: ألا يجب أن نتوقف عن توقع الجدوى في كل شيء حتى تكون الحياة سهلة؟ إن السهولة كلمة السر التي تنتظم ذلك السرد، سهولة الكتابة وسهولة رؤية الحياة كشيء يحبنا ونحبه، وسهولة الضحك الصادر من أعماق تلك الخادمة التي تحوم حولها، وتضحك بسعادة من مراوغة جرادة لها رغم أنها مغتربة من سنتين بعيدة عن أهلها وبين ناس لا تفهمهم ولا يفهمونها، والسهولة هي التي تجعل الجرادة تطير وتحط قريباً من الكاتبة تلعب على أوراقها وعلى أصابعها، كأنها تبحث عن صداقة ما بين مخلوقات مهما كانت متباعدة فإن بساطة الحياة تجمعها، وحين تخطئ الجرادة وجهتها وتسقط في الفنجان تنتشلها الكاتبة بأن تسكبه فيسيل على أوراقها ماحياً كل ما كتبته لكن الجرادة تنتفض وتقف على كلمة “أحبك” كأنها تريد أن تحميها لتبقى تلك الكلمة عنواناً للحياة في أبسط معانيها ولعلاقة الناس والأشياء في أبسط تجلياتها .
وفي قصة “كوب شاي” تواصل الكاتبة الوتيرة السردية نفسها التي تركز على تفاصيل اللحظة في بساطتها وجماليتها، من دون عناء البحث لها عن حبكة قصصية، تكتفي بالوقوف عند تلك اللحظة وتأملها من خلال كوب الشاي الذي يعكس هنا شكلاً آخر من أشكال تلك البساطة، فشخصية القصة “أصيلة” اطمأنت أخيراً إلى أن مجالسة كوب الشاي ومحاورته خير من مجالسة الناس، فالإنسان قد يفكر في أشياء لا تؤدي بالضرورة إلا إلى مواقف سلبية من الآخر، أما كوب الشاي فهو صامت مصغٍ، ويمنحنا حديثاً خفياً كلما ارتشفنا منه، هو الحب الخفي الذي يصل إلى القلب وينزع القشور عن الحياة، يبدد الزيف الذي يغلف حياة وعلاقات الناس، والذي عرفته في علاقتها بصديقتها عبير وكثيرات أخريات، كوب الشاي صادق في ما يقدمه من شعور بالنشوة كأنه تلك الموسيقا التي سمعتها أول مرة منذ خمسة عشر عاماً وعرفت عمق تأثيرها من خلال البكاء الصامت لسائق التاكسي الذي أقلها من المطار إلى سكن الطالبات، وعلى مدى ثلاث ساعات وهو صامت خاشع لتلك الأغنية .
ما يؤرق أصيلة هو الإحساس بالأشياء على حقيقتها كما ينبغي، تريد أن ترى كل شيء صافياً من دون تزييف رغم انكساراتها واكتشافها للحقيقة المحبطة المتمثلة في أن الآمال الكبيرة تصغر كلما كبرنا، لكنها تصر على البحث عن ذلك الشيء الصافي الواضح رغم تخفيه وراء قشور الحياة، وتحاول أن تزيح كل الغيوم التي قد تحجبه، لذلك فهي تمتنع مراراً عن الرد على عبير التي يظهر اسمها مرات على شاشة هاتفها في اتصالات متكررة لأنها تعرف أنها مجرد شخص تافه لا يعرف للحياة عمقاً أو صفاء، وربما اختارت مريم الساعدي الاسمين “عبير وأصيلة” قصداً لأن العبير رائحة عابرة ومنتهية لكن أصيلة ثابتة وعميقة .
وفي قصة “العجوز” نحن أمام قصة قصيرة بإحكام، ولا يأتي الإحكام هنا من صرامة المبنى الحكائي، فالكاتبة لم تخالف قاعدتها في بساطة السرد وتلقائيته، لكنه يأتي من صدق اللحظة وعمق دلالتها على الخلل الكامن حيث ارتقى الرد بالحدث من كونه مجرد نهاية لعجوز أصبحت فجأة منبوذة ويترقب كل أبنائها نهايتها بأحر من الجمر إلى أن يكون مأساة حقبة زمنية بكاملها ومجتمع بكل تفاصيل حياته وقيمه وعلاقته الإنسانية، التقطت الساعدي تلك اللقطة ووظفتها بعناية واستغلت بشكل متقن الطاقة الرمزية، فالعجوز وعباءتها المرقعة وصندوقها وكسرة الخبز والحليب المجفف والحرارة الشديدة ورائحة “الشيبة” وزوجها الذي توفي، رموز ذلك الزمن الماضي المنبوذ، والأبناء ووظائفهم الكبيرة وأبناؤهم ومدارس أبنائهم وزوجاتهم ومنازلهم الكبيرة الباردة رموز الزمن الحاضر الذي يؤسس أبهته على المظاهر المادية الزائفة الخالية من أي معنى إنساني، فالابن الذي يدرس في الخارج يعود لحضور العزاء في أمه لأن “الناس ستأكل وجوهنا إن لم يأت” .
نموذج آخر لتلك التلقائية والبساطة المتقنة تقدمه في نصها “فائزة وزينات وسلوى” مدرساتها المصريات اللواتي كن نموذجاً في التفاني والبساطة والاحترام والبساطة الأنيقة، يعملن بجد من غير ضجيج ولا إثارة ويفرضن احترامهن على طالبات الفصل من غير تكلف ولا عنف، وكأنهن لم يأتين من ذلك البلد الكبير المملوء بالناس والفقر الذي تصور المسلسلات نساءه على أنهن “متسلطات مفتريات مبهرجات”، هذا النموذج من النساء المتعلمات المحترمات الشامخات دوماً، هو ما ستكتشف الكاتبة بعد تقلبات الزمن واختبار الحياة وعوالم البشر المختلفة أنه النموذج الصحيح بل هو الكنز و”نكتشف كلما طالت الرحلة وانقطع النفس من اللهاث أن الكنز كان دوماً هناك، أمام البصر، وأنه لا شيء أبداً يضاهي بريق الأيام الماضيات” .
النص الذي حملت المجموعة عنوانه “مريم والحظ السعيد” هو نص سردي لا يسعى إلى تقديم حكاية بقدر ما يلتقط لحظة حوار مقتضب بين “مريم” الطالبة المغتربة و”سارة” الفتاة البريطانية التي علقت على اسمها “مريم” بأنه يجلب السعادة، لكن مريم تشك في ذلك، وتقترح بأن يتبادلا اسميهما، في إيحاء بأن الحظ السعيد خرافة و”أن الأشياء تكون كما تريد لا كما نريد نحن” .
لا تتوقف النماذج عند هذا الحد، فكل نص من نصوص المجموعة الخمسة والعشرين هو نموذج لتلك الكتابة العامرة بالصدق والحميمية، المتخففة من زوائد الأحداث واللغة، الباحث عن الجمال العادي والقريب من دون فائض حزن أو سعادة، في ما يمكن تسميته البساطة المتقنة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق